الأجداد يفقدون مكانتهم داخل الأسر العربية
-
مهمة الأجداد ليست إعادة تربية الأحفاد أو فرض رؤيتهم عليهم، بل تلقين الأجيال الجديدة قواعد الحياة من منطلق الخبرة والحب والخوف عليهم، ومن دون أوامر ونزاعات تغذي الصراع بين الأجيال.
ما أعز من الولد إلا ولد الولد
لعب الأجداد عبر العصور أدوارا حيوية في تغذية وتربية الأجيال وفي توريثهم القيم والأخلاق والسلوكيات الحميدة، إلا أن هذه الأدوار قد اختفت في العديد من الأوساط الأسرية، بعد أن تجاوز الزمن فكرة البيت الكبير للعائلة الذي يلم شمل الأجداد والأبناء والأحفاد، ويكون فيه الصغار قريبين من أحضان أجدادهم يستمعون إلى حكمهم ويشبون على قصصهم وحكاياتهم ويعيدون تداولها.
اختفت مثل هذه اللمة العائلية الكبيرة إثر زواج الأبناء وتفضيلهم العيش في منازل منفصلة، وأصبح الأجداد يعيشون الوحدة والشوق لأبنائهم واحفادهم على حد سواء.
ويفضل الأبناء العصريون الاستقلالية بحياتهم، كما تفرض عليهم ظروف عملهم العيش في مدن بعيدة عن مسقط رأسهم، مما يجعل الالتقاء بين الأحفاد والأجداد يقتصر فقط على المناسبات والأعياد.
ولوحظ في العديد من الأوساط الأسرية العربية أن أغلب الأمهات اللاتي يشتغلن، لا يوكلن مهمة رعاية أطفالهن إلى أمهاتهن أو حمواتهن كما في الماضي، بل يخيرن وضعهم في دور الحضانة، وقد يوظفن خادمات أو مربيات للاعتناء بهم، وخاصة عندما يكونون رضعا، أما إذا تجاوز الأطفال سن المدرسة، فبقاؤهم في المنزل بمفردهم وتلهيتهم بالوسائل التكنولوجية الحديثة، يكون في الغالب خيارا مفضلا لدى معظم الأمهات.
الرضع الذين ينشأون مع أجدادهم تتطور مهاراتهم ويصبحون أقدر على القراءة والكتابة من أقرانهم الذين يذهبون إلى دور الحضانة
وساهمت التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي في إحاطة الآباء بكم هائل من المراجع والمدونات التي تخاطبهم لتساعدهم في تجاوز المشاكل والصعوبات اليومية أثناء تنشئة أطفالهم، وتمدهم بمعلومات نظرية في كيفية ضمان صحة نفسية جيدة لصغارهم.
وعلى الرغم من أن الصلة بين الأحفاد والأجداد مثلت آلية متجذرة في ماضي تطور البشر، عندما كانت رعاية الأطفال أمرا حاسما للمحافظة على الذرية والإبقاء على النسل، إلا أن نسق الحياة العصرية قد غير الكثير من المفاهيم الاجتماعية والتربوية، وأوجد آليات بديلة أفقدت الأجداد مكانتهم داخل الأسر وقطعت أواصر الرابطة العاطفية بين الأحفاد والأجداد.
ويستمتع أغلب الآباء وينعمون بالراحة عندما يعطون أطفالهم أجهزة رقمية يلتهون بها، إلا أن الخبراء يعتريهم القلق من أن الأطفال أصبحوا لا ينشأون في بيئة أسرية عاطفية كما كانوا في الماضي.
ويمكن للتكنولوجيا أن تكون وسيلة مساعدة في تربية وتعليم الطفل إذا ما جرى استخدامها لفترات زمنية محددة، ولكنها لا يمكن أن تكون بديلا عن الحب والعطف والحنان الذي قد يوفره الأجداد لأحفادهم ويؤثر في كل مرحلة من مراحل حياتهم.
ويمكن للأجداد أيضا أن يجنوا الفائدة نفسها من تواجد الأحفاد في حياتهم، فقضاؤهم بعض الوقت مع أحفادهم يبعد عنهم الإحساس بالوحدة، الذي يعمق لديهم الشعور بالعزلة الاجتماعية ويصيبهم بالاكتئاب.
