كتبت مراسلة شبكة «بي بي إس»، جين فيرجسون، تقريرًا عن المجاعة وشيكة الحدوث المتوقع أن تضرب أربعة بلدان في وقت واحد، لتكون بذلك أسوأ مجاعة منذ الحرب العالمية الثانية، ونقل كل من الصحافيين يوكي دريزن، وجينيفر ويليامز عن فيرجسون حديثها.
قالت فيرجسون للصحافيين في تقرير نشره موقع «Vox»: «عندما وصلت الحرب إلى البلدة الصغيرة التي تقطن فيها ريبيكا تشول، ذات الـ15 عامًا، في ريف جنوب السودان، في بدايات شهر أبريل (نيسان)، هربت و27 من أهل قريتها إلى أراضي المستنقعات القريبة للاختباء. أمضوا أسبوعين قاسيين ماشين ببطء بحثًا عن الأمن النسبي في منطقة يتحكم فيها متمردون من قبيلتها. كانوا جائعين باستمرار، عطشى باستمرار، متعرضين دومًا لخطر القتل على يد القوات التي تطاردهم. ماتت أخت تشول في الطريق، لكن لم يكن ذلك لأنَّ المسلحين وجدوها وقتلوها، وإنما ماتت جوعًا، مثلها في ذلك مثل أعداد متزايدة من أهل جنوب السودان».
قدرت الأمم المتحدة في شهر فبراير (شباط) الماضي أنَّ 100 ألف جنوب سوداني
يتعرضون للمجاعة، وأنَّ 5 ملايين آخرين
لديهم إمكانية محدودة للحصول على الطعام المناسب إلى درجة أنهم لا يعرفون
من أين سوف تأتي وجبتهم القادمة.
قالت تشول في محادثة أجرتها مع فيرجسون، في باحة مدرسة بيتها الجديد ببلدتها الصغيرة الجديدة، وتسمى توهنوم بايام: «لم يكن معنا ما نحفر به الأرض لدفنها، فاكتفينا بوضع الحشائش على جسدها وتركناها هناك». أحاطت مدرستان مبنيتان بجدران طينية وأسقف من الصفائح بالساحة الترابية الجافة، وفي وسط الباحة كانت تقبع شبكة كرة طائرة غير مستخدمة.
وصل أحد زملاء دراسة تشول، وهو ماركو نوير (16 عامًا)، في شهر فبراير (شباط) من جزء آخر من البلاد مزقه العنف. دفع نوير، مثل تشول، ثمنًا باهظًا: مات أبوه، وأخوه، وأخته جوعًا في الطريق. لم ينج سواه وأمه.
هاتان القصتان شائعتان بشكل مأساوي في جنوب السودان، التي تواجه جوعًا جماعيًّا على نطاق لا يمكن تخيله في أي مكان آخر من العالم تقريبًا. قدرت الأمم المتحدة في شهر فبراير (شباط) الماضي أنَّ 100 ألف جنوب سوداني يتعرضون للمجاعة، وأنَّ 5 ملايين آخرين (وهو ما يساوي 42% من سكان البلاد) لديهم إمكانية محدودة للحصول على الطعام المناسب إلى درجة أنهم لا يعرفون من أين سوف تأتي وجبتهم القادمة. وليس ثمة أرقام حديثة متاحة حتى الآن، لكنَّ المنظمات الإغاثية تخشى من أنَّ الموقف ربما يكون قد ساء كثيرًا.
وقالت فيرجسون إنَّ ثمة أمرين من المهم فهمهما حول تلك المجاعة التي تدمر جنوب السودان، أحدث بلدان العالم تأسيسًا، والدولة التي جاءت إلى الوجود بشكل كبير بسبب المساعدة الضخمة من الولايات المتحدة:
أولاً: ليست جنوب السودان الدولة الوحيدة في المنطقة التي تعاني من مجاعة شاملة. فثمة مجاعة، من المحتمل أن تكون ذات حجم تاريخي، تهدد أيضًا نيجيريا والصومال واليمن. فما لا تراه عيون الغرب، وما لا يجد طريقه إلى عناوين الأخبار، أنَّ من المقدر أنَّ 20 مليونًا من الناس في هذه البلدان الأربعة يتعرضون لخطر الموت بسبب نقص الغذاء.
كانت الأمم المتحدة قد أعلنت عن مجاعة شاملة في أجزاء من جنوب السودان، وحذرت من أنَّ البلدان الثلاثة الأخرى (الصومال واليمن ونيجيريا) سوف تعاني من موت جماعي بسبب النقص في الطعام والمياه لو لم «يحدث تدخل إنساني سريع ومستدام» في وقت قريب.
