فتوى تحريم الإباضية في ليبيا.. إسفين يدق في علاقات المواطنة

في الأربعاء ١٢ - يوليو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

فتوى تحريم الإباضية في ليبيا.. إسفين يدق في علاقات المواطنة

 

  • الفتوى التي أصدرتها اللجنة العليا للإفتاء التابعة للحكومة المؤقتة في ليبيا، بتحريم مذهب الإباضية، أثارت جدلا ورفضا كبيرين في ليبيا وحتى خارجها، والتي ندد بها المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا، لا لدواع دينية أو مذهبية أو تاريخية، بل لأن الفتوى تمثل تقويضا لكل إمكانيات التعايش في مجتمع استوعب طويلا اختلافاته العرقية والقبلية والمذهبية، وأيضا لأنها صدرت في ظرفية دقيقة تمر بها البلاد التي لا تحتمل قادحا مضافا إلى عوامل التوتر المتوفرة أصلا.

اختلافات لم تحل دون استمرار التعايش

طرابلس - اعتبر المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا، الثلاثاء، أنّ فتوى “تحريم” مذهب “الإباضية” (أحد المذاهب الإسلامية)، الصادرة عن اللجنة العليا للإفتاء التابعة لـ”الحكومة المؤقتة”، ومقرها البيضاء (شرق)، “تحريض صريح” على إبادتهم.

وقال المجلس، في بيان، إن الفتوى تعد “تحريضا صريحا على الإبادة الجماعية للأمازيغ في ليبيا، وانتهاكا صارخا للمعاهدات والمواثيق الدولية، وبثّا للفتن بين الليبيين، وتهديدا للسلم الاجتماعي في البلاد”.

ولذلك أعرب المجلس عن “رفضه القاطع” لما جاء في فتوى اللجنة العليا للإفتاء التابعة للحكومة المؤقتة، ودعا كافة الليبيين إلى عدم تلبية مثل هذه الدعوات العنصرية والخطيرة.

جاء بيان المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا عقب تداول نشطاء فتوى نشرت على الموقع الإلكتروني للجنة العليا للإفتاء بالهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية، التابعة للحكومة المؤقتة بالبيضاء شرقي البلاد.

وجاء في الفتوى أن “الإباضية فرقة منحرفة ضالة، وهم من الباطنة الخوارج ولديهم عقائد كفرية، كعقيدتهم بأن القرآن مخلوق وعقيدتهم في إنكار الرؤية، فلا يُصلّى خلفهم ولا كرامة”.

يذكر أن الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية بالحكومة المؤقتة بمدينة البيضاء سبق لها التحريض ضد عدد من التيارات الفكرية والدينية والسياسية التي تشكل المجتمع الليبي، مثل مريدي التيار الصوفي والنشطاء بالتيار المدني والكتّاب والمثقفين وغيرهم. كما أصدرت مؤخرا بيانا ضد اليهود في ليبيا حمل عنوان “العلمانيون وتمكينهم اليهود في ليبيا”.

الرفض لفتوى هيئة الأوقاف التابعة للحكومة المؤقتة لم يقتصر على الهيئات المدنية والحقوقية، بل ورد أيضا من هيئات دينية

خطورة القضية وأهميتها نابعتان من تداخل أبعاد كثيرة تشكل المشهد الليبي الراهن. ففضلا عن تشرذم الحالة السياسية في ليبيا الموسومة بتصارع ثلاث حكومات على الحكم في ليبيا؛ اثنتان منها في طرابلس (غرب)، وهما الوفاق الوطني المُعترف بها دوليا، و”الإنقاذ”، إضافة إلى “الحكومة المؤقتة” في مدينة البيضاء، التابعة لمجلس النواب في طبرق، فإن المسألة الليبية في ليبيا تمثل إحالة على بعدين يصعب فصلهما؛ البعد الديني المذهبي والبعد العرقي الإثني.

إذ ينتشر المذهب الإباضي في صفوف أمازيغ ليبيا المنتشرين في جبل نفوسة غربي البلاد، وخصوصا في جادو وكاباو ويفرن وزوارة، وهو ما يفسر صدور البيان الرافض للفتوى من مجلس أمازيغ ليبيا، وهو ما يعني أيضا أن الفتوى لا تستهدف فقط أتباع المذهب الأباضي في ليبيا بل تطال أمازيغ البلاد وخارجها، باعتبار الصلات الكبيرة الواصلة بين الإباضيين في ليبيا والجزائر وجنوب تونس (جزيرة جربة تحديدا).

البعد الآخر لخطورة الفتوى هو ما تعيشه ليبيا من هشاشة سياسية واجتماعية، خاصة مع توزع السلطة بين حكومات ثلاث، وتنامي المد التكفيري، وعلو منسوب الانتماءات القبلية، وكلها عوامل تتضافر لتفرز مشهدا متوترا قابلا للانفجار مع توفر أي عامل أو قادح.

وإذ تحاول بعض القوى السياسية والمدنية الليبية بناء حالة سياسية تقطع مع التطرف والتكفير وتؤسس لدولة مدنية تتعايش فيها كل المكونات، فإن هذه الفتوى تمثل انتكاسة حقيقية وتهديدا لكل ما يبذل، داخليا وخارجيا، من جهود لرأب التصدعات التي انكشفت من ثورة فبراير 2011.

في هذا الصدد أعلنت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا في بيان الإثنين “رفضها وإدانتها الدعوات التكفيرية والتحريض والعنف اللفظي والإرهاب الفكري والديني المتطرف الذي تمارسه هيئة أوقاف الحكومة المؤقتة، من خلال تكفير مكونات اجتماعية (في إشارة إلى الأمازيغ وهم معظم أتباع المذهب الإباضي في ليبيا) وشرائح المثقفين والأدباء والصحافيين في المجتمع، أو من غيرها، واستغلال حالة انهيار وغياب مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية، لنشر وتعميم هذا التوجه الخطير بما يحمل من تداعيات خطيرة على الأمن والسلم الاجتماعي بشكل خاص والأمن الوطني بشكل عام وإدخال المجتمع الليبي في صراعات مذهبية، تضرب إسفينا في مبدأ التعايش ومفاهيم المواطنة في ليبيا”.

وأكدت اللجنة أن التصرفات السابقة طالت المساجد والمدارس ووسائل الإعلام والمؤسسات الخدمية والاجتماعية في العديد من المناطق والمدن الليبية، معتبرة أن هذه محاولة لتغليب فكر مستورد ويخدم مصلحة قوى خارجية، تسعى لتعميم نموذجها على بلدان المنطقة، وهو ما يهدّد التوافق والسلم الاجتماعي والوطني، ويساهم في تعقيد الأزمة التي تعيشها البلاد.

ومضى مقرر اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا أحمد حمزة في الاتجاه نفسه وقال “الفتوى التي صدرت عن دار إفتاء حكومة الثني ضد إخوتنا الأمازيغ الإباضيين واعتبرتهم خوارج تؤكد لنا من جديد أن الذين يصفون أنفسهم بالسلفية هم عبارة عن حركة أو جماعة أو تيار ديني متطرف جهادي تفكيري وجبت مقاومته والوقوف ضده من الآن قبل أن يتفاقم خطره. السلفية الجهادية في ليبيا أصبحت تمثل خطرا على الأمن والسلم الاجتماعي وعلى التعايش السلمي المشترك بين جميع مكونات المجتمع الاجتماعية والثقافية”.

كما أصدر المركز الليبي للإعلام وحرية التعبير بيانا حول فتوى تكفير الهيئة العامة للأوقاف للمذهب الإباضي، وأعلن رفضه وإدانته الشديدة لهذا الخطاب الذي يعد مساسا بوحدة وسلامة نسيج الوطن ويهدد مبدأ التعايش السلمي ويسيء لشريحة من أبناء البلد.

واعتبر أن هذا الخطاب جريمة خطيرة تندرج تحت طائلة الإرهاب وأن دعوات التكفير والعنف فكر دخيل لا يعبر عن الفهم الصحيح لمقاصد الدين الحنيف ولا الهوية الإسلامية الليبية.

الفتوى، بما احتوته من نفس تكفيري متشنج، تدل أيضا على أن طريق التخلص من ثقافة التكفير وتقسيم الناس على الهويات الدينية والمذهبية

وناشد كافة السلطات الليبية اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة تجاه المنابر والمؤسسات الدينية التي تروج لمثل هذه الفتاوى التي تمثل اعتداء واضحا على حق المواطنة وحقوق الإنسان.

الرفض لفتوى هيئة الأوقاف التابعة للحكومة المؤقتة لم يقتصر على الهيئات المدنية والحقوقية، التي رفضت الأمر من منطلق ضرورة إعلاء المواطنة والتساوي أمام القانون وحرية المعتقد، بل ورد أيضا من هيئات دينية على غرار رابطة علماء ليبيا التي شددت في بيان مقتضب أصدرته مساء الثلاثاء على أنها حرصت منذ تأسيسها على تمتين روابط الأخوة في الإسلام والوطن، ونصت على عضوية علماء ومتخصصين من المذهب الإباضي، جنبا إلى جنب مع علمائها من المذهب المالكي، تجسيدا لتعايش مذاهب ليبيا العتيقة المعنعنة بالسند المتصل منذ قرون: المالكية والإباضية. وأكدت نبذها لكل صوت يدعو إلى الفتنة والعنف والتكفير بين أبناء الوطن الواحد.

واضح أن فتوى اللجنة العليا للإفتاء وما أثارته من رفض ليست قضية دينية أو مذهبية، بل هي مسألة تهدد التعايش المجتمعي في ليبيا في ظرفية حساسة تمر بها البلاد، وما يؤكد ذلك وجود ضرب من الإجماع على رفض الفتوى وما احتوته من تكفير، وكان الرفض سياسيا ومدنيا وحقوقيا ودينيا، لوعي كل الأطراف التي استهجنت الفتوى بخطورتها على وضع البلاد برمته، بل إنها يمكن أن تنفتح على فضاءات خارج ليبيا تبعا لانتشار الإباضيين في العديد من أقطار المغرب العربي.

والفتوى، بما احتوته من نفس تكفيري متشنج، تدل أيضا على أن طريق التخلص من ثقافة التكفير وتقسيم الناس على الهويات الدينية والمذهبية، مازال طويلا وهو ما يتطلب عملا مدنيا وحقوقيا وتعليميا دؤوبا من أجل إشاعة ثقافة مجتمعية قائمة على المواطنة والقانون.

اجمالي القراءات 3425