الخطاب الأصولي وتشويه العلمانية.. مغالطات فكرية وتزييف للتاريخ
-
لماذا يرفض الخطاب الإسلامي العلمانية ويؤثمها ويصمها بالعار أو يلصق بها تهمة الإلحاد أو الاستبداد؟ ألا تحتوي العلمانية كل ما يضمن صون الحريات الفردية وكل ما يضمن احترام التعدد والاختلاف الديني والمذهبي؟ أليست العلمانية أكثر حماية للأديان من أفكار الإسلام السياسي؟ ألا يعكس عداء تيارات الإسلام السياسي ومفكريه وكتابه للعلمانية قصورا عن إنتاج البدائل الاجتماعية والاقتصادية وهروبا إلى المحاججة بالدولة الدينية المشتقة من التاريخ والكثيفة بالقداسة؟
استيعاب للتعدد والاختلاف
ليست العلمانية فلسفة معقدة أو نظرية صعبة تحتاج إلى تفسير معمق؛ وإنما هي قانون طبيعي للحياة ودستور غير مكتوب للمجتمعات، لكن ظهور الإسلام السياسي كنص أيديولوجي مصنّع، ومناوءته لها هما ما يحتما إعادة شرحها للرد على شبهات الأصولية الدينية الرافضة للنظام العلماني لأنه يناقض الأسلمة القسرية، فليست العلمانية التي تحارب الدين ولكن الإسلام الأصولي هو الذي يعادي التنوع والتعددية والحريات فاتخذ العلمانية خصما له.
من مفارقات الجدل العلماني الإسلامي أن التجربتين السياسيتين الإسلاميتين اللتين يشار عادة إلى اعتدالهما وانفتاحهما، وهما حزبا العدالة والتنمية التركي والنهضة التونسي، كانتا في بلدين شهدا تأسيسا قويا للعلمانية هما تركيا أتاتورك وتونس بورقيبة، إذ لم يتمكن رجب طيب أردوغان وراشد الغنوشي من تسويق تجربتيهما إلا بعد التماهي مع الإرث العلماني للدولة ونظامها السياسي والاجتماعي. في حين فشلت تجربة الخميني لأنها انقلبت على علمانية الدولة الإيرانية وأقصت شركاء الثورة العلمانيين عام 1979، أما في العراق فإن من أبرز معالم عطب تجربة الحكم الديني بعد 2003 تقويض علمانية الدولة من خلال إضعاف وتطييف أهم أركانها وهو الجيش العراقي وتكريس المحاصصة المذهبية في المؤسسات العامة.
ولا يرتبط عداء الأصولية الإسلامية للعلمانية بجدل فكري أو تباين نظري، ولكنه يتمحور حول الصراع على السلطة، لذلك يقترب التيار الإسلامي من العلمانية في خطابه وسلوكه عندما يكون ذلك في صالح مسعاه للسلطة، لكنه يتبنى خطابا متطرفا ومعاديا للعلمانية عندما يُستبعد من السلطة أو يشعر بأن التصعيد ضد العلمانية يحقق له الشعبية، فاعتدال الإسلام السياسي في المغرب وتونس مرتبط بالبراغماتية وتوازنات السياسة وليس بالمراجعات الأيديولوجية أو استيعاب الدروس، كما أن تشدد هذا التيار في مصر والأردن مرتبط بصراعات السلطة أيضا وليس بالالتزام الأيديولوجي أو المبدئية السياسية.
ليست العلمانية التي تحارب الدين ولكن الإسلام الأصولي هو الذي يعادي التنوع والتعددية والحريات فاتخذ العلمانية خصما له
ثمة إصرار لدى الخطاب الأصولي الإسلامي على الربط بين الدكتاتورية والعلمانية مع الإشارة إلى بعض نماذج الاستبداد العربي التي اعتنقت العلمانية؛ لكن هذا الخطاب نفسه يرفض الربط بين الإرهاب والإسلام السياسي بدعوى أن الإرهاب هو سلوك عنيف من جماعات متطرفة معينة ولا يمثل حقيقة النظرية الإسلاموية. وهنا نتساءل؛ لماذا يحمّل التيار الإسلامي العلمانية مسؤولية الاستبداد الذي مورس باسمها، ولا يريد تحمّل مسؤولية الإرهاب الأصولي الذي ينهل من منابعه الفكرية نفسها؟
الجوهر الإنساني للعلمانية الطبيعية غير المؤدلجة أو المسيّسة، هو المساواة والتضامن بين البشر، وجوهرها الأخلاقي هو العدالة والحرية ورفض التمييز والقمع، أما جوهرها المعرفي فهو عقلانية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تتفاعل في إطارها وفق المصالح الواقعية وبمعزل عن الهويات الدينية.