ثانيًا: هذه المجاعات لم تسببها الكوارث الطبيعية مثل فشل المحاصيل، أو الجفاف. هذه المجاعات تسبب فيها الإنسان، إذ هي نتيجة مباشرة للحروب الدموية، وحالات التمرد التي اندلعت في البلدان الأربعة كلها. يعني ذلك أنَّ هذه المجاعات، بخلاف مجاعات أخرى في التاريخ الحديث، كان من الممكن منعها.
ويبدو أنَّ واشنطن، التي كانت بطيئة في التصرف، بدأت أخيرًا في اتخاذ خطوات للمساعدة على مكافحة المجاعة. إذ كانت إدارة ترامب قد اقترحت تخفيضًا ضخمًا في تمويل المساعدة الإنسانية الغذائية التي تقدمها أمريكا، لكنَّ الكونجرس رفض هذه التخفيضات وأصر على تخصيص ما يقترب من مليار دولار في الميزانية الجديدة.
وقال ميشيل بويرز، نائب رئيس منظمة ميرسي كور الإغاثية، في مقابلة صحافية مع موقع Vox إنَّ هذه المجاعة «كان من الممكن تجنبها بالكامل، إننا بصدد مجاعة ذات سبب بشري تحدث الآن، وهذا يعني أنَّ بمقدورنا أن نوقفها. من الصعب إيقاف الحروب، أما المجاعات فيسهل إيقافها».
على الأرض هنا في جنوب السودان، فليس ثمة علامات على أية نهاية قريبة للحرب الأهلية التي تركت ملايين الناس على حافة المجاعة. ويعني هذا أنَّ عدد الرجال والنساء والأطفال الذين يموتون من قلة الطعام سوف يستمر في الزيادة إلى أمد غير معلوم.
أسرّة قسم العناية المركزة في مستشفى «ميديكال كور» الدولية في العاصمة جوبا، مشغولة بالأطفال أصحاب الأجساد الهيكلية الضئيلة بفعل سوء التغذية. مبنى المستشفى ليس سوى هيكل بسيط مؤقت مصنوع من قوالب الإسمنت والخشب الرقائقي (الأبلكاج). وعلى الرغم من أنَّ الأطفال تحت سن 5 سنوات هم الأكثر عرضة لسوء التغذية والعدوى التي يمكن أن تتسبب فيها أجسامهم الصغيرة، فإنهم أيضًا مرنون بشكل لا يصدق، ودائمًا تقريبًا ما يعودون إلى حالتهم الطبيعية لو تغذوا بالأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية، وأخذوا الأدوية الملائمة.
لكنَّ المشكلة أنَّ أعدادًا كبيرة من أطفال جنوب السودان لا يحصلون على هذا النوع من الطعام. في الحقيقة فإنَّ كثيرين لا يحصلون على أي طعام على الإطلاق.
اقرأ أيضًا: من أغنى دولة في الشرق الإفريقي إلى الأفقر.. ما الذي يحدث في جنوب السودان؟
معظم المجاعات سببها الطبيعة.. أما هذه فسببها الحرب
معظم البالغين من الأمريكيين سمعوا عن فكرة المجاعة الإفريقية للمرة الأولى عام 1985، عندما جمع ليونيل ريتشي، ومايكل جاكسون عددًا من أبرز نجوم موسيقى الروك والبوب لتسجيل أغنية بعنوان «نحن العالم». كانت هذه الأغنية جزءًا من محاولة لجمع المال لمكافحة المجاعة التي قتلت مليون إنسان في إثيوبيا بين عامي 1983 و1985.
حققت هذه الأغنية – التي شملت نجومًا مثل ستيفي واندر، وبول سيمون، وتينا ترنر، وبروس سبرينجستين وويلي نيلسون- مبيعات مذهلة بلغت 20 مليون نسخة، وجمعت أكثر من 10 ملايين دولار للإغاثة من المجاعة الناجمة، إلى حد كبير، عن الجفاف الذي ضرب هذا البلد الفقير.
لكنَّ هذه الكارثة التي وقعت في الثمانينيات تتضاءل مقارنة بالمجاعة الواقعة اليوم؛ لأنها لا تحدث في بلد واحد، وإنما في أربعة بلدان.