التكنولوجيا وسيلة مساعدة في تربية وتعليم الطفل لكنها لا يمكن أن تكون بديلا عن الحب والعطف والحنان الذي قد يوفره الأجداد لأحفادهم
وأوضحت دراسة أُجريت في العاصمة الألمانية برلين أن الأجداد والجدات الذين يساعدون من فترة إلى أخرى في رعاية الأحفاد يعيشون لفترة أطول من كبار السن الذين لا يهتمون بأحفادهم.
وكتب الباحثون في دورية التطور والسلوك البشري أن “التفرغ لتربية الأحفاد قد يكون له أثر سلبي على كبار السن، ولكن المساعدة في تنشئة الأحفاد من آن إلى آخر يمكن أن تكون مفيدة للصحة الجسدية والنفسية للأجداد”.
وعبرت الجدة التونسية التي عرفت نفسها باسم عربية عن حاجتها النفسية الماسة إلى أن يكون أحفادها حولها ليملأوا عليها البيت.
وقالت في تصريح لـ”العرب” إنها تعيش مع زوجها المسن (72 عاما) ولا تحظى بزيارة أحفادها وأبنائها إلا في فترات متباعدة.
فيما عبرت “الحاجة” مبروكة (68 عاما) عن سعادتها بأن منزل ابنتها المتزوجة بجوار منزلها، لذلك فهي تجد الفرصة لأن تعتني بأحفادها وأن تكون قريبة منهم، مما يهون عليها عناء الشوق لأولادها الذين يعيشون في المهجر.
وشدد خبراء تربويون على أن الأجداد يشكلون رعاة أفضل من دور الحضانة، في ما يتعلق بتعلم الطفل لكلمات جديدة، مشيرين إلى أن علاقة الوالدين المتينة بأطفالهما، لا يمكن أن تعوضها مكانة الأجداد في حياة الأطفال.
وأشاروا إلى أن الأطفال الذين يشرف على تربيتهم أجدادهم تتطور مهاراتهم اللغوية بسرعة، ويصبحون أقدر على القراءة والكتابة وتهجئة الكلمات من أقرانهم الذين يذهبون إلى دور الحضانة.
وشبه علماء نفس بريطانيون دور الأجداد برجل الأمن الذي يعطي دوما إحساسا بالطمأنينة والأمان، داعين الأسر إلى إعادة توثيق الصلة بين الأبناء والأحفاد لما لها من فوائد جمة على جميع الأطراف.
ويرى بعض الخبراء أن الناس اليوم أصبحوا يتسمون بأنانية كبيرة في حياتهم، فهم لا يهتمون بعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية، وكل اهتمامهم منحصر على ذواتهم وعلى الوسائل التكنولوجية، رغم أن المسنين لديهم خبرة قد تنقذ أبناءهم من السلوكات الانحرافية والمعادية لهم وللمجتمع.
وأكدت دراسات علمية حديثة أن الأجداد يمكن أن يساهموا بشكل أو بآخر في حماية المراهقين من الاضطرابات النفسية التي يمرون بها في هذه المرحلة العمرية الحساسة من حياتهم، فالجد والجدة باستطاعتهما كسب ثقة الأحفاد، مما يجعلهم يبوحون لهما بخبايا أسرارهم، ويتحدثون عن كل ما يشغلهم بأريحية كبيرة ويتقبلون النصائح منهما، على عكس الأمر بالنسبة للأب والأم اللذين قد يرفضون تدخلهما في حياتهم، أو يخشون من مصادرتهما لحقهم في عيش حياتهم كما يحلو لهم.
وأصدرت الحكومة البريطانية في عام 2015 قرارا يسمح للأجداد الذين لا يزالون يعملون بتقاسم إجازة الأمومة مع الأم، وجاء القرار ليؤكد أهمية الأجداد والجدات المتزايدة في حياة أحفادهم.
وفي العقود الأخيرة أعادت الكثير من الشعوب في مناطق مختلفة من العالم رد الاعتبار للدور التربوي الذي لعبه الأجداد في تنشئة الأجيال، فمثلا قررت كوريا الجنوبية منح دورات تدريبية للجدات والأجداد لتعليمهم كيفية الاعتناء بالأحفاد الصغار.
أما في المجتمعات العربية فمازالت الكثير من الأسر تولي أهمية كبيرة للألقاب العائلية، وتتباهى بحسبها ونسبها، ولكنها تهمل الأجداد الذين كان لهم الفضل في توريث الأجيال الألقاب وأشياء أخرى لا تقدر بثمن، وتضعهم في أفضل الأحوال في دور للمسنين تفتقد في بعض الأحيان لأبسط مقومات الحياة.