الباب الأول : الأرضية التاريخية التى نبتت فيها الحنبلية
الفصل الأول : إتّخاذ الأحاديث دينا
مقدمة
1 ـ دين الله جل وعلا ينزل رسلات سماوية لاصلاح البشر ، فيقوم البشر بتصنيع أديان أرضية تحقق أهواءهم . وأهم أهوائهم أن يجعلوا عصيانهم فريضة دينية ، وأن يدخلوا الجنة مهما إقترفوا من آثام . ولهذا يجعلون من مهام آلهتهم المصنوعة القدرة على الشفاعة أو ( الخلاص ) فى الآخرة . حدث هذا قبل نزول الرسالة السماوية الخاتمة ، وحدث بعهدها بقرنين . وأدت عوامل سياسية الى تمهيد التربة التى نبتت فيها حركة الحنابلة .
2 ـ ونعطى لمحة تاريخية موجزة عن الأرضية التاريخية التى مهّدت لأساطير الأحاديث من خلال علاقة المثقفين المسلمين سياسيا بالخلفاء من عصر الراشدين الى العصر العباسى الأول . ونقصد بالمثقفين المسلمين المنشغلين بالعلم . وقد تنوّعت ألقابهم حسب الأجيال ، من ( القُرّاء ) الى ( الزهّاد ) الى ( الفقهاء ) و( الحُفّاظ ). ونتعرض لهم هنا لأنهم دائما مخترعو الأديان الأرضية ، وتدفعهم الظروف السياسية لهذا . وهذا موضوع تاريخى غاية فى التعقيد نحاول تبسيطه بايجاز قدر المستطاع .
أولا : إضطهاد الموالى قبل العصر العباسى وأثرها فى ظهور حركتى البكائين والزُّهّاد
1 ـ أرسى عمر بن الخطاب إضطهاد سكان الأمم المفتوحة،( راجع مقال : المسكوت عنه من تاريخ عمر ) ثم اصبح سياسة ثابتة فى العصر الأموى. ومع إنشغال الأمويين بالفتوحات الخارجية حتى وصلوا تخوم الهند والصين شرقا وجنوب فرنسا غربا فقد دخلوا فى نفس الوقت فى حروب طاحنة داخلية مع العلويين والشيعة والخوارج وواجهوا ثورات الأقباط والبربر. وإنضم موالى العراق وايران الى كل ثائر على الأمويين خصوصا الثورات الشيعية . وعومل الموالى فى الدولة الأموية بإحتقار شديد ، ولم ينج من هذا من تخصّص فى العلم منهم ، والموالى كانوا روّاد الحركة العلمية فى العصر الأموى بسبب خلفيتهم الثقافية وتفرغهم للعلم وخدمتهم لكبار الصحابة ورغبتهم فى التفوق والنبوغ تعويضا لشعورهم بالنقص فى مجتمع ظالم يضطهدهم لأنهم من غير العرب.
2 ـ واشتهر الحجاج بن يوسف بالقسوة المفرطة فى قتل المعارضين بمجرد الريب والشّك ، وكان معظمهم من المثقفين ، كما إشتهر الحجاج بإضطهاد الموالى ، وهم الأكثرية الساحقة للسكان فى العراق وفارس . ولم تفلح سياسته فى كسر شوكة معارضية فأراد التخلص منهم ( بالجهاد ) فى المشرق ، فأرسل جيشا للفتوحات فى الشرق يقوده عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث . وهو حفيد الأشعث بن قيس زعيم قبائل كندة الذى تقلب فى ولاءاته من الاسلام الى الردة الى الفتوحات، ومن الانضمام لعلى الى التآمر عليه. ثم سار ابنه محمد بن الأشعث على سيرة أبيه ، فكان زعيم الشيعة ، وممّن استجلب الحسين ثم غدر به وانضم للأمويين . وحافظ بهذا محمد بن الأشعث على زعامته ومكانته فى العراق فى الدولة الأموية. وبعث الحجاج ( عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ) قائدا لهذا الجيش، وتطوع معه آلاف مؤلفة من الكارهين للأمويين والحجاج ، من الشيعة والخوارج والموالى والقرّاء (أى المثقفين العلماء )، على أمل أن يؤثروا فى القائد المتقلب ( محمد بن الأشعث ) لينقلب على سيده ( الحجاج ) فيستدير بالجيش لحرب الحجاج . وهذا ما حدث فعلا . وكانت معركة دير الجماجم عام 83 التى كانت نقطة تحول فى تاريخ الدولة الأموية . وانتصر الحجاج فأسرف فى قتل الأسرى حتى لقد أقام اهرامات من رءوسهم فسميت المعركة بدير الجماجم .وانتصار الحجاج وتنكيله بالأسرى أدّى الى خيبة أمل المثقفين فى التغيير، فكان تلك أكبر فرصة تمكنوا فيها من السيطرة على جيش كبير يقاتلون به الدولة الأموية فلم يفلحوا .
4 ـ أدت خيبة الأمل هذه الى يأس أنتج بدوره حركتى الزهد والبكائين بين المثقفين الحالمين مع الأمل فى ظهور شخص من عالم الغيب (المسيا أو المسيح المنتظر أو المهدى المنتظر) يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا.هى أحلام يقظة للشعوب المقهورة ، تأتى ردّ فعل لظلم هائل ، فتصنع دينا أرضيا يكون لها ( حائط مبكى ) يعينها على معايشة القهر . ذلك القهر الذى بدأ قبل البيزنطيين والأكاسرة واستمر الى ما بعد الأمويين والعباسيين ..ولا يزال . ولقد تعرضنا هنا فى بحث رائد عن ( البكائين والزُّهّاد ).
5 ـ إستثمر الدعاة العباسيون السّريون حاجة المقهورين الى (المهدى المنتظر ) فأسهموا فى سبك ونشر الأحاديث الخاصة به وقامت ( للمهدى المنتظر ) دعوة سرية تتحرك بثبات فى خراسان تحمل الدعوة الى (الرضى من آل محمد ) بدون تحديد لصاحب الدعوة سوى أنه من آل بيت النبى محمد عليه السلام. وانضم الكثيرون للدعوة الجديدة ، خصوصا من الشيعة ، فخرجت فى خراسان الى الدور العلنى المسلح بقيادة (أبو مسلم الخراسانى ) الذى نجح فى تدمير الدولة الأموية سريعا وإقامة الدولة العباسية عام 132 هجرية . وفوجىء الشيعة أن الدعوة ليست لذرية على بن أبى طالب ولكن لبنى عمومتهم العباسيين ، وكانت المفاجأة الكبرى أن أولئك العباسيين أشد قسوة من الأمويين ، وان أول ضحاياهم كانوا من أنصارهم الطامعين فى المشاركة فى السلطة ، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور ، فهو الذى قضى على أبى مسلم الخراسانى ، وهو الذى قضى على الرواندية . وهو الذى حارب أتباع أبى مسلم الخراسانى فى أقاصى الشرق ، وهو الذى عذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه ، وهو الذى كان يرتكب كل تلك الجرائم بفتاوى دينية يصدرها له أتباعه من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد فى الدين على الخليفة . وحين امتعض ابو حنيفة ورفض أن يفتى له بما يريد قام ابو جعفر المنصور بسجنه وتعذيبه وقتله بالسم .
6 ـ كانت خيبة أمل المثقفين شديدة ، فقد جاء الظلم اشد ، وجاء متوشحا بفتاوى دينية وأحاديث نبوية ، وخليفة يعلن أنه سلطان الله فى أرضه . هذه الخيبة الشديدة كان التعبير عنها هائلا أيضا، وتمثل في الرفض الكامل ليس للدولة فحسب وإنما للدنيا أيضا التي يئسوا منها فأقاموا لهم دولة بديلة صنعوها من آمالهم المحبطة وأحلامهم التي لم يكن لها أن تحقق إلا في دنيا الخيال والأقاصيص ، واكتفي أولئك بدنياهم تلك وابتدعوا لهم طقوسا دينية جديدة غلفوها بالبكاء والمنامات وأقاصيص الكرامات. وهذه هى ملامح حركة البكائين فى العصر العباسى الأول . ثم ورثتها حركة جديدة مختلفة هى ( حركة السنيين المتشددين : أو الحنابلة ) فى العصر العباسى الثانى ، كان قوامها أحبار الديانة المُزدكية الفارسية .
ثانيا : قيام الدولة العباسية بالتحالف مع أحبار المّزدكية
1 ـ كان تغلغل الديانة المزدكية الفارسية أكبر خطر تعرضت له الدولة الأموية بعد فتح فارس وتحولها إلى مسرح لمقاومة الحكم الأموي ، إذ إرتبط الشعور القومى الفارسى الوطنى بالدين الفارسى المُزدكى . والاضطهاد العربى للفرس ( الموالى ) قابله الفُرس بالتمسك بالمزدكية واللغة اللفارسية وآدابها وثقافتها ومدارسها العلمية. والاضطهاد الأموى جعل المزدكية تنتشر أكثر وسرا لتصبح حافزا للمقاومة ، بل وتتخفّى فى أشكال مختلفة للتهرب من القسوة الأموية فى معاملة خصومها .
2 ـ وبسبب قسوة الأمويين فى قمع ثورات آل البيت ( بدءا من الحسين فى كربلاء 61 الى حفيده زيد بن على زين العابدين 121 / 122 ثم ابنه يحيى 125 ) وبسببب مراقبتهم الشديدة لذرية ( على ) من ( فاطمة الزهراء ) فقد نشأت حركة شيعية جديدة ومختلفة ، تتشدّد فى السّرية والكتمان بتنظيم عنقودى ، تدعو لامام مجهول الاسم والعنوان من ذرية محمد بن على ( ابن الحنفية ) وليس ابنا لفاطمة الزهراء ، تحت شعار( الرضى من آل محمد )، لا يعرف شخصيته إلا كبار الدعاة . هذه هى ( الكيسانية ) التى تنتسب الى ( كيسان ) الفارسى خادم ( على بن أبى طالب ). وهذه الكيسانية تؤله الامام ( العلوى ) وتُضفى عليه عقائد المّزدكية لتوثيق التحالف السياسى بين المُزدكية والشيعة. تحالفت الكيسانية مع أحبار المّزدكية فى نشر دعوتهم السرية بين الفُرس لاسقاط الدولة الأموية .