خذ مثلاً نيجيريا، حيث تسبب التمرد الذي قامت به جماعة بوكو حرام المتطرفة في كارثة إنسانية متفاقمة. فمنذ أعلنت الجماعة الحرب على الحكومة المركزية في البلاد عام 2009، أجبر ملايين المدنيين، بما فيهم أعداد ضخمة من المزارعين، على ترك أراضيهم للهرب من التفجيرات الانتحارية وعمليات الاختطاف. وقدرت الأمم المتحدة، بعد أن أوشكت الأنظمة الزراعية على الانهيار في أكثر الأماكن تضررًا، أنَّ ما لا يقل عن 4.8 مليون شخص بحاجة لمساعدة غذائية عاجلة.
ويشير التقرير إلى الصومال، التي لطالما ارتبط اسمها في الأذهان بالحرب الأهلية والجوع، فهي تتعرض لخطر الإصابة بمجاعتها الثانية في السنوات الـ5 الماضية فقط. وتقول الأمم المتحدة إنَّ أكثر من 6 ملايين صومالي – وهو ما يعادل نصف عدد سكان البلاد- بحاجة إلى معونات غذائية.
والمشكلة أنَّ حكومة الصومال لا تتحكم في مساحات شاسعة من البلاد. إذ ما تزال جماعة الشباب الإسلاموية المسلحة تدير معظم الصومال. وقد دمر الصراع المستمر بين الحكومة في مقديشو، و«جماعة الشباب» التابعة للقاعدة اقتصاد البلاد، وصعّب بكثير من مهمة توصيل المساعدات إليها.
لكنَّ أبرز الأمثلة التي توضح كيف تسببت الحرب مباشرة في المجاعة، هي اليمن، حيث يواجه 7 ملايين إنسان المجاعة. عانت اليمن، أفقر بلد عربي، من نقص الغذاء لسنوات، لكنَّ الحرب بين الحكومة المدعومة سعوديًّا في المنفى، والمتمردين الحوثيين المدعومين إيرانيًّا، والمتحكمين في معظم شمال البلاد، تسببت في توقف مفاجئ لدفعات الطعام القادمة إلى اليمن.
فجرت الطائرات السعودية، بمساعدة أمريكية، جسورًا وطرقًا، ومصانع ومزارع وشاحنات طعام، وحيوانات، وبنى المياه التحتية، وبنوكًا زراعية في جميع أنحاء شمالي اليمن، في الوقت الذي تفرض فيه حصارًا على المنطقة. بالنسبة لبلد يعتمد بشكل كبير على مساعدات الغذاء الدولية، يعني هذا تجويع الناس.
وتضررت المجتمعات الساحلية على البحر الأحمر بشدة، بعد أن أصبح الصيادون غير قادرين على الخروج بقواربهم بسبب خطر تعرضهم للقصف الجوي. أما في القرى الجبلية النائية داخل البلاد، فما ينجح من الطعام في الوصول إليهم شديد التكلفة إلى درجة أنَّ كثيرين لا يستطيعون شراءه. إنَّ المنفذ الوحيد لوصول المساعدات إلى اليمن هو ميناء الحديدة على البحر الأحمر، الذي يسيطر عليه المتمردون الحوثيون. وكانت السعودية قد قصفت الميناء في شهر أغسطس (آب) 2015.
وينقل التقرير ما قاله جان إيجيلاند، السكرتير العام لمجلس اللاجئين النرويجي في بيان له: «هذه هزيمة ضخمة للدبلوماسية الدولية. رجال مسلحون بالبنادق والسلطة داخل اليمن وفي عواصم إقليمية ودولية يقوضون كل جهد لتجنب مجاعة يمكن منعها بالكامل، إلى جانب انهيار الخدمات الصحية والتعليمية لملايين الأطفال. لا يوجد مكان آخر في العالم يتعرض فيه هذا العدد الكبير من الأرواح للخطر كاليمن». ربما باستثناء جنوب السودان.
أصغر دولة في العالم تمزقها الحرب والمجاعة
قالت فيرجسون إنَّ جنوب السودان قد ولدت في فقر مدقع. حازت البلاد أخيرًا على استقلالها من الشمال عام 2011، بعد عقود من حرب أهلية وإهمال، ويعود ذلك الاستقلال بشكل كبير إلى المساعدة الفعالة لإدارة أوباما، والكثير من الحلفاء الرئيسيين لواشنطن.
كانت الآمال مرتفعة، مع بدايات الاستقلال، في أنَّ هذا البلد الوليد ربما يبدأ أخيرًا في النهوض من أعماق الحرمان –بحسب فيرجسون- وأدلت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في ذلك الوقت، سوزان رايس، بخطاب في جوبا في احتفالية إعلان الدولة، قالت فيه لمئات الآلاف من الحضور: «لقد ولدت جمهورية جنوب السودان وسط آمال عظيمة، أمل بأنكم سوف تمنحون حقوق المواطنة لكل المواطنين، وتؤوون الضعيف، وتجلبون الرخاء لكل ربوع بلادكم».