العلمانية لا تعادي الدين ولا تحابيه، إذ لا تحتاج العلمانية إلى صك غفران من أي دين لأن بحثها عن شرعية دينية يتناقض مع أصل مفهومها القائم على استقلالية الدين عن الحياة العامة، وحياد الدولة إزاء الدين فلا تأخذ منه شرعية لاهوتية للنظام ولا تمنحه مظلة سياسية تميّزه عن غيره من الأديان.
احترام حق الفرد في الاعتقاد والتدين
وليست العلمانية أيديولوجيا طارئة على المجتمع البشري لأنها أصلا ليست أيديولوجيا؛ وإنما هي طبيعة الحياة وطريقتها الفطرية وحسها السليم، فمن الطبيعي أن يتواصل أو يتنافر الإنسان مع الإنسان بمعزل عن الهويات الدينية والفوارق العقائدية. ويخطئ العلمانيون في حق العلمانية حين يؤدلجونها ويختزلونها في تيار سياسي فئوي لمناوئة الإسلاميين، بالضبط مثلما أخطأ الإسلاميون حين حولوا الإسلام إلى أيديولوجيا جماعاتية معادية للعلمانية، إذ تلتقي اليوم أدلجة الإسلام التي حولته إلى إخواني وسلفي وجهادي مع أدلجة مماثلة للعلمانية جعلتها قومية ويسارية وعسكرية، وعليه فإن إرجاع الإسلام إلى طبيعته كدين وثقافة وتخليصه من إكراهات السياسة والأيديولوجيا ينبغي أن توازيهما أيضا إعادة العلمانية إلى جوهرها كمفهوم إنساني وفلسفي وتحريرها من التحزب والتخندق. لا نكافح الأدلجة بالأدلجة، وليس صحيحا مواجهة أدلجة الأديان التي تمارسها الأصوليات الدينية بأدلجة العلمانية وقولبتها في أطر أحادية وشمولية.
التنوع الديني في الشرق الأوسط
العلمانية هي الطريقة التي نحيا بها حياتنا بعقلانية مثلما هو الإسلام كدين شأن شخصي وخصوصية ثقافية، وبهذا المعنى لا تتناقض العلمانية مع الإسلام أو مع أي دين آخر، لأن لكل منهما مجاله الخاص والمستقل، أما التناقض المزعوم بين العلمانية والدين فموجود في أدبيات الإسلام السياسي التي تغفل عن أن الشعار الأصولي “الإسلام نظام شامل للحياة” نفسه، وعلى الرغم من شموليته وربما بسببها، يتضمن اعترافا ضمنيا بعلمانية الإسلام لأن الحياة علمانية بطبيعتها قوامها التنوع والتحوّل والتبدل وتُعاش بوعي دنيوي بشري، لا لاهوتي أو أخروي، وعليه، فإن السعي لأسلمة الحياة العلمانية هو إقرار غير مباشر بعلمانية الإسلام.
إن إصرار الإسلاميين على شمولية الإسلام هو في ذاته إصرار على علمانيته لأن إخراج الإسلام من الحيز الشخصي والمسجدي إلى الحيز العام والسياسي يعني تحويله إلى أيديولوجيا لإدارة الحياة وهو ما يعني بالضرورة علمنة الإسلام، وهنا يكمن التناقض الكبير والعميق في الفكر الأصولي الإسلامي الذي يرفض العلمنة في شعاراته، لكنه يتجاهل حقيقة أن مشروعه لأسلمة الدولة يتضمن إقرارا بعلمانية الإسلام.
ومما سهل مهمة الإسلام السياسي في تشويه العلمانية نزوع اتجاهات علمانية كليانية متطرفة إلى إضفاء طابع حزبي وعنصري على العلمانية وضَعها في موقع التضاد مع الدين، في حين أن العلمانية وعي سياسي واجتماعي محايد تجاه الأديان، وهي لا تعني اللادينية أو الإلحاد أو أي موقف سلبي من الأديان، كما أنها لا تعني دعم الأديان أو التدين في المجتمع؛ بل تعني ببساطة احترام وصيانة حق وحرية الفرد في الاعتقاد والتدين، وضمان عدم تسييس الدين.
ثمة علاقة وثيقة بين العلمانية بمفهومها الليبرالي والتعددية الثقافية والفكرية، فآفة المفاهيم والأفكار هي الأحادية، ذلك أن الأحادية في تأويل الفكرة تحولها إلى سلطة فاشية غاشمة، والاعتراف بالتعددية هو صمام الأمان لحماية الفكرة أو العقيدة من أن تتوحش أيديولوجيا وسلطويا، وعلى ذلك تكون الديمقراطية بما تتيحه من تنوع وانفتاح وتفاعلية عالية في المجتمع هي الكابح الصارم للأدلجة. فالعلمانية الديمقراطية هي علمانية تحمي الحقوق والحريات الدينية للأفراد جميعا وتمنع التعسف في استخدام الخصوصية الدينية للتغوّل على الفضاء العام وتديينه وأسلمته، والإسلام بالمفهوم الديمقراطي هو شأن شخصي وخيار قيمي وثقافي ذاتي يبقى مصانا في الحيز الخاص والإطار الثقافي والحضاري التعددي، لكي لا يتحول إلى أيديولوجيا سياسية أو مشروع أصولي تبشيري أو جماعة معزولة عن المجتمع.
وعلى الرغم من أن أغلب دساتير الدول العربية المعاصرة تنص على أن “الإسلام دين الدولة الرسمي”، يؤكد الخطاب الإسلامي أن هذه الدول مارقة عن الدين لأنها “لا تحكم بما أنزل الله” و“لا تطبّق الشريعة” ولذلك فهي في نظره دول “غير إسلامية”، لكن الخطاب الأصولي يغفل أن عملية الحكم والسياسة وإدارة السلطة كانت على الدوام وعبر تاريخ الإسلام عملية علمانية دنيوية تعتمد البراغماتية والواقعية السياسية ابتداء من العصر الإسلامي التأسيسي الأول، أي أن وجود الإسلام كهوية قومية أو مظلة ثقافية أو إطار حضاري لم يمنع من علمانية السياسة والإدارة واتسام المجتمع بالتنوع الثقافي، بل كان الفضاء العام علمانيا بدليل أن أسماء لامعة من العلماء والفلاسفة في الحضارة الإسلامية كانوا “لادينيين” ومع ذلك لم تمنع معتقداتهم من أن يسهموا في تقدم هذه الحضارة، بمعنى أن الربط الأصولي بين التقدم الحضاري وبين تدين المجتمع ودينية الدولة ليس حقيقيا، وأن شعارات من قبيل “الدين لله والوطن للجميع” و“دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله” كانت مطبقة عمليا عبر التاريخ الإسلامي، ما يؤكد أن العلمانية هي المنهج الطبيعي والتلقائي لأي نهوض حضاري، وأنها كانت خيار الحضارة الإسلامية تاريخيا حتى في اللحظات المبكرة التي شهدت تشكل نصوص الإسلام الأولى وفي حضور رموزه الأوائل، فالنصوص الدينية كانت تخضع لتأويلات علمانية بشرية تراعي السياقات والظروف والتحولات، والفقه الإسلامي هو منتوج علماني إنساني لأنه كان محاولة لمقاربة النص الديني بأدوات عقلانية تعتمد المنطق العلمي والأفق العالمي.
الإسلام دين علماني
لقد كانت التجربة التاريخية للحضارة الإسلامية علمانية لأن الإسلام “دين علماني”، ولا يوجد أي تناقض في هذا الوصف الذي يقرن الدين بالعلمانية. لأن التدين مسألة روحانية خاصة ترتبط بالعلاقة مع الذات والضمير، فيما العلمانية قضية سلوكية عامة تتصل بالعلاقة مع الآخر والمجتمع. فالدين ينتمي إلى مجال الغايات الغيبية والماورائية، والعلمانية تنتمي إلى مجال الأهداف والوسائل الحياتية المشهودة.
إعادة الإسلام إلى طبيعته كدين وتخليصه من إكراهات السياسة ينبغي أن توازيهما إعادة العلمانية إلى جوهرها كمفهوم إنساني
وحسب رؤية الفيلسوف المصري حسن حنفي يتجلى الجوهر العلماني للإسلام في أن “النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت، أي بعبارة أخرى غياب المؤسسات الدينية الوسيطة. وأن الأحكام الشرعية الخمسة، الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح، تعبّر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية. كما أن الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وُجد متخفيا في تراثنا القديم عقلا خالصا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه”.
كما تؤكد الكاتبة الأردنية زليخة أبوريشة على علمانية الإسلام فترى أنه “نص قابل لقراءات متعددة وليس ثابتا في التطبيق مع أن القرآن نص ثابت، لكن فهمه ليس ثابتا وتطبيقه ليس ثابتا”، وتعتقد أبوريشة أن “الفقه الإسلامي بشري من أَلفه إلى يائه، يعتريه فساد الرؤية والرأي، بل إن الشريعة الإسلامية (خارج العقيدة والعبادات والأخلاق) كلها علمانية، أي تخضع لاجتهاد البشر وحسب المصلحة العامة”.
وتنطلق الفكرة العلمانية من مبدأ “الفصل بين الدين والسياسة” وهي العبارة التي يستخدمها الخطاب الإسلامي للطعن في العلمانية باعتبارها برأيه “تقصي الدين من الحياة العامة”؛ لكنها في الحقيقة دليل على عدالة العلمانية وإنصافها للأديان والمعتقدات جميعا، فهي تفصل بين الدين والسياسة لتمنع تغوّل أي دين على الأديان الأخرى. إنها تحمي الأديان ولا تستبعدها.
وحماية العلمانية للأديان لا تعني انحيازها للتدين أو الفكرة الدينية، ولكن تعني أنها تنحاز لحقوق الإنسان الذي يعتنق هذه الأديان، فالفصل بين الدين والسياسة يمنع استغلال الدين لأغراض سياسية ويمنع إقصاء أي دين أو التمييز ضد أتباعه، ويصون الحقوق الثقافية والدينية وحرية الاعتقاد والتعبد للمواطنين كافة. ولا يرفض العلمانية إلا التيارات الأصولية الدينية التي يعتقد كل منها بأفضلية دينه على الأديان الأخرى، وهو اعتقاد متعصب عنصري كفيل بإنتاج كل أشكال التوحش الدموي والطائفي حيثما تغيب أو تضعف الدولة العلمانية التي تضمن التعايش السلمي والاندماج الاجتماعي، وتخلق القيم المشتركة وتفرض تبادل الاحترام والمصالح على الجميع.
ومثلما لا يتحمل الإسلام كدين مسؤولية تطرف بعض تطبيقاته الشمولية، لا تتحمل العلمانية كفلسفة مسؤولية تطرف بعض نسخها الإقصائية. والذي يحصل أن التطرف ينتج معادله الموضوعي، والأدلجة تلد الأدلجة كما تغذي الأصوليات بعضهـا، فاليمـين المتطرف الديني ينتج يمينا علمانيا متطرفا، والأصولية العلمانية الرافضة للأديان والقامعة للتنوع تعزز النزعات الأصولية الدينية في المجتمع.
تتمحور اهتمامات العلمانية حول قضايا موضوعية وعقلانية، مثل الرخاء الاقتصادي وتكريس قيم المواطنة والتماسك الاجتماعي، وفاعلية المؤسسات والكفاءة الأمنية والخدمية للدولة، واستقلالية القضاء والسيادة الوطنية. أما الإسلام السياسي، فهو نتاج اختلالات سياسية ومجتمعية واقتصادية وصراعات فئوية وطبقية وجهوية ولذلك يستمر في تأطير أزمته البنيوية بسجالات مفتعلة حول أزمات وهمية مثل الفصل بين الجنسين، ومحاكمة الضمائر والخصوصيات والتدخل في المعتقدات الشخصية، وملاحقة المتهمين بالكفر والهرطقة وقمع حرية التعبير، وأسلمة البنوك والإعلام، وإثارة الحساسيات بين الأديان، ونصرة فئة على فئة أو طائفة على أخرى وزج المجتمعات في صراعات الهوية سعيا لإخضاعها لتصور طوباوي عن “الدولة الفاضلة”، وفق مفهوم شمولي وقسري وبدائي للفضيلة، وهي دولة افتراضية تم تخليقها أيديولوجيا عبر استمزاج تأويلات إسلاموية حركية للنصوص الدينية مع روايات تراثية وقصص تاريخية لتلفيق سردية الدولة التي تتمثل وتطبق الشريعة الإسلامية.
ويعادي الوعي الأصولي الإسلامي العلمانية لأنه يرفض استحقاقاتها المتمثلة في الاندماج والقبول بالآخر، والشراكة والمساواة معه، ولذلك يقرر الهروب من الحاضر إلى يوتوبيا الدولة الدينية مدعيا وجودها في الماضي وداعيا إلى إيجادها في المستقبل، كما يهرب من الفضاء الوطني إلى الفضاء الحزبي الضيق أو إلى فضاء أممي إسلامي فضفاض.
إن إصرار الإسلام السياسي على خلط الدين بالسياسة لا ينطلق من الحرص على الدين؛ لكنه يؤشر إلى اختلال فكري يعكس أزمة الهوية والاندماج التي أنتجت الأصولية الدينية، ولذلك يلجأ الوعي الأصولي إلى “سياسات الهوية” أي تصنيف الناس على أساس هوياتهم الدينية لأنه عاجز عن تقديم بدائل على صعيد “سياسات التنمية” تنقذ الناس من الفقر والجهل.