3 ـ وقتها عاش أبناء ( عبد الله بن عباس ) مكرمين فى الدولة الأموية لابتعادهم عن العمل السياسى ، ثم جاءتهم الفرصة بموت الزعيم السرى للدعوة السرية مسموما بمؤامرة أموية عشوائية ، وكان على مقربة من بيت محمد ابن على بن عبد الله بن العباس فى منطقة الأردن ، فمات بين يديه بعد أن أفضى اليه بأسرار الدعوة والتنظيم ، فركب العباسيون هذا التنظيم العنقودى ووصلوا به الى إقامة الدولة العباسية .
ثالثا : الصراع العسكرى بين العباسيين والمُزدكيين الفُرس
1 ـ لم يهتم زعماء المزدكية بأن يصل العباسيون للخلافة بدلا من العلويين طالما أن الدولة التى أسهموا بالجهد الأكبرفى إقامتها ستؤسس لهم نفوذا يساوى جهدهم فى تأسيسها . وكان نفوذ أبى مسلم الخراسانى طاغيا فى خلافة السفّاح أول خليفة عباسى،وأحسّ ابوجعفر المنصور بخطورة أبى مسلم الخراسانى فقتله سنة 137 هجرية. وبهذا تحطّمت أمنيات زعماء القومية الفارسية فى أن يعيدوا مجدهم القديم من خلال تحكمهم فى الخلافة العباسية ،وكانت أكثرية الفرس الذين مع أبي مسلم الخرساني يتمنون إعادة الديانة المزدكية ، وقد فجعهم مصرع قائدهم أبي مسلم الخرساني فقاموا بثورة على العباسيين للطلب بدم أبي مسلم ، وتزعمهم سيناذ وقد استولى على خزائن أبي مسلم وورثه في أتباعه ، واستطاع العباسيون هزيمته وقتلوا ستين ألفاً من أتباعه،وكان سيناذ مجوسياً كما يذكر الطبري ( تاريخ الطبري 7/ 495. المقدسي : البدء والتاريخ 6/ 82 ، 83 )
2 ـ ويلاحظ أن بعض الفرس تعجل في استغلال الدعوة العباسية في إرجاع الدين المزدكي الفارسي حتى قبل أن تنجح الدعوة العباسية في إقامة الدولة لبني العباس ،وذلك يدلنا على عمق الدوافع الدينية القومية لدى الفرس عندما تحالفوا مع العباسيين ضد الأمويين ، ويذكر المقديسى أن أحد المجوس من المزاد كية وهو (عمار بن بديل ) استطاع أن يخدع بكير بن ماهان كبير الدعاة العباسيين في العراق ، فأرسله إلى خراسان ليدعو إلى الرضى من آل محمد وأعطاه أسرار الدعوة وفي خراسان غيّر ّ (عمار بن بديل) اسمه إلى اسم فارسي هو(خداش) ونشر المزدكية بين مسلمي فارس ،والمقدسي يقول عنه : (ومثّل لهم الباطل في صورة الحق فرخص لبعضهم في نساء بعض ،وأخبرهم أنها تعاليم الرضى من آل محمد ،وقد انتهى أمره بالقتل.( المقدسى : البدء والتاريخ 6/60 : 61 )
3 ـ وبعد قيام الدولة العباسية وفجيعة الفرس فيها ظهر التحدي واضحا ًباكتساب الثورات الفارسية ضد الدولة العباسية طابعاً دينياً مزدكياً صريحاً، وقد كان أبو مسلم في حياته وأثناء قيادته للجيوش العباسية يمنع أتباعه من إظهار المزدكية، وبعد أن قتله العباسيون ثاروا على الدولة العباسية وسموا أنفسهم " الأبو مسلمية" وأعلنوا ألوهية أبي مسلم الخرساني ثم ألوهية ابنته فاطمة ويزعمون أنه يخرج من نسلها رجل يستولي على الأرض كلها( المقدسي : البدء والتاريخ 6/ 95.).وبعد إخماد ثورة سيناذ التي أشرنا إليها قامت ثورة أخرى بقيادة (استاذيس) المجوسي المزدكي الذي ادعى النبوة ـ وبعث إليه الخليفة المنصور العباسي بجيش فقتله(تاريخ اليعقوبي 3/ 104 ،115.)
4 ـ واستمرت ثورات الفرس الدينية العسكرية في خراسان وما حولها وأرهقت الدولة العباسية ، وكان أهمها ثورة المقنع الخرساني الذي ادعى الألوهية وأباح جميع النساء والأموال ، وأتعب الدولة العباسية حتى قضت عليه،ثم قام الفرس بثورات أخرى في عهد هارون الرشيد وأولاده ، وكانت أقوى ثوراتهم في خلافة المعتصم بقيادة بابك الخرمي الذي كاد يقضي على الدولة العباسية ، واستمرت الحرب عشرين عاماً ، حتى قضى عليه الأفشين قائد المعتصم سنة 220هـ ، وكان الأفشين نفسه مزدكياً فقتله المعتصم ، مما يدل على تغلغل عقيدة المزدكية في البلاط العباسي . ولذلك كانت الدولة العباسية تطارد عملاء المزدكية في بغداد والعراق بتهمة الزندقة وتهمة الزنا ، واخترع العباسيون لذلك حد الردة وحد الرجم ، وكلاهما ليسا من تشريعات الإسلام ، ولم يعرفه عصر النبي محمدعليه السلام .
رابعا : الصراع بين العباسيين والمزدكيين الفُرس بالأحاديث
1 ـ وما يهمنا من ذلك كله أن الفرس قسموا أنفسهم قسمين في حرب الدولة العباسية ،قسم أعلن الحرب وأظهر معتقداته المزدكية ،وكان لهم في بلادهم البعيدة عن مركز الخلافة ما مكنهم من الثورة، ثم قسم آخر كان يعيش في بغداد وقصور الخلافة ينافق السلطات ويكيد لها .وبينما حارب العباسيون القسم الأول بإرسال الجيوش فإنهم واجهوا عملاء عدوهم في الداخل بالقتل بمبرّر دينى مصنوع. ولأن الفرس متهمون بالكفر والانحلال الخلقي وإباحة النساء كلهن فقد كان سهلاً أن يخترع لهم الكهنوت العباسي عقوبات جديدة ما لبثت أن أضيفت للإسلام مع أنها تناقض القرآن،وتلك العقوبات هي ما اصطلح على تسميته بحد الردة وحد الرجم وحد تارك الصلاة . وبينما انهمك أبو جعفر المنصور في حرب الفرس الثائرين عليه عسكريا ، فإن ابنه ( المهدي ) انهمك بعدها في حرب الزنادقة في بغداد نفسها . وسار أبناؤه على نهجه يتلقبون بألقاب دينية ( المهدي الهادي . الرشيد . المعتصم .) ويقتلون خصومهم بشعارات دينية وفقا لنصوص أضيفت لشريعة الإسلام وأخذت لقبا جديدا هو سنة النبي. وبهذا قام الدين السنى فى أحضان السلطة العباسية يقتل خصومه فى الدين والفكر بتهمة الزندقة .
2 ـ وجدير بالذكر أن الدعوة العباسية كانت تصطنع الأحاديث لإقامة دولتها ثم لتدعيم خلافتها ، وتعلم المزدكية على أيديهم هذه الحرفة حين كانوا متحالفين معا، فلما حدث الشقاق بينهما تفرغ بعض أحبار المزدكية في حرب الإسلام عن طرق صناعةالأحاديث . وفطنت الدولة العباسية أبان قوتها لهذا الأسلوب، وإكشفت أحدهم ، وهوعبد الكريم بن أبي العوجاء أكبر راوية للأحاديث في عصر الخليفة أبي جعفر المنصور ، والذي كان يصنع الأحاديث ويخترع لها أسانيد قوية ، وقد قتله محمد بن سليمان والي الكوفة سنة 155 هـ ، وقد قال قبيل عبد الكريم هذا قبيل مقتله بأنه وضع أربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحل بها الحرام .(تاريخ المنتظم لابن الجوزي8 /184 ) ولم يتعرف أحد على تلك الأحاديث ، كما لم يتعرف أحد على باقي أعوان ذلك الشيخ المزدكي .
خامسا : الأحاديث وسيلة العباسيين فى تأسيس دولة دينية كهنوتية
1 ـ والواقع، فإنّ تبنّى الأحاديث والسّنة دينا للدولة بدأ عمليا فى العصر العباسى ، وهنا يظهر الاختلاف بين الأمويين والعباسيين . قدم الأمويين لنا فى عصر الرواية الشفهية أبا هريرة أقل الصحابة صحبة للنبي فجعلوه أكثر الصحابة رواية عن رسول الله ، وكذلك فعل العباسيون مع جدهم عبد الله بن عباس .يقول ابن القيم الجوزيةفى كتابه ( الوابل الصيب 77 ص 77 ) أن ابن عباس لم يبلغ ما سمعه من النبي عشرين حديثا،ويرى الأمدي في كتاب الأحكام (2/ 78، 180 ) أن ابن عباس لم يسمع من النبي سوى أربعة أحاديث . وفعلا فإن ابن عباس لم يدرك النبي إلا وهو دون الحلم ، وقد قضى طفولته في مكة في حين كان النبي يومئذ بالمدينة . ولكن شاءت الدولة العباسية أن ترفع من شان جدها ابن عباس، فجعلته أكثر الصحابة علما ، وتبارى الفقهاء العباسيون في نسبة الأقوال والاجتهادات إليه في الحديث والتفسير والفرق المذهبية والفقه والأحكام .
