في الرابع من شهر يوليو (تموز) الحالي قلبت قطر طاولة السياسة التي كانت تنتهجها لفترة طويلة بشأن إنتاج الغاز، وقلب الطاولة يستدعي إطلاق الرصاص، إذ بدأت قطر في توجيه رصاصاتها نحو المنافسين ودول الحصار الأربعة، فخرج على غير المتوقع الرئيس التنفيذي لشركة قطر للبترول سعد شريدة الكعبي في مؤتمر صحافي بالدوحة؛ ليعلن أن قطر تعتزم رفع طاقة إنتاج الغاز الطبيعي المسال بنسبة 30% خلال السنوات الخمس أو السبع القادمة.
قال الكعبي: «هذا المشروع سيعزز مكانتنا كأكبر منتج ومصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وسوف تزيد الشركة إنتاج الغاز من حقلها الشمالي الكبير الذي تتقاسمه مع إيران. وسيرفع المشروع الجديد الطاقة الإنتاجية الإجمالية للغاز الطبيعي المسال في قطر بنسبة 30% إلى 100 مليون طن من 77 مليون طن سنويًا، وبعد اكتمال المشروع سيزيد إنتاج دولة قطر إلى نحو ستة ملايين برميل من النفط المكافئ يوميًا».
جدير بالذكر أن الغاز الطبيعي المسال واختصاره LNG هو الغاز الطبيعي الذي تمت معالجته وإسالته بالتبريد في درجة تبريد سالب 260 درجة فهر نهايت، وتعد قطر أكبر مُصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، حيث يقل حجمه في الحالة السائلة بحوالي 600 مرة عن حالته الغازية، وبالتالي يسهل نقله عبر البحار والمحيطات بتكلفة منخفضة، لذا تمتلك قطر أكبر أسطول عالمي من السفن والحاويات الناقلة للغاز الطبيعي المسال في العالم.
وكان كلٌّ من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قد قطعت علاقاتها السياسية والاقتصادية مع قطر يوم الخامس من يونيو (حزيران) الماضي، وفرضت حصارًا بريًا وجويًا على الإمارة الصغيرة؛ بسبب تهم تتعلق بدعم الإرهاب فيما تنفي قطر ذلك بشدة.
تصريحات الكعبي أعطت إشارة قوية إلى أن عملاق الغاز وأكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم قطر، عاقدة العزم على التحول مرة أخرى إلى مرحلة التوسع السريع في الإنتاج بعد سنوات من النمو البطيء. وهو الأمر الذي على ما يبدو لا يروق لكثير من الدول وربما يقلقها أيضًا.
«يتناسب مع المنطق التجاري لمحاولة ردع المنافسين (في الغاز الطبيعي المسال) مع بداية فرص السوق عام 2020. من المفترض أن يكون التوقيت أيضًا إشارة إلى القوة» *روبن ميلز الرئيس التنفيذي لشركة قمر إنرجي
معلقًا على قرار قطر زيادة الإنتاج في التوقيت الحالي.
تعتبر قطر أول مصدر للغاز في العالم يقوم بتحويل جُل غازه إلى الغاز الطبيعي المسال، وينهي عصر خطوط الانابيب، بينما لا تزال العديد من الدول المنتجة للغاز الطبيعي تمرره في أنابيب وبالتالي ارتفاع تكاليف النقل فضًلا عن خطورة مرورها ضمن مناطق الصراع؛ مما يعطي ميزة فريدة للدولة القطرية، كما يتسع سوق الغاز الطبيعي المسال في جميع أنحاء العالم بقوة، فوفقًا لتقرير صادر عن شركة شل فإن الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال من المتوقع أن ينمو بين 4 و5% سنويًا حتى عام 2030، وأن الطلب العالمي على الغاز المسال بلغ 265 مليون طن في عام 2016، كما أن الطلب الجديد سيكون مدفوعًا بزيادة استهلاك بلدان مثل مصر والأردن وكولومبيا وجامايكا وباكستان وبولندا، فضلًا عن كبار الزبائن الآسيويين. وارتفع عدد البلدان المستوردة للغاز الطبيعي المسال في العالم من عشرة بلدان عام 2000 إلى 35 بلدا عام 2016.
النتائج الخطيرة للخطوة القطرية
ويمكن أن تؤدي الزيادة الإنتاجية في الغاز القطري إلى إحداث وفرة للغاز المسال عالميًا، وبالتالي يحدث انخفاض للأسعار؛ ما يغرق العديد من المنافسين ممن ترتفع تكلفة الإنتاج لديهم، على رأسهم الشركات الأمريكية للغاز المسال، والشركات الأسترالية والروسية، بينما لن تتأثر قطر كثيرًا إذ يعد تكلفة إنتاج الغاز أقل تكلفة موجودة بين البلدان المنتجة والمصدرة للغاز قاطبة،
فيقول أجاي سينغ المستشار الخاص في شركة اليابان للتنقيب عن الغاز والمدير التنفيذي السابق للغاز في شل: «لدى قطر واحدة من أدنى تكاليف إنتاج الغاز الطبيعي المسال في العالم، وقد اتبعت سياسة صارمة لتعظيم القيمة من أسعار السوق في جميع أنحاء العالم» .
لاسيما وأن المخزونات القطرية تعد الأكبر، فوفقًا لمعدل الإنتاج الحالي؛ يمكن للدولة الصغيرة أن تستمر في ضخ الغاز الطبيعي لمدة 135 عام على الأقل، فضلًا عن إمدادات الغاز المهولة، والمكثفات وهي سوائل الغاز الطبيعي، وتحتل قطر المرتبة الثانية بعد السعودية، ومن المتوقع أن يرتفع إنتاج المكثفات ليصل إلى 1.26 مليون برميل يوميًا بحلول عام 2020.
وعلى ذلك فيمكن لقطر التلويح بإغراق الأسواق متى شاءت، وما يعطيها الإمكانية لزيادة الإنتاج بتلك الصورة هو حقل الشمال الذي قررت زيادة الإنتاج بالفعل منه بنسبة 30%، ويأتي ذلك في الوقت الذي تعاني فيه أسعار الغاز الطبيعي المسال من الانخفاض، ففي العام الحالي انخفضت أسعار الغاز المسال حوالي 40% إلى 5.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وبلغت نسبة الهبوط 70% مقارنة بأعلى سعر عام 2014.
وبالتالي أصبح المصدرون الأمريكيون في مرمى النيران القطرية، لاسيما مع ميزتها الخاصة بالقرب من الأسواق الآسيوية والأوروبية وبنيتها المتقدمة للغاز الطبيعي المسال، وبالتالي فالمنتجون الأمريكيون من الممكن أن يكافحوا من أجل بيع الغاز الطبيعي المسال بشكل تنافسي مع قطر، كما أن المشاريع الجديدة التي بحاجة إلى تمويل ستعاني هي الأخرى من أجل العثور على مستثمرين، فحتى الآن تقوم شركة واحدة فقط بتصدير الغاز المسال الأمريكي هي تشينير إنرجي الأمريكية، بالرغم من وجود مقترحات بمشروعات تبلغ سعتها الإنتاجية الإجمالية حوالي 150 مليون طن في العالم، إلا أنها لازالت مجرد مقترحات، ويعتقد أن الحصار العربي على قطر قد تم بموافقة أمريكية مسبقة.
تأثير القرار القطري: من إفريقيا إلى أستراليا
يشير الرسم بالأسفل إلى حصة كبار مصدري الغاز الطبيعية المسال وفقًا لبيانات الاتحاد العالمي للغاز عام 2016.
هناك العديد من مشاريع الغاز الضخمة في آسيا كالموجودة في بابوا غينيا الجديدة، ويوجد خمسة مشاريع رئيسة لتصدير الغاز الطبيعي المسال في استراليا، والتوسع في إنتاج مشروع سخالين الروسي، إلى جانب الشبكات الرئيسة القائمة بالفعل لشحن الغاز في إفريقيا والشرق الأوسط، ومن المحتمل أن تتأثر جميعها بقلب الطاولة.
ويقول جوناثان ستيرن رئيس مجلس الإدارة وكبير الباحثين في برنامج أبحاث الغاز الطبيعي بمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة، إن رسالة قطر إلى منتجي ومستهلكي العالم من الغاز الطبيعي المسال هي «أننا ذاهبين إلى التهام قطعة ضخمة من السوق».
وتأتي الخطوة القطرية لتأكد استمرار هيمنتها على أسواق الغاز الطبيعي المسال في العالم بعد أن هدد عرشها كل من أستراليا والولايات المتحدة وروسيا؛ بسبب إنتاجهم الزائد من الغاز التقليدي وثورة الغاز الصخري ودخولهم أسواق الغاز الطبيعي المسال أيضًا، ويتوقع أن تتسع تجارة الغاز الطبيعي المسال بنسبة 50% بحلول العام 2020 مع بدء إنتاج المشاريع الجديدة السابقة، حيث تستعد أستراليا إلى إمداد الأسواق بطاقة إنتاجية كبيرة خلال السنوات القادمة، فالصاردات الأسترالية من الغاز الطبيعي المسال من المتوقع أن ترتفع من 44 طن متري عام 2016 إلى حوالي 65 طن متري عام 2017 و85 طن متري بحلول عام 2020، كما يتوقع أن تزيد الولايات المتحدة صادراتها من أقل من ثلاثة أطنان عام 2016 إلى 68 طن متري خلال أعوام 2020/2021.
ويبين الرسم البياني التالي إنتاج قطر من الغاز الطبيعي منذ العام 2005 إلى 2016 بالمليار متر مكعب سنويًا وفقًا
للبيانات الواردة في المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية BP Statistical Review of World Energy لعام 2016.
في الثالث من أبريل (نيسان) الماضي ولأول مرة منذ 12 عامًا تعلن قطر الإفراج عن الحظر الذي فرضته على أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم حقل الشمال، الذي تتشاركه مع إيران والذي تم اكتشافه عام 1971، حيث كانت قد حظرت إقامة مشاريع جديدة في الحقل العملاق للسماح بتقييم مدى تأثير معدل الاستخراج على الخزان الضخم.
قطر والسعي نحو الاستقلال الاقتصادي الكلي عن الخليج ومعاقبة السعودية
وعلى مدار العقود الماضية تنتهج قطر سياسة تحترم حقوق جارتها الشرقية في الآبار المشتركة بينهم، وربما فضلت قطر تجميد أية مشاريع في الحقل المشترك لحين تخفيف العقوبات الاقتصادية على إيران حتى تتمكن الأخيرة هي الأخرى من إقامة مشاريع في الجزء الشمالي الخاص بها في الحقل والمعروف في إيران باسم حقل غاز بارس الجنوبي، كي تدرأ بنفسها أية شبهات حول زعزعة جيولوجيا الحقل.
وهو ما حدث بالفعل إذ قامت إيران قبل الإعلان القطري بيوم واحد بتوقيع اتفاق تاريخي مع عملاق الطاقة شركة توتال الفرنسية وشركة النفط الصينية سي إن بي سي، بقيمة خمسة مليارات دولار لتطوير الجانب الشمالي من حقل الشمال، على إثر رفع العقوبات الغربية عليها إذ يعد أول اتفاق مع شركة غربية.
وقد أثبتت السياسة القطرية المتوازنة تجاه إيران نجاعتها ببراعة في أزمة الحصار العربي، حيث نهضت إيران لمساعدة قطر بالمؤن وفتح الموانئ البحرية، والسماح لناقلات الغاز المسال القطرية العملاقة من المرور في الجزء التابع لإيران من الخليج العربي، ومن ثم الخروج بسلاسة من مضيق هرمز لضخ الغاز إلى أكبر زبائنها، اليابان وكوريا الجنوبية والهند وباقي الأسواق العالمية، دون مضايقات من الإمارات، أحد الأضلاع الأربعة للحصار، وربما الأكثر عنفًا تجاه الإمارة الصغيرة.
وربما تأتي خطوة زيادة الإنتاج غير المتوقعة إلى الاستعداد القطري للاستقلال الاقتصادي بالكلية عن المنطقة الخليجية بعد أزمة الحصار الحالية والتي من المحتمل أن تطول، ويحتاج ذلك الاستقلال إلى رفع مستويات التدفق النقدي الحالي، فالدولة الجزرية تنوي الإكتفاء الذاتي من السلع والخدمات التي شكلت أزمة تجارية لها بعد الحصار، عن طريق إقامة مشروعات ضخمة توفر تلك المنتجات على الأراضي القطرية، وبالتالي فتلك الاستثمارات تحتاج إلى فوائض نقدية لا يدعمها مستوى الإيرادات الحالية، وبخاصًة في ظل التوسع الإنفاقي الحالي في البنية التحتية الذي بلغ 200 مليار دولار وسط استعدادات إقامة كأس العالم.
وقد تهدد قطر بإغراق الأسواق بالغاز الطبيعي المسال ليحل محل النفط، ومن ثم عقاب الدول النفطية المحاصرة لها على رأسها السعودية.
فيقول جوناثان ستيرن أن ما تقوله قطر بالأساس لأكبر منتجي النفط في العالم السعودية هو: «أننا سنقوم بترويج الغاز الطبيعي المسال كبديل للنفط»، وتعد هذه الرسالة تحديًا خطيرًا للمملكة.