هناك 200 كيلومتر فحسب من الطرق المعبدة في بلد بمساحة فرنسا، ما يجعل من الصعب على المزارعين بيع محاصيلهم وشراء بذور جديدة. وقد طارد شبح نقص الغذاء المجتمعات الريفية لبعض الوقت، كما كانت غارات المواشي، إذ يسرق رجال مسلحون قطعانًا بأكملها من القرى والبلدات القريبة، أمرًا دوري الحدوث.
وحتى الأسر الجنوب سودانية التي امتلكت أنعامًا وزرعت محاصيل، فسرعان ما اختفى كل هذا عندما اندلعت الحرب على عتبات دارهم. ماتت النباتات لأنَّ المزارعين فروا ولم يعودوا قط. وسرقت المواشي، أو تركت لتموت جوعًا، أو تموت من الجفاف. ربما كان نقص الطعام والجوع الحاد أمرًا شبه حتمي في بلد كان يعاني صعوبة في إطعام نفسه حتى في اللحظات النسبية من الهدوء قبل العاصفة الحالية.
اندلعت هذه العاصفة عام 2013، عندما تحارب رئيس البلاد، سلفا كير، ورئيس وزرائه ريك ماشار. اتهم كير ماشار بتدبير محاولة انقلاب، وهو ما أنكره ماشار. في الحقيقة، كان هذا الانقسام ناجمًا عن خليط سام من عقود من الاستياء العميق حول الخلافات القبلية التي زادت حدتها خلال الحرب الأهلية السابقة، والخوف من أنَّ الموارد النفطية للبلاد لن تقسم تقسيمًا عادلاً، بحسب ما ترى فيرجسون. كان كير، المنتمي لقبيلة «الدينكا» المهيمنة، يتحكم في القوات المسلحة للبلاد. أما ماشار، المنتمي لجماعة النوير الأقلية، فقد كان يتحكم في شبكة مهلهلة من الميليشيات القبلية. اتُهم كلا الطرفين بارتكاب جرائم حرب، ويقدر عدد من لقوا حتفهم في هذا القتال بـ50 ألفًا.
بدأت القوات الحكومية، في الأشهر الأخيرة، القيام بجهود «مكافحة التمرد» في مناطق تسكنها قبيلة «النوير»، أو قبائل أخرى تعتبر مؤيدةً للمتمردين. تقول الحكومة إنَّ هذا جزء مهم من أي جهود لاحتواء المسلحين وإنهاء القتال، أما معظم العالم فيرى ما يحدث عقابًا جماعيًّا للمدنيين.
وينقل التقرير ما قاله جوناثان بيدنولت، من منظمة «هيومان رايتس ووتش»: «دون مدنيين، لن يكون أمام أولئك المقاتلين أي مكان يقيمون فيه، أو يتلقون منه الطعام أو الدعم الشعبي، ومن ثم فإنَّ الغرض من استهداف المدنيين تقويض المتمردين». يشمل هذا طرد الناس بعيدًا عن أهم ما تعتمد عليه حياتهم: الطعام.
اقرأ أيضًا: ليس بسبب الجوع.. دوافع اجتماعية معقدة تسببت في نشأة أكلة لحوم البشر
عودة إلى تشول ونوير
ماركو نوير مصدر الصورة: (Vox)
رأت تشول وزميلها ماركو نوير هذا العقاب عن قرب؛ إذ عاشت أسرتيهما في أكثر المناطق استهدافًا من قبل الحملة العسكرية الحالية. عندما اقترب القتال من بلديتهما، فر كلاهما، دون الكثير من الطعام أو الماء، ودون أية طريقة لإيجاد المزيد.
فرت تشول ونوير، مثلهما مثل العديد من أصدقائهما وأقاربهما، إلى المستنقعات الضخمة المحيطة بالنيل الأبيض، والتي توفر أماكن للاختباء من القوات غير القادرة على الوصول إلى المنطقة بالشاحنات أو السيارات. لكنَّ هذا الأمن قد يكون باهظ التكلفة: إذ ليس ثمة ما يؤكل هناك، وبالتالي ينتهي الحال بالناجين من هجمات المسلحين بالهلاك بفعل الجوع البطيء.