2 ـ وتميّز العباسيون بصناعة الأحاديث لتأسيس ملكهم ولتأسيس كهنوتهم الدينى . قام بهذا الفقهاء والخلفاء على حد سواء ، فأضافوا لابن عباس وغيره ما لم يكن معروفا من قبل من الأحاديث المصنوعة التي تتحدث عن ملك بني العباس وخلافتهم التي ستظل في أيديهم إلى يوم القيامة ، بل تتحدث عن الخلفاء العباسيين بالاسم واللقب. وظلت هذه الأحاديث تحظى بالتصديق حتى لقد عقد السيوطي فى اواخر العصر المملوكى في كتابه " تاريخ الخلفاء" فصلا بعنوان ( فصل في الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس ) وقد تمت نسبتها لصحابة ماتوا دون أن يعرفوا شيئا عن الدولة العباسية وخلفائها ، منها : أحاديث يرويها أبو هريرة أن النبي قال للعباس: " فيكم النبوة والملك " . أي أن العباسيين انتقموا من أبي هريرة بعد موته فوضعوا عليه ذلك الحديث رغم أنفه . وحديث آخر نسبوه لأبي هريرة أن النبي قال للعباس إن الله افتتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه " وحديث آخر " يكون من ولد العباس ملوك تكون أمراء أمتي" . ثم حديث ابن عباس يروي فيه أن أمه كانت حاملا فيه وقد أمرها النبي أن تأتي به إليه إذا ولدت ــ هذا مع أن ابن عباس ولد بمكة ولم يكن بمقدور النبي ـــ أن يدخلها ـــ وتمضي الرواية فتقول إن الأم جاءت بابنها عبد الله فأعطاه النبي الاسم وباركه وقال إنه سيكون أب الخلفاء حتى يكون منهم السفاح وحتى يكون منه المهدي ويكون منهم من يصلي بعيسى بن مريم .. وهذه بشرى بأنهم سيظلون في الحكم إلى أن تقوم الساعة . وهناك حديث يرويه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يقول : حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس أن النبي قال للعباس إذا سكن بنوك السواد لم يزل الأمر لهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم . وحديث آخر " الخلافة في ولد عمي أخو أبي حتى يسلموها إلى المسيح "، وحديث فيه مدح الخليفة المهدي ــ قاتل الزنادقة ــ يقول إن النبي دعا ثلاثا تقول اللهم انصر العباس ، ثم قال ياعم أما شعرت أن المهدي من ولدك سيكون موفقا مرضيا ." . ووضعوا في السفاح أول الخلفاء العباسيين حديثاً يقول : "يخرج رجل من العباسيين بعد انقطاع من الزمان وظهور الفتن يقال له السفاح ..." . وقالوا إن ابن عباس روى عن النبي حديث "منا السفاح ومنا المنصور ومنا المهدى.." أي يفخر النبي بأولئك الخلفاء. وهناك أحاديث كثيرة عن الخليفة المهدى منها " المهدى من ولد العباس عمى " و "المهدى يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبى ".
3 ـ ولاستكمال الصبغة الكهنوتية فقد تعدى الأمر ليصل الى أن الخليفة بالاختيار الإلهي وأن الله يخلق الخلفاء بصورة الاهية متميزة عن باقي الخلق ، فيقول حديث مصنوع منسوب إلى ابن العباس وأبى هريرة وأنس " إذا أراد الله أن يخلق خلقاً للخلافة مسح على ناصيته بيمينه ". ومن الطبيعي بعد ذلك أن الاعتراض على الخليفة المنصوص على اسمه ولقبه إنما يكون اعتراض على مشيئة الله وقراره الذي لابد من طاعته.. ومن هنا تقترن الجبرية السياسية بالأحاديث التي نسبوها للنبي عليه السلام.
4 ـ وقد حرص الخلفاء العباسيون على تحصين الأحاديث بسياج من الإرهاب والتقديس حتى لا ينالها النقد واستعمال العقل ، يروي أبو معاوية الضرير أن رجلا من قريش استمع إلى حديث " احتج آدم وموسى " وذلك في مجلس الرشيد فتعجب القرشي قائلا: أين التقى موسى بآدم ؟! ، فغضب الرشيد من ذلك التعليق وقال :النُّطع والسيف.. زنديق يطعن في حديث النبي.. وما زالوا بالرشيد حتى عفا عن الرجل من القتل .. والسبب واضح فإن باب الاعتراض على الأحاديث سيجر مشاكل كثيرة للملك العباسي القائم على صناعة الأحاديث لتأسيس الكهنوت الديني.
5 ـ بل تعدى الأمر الى تقديس قريش ، يروي الصولي أن رجلا شتم قريشا فجيء به للخليفة الهادي فقال سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه محمد عن أبيه على عن أبيه عبد الله بن عباس أنه قال : من أراد هوان قريش أهانه الله ، وأمر بقتل الرجل .. أي أن الخلافة العباسية امتدت بكهنوتها لتشمل قريشا كلها.
6 ـ وقريش تشمل الأمويين أيضا أعداء العباسيين، وحرص العباسيون على الكهنوت الأموي فيما يخص الخلافة حتى لا يصل التطاول على مقام الخلافة الأموية إلي الخلافة العباسية ،وقد كان الخليفة الأموي الوليد بن يزيد مشهورا بالمجون والزندقة، وقد ذكروا سيرته أمام الخليفة المهدى ، فقال بعض الحاضرين عنه إنه كان زنديقا ،فقال المهدي : " مه ــ خلافة الله عنده أجل من أن يضعها في زنديق":فنسب الخلافة لله وجعلها باختيار الله تعالى لشخص الخليفة ومن هنا تكون للخلافة قدسية وللخليفة عصمة ومكانة بحيث لا يتطاول أحد على مقامه ، والمهدي العباسى لا يهتم بالخليفة الأموي الوليد بن يزيد ولكن يهتم بمقام الخلافة الذي يحتله وبالكهنوت الذي أصبح يحيط به .
وجدير بالذكر أن تلك الدعاية العباسية القائمة على ختراع الأحاديث قد آتت أكلها فظل الناس يعتقدون أن ملك بني العباس سيظل إلى يوم القيامة كما أشاعوا في الأحاديث، وبلغ بهم ذلك مبلغ الإيمان حتى أن هولاكو والمغول تأثروا بالأساطير التي تجعل الهلاك من نصيب الذي يتعرض للخلافة العباسية ، وعقد هولاكو مجلسا عسكريا لبحث هذا الأمر كما يذكر الهمداني في تاريخ المغول ، وأخيرا تشجع هولاكو بنبوءة نصير الدين الطوسي الفلكي وهجم على بغداد . فأنهى الكهنوت العباسي وما أغنت عنهم الأحاديث التي اخترعوها .
خاتمة
نخلص من هذا أن إختراع الأحاديث كان مجالا سياسيا تخصص فيه العباسيون وأحبار المزدكية ، وأن الدولة العباسية استعملت الأحاديث فى تأسيس سلطانها وكهنوتها الدينى والسياسى ، وايضا فى مواجهة خصومها السياسيين بما يعرف بحد الردة وحد الرجم ، وبالتالى كان منتظرا أن تدوم شهور العسل أو سنوات العسل بين السلطة العباسية والفقهاء صانعى الأحاديث ومنشئى الدين السّنى ، لولا أن وقع الصدام بين العباسيين وجانب هام من هؤلاء الفقهاء . إستفاد من هذا الصراع أحبار المّزدكية بعد فشل حركاتهم العسكرية فى فارس . إستغلوه فى نشر المزدكية تحت شعارات ( اسلامية محمدية ) ، وهذا يستلزم التوقف فى لمحة سريعة مع الحركة العلمية فى العصر العباسى وعلاقتها بالسلطة العباسية .
الفصل الثانى : دخول العوام فى الدين السنى فى العصر العباسى الأول
أولا : رعاية العباسيين للموالى
1 ـ ألغى جمال عبد الناصر الباشوية والبكوية وقضى على طبقة الاقطاعيين والرأسماليين ، وحقّق المساواة بين المصريين. وجعل التعليم مجانيا والتوظيف متاحا ، وأصبح المجال مفتوحا لأبناء الفلاحين والعمال للترقى بالتعليم المجانى ليدخلوا الجامعة وكلياتها الرئيسة والعسكرية ، ليس بالواسطة ولكن بالمجموع فى الثانوية العامة ومن خلال مكتب التنسيق ، وبالتفوق فى الجامعة يتعين ابن العامل والفلاح معيدا ويترقى بكفاءته ليصل الى أرفع المناصب . بهذا أصبح الشعب المصرى فى عصره ( ناصريا ). هذا تقريبا ما عملته الدولة العباسية مع الأغلبية المقهورة من السكان من غير العرب ، والذين عانوا من قسوة الأمويين وظلمهم . وقد كانوا العوام والأغلبية الساحقة المظلومة فى العصر الأموى . ونُطلق عليهم هنا إختصارا ( العوام ).
2 ـ المعيار فى الدولة الأموية تركّز حول القبيلة ومدى قوتها العسكرية ، ومدى ولائها للأمويين . بهذا شارك زعماء القبائل فى إدارة الدولة وقيادة حملاتها العسكرية داخليا وخارجيا . فى هذا المعيار القبلى ( نسبة للقبيلة ) لا يهم من هو زعيم القبيلة . مثلا : إشتهر ( الأقرع بن حابس ) بأنه ( الأحمق المُطاع ) لأنه كان مُطاعا فى قبيلته ، قالوا إنه كان إذا غضب ، غضب لغضبه مائة ألف سيف لا يسألونه لماذا غضب .؟! هذا الأحمق الحمار دخل التاريخ ليس بكفاءته ولكن بثقافة العصبية القبلية التى أحيتها وتأسست بها الدولة الأموية ، ثم أسهمت هذه العصبية القبلية فى إسقاط الأمويين . وسنعرض لذلك فى بحث قادم .
المهم ، أنه من خلال هذا المعيار القبلى تعصب الأمويون للعرب ، واحتقروا السكان غير العرب من الموالى والأقباط والأنباط والبربر. ومهما بلغ شأن غير العربى فى العلم والتقوى والمكانة فهو من الدرجة الثانية ، وهو مشبوه تترصده أجهزة الأمن الأموية القوية ، لهذا عاش الحسن البصرى فى خوف ووجل من الحجاج ، وغيره كثيرون . وحتى من كان يدخل فى الاسلام كان الأمويون يأخذون منه الجزية لأنه لا عبرة بالاسلام ، العبرة بأنه غير عربى .
3 ـ لذا كان التغيير الذى أحدثه العباسيون هائلا فى حياة السكان الأصليين . تم رفع الجزية عمّن يُسلم ، وتتفتح له أبواب التوظيف ، بل يمكن له طالما كان مواليا للعباسيين أن يكون منحلا خلقيا وزنديقا ملحدا سواء دخل فى الاسلام أم ظل على دينه الأصلى . والعلماء الموالى غير المسلمين تمتعوا بمكانة متميزة فى العصر العباسى الأول ، وخصوصا الأطباء فى البلاط العباسى مثل آل بختيشوع .
4 ـ واكب هذا توقف الفتوحات الخارجية وانتهاء الخوارج وفسادهم وقطعهم الطريق فأصبحت الرحلة آمنة فى طلب العلم ، واستعادت المراكز العلمية نشاطها فى الرها والاسكندرية وجندياسبور وانطاكية ، وقامت برعاية العباسيين حركة ترجمة للمؤلفات اليونانية والسريانية وغيرها ، وبدأ الانفتاح على الثقافة العالمية يأخذ المنحى الفلسفى والبحث فى العلوم الطبية والطبيعية والفلكية ، كما بدأ علم (عقلى ) فى المجالات الدينية متأثرا بهذا الانفتاح على الفلسفات الهلينية ، ويحاول التقريب بينها وبين القرآن كما فعل المعتزلة ، وأثار هذا جدلا فى موضوعات الالوهية والنبوة والقضاء والقدر وصفات الخالق والمادة والجوهر ..الخ يحاكى الجدل الفلسفى الذى كان قبل نزول القرآن الكريم . مقابل هذه العلوم العقلية والطبيعية كان هناك (علم) وهمى ولكن حاز على إهتمام العباسيين هو ما أصبح يعرف بالحديث والسنة ، والذى كان أساس الفقه والتفسير وما يسمى بعلوم القرآن .
ثانيا : الايدلوجية الدينية السُّنية للدولة العباسية
1 ـ الدولة الأموية فى عمرها القصير ( حوالى 91 عاما ) ، والذى يعجّ بالفتوحات الخارجية والحروب الداخلية لم يكن لها وقت تلتقط فيه أنفاسها للتفقه فى الدين أو إستخدام دين أرضى لتوطيد سلطانها ، بل إن ثقافتها العربية البدوية ولجوءها للسيف سريعا واعتمادها على القوة العسكرية للقبائل والتعصب القبلى ـ كل ذلك همّش إتخاذها ايدلوجية دينية تواجه بها الايدلوجيات الدينية للمعارضة السياسية للخوارج والشيعة . تركزت الايدلوجية الدينية للأمويين على ما إعتادوه فى عصر النبوة فى رفضهم للاسلام بأن هذه هى ارادة الله ، أو أن ما يفعلونه هو قضاء الله وقدره ، أى ( الجبرية السياسية ) . أى كان الصراع فى الدولة الأموية بين خصمين أحدهما يملك السلاح والعتاد والسيطرة والحكم ، والآخر يملك الايدلوجيات ، وهم الموالى والشيعة بالذات ، ثم نجح ايدلوجية المزدكية للموالى والشيعة فى تجنيد مئات الألوف تحت قيادة أبى مسلم الخراسانى ، فجمع بين الايدلوجية والقوة العسكرية فانهارت بسهولة الدولة الأموية . وتأسست الدولة العباسية بايدلوجية دينية هى الحديث ، أو بالأحرى ( إختلاق وصناعة الحديث ) وبالتالى لا بد أن يكون هذا الحديث ( علما ) . فجعلته الدولة العباسية علما ليسندها بفقهائه .
2 ـ وكان أرباب الدولة العباسية من ( علماء الحديث ) . قبل أن يكون خليفة وأثناء عمله السّرى فى الدعوة ( للرضى من آل محمد ) كان الذى تسمى وتلقب فيما بعد بالخليفة أبى جعفر المنصور من طالبى ( الحديث ) ورفيقا لهم. وبهم تمت صناعة وصياغة كثير من الأحاديث التى تمهّد لقيام الدولة العباسية ، ثم كان هؤلاء ( المحدثون ) من المقربين لآبى جعفر المنصور فى خلافته . وبهذا إنفتح المجال لكل طموح من ( الموالى ) لأن يتخصّص فى ( الحديث ) ليحصل على مناصب الدولة من القضاء وغيره ويصبح صاحب نفوذ فيها . وفى مقابل هذا كانت الدولة العباسية لا تتسامح مع ( الفقيه ) الذى يعارضها فى ايدلوجيتها ، فالقتل ينتظره باسم ( حد الردة ) . ومهما بلغت مكانته فالقتل مصيره ، وهذا ما حدث لأبى حنيفة الذى إشتهر بعلمه ومكانته ونضاله ضد الأمويين ومعاناته منهم ، ومؤازرته للثائرين على الأمويين ، فصار عالى الشأن فى الدولة العباسية وكبير الفقهاء فيها . ولكن لأن لأبى حنيفة شخصيته المستقلة فقد عارض أبا جعفر المنصور ، فتعرض للضرب والسجن والقتل بالسُّم . وتعلم تلميذاه الدرس فدخلا فى خدمة العباسيين بكل خنوع ، وهما أبو الحسن الشيبانى وأبو يوسف . وكانت مكانة مالك بن أنس فى المدينة والحجاز عالية ، ولكن لأنه أيّد ثورة محمد النفس الزكية تعرض للتعذيب والاهانة فاضطر للإعتزال فى بيته الى أن مات ، بعد أن عهد للشيبانى وغيره بكتابة ( الموطّأ ) والمدونة .
3 ـ كان من حق العباسيين ( سياسيا ) أن يتصرفوا بهذه الطريقة . فهم يعرفون أن ( الحديث ) أو ما سُمّى بالسنة لم يكن علما على الاطلاق . هو إختلاق لأقوال للنبى لم يقلها ، وهم يشجعون أولئك الذين يختلقون تلك الأحاديث لأنهم كدولة دينية كهنوتية تتأسّس على ذراعين ( العسكر ) و ( رجال الدين ). وبالتالى لا بد لرجال دينها الذين يكذبون من أجلها أن يُخلصوا فى ولائهم لها .
ثالثا : إختلاق روايات السُّنة وتدوينها فى العصر العباسى
1 ـ لم يكن هذا فى الدولة الأموية التى كان نجومها من الخلفاء وزعماء القبائل فقط بينما كان ضحاياها من أئمة الموالى المتعلمين . وحتى فإن المتأخرين من الصحابة والذين أدركوا الدولة الأموية لم تستفد منهم الدولة الأموية كما ينبغى فى سبك وصناعة أحاديث مؤيدة لها . صحيح أن أبا هريرة تحالف مع الأمويين وصنع أحاديث لهم فى حربهم ضد ( على ) ولكن مات أبو هريرة عام 59 فى خلافة معاوية ، وقد قضى معظم عمره فى المدينة ، بعيدا عن التأثير فى موطن المعارضة للأمويين فى العراق . ومات أبو هريرة بعد أن ترك شهرة استمرت بعده فى عصر الرواية الشفهية ، إذ لم يهتم الأمويون بتدوين ما صنعه لهم من أحاديث . فالأمويون تجاهلوا الناحية العلمية والتدوين فقد كان إنشغالهم وتركيزهم على الحروب الداخلية والخارجية . ولقد عاش ( انس بن مالك ) فى البصرة ، وكان آخر من مات من الصحابة ، إذ مات فى خلافة سليمان بن عبد الملك عام 93 / 712 . وكان ( انس بن مالك ) حسبما يبدو من تاريخه قد أثرى وصار صاحب ضياع وقصور فى البصرة من أعطيات الأمويين ، ولكنهم لم يستفيدوا به كما ينبغى ، مع أنه تكسّب من الحديث عن النبى وقصده الناس فى عصره بشبب شهرته وأنه أخر من عاش من الصحابة بعد موت كل الصحابة ، ولزعمه أنه كان يخدم النبى .
2 ـ جاءت الدولة العباسية تحتاج الى تأسيس كهنوت دينى لها مؤسس على الأحاديث ، وكان جيل الصحابة والتابعين وتابعى التابعين قد انتهى . ولم تبق من ذكريات الصحابة والنبى والأحاديث سوى روايات شفهية يتداولها القُصّاص ، يرجع معظمها الى من مات متأخرا من الصحابة واشتهر بالقصص والرواية عن النبى ، مثل ابى هريرة وأنس بن مالك . و مشكلة أخرى أن منبع تلك الروايات الشفهية كان فى المدينة التى إنتقلت منها الأضواء الى مصر والشام والعراق وايران ، ولم يعد لديها ما تفخر به سوى ذكريات عهد النبوة ورواياتها الشفهية . لذا عهد الخليفة المهدى الى ( محمد بن اسحاق ) ليكتب سيرة للنبى محمد . كما قام مالك بن أنس بتأليف أول كتاب فقهى مبنى على الأحاديث الشائعة فى المدينة والتى ينسبها مالك للنبى محمد حينا وللصحابة والتابعين أحيانا . وبسيرة ابن اسحاق وموطأ مالك تمّ وضع أساس الدين السُّنى . هو أساس واه يقوم على الكذب والاختلاق ولكن إقيمت عليه المؤلفات اللاحقة فى السيرة والحديث والتفسير فى العصر العباسى الثانى وما تلاه .
3 ـ مالك وابن اسحاق كانا خصمين يعادى كل منهما الاخر ، وكان ( مالك ) كان منحرفا عن الدولة العباسية بينما كان ابن اسحاق عميلا للعباسيين ، وقد هاجر من المدينة حين ثارت على العباسيين فى حركة محمد النفس الزكية ، وعاش فى بغداد فى رعاية الخليفة المهدى ، بينما ظل مالك فى المدينة يضمّد جراحه الجسدية والنفسية بعد التعذيب والاهانة التى ألحقهما به العباسيون . المُشترك بين الرائدين المتخاصمين مالك وابن إسحاق هو الكذب والاختلاق فيما روياه من أحاديث ، و أن كليهما أسند معظم هذه الروايات الى ابن هشام الزهرى .
4 ـ والواقع التاريخى يؤكد أن كلا من ابن اسحاق ومالك لم ير ولم يصاحب ابن شهاب الزهرى ولم يسمع منه برغم زعمه أن كليهما يزعم الرواية عنه . لقد مات الزهرى فى العصر الأموى عام 124 . وكان قد فارق المدينة ولحق بخدمة الأمويين ولازمهم معظم حياته بعيدا عن المدينة التى ولد فيها محمد بن اسحاق عام 85 .ولقد ذكر فى ( تاريخ المنتظم ج 7 وفيات 124 ) فى ترجمة ابن شهاب الزهرى إنه غادر المدينة وهو شاب والتحق ببلاط الخليفة عبد الملك بن مروان ، فأمره عبد الملك بالرجوع ليستفيد من علم التابعين من الأنصار فرجع الى المدينة طالبا ليستزيد علما ، ثم لحق بدمشق يخدم الخليفة عبد الملك الى أن مات عبد الملك عام 86 ، ثم ظل يعلم أولاده فى البلاط الأموى الى أن مات . وهذا ما حكاه الزهرى عن نفسه . وحين كان الزهرى فى دمشق متفرغا لخدمة عبد الملك بن مروان ( عشر سنوات قبل موت عبد الملك عام 86 ) شهدت المدينة مولد ونشأة محمد بن اسحاق عام 85 ومولد ونشأة مالك بن أنس عام 93 هجرية . فمتى وكيف التقى كل منهما بالزهرى ؟ .
5 ـ والتفاصيل فى بحث لنا قادم بعون الله جل وعلا عن سيرة ابن اسحاق وأباطيله فيها ، وكيف رسم صورة للنبى محمد عليه السلام تعطيه ملامح الخليفة العباسى فى تآمره وعشقه للسبايا وقتله الأسرى ، مما أتاح لمن جاء بعده أن يطوّر هذه الشخصية المزيفة للنبى محمد لتصبح مسوغا شرعيا فى الدين السّنى لارتكاب الكبائر بحجة أن ذلك هو ما كان يفعله النبى بزعمهم .
6 ـ مالك بن أنس فى ( الموطأ ) أعطى صورة مزيفة أخرى عن النبى ، خصوصا فى النواحى الدينية والفقهية ، فقد كان أول من ذكر حديثا فى الشفاعة ، واول من قال بكراهية دخول أهل الكتاب للمدينة و أول من رسم ملامح التقديس للمدينة وتقديس القبر المنسوب للنبى . وبلغ عدد الأحاديث التى ذكرها مالك فى ( الموطأ ) 1008 فقط ، منها الكثير المنسوب للصحابة وليس للنبى . هذا فى النسخة التى كتبها الشيبانى باملاء مالك . ثم جاء الشافعى تلميذا لمالك فأملى كتابه الضخم ( الأم ) وملأه بآلاف الأحاديث إصطنعها بأسانيد منها ما هو مأخوذ عن مالك ، ومنها ما إصطنعه من دماغه . ثم خلال ثمانين عاما تقريبا بعد موت مالك تضخم عدد الأحاديث ليصل الى مئات الألوف فى عهد البخارى الذى يقول انه انتقى أحاديثه ( حوال 3000 ) من بين 700 الف حديث متداولة ، تم نشرها بين موت مالك عام 179 وعصر البخارى .
رابعا : دخول ملايين الموالى فى دين الكذب السّنى
1 ـ المحصلة النهائية أن الدولة العباسية فى سعيها لتأسيس ايدلوجية لها شجعت الكذب على النبى وجعلت هذا الافتراء طريقا للوصول للجاه والثروة والمناصب . وبعد أن كان الموالى يعانون الاضطهاد أصبح الطريق مفتوحا أمامهم للترقى والثروة بمجرد أن يتصدّى أحدهم ليحدّث الناس أنه سمع فلانا يروى عن ا فلان عن فلان عن فلان عن الصحابى فلان أن النبى قال كذا وكذا . ثم لا يراجعه أحد فى قوله ولا يطالبه بدليل ،إذ لا يوجد دليل أصلا . بل يزدحم عليه طُلّاب ( العلم ) ليسمعوا منه ، وليتخرجوا على يديه ، ثم يكتبوا ما قاله فى عصر التدوين . ومن الطبيعى أن يتم تسجيل بعض ما تناقل من روايات شفهية حبكها مخضرمى الصحابة الذين أدركوا العصر الأموى كأبى هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر ت 73 هجرية . ومن الطبيعى ايضا أن يتم تحريف وتغيير تلك الروايات المنقولة شفهيا . ومن الطبيعى أيضا أن تنتج ماكينة الكذب فى الأحاديث آلافا مؤلفة تنسبها لنفس أولئك الصحابة الذين لم يعرفوا شيئا عن هذا الاسناد ولم يعرفوا شيئا عن هؤلاء الرواة ولم يعرفوا شيئا عن العصر العباسى . ومن الطبيعى فى النهاية أن يتقرب رواة الأحاديث بنسبة آلاف الأحاديث الى عبد الله بن عباس جد الخلفاء العباسيين .
2 ـ كان صعبا أمام ابناء الحرفيين ( أهل الحرف ) فى الطبقة الدنيا من المجتمع أن يتخصصوا فى ( الحكمة ) التى كانت تعنى الفلسفة والطب والعلوم الطبيعية والتى إحتكرتها عائلات معينة ، ولكن كان سهلا عليهم أن ينتسبوا الى حلقة راو للأحاديث و( يسمعوا ) منه وينقلوا عنه ، ثم يصير أحدهم أكثر شهرة وأكثر ثروة من الطبيب الفيلسوف . كل الموهبة المطلوبة هى القدرة على الكذب ، والقدرة على نشره ونسبته زورا للنبى عليه السلام . ومن هنا دخل الفقراء من الموالى فى دين السّنة أفواجا .
13 ـ ونعطى مثلا بالشيوخ الذين أخذ عنهم المؤرخ ( المحدّث ) محمد بن سعد الذى توفى قبيل العصر العباسى الثانى ،أى عام 230 هجرية . شيوخ محمد بن سعد المشهورون هم 1 محمد بن عمر الواقدي.و2 عفان بن مسلم. 3. أبو نعيم الفضل بن دكين. 4. يزيد بن هارون. 5. وكيع بن الجراح. 6. محمد بن عبد الله الأنصاري. 7. معن بن عيسى القزاز. 8. عبد الله بن نمير. 9. عبيد الله بن موسى العبسي. 10. سفيان بن عيينة. 11. سليمان بن حرب. 12. عارم بن الفضل. 13. محمد بن عبد الله الأنصاري..
أمّا من روى عنهم فهم كثيرون حوالى السبعين . منهم : أحمد بن إبراهيم الموصلي، نزيل بغداد (ت 236هـ) ، أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي (ت227هـ) اسحاق بن سليمان الرازى : كوفي نزل الرّي (ت199هـ) ، إسحاق بن يوسف الأزرق الواسطي (ت195هـ)، إسماعيل بن إبراهيم الأسدي الكوفي المعروف بابن علية (ت193هـ) ، إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس المدني (ت226هـ)، إسماعيل بن أبي مسعود، ، الحجّاج بن محمد المصّيصي الأعور، الترمذي الأصل، سكن بغداد ثم تحول إلى المصّيصة، (ت206هـ) الحجاج بن منهال البصري (ت217هـ)، الحسن بن موسى الأشيب البغدادي (ت209هـ)، حفص بن عمر الحوضي البصري (ت225هـ)، حمّاد بن أسامة الكوفي (ت201هـ)، خالد بن مخلد القطواني الكوفي (ت213هـ)، روح بن عبادة البصري (ت205 أو 207هـ)، سعيد بن عامر الضُّبعي البصري (ت208هـ)، سعيد بن محمد الثقفي الكوفي، نزيل بغداد ، سعيد بن منصور المروزي، نزيل مكة (ت227هـ) سفيان بن عيينة الكوفي، نزيل مكة (ت198هـ)، سليمان بن حرب الأزدي البصري، ثم المكي (ت224هـ)، سليمان بن داود الطيالسي البصري (ت204هـ)، سليمان بن عبيد الله الرقي ،سويد بن سعيد الحدثاني الأنباري (204هـ)، شبابة بن سوار المدائني، وأصله من خراسان (ت204هـ)، عارم بن الفضل البصري (ت223هـ)، عبد الله بن إدريس الأودي الكوفي (ت192هـ)،عبد الله بن بكر السهمي البصري، نزيل بغداد (ت208هـ)، عبد الله بن جعفر الرقّي (ت220هـ)، عبد الله بن مسلمـة بن قعنب الحارثـي المدني، نزيل البصرة ثم مكة (ت221هـ)، عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي (ت199هـ)،عبد الرحمن بن يونس المستملي البغدادي (ت224هـ)،عبد الملك بن عمرو العقدي البصري (ت204هـ)،عبد الوهاب بن عطاء العجلي البصري، (ت204هـ)، عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي (ت213هـ)، عفّان بن مسلم البصري (ت220هـ)، علي بن عبد الله بن جعفر المديني البصري (ت234هـ)،عمر بن سعد الحفري الكوفي (ت203هـ)، عمرو بن عاصم الكلابي البصري (ت213هـ)، عمرو بن الهيثم أبو قطن البصري (ت198هـ)، الفضل بن دكين أبو نعيم الكوفي (ت219هـ)، الفضل بن عنبسة الخزّاز الواسطي (ت بعد 200هـ،) ، قبيصة بن عقبة الكوفي (ت215هـ)، كثير بن هشام الرقّي، نزيل بغداد (ت207هـ)،مالك بن إسماعيل الكوفي (ت217هـ)، محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني (ت 200هـ)، محمد بن حميد العبدي البصري، نزيل بغداد (ت182هـ)، محمد بن عبد الله الأسدي الكوفي (ت203هـ) ، محمد بن عبد الله الأنصاري البصري (ت215هـ)، محمد بن عبيد الطنافسي الكوفي (ت204هـ)، محمد بن عمر الواقدي المدني، قاضي بغداد (ت207هـ)، محمد بن فضيل بن غزوان الكوفي (ت195هـ)، محمد بن يزيد الواسطي (ت190هـ)، المعلّى بن أسد البصري (ت218هـ)، معن بن عيسى القزاز المدني (ت198هـ)، موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري (ت223هـ)، موسى بن داود الطرسوسي، نزيل بغداد (ت217هـ)، هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي البصري (ت227هـ)، هوذة بن خليفة البصري، نزيل بغداد (ت216هـ)، وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي (ت197هـ)، الوليد بن مسلم الدمشقي (ت195هـ)، وهب بن جـرير البصري ( ت206 )، يحيى بن سعيد الأموي الكوفي، نزيل بغداد (ت194هـ)، يحيى بن عباد الضبعي البصري، نزيل بغداد (ت178هـ)، يحيى بن معين أبو زكريا البغدادي (ت233هـ)، يزيد بن هارون الواسطي (ت206هـ)، يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري المدني، نزيل بغداد (ت208هـ) ، يعلى بن عبيد الطنافسي الكوفي (ت209هـ)، أبو بكر بن عبد الله بن أبي أويس المدني (ت202هـ)،أبو معاوية الضرير محمد بن خازم الكوفي (ت195هـ).
ولقد نقلنا هذه الأسماء لشيوخ محمد ين سعد لنضع عليها الملاحظات الآتية :
1 ـ كان الانتساب فى العصر الأموى للقبيلة ، ولكن بدخول سكان الأمم المفتوحة فى الاسلام ظهرت نوعيتان جديدتان من الانتساب ، هما الانتساب للبلد وللحرفة. الانتساب للبلد كالحسن لبصرى والطبرى والبلاذرى والدنيورى والواسطى والغزالى ومكحول الدمشقى والمدائنى والاصفهانى والحرانى وياقوت الحموى والرازى( المفسر والطبيب ) وحميد بن جابر الشامي ( ت151هـ) وشقيق البلخي (ت153هـ) . والانتساب للحرفة مثل المبرد والزجّاج والانماطى وابن الزيات وابن الجصاص وأبو عتبة الخواص (ت 162هـ). وبالنظر الى شيوخ محمد بن سعد نجد معظمهم من الموالى المنتسبين للمكان والمنتسبين للحرفة ، ومنهم من ينتسب الى اكثر من بلد بسبب تنقله ورحلته من هنا الى هناك .
2 ـ كتاب محمد بن سعد ( الطبقات الكبرى ) كان نوعية جديدة من التأريخ ( التأريخ للنبى وطبقات الصحابة والتابعين ). وهذه النوعية من الكتابة لم تكن من النوعيات المفضّلة للدولة العباسية ، كما إن ابن سعد نفسه ـ على خلاف شيخه الواقدى ـ لم يكن محبوبا لدى العباسيين ، ومع هذا نجد هذا العدد الضخم من شيوخه فى هذه النوعية من التأريخ ، فكيف لو كان يكتب فى موضوع مُحبّب ؟
3 ـ أولئك الشيوخ من الموالى كانوا النابغين المشهورين ممّن دخل آباؤهم الاسلام ، وبالتأكيد فهناك ملايين غيرهم من ( الأغلبية الصامتة ) التى لم تحظ بالتسجيل التاريخى . وبالتالى فهذا مؤشر هام على دخول الموالى أفواجا فى دين السّنة فى العصر العباسى الأول ، وكونهم قادة هذا الدين الأرضى ، إستجابة لرغبة العباسيين فى خلق مجتمع من ( رجال الدين ) يؤيد ذراعهم العسكرية .
الفصل الثالث : قبيل الصدام بين العباسيين ومتطرفى السنيين
أولا : بين الايدلوجية الدينية والقوة العسكرية
1 ـ حسن الصباح ( 430 : 518 ) كان شيعيا يتبع الامامية الإثناعشرية ، ثم تحول ليتبع الامامية الإسماعيلية وأتى للقاهرة عام 471 ودولتها الفاطمية ، فشهد صراعا سياسيا حول ولاية العهد ، إنقسمت به الدعوة الفاطمية الاسماعيلية الى نزارية ومستعلية .وانضم حسن الصباح للنزارية ضد المستعلية فطرده الوزير بدر الدين الجمالى ، فعاد يعانى المطاردة ، من السلاجقة السنيين والشيعة الاثناعشرية الايرانيين والشيعة الاسماعيلية المصريين ، فلجأ الى قلعة آلموت الحصينة ، دخلها متنكرا كرجل زاهد عابد ، رحّب به حاكم القلعة العلوى . وتمكن حسن الصباح من إقناع جنود القلعة بالتحول الى التشيع الاسماعيلى النزارى ، واستولى على القلعة وطرد منها حاكمها فى رجب 483 هجرية . نحن هنا أمام شخص واحد يملك ايدلوجية فاستطاع بهذه الايدلوجية أن يمتلك قلعة بجندها وعتادها .
2 ـ الايدلوجية تحتاج الى قوة عسكرية لتنشىء بها دولة ( ايدلوجية ) وهذا ما يحاوله ( الإخوان المسلمون ). والقوة العسكرية تحتاج الى رجال الدين ليركبوا بهم المجتمع ( وهذا ما كان يفعله مبارك فى مصر ). وتصبح هذه القوة العسكرية دولة دينية لو كانت لها ايدلوجية دينية، أى تسير على ساقين ( العسكر والكهنوت الدينى ورجال الدين ). فى الاسلام يتحتم أن تكون إقامة القسط بين الناس مرتبطة بالايمان بالله جل وعلا واليوم الآخر. لذا يكون نادرا تفعيل ايدلوجية اسلامية حقيقية ، بينما تنشأ عن الأديان الأرضية ايدلوجيات مختلفة تقيم على أساسها دولا دينية تسعى نحو السلطة والثروة وتكفر باليوم الآخر، وتروج فيها أساطير الشفاعات .
3 ـ وهناك نماذج كثيرة لدول وحركات سياسية تخريبية بدأت بالدعوة الدينية وتأسّت بها . حسن الصباح أنشأ أكبر تنظيم ارهابى فى التاريخ نشر به الرعب والتدمير . حركة الزنج قام بها ثائر نجح فى تجييش العبيد فى جنوب العراق ، وتقلّب بين ايدلوجية التشيع وأيدلوجية الخوارج . القرامطة حولوا غارات البدو الى ( جهاد ) غزوا به العراق والشام ومكة نفسها . عبد العزيز آل سعود إقتفى سُنّة القرامطة فى تجنيد شباب البدو وتلقينهم سفك الدماء بالايدلوجية الوهابية الحنبلية السّنية فأسّس بهم الدولة السعودية الحالية. أبو عبد الله الشيعى أتى لشمال افريقيا ليس معه سوى الايدلوجية الشيعية ، فنشرها بين البربر فأقام الدولة الفاطمية فى ( المهدية ) فى تونس ، ثم إنتقلت لمصر. بل قد يصل الأمر بادّعاء النبوة . الشاعر المتنبى حمل هذا اللقب لأنه زعم النبوة فى شبابه ودعا لنفسه بين الأعراب ففشل ، ثم إختار الشعر ولكن ظل يحمل لقب ( المتنبى ) بسبب طموحه القديم . حركة الردة بعد موت النبى محمد عليه السلام إرتبطت بإدّعاء النبوة . فتوحات الصحابة قامت بتحوير الجهاد الدفاعى فى الاسلام الى إعتداء وإحتلال يوافق السائد فى ثقافة العصور الوسطى . الخوارج عارضوا الأمويين بشعار دينى هو ( لا حكم ألا لله ) .الحارث بن سريج التميمي احد زعماء بني تميم قاد ثورة ضد الأمويين فى خراسان رافعا شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، واراد ان يفلح في ما فشل فيه الفقهاء الثوار من اصحاب محمد بن الاشعث ، وقد نشر الحارث ابن سريج حديثا منسوبا للنبي يقول ( يخرج رجل وراء النهر يقال له الحارث علي مقدمته رجل يقال له منصور يوطن او يمكن لآل محمد ،وجب علي كل مؤمن نصره ..)، وقد اشتهر ذلك الحديث حتي نشرته كتب السند فيما بعد ومنها مسند ابي داوود في الدولة العباسية . ولم ينفع ابن ابي سريج اختراع ذلك الحديث الذي يدعو الناس الي نصرته، وقد انهزم ابن ابي سريج وقتل مع اهله سنة 128 ، وفشل كما فشل الخوارج والشيعة العلويون ، ثم تم تطويع التشيع ليشابه المُزدكية الفارسية ، فتم تجنيد آلاف مؤلفة من خراسان وغيرها ، وبهذا نجح أبو مسلم الخراسانى فى إسقاط الدولة الأموية وإقامة الدولة العباسية. وبعد قتل أبى مسلم الخراسانى ثار أتباعه ورفعوا شعارا دينيا فارسيا فى مواجهة العباسيين ، وارتبطت ثوراتهم بإدعاء النبوة فواجههم العباسيون بالحرب وبحد الردة . ثم أقام العباسيون طبقة من رجال دينهم السّنى لتكتمل ملامح الدولة الدينية السّنية العباسية ، بالعسكر و الكهنوت الدينى .
4 ـ وأبو جعفر المنصور فى خلافته ( 136 : 158 ) هو الذى قام بتوطيد الدولة العباسية وإرساء ملامحها الكهنوتية. هو الذى بنى بغداد.(143 : 149 هجرية)، وهو القائل في خطبته (ايها الناس إنما أنا سلطان الله في ارضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه علي فيئه (ماله) أقسمه بارادته وأعطيه بأذنه .) (تاريخ الطبرى 9 / 297 )، أى أنه أول من أعلن (الحاكمية السياسية )، أو الحاكم الذى يحكم باسم الله تعالى ويستمد سلطته من الله وليس من الناس ، ويكون مسئولا ليس أمام الناس ولكن أمام الله تعالى فقط يوم القيامة. وبهذا تحولت الدولة العباسية الى دولة كهنوتية سنية . وأسّس أبو جعفر المنصور من العوام جيشا من طلبة ( الحديث ) وبدأ فى عهده التدوين المُنظّم فى (الحديثوالفقه والتفسير) وغيرها،وقبلهذاالعصركانالأئمةيتكلمونمنحفظهمورواياتهم الشفهية . وذكر المؤرخ ابن عساكر فى تاريخ دمشق أن أبا جعفر المنصور كانيرحلفيطلب الحديث قبل الخلافة ، وقالالصولي :( كانالمنصورأعلمالناسبالحديثوالأنسابمشهوراًبطلبه )، وذكروا له عدة أحاديث رواها أو إخترعها . أى جعل نفسه ضمن رواة الأحاديث وطلبة ( العلم ) كى يخلق أيدلوجية تسند دولته .
5 ـ وهنا نرى القوة العسكرية العباسية تخلق لنفسها أيدلوجية دينية بمئات الألوف من الأتباع . وهذه هى الحقيقة الأولى فى علاقة القوة والايدلوجية .الايدلوجية تحتاج الى القوة العسكرية ، والقوة العسكرية الحاكمة حتى لو كانت علمانية تحتاج الى رجال دين ، أو كهنوت . وحتى لو وقفت موقفا معاديا من الدين كالشيوعية فإنها تقوم بتحويل القائد الى اله معصوم . أى تصبح نوعا من الدين الأرضى مع زعمها بأن الدين ( افيون الشعوب ).!
6 ـ الحقيقة الثانية هى أن الكهنوت الدينى إذا وصل الى مرحلة من القوة فإنه يقوم بالمزايدة على السلطان طلبا للمشاركة فى الحكم ، خصوصا إذا وصلت الدولة الى دور الضعف وإنتهى مؤسسوها الأقوياء وورثهم سلاطين مترفون تتحكم فيهم النساء ومراكز قوى ، فيزداد إعتمادهم على الدين الأرضى وكهنوته . وهذا ما حدث فى أواخر العصر العباسى الأول ، فى الصدام بين الدولة العباسية وفقهائها السنيين ، والذى حمل شعارا دينيا هو الجدل حول ( خلق القرآن )، بينما كان الصراع سياسيا فى الأصل ، وأيضا تحت شعار دينى هو ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) . كان بطل موضوع ( خلق القرآن ) هو ( أحمد بن حنبل ) بينما كان بطل حركة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو ( أحمد بن نصر الخزاعى ) . هنا تتمثل الحقيقة الثانية، وهى أن أصحاب الايدلوجية الدينية يحاولون ـ لو سنحت لهم الفرصة ـ الوثوب على السلطان .
ثانيا : بين الحركة العلمية الحقيقية وشيوخ الكذب اللاهوتى فى العصر العباسى الأول
1 ـ فى العصر الأموى تميزت المدينة بمدرسة الحديث الشفوية ، وكانت تدور حول ما توارثته المدينة من عصر النبوة من روايات تاريخية عاشتها فى عصر النبوة والخلفاء أبى بكر وعمر وعثمان . ثم أقاويل بعض الصحابة من آراء بسيطة فىما عرف فيما بعد بالفقه والتفسيير ، كان يتداولها التابعون فى المينة ، واشتهر سعيد بن المسيب فى العصر الأموى، فكان بعضهم يرحل اليه . وبه قامت فى المدينة (مدرسة الحديث ) تمثل المحافظة والتقليد وتعيش في استرجاع امجاد عصر النبوة والخلافة الرشيدة حين كانت المدينة العاصمة الاولي للمسلمين قبل ان تنتقل عنها الاضواء للشام والعراق . لذا إعتمدت علي ( عمل اهل المدينة ) مصدرا من مصادر التشريع ، ولأن الحياة الصحراوية تسير علي وتيرة واحدة فان التقليد يفرض نفسه . ودار هذا التقليد حول التمسك بما يرويه أهلها من ( أحاديث ).
إختلفت ظروف العراق ، فهو وارث لحضارة قديمة ، وظروفه الجغرافية والسكانية مُعقدة مُتقلبة تستدعى الاجتهاد والتطور وإختلاف الرأى. لذا ظهرت مدرسة ( الرأى ) العراقية فى العصر الأموى تقابل مدرسة الحديث فى المدينة . وفى العصر العباسى الأول أنتجت مدرسة المدينة ( مالك بن أنس ) والموطأ ، بينما أنتجت مدرسة العراق أبا حنيفة الذى جمع بين الفقه والعلوم العقلية ، وسيطر منهجه العقلى على الفقه ، فكان لا يعترف بالأحاديث وبالاسناد .
2 ـ وأحدث أبو جعفر المنصور نقلة هائلة ، فهو الذى قتل أباحنيفة ، وهو الذى جعل تلميذيه الشيبانى وأبا يوسف ضمن مدرسة الحديث فأنهى مدرسة الرأى ، وهو الذى أسّس الكهنوت السّنى ، بالتشجيع على رواية الأحاديث وإسنادها للنبى . هنا إنتقلت مدرسة الحديث من المدينة لتتمركز فى العراق ، وليقودها الأعاجم ، ويكفى أن نعرف أن مشاهير أئمة الحديث فى العصر العباسى من فارس .
ولكن بدخول الثقافات الاجنبية المترجمة الي العصر العباسي تأسست مدرسة جديدة للتجديد العقلي تأثرت بالفلسفات اللاتينية والهلينية ومدارسها في انطاكية والرها وجندياسبور-، فبرزت مدرسة المعتزلة او كما يسمون انفسهم اهل العدل والتوحيد .
وادي ظهور هذه المدرسة العقلية الي توحيد الفقهاء جميعا في اتجاه واحد ضد المعتزلة . وتعين على الدولة العباسية أن تنحاز الى الأفضل لها : هل الكهنوت الفقهى الجاهل الكاذب الذى إخترعته والذى تحتاج اليه فى تدعيم سلطتها السياسية كدولة دينية ، أم العلوم العقلية والفلسفية التى تحتاج اليها فى نهضتها وتقدمها ؟
ثالثا : الدولة العباسية فى عصرها الأول تنحاز للعلم الحقيقى والاتجاه العقلى
1 ـ أبو جعفر المنصور باعتباره من ( اهل الحديث ) يعلم أنه ( دجل وإفتراء ) ويعلم أن اصحابه أبعد ما يكونون عن العلم ، هم مجرد ( حشوية ) كما كان يُطلق عليهم ، أى يحشون رءوسهم بأقاويل كاذبة يتعصبون لها. وقد خلقتهم الدولة كهنوتا لها ، وهنا تكون إحتمالية الشّك فيهم ، وفى إنقلابهم على الدولة أو مزايدتهم عليها ، لذلك عوقب ( أبو حنيفة) بالسجن والموت خوفا من تاثيره على قادة الجند العباسيين ، وعوقب ( مالك ) لانحيازه لثورة محمد النفس الزكية . أما عن رواد الحركة العلمية الفلسفية فقد كأنوا علماء وأطباء لا شأن لهم بالسياسة ، بل يعملون كخبراء لديها فى الطب وفى الترجمة ، ومنهم نصارى لا شأن لهم بالطموح السياسى ، علاوة على حاجة الخلفاء شخصيا لهم فى مجال الطب ، ويكفى أن الخليفة المتوكل الذى تعصب للكهنوت السُّنى وإنقلب على الحركة العلمية والفلسفية والمعتزلة واضطهد أهل الكتاب لم يستطع الاستغناء عن بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع الذى كان طبيب الخليفة الواثق ، فاتخذه المتوكل طبيبه الخاص .
2 ـ وقد خدم آل بختيشوع البلاط العباسى ثلاثة قرون ، وهم من الطائفة المسيحية العربية(السريانية) المهاجرة إلى فارس قبيل الفتح الإسلامي، هرباً من اضطهاد بيزنطة. و بدأ أبوجعفر المنصور بهذا . بعد بناء بغداد أصيب بمرض فى معدته عجز الطباء عن شفائه ـ فاستقدم الطبيب جورجيوس بن بختيشوع من جندياسبور فنجح فى شفاء أبى جعفر المنصور فإزدادت مكانة هذا الطبيب لديه ، ووثق به أبو جعفر ـ وهذا فى حدّ ذاته أمر غريب ـ حتى لقد كان أبو جعفر المنصور يأذن له بالدخول على نسائه لعلاجهن . وقد إتّخذه المنصور صديقا ، بدليل أنه عندما مرض هذا الطبيب كان المنصور يرسل اليه رسولا كل يوم يطمئن على صحته . ثم سار المنصور ماشيا الى داره ليطمئن عليه بنفسه.وعرض عليه الاسلام وقال له : يا جرجيوس إتّق الله وأسلم وانا اضمن لك الجنة " فقال الطبيب : " رضيت حيث آبائى فى الجنة أو فى النار ". فضحك المنصور . واذن له المنصور بالرجوع الى بلده وكلف خادما بأن يصحبه ، وأعطاه ألف دينار،مع شهرة المنصور بالبخل الشديد حتى كانوا يطلقون عليه (أبو الدوانيق).وعيّن مكانه تلميذه عيسى بن شهلافا .
واشتهر بختيشوع بن جورجيوس بالمكانة الهائلة لدى الخلفاء الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل ، وكسب بالطب ما لم يكسبه أحد ، وكان الخلفاء يستأمنونه على نسائهم . هذا ما يقوله ابن النديم ( ت 385 ) فى الفهرست . أما القفطى ( ت 646 ) فى كتابه ( إخبار العلماء بأخبار الحكماء ) ـ وهو الذى ننقل عنه هنا ـ فقد قال بأن بختيشوع هذا خلف أباه فى رعاية الماريستان فى جندياسبور ، ثم إستدعاه الخليفة المهدى لعلاج ابنه ( الهادى ) ولى العهد. وبسبب مكيدة دبرتها الخيزران عاد الى بلده ، ثم استدعاه الرشيد وجعله رئيس الأطباء فى قصره. ومن نفس الأسرة نبغ فى قصور الخلافة بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع طبيب الواثق والمتوكل ، وبختيشوع بن يحيى طبيب المقتدر .
3 ـ ويتميز العصر العباسى بأنه قدّم للحضارة الانسانية نماذج فريدة فى التطور العلمى والفلسفى والطبى فى العصور الوسطى ، منهم الكندى ( 185 : 256 ) والحسن بن الهيثم ( 354 : 430 ) والطبيب الرازى أعظم أطباء العصور الوسطى ( 250 : 311 ) وابن سينا ( 370 : 427 ) وجابر بن حيان والفارابى و البيرونى ..الخ .
4 ـ ووقع فى غرام هذا الاتجاه العقلى العلمى الخليفة المأمون ت 218 . وهو الذى إضطهد فقهاء السّنة فى موضوع (خلق القرآن ) عام 212 ، 218 . وفى المقابل فإن المأمون هو الذى أنشأ ( بيت الحكمة ) واستقدم لادارته الخوارزمى ( ت 232 ) الذى أصبح من مشاهير العلماء فى العصور الوسطى ، وعهد إليه المأمون برسم خارطة للأرض عمل فيها أكثر 70 جغرافيا.
وفى عصر المأمون عاش موسى بن شاكر في بغداد ، وكان من المقربين من الخليفة، وقد اهتم بالفلك والتنجيم. وعندما توفي موسى بن شاكر، ترك أولاده الثلاثة صغاراً فرعاهم المأمون، وأدخلهم بيت الحكمة الذي كان يحتوي على مكتبة كبيرة وعلى مرصد فلكي، إضافةً إلى القيام بترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية من اليونانية. نشأ بنو موسى في هذا الوسط العلمي . وقد كان أكبرهم أبو جعفر محمد عالماً بالهندسة والنجوم و"المجسطي"؛ وكان أحمد متعمقاً في صناعة الحيل (الهندسة الميكانيكية) وأجاد فيها، وتمكن من الابتكار فيه؛ أما الحسن فكان متعمقاً في الهندسة. وكتب بنو موسى في الهندسة، والمساحة، والمخروطات، والفلك، والميكانيكا، والرياضيات. .
وامتدت عناية المأمون للترجمة فقام بتعيين ( حنين بن إسحاق العبادى ) ( ت 260 هجرية )مسئولا عن الترجمة فى بيت الحكمة وساعده ابنه اسحاق بن حنين وابن اخته حبيش بن الأعسم . ، وكان حنين يجيد العربية والسريانية والفارسية واليونانية. قام حنين بترجمة أعمال جالينوس وابقراط وارسطو والعهد القديم من اليونانية . وكان المأمون يعطيه بعض الذهب مقابل ما يترجمه إلى العربية من الكتب. ورحل كثيرًا إلى فارس وبلاد الروم وعاصر تسعة من الخلفاء، وله العديد من الكتب والمترجمات التي تزيد عن المائة، وأصبح المرجع الأكبر للمترجمين جميعًا ورئيسًا لطب العيون، حتى أصبحت مقالاته العشرة في العين، أقدم مؤلف على الطريقة العلمية في طب العيون وأقدم كتاب مدرسي منتظم عرفه تاريخ البحث العلمي في أمراض العين.
5 ـ ووقع فى نفس الغرام بهذا الاتجاه العلمى والعقلى الخليفة هارون الواثق ( ت 237 هجرية ) وهو الذى قتل الثائر السّنى احمد بن نصر الخزاعى عام 231 . ويقول المسعودى ( ت 346 ) فى تاريخه ( مروج الذهب ) إن الخليفة الواثق سلك مسلك أبيه المعتصم وعمه المأمون ( من القول بالعدل ) أى مذهب المعتزلة ( العدل والتوحيد ). ( مروج الذهب : 2 / 375 ) . وتحت عنوان ( مجلس الواثق فى الفلسفة والطب ) ذكر المسعودى مجلس علم عقده الواثق وحضره علماء وأطباء . قال المسعودى عنه : ( وكان الواثق بالله محبا للنظر (أى الاتجاه العقلى ) مُكرما لأهله ، مبغضا للتقليد وأهله (أى الفقهاء وأهل الحديث ) ، محبا للإشراف على علوم الناس وآرائهم ممن تقدم وتأخر من الفلاسفة وغيرهم من الشرعيين ) . وفى هذا المجلس سألهم الواثق عن مصدر المعرفة بعلم الطب ، هل بالحسّ ام بالقياس أم بالسّنّة كما يذهب اليه جماعة من اهل الشريعة. وحضر المجلس ابن بختيشوع وابن ماسويه وحنين وسلمويه . وقد قالوا ( إن الطريق الذى يُدرك به الطب هو التجربة فقط ) ، ونقل المسعودى خمس صفحات من النقاش الذى دار فى هذا المجلس ( مروج الذهب : 2 / 375 ، 384 : 388 ). جدير بالذكر ان المؤرخ المسعودى كان قريبا من عصر الواثق ، ولم يصطنع الاسناد فى رواية تاريخه ، أى لم يقل ( أخبرنى فلان عن فلان ) كما كان يفعل المؤرخون من أصحاب الحديث كالطبرى وابن الجوزى ، ومع ذلك فقد كان المسعودى أقرب للصدق والموضوعية من الطبرى وابن الجوزى . وقد تفوق ابن الجوزى فى الكذب والاختلاق على من سبقه من المؤرخين ، وجعل تصنيفه للتاريخ فى خدمة دينه السّنى الحنبلى ، فقام بتشويه سيرة الواثق ، يخترع أسانيد تتهمه بالانحلال الخلقى ، فى نفس الوقت الذى حاول أن يدافع فيه عن الخليفة الماجن ( المتوكل ) باختراع منامات تزعم إن الله جل وعلا غفر له .
6 ـ والمعتصم والد الواثق لم يكن مثقفا ، ومع ذلك فقد كان على مذهب المعتزلة كارها للكهنوت السّنى فواصل إضطهاد ابن حنيل بينما كان غاية فى التسامح مع أهل الكتاب . ولقد كان سلمويه بن بنان نصرانيا متمسكا بدينه، وقد عمل طبيبا للخليفة العباسي المعتصم ، وارتفع شأنه عنده حتي أن الورقة التي تحمل توقيع سلمويه كان الأمراء والقواد لا يستطيعون مخالفتها، وقد أمر الخليفة المعتصم بتولية إبراهيم ابن بنان شقيق سلمويه الإشراف علي خزائن الأموال للخلافة العباسية . وكان الخليفة المعتصم يقول عن طبيبه سلمويه : ( هذا عندي أكبر من قاضي القضاة لأن هذا يحكم في مالي وهذا يحكم في نفسي ، ونفسي أشرف من مالي. ) . وحين مرض سلمويه ذهب إليه المعتصم يزوره ، وبكي عنده وطلب مشورته. ولما مات سلمويه امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته ، وأمر أهل القصر بحضور جنازته ، وأن يصلوا عليه بالشمع والبخور وأن يرتدوا جميعا زى النصارى بالكامل فنفذوا أوامره ، وأشرف بنفسه عليهم وهو يشاهد جنازة سلمويه . ومات المعتصم بعد موت صديقه سلمويه بعشرين شهرا . وكان موت المعتصم سنة 227 هـ. وسنرى كيف إنقلب الحال فى عهد المتوكل الذى سيطر عليه أرباب الكهنوت السّنى .!
رابعا : حنق الكهنوت السّنى من أسيادهم الخلفاء العباسيين
1 ـ لم يكن الفقهاء السنيون سعداء بهذا التكريم للنصارى والمعتزلة والمثقفين المتأثرين بالثقافات الأجنبية . والجدل بين أنصار الانفتاح والمقلدين موجود فى كل عصر ، ولكن الجدل هنا إحتدم بسبب الفجوة الهائلة بين أصحاب الحديث وأصحاب الاتجاه العقلى والعلمى . أصحاب الحديث لا علم حقيقيا لديهم ، هى مرويات يخترعونها ويختلفون فيها ، فى إسنادها وعنعناتها وفى الحكم على رواتها بالصدق والتوثيق أو بالكذب والتضعيف . وبينما تجد أصحاب الاتجاه العلمى والعقلى يعولون على المنطق والعقل والتجربة والخطأ والقياس العقلى والبرهان فإن أصحاب الكهنوت السّنى يعتبرون ما يقولون دينا بنسبته وحيا للنبى عليه السلام كى يؤكدوا لأنفسهم وغيرهم أن ما يفترونه هو صحيح ، بل هو الدين الصحيح . وبينما عاش أصحاب الاتجاه العقلى العلمى متفرغين للبحث فى تخصصاتهم وإبتكاراتهم فإن أصحاب الكهنوت السّنى أنفقوا أعمارهم فى رحلات شاقة ليسمعوا فيها من فلان وفلان أقاويل يزعم هذا الفلان أنه سمعها من فلان عن فلان عن فلان . ولكن هذه الرحلات قوّت الاتصالات بينهم ، وعزّزها أنهم أصلا من العوام الذين تكاثر دخولهم فى الدين السّنى بالذات ، ويعرف أرباب الدين السّنى كيف يؤثرون فى أولئك العوام وكيف يسيطرون عليهم ، ثم هم يحترفون الوعظ والقصص ، أى كانوا المسيطرين على الشارع والذين يصيغون عقليات العوام من بنى جلدتهم ، ويُقنعونهم ان ما يقولونه هو الدين . وبينما إنعزل عن الشارع أرباب الاتجاه العقلى العلمى وعاشوا بالقرب من الحكام إلتصق أرباب الكهنوت السُّنى بالناس فى الأسواق والمساجد والشوارع . لذا أصبحوا بمرور الزمن نجوم عصرهم . ويذكر ابن الجوزى فى ترجمة عبد الله بن المبارك أنه جاء للعراق أستاذا معلما سنة 141 تسبقه شهرته فالتف حوله الناس التفافا عظيما، ويروى ابن الجوزى: ( قدم هارون الرشيد أمير المؤمنين الرقة ، فانصرف الناس إلي عبد الله بن المبارك ، وتقطعت النعال وارتفعت غبرة التراب من كثرة ازدحام الناس حوله ، فأشرفت زوجة للرشيد من برج قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك ، فقالت : هذا والله الملك ، لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بالشرطة والأعوان ..). قد يكون فى هذه الرواية نوع من المبالغة ، ولكن فيها أيضا قدرا من الصحّة يعززه تلك الشهرة التى حظى بها ابن المبارك الفارسى فى بغداد ، بما يُعدُّ دليلا على أن أرباب الكهنوت السُّنى كانوا نجوم الشارع العباسى فى مواجهة البلاط العباسى الذى وقع فى هوى الأطباء والعلماء النصارى والمعتزلة المتأثرين بالثقافات الأجنبية .
2 ـ وطالما لم يكن الفقهاء السنيون سعداء بهذا التكريم العباسى للنصارى والمعتزلة المتأثرين بالثقافات الأجنبية فالمنتظر أن يحدث تصادم بينهم وبين سادتهم العباسيين .
3 ـ فكيف حدث ؟ . الاجابة فى الباب التالى :