قرية توهنوم بايام، حيث التقت فيرجسون بتشول ونوير، لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الزوارق الشجرية التقليدية، التي تنساب بصمت بين عيدان القصب الطويل، بينما تحلق الطيور الصغيرة الملونة فوق الرؤوس. هذا مشهد شديد الجمال، لا يكشف إلا عن القليل من علامات الفوضى التي تعم المكان. بين الحين والآخر تمر مجموعات من المتمردين الرابضين في الأخشاب المجوفة العائمة، وقد وصلت أرجلهم الطويلة لآذانهم، وبنادق AK-47 في أيديهم.
ليس ثمة ما يؤكل ها هنا في المستنقعات إلا جذور زنبق الماء. تفتقر المدينة التي صارت تشول والناجون من أقاربها يعتبرونها وطنًا جديدًا لهم، إلى الطعام الكافي لإطعام كل اللاجئين. لذا فهم ما زالوا يحاولون البقاء أحياءً اعتمادًا على ما يستطيعون التقاطه من المستنقعات.
وقالت فيرجسون: «أخذتني تيباسا، أم تشول، في يوم قائظ الحرارة في منتصف شهر أبريل (نيسان)، إلى مستنقع قريب للبحث عن شيء للغداء. انحنت تيباسا، بينما كانت ذراعاها ورجلاها غائصة في المياه الطينية، وسحبت زنبقات تشبه الأعشاب الضارة، فقطعت جذورها الصغيرة الممتلئة. جمعت جذور الزنابق هذه في وعاء بلاستيكي حتى يمكن نقعها قبل أن تؤكل. كانت هذه الجذور عبارة عن نتوءات سوداء وعرة بحجم بصيلة النرجس البري. بدت غير صالحة للأكل».
وتتوقع الصحافية الأفضل؛ فتقول: ربما تحصل أسرة تشول قريبًا على طعام أفضل. فالأمور هادئة نسبيًّا في البلدة، وتعمل وكالات الإغاثة الغربية في قرية «جانيل» المجاورة. ثمة سوق في مركز هذه البلدة التي يسيطر عليها المتمردون حيث تبيع بعض الأكشاك الشاي وبعض السمك المجفف من النهر المحلي. وهناك مهبط طائرات ترابي بالقرب من السوق يستقبل مروحيات الأمم المتحدة. لدى منظمات الإغاثة هنا بعض من أهم بؤرها وأبعدها. يبدو أنَّ بدء وصول شحنات الطعام إلى توهنوم بايام مسألة وقت فحسب، إذ لا تبعد أكثر من 30 دقيقة بالزورق.
أما في ليير، موطن ماركو نوير، فالحال أسوأ بكثير. إذ دمرت البلدة وهجرت بعد احتلال القوات الحكومية لها. المبنى الوحيد الذي بقي على حاله هي كنيسة من الصفيح الأخضر، تخلو من أي أثاث، معلقة الباب. هُدّم الشارع الرئيسي ذو المحلات والأكشاك عن آخره، وتناثرت ألواح الصفيح بين الحشائش، واصطفت العربات الصدئة على جانب الطريق الترابي الرئيسي.
على بعد أميال قليلة من هذا الطريق ثمة أرض يسيطر عليها المتمردون. هذه الأرض ليست إلا مساحة مفتوحة، بها بعض الأشجار والشجيرات المتناثرة هنا وهناك. حرارة شمس منتصف النهار لا تحتمل. زحف عدة مئات من الأشخاص، من سكان ليير والقرى المحيطة بها، تاركين أماكن اختبائهم، عندما انتشرت أخبار تفيد بإلقاء طائرة مساعدات الطعام. كل أولئك الأشخاص تركوا وراءهم أفرادًا من عائلاتهم في المستنقعات، ينتظرون بقلق عودتهم بالطعام. أولئك الناس النحيفون المرهقون كانوا هم الأقوى والأقدر على القيام بهذه الرحلة.
الكنيسة المتبقية في القرية مصدر الصورة: (Vox)
انتظر أولئك الناس بصبر كبير، فجلسوا صامتين تحت الأشجار، بينما كان متطوعون يرتدون قمصانًا تابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر يكدسون حقائب من الذرة، قد ألقيت حديثًا من إحدى الطائرات التي كانت تحلق فوق رؤوسهم.
وقالت ماري ناييل، التي كانت واقفة تحت إحدى الأشجار في انتظار المساعدة: «الحياة في المستنقعات بشعة، لأنه عندما يأتي الجنود ينبغي لك أن تذهب إلى النهر وتختبئ في الماء»، حيث تجلس في المياه ثابتة لـ12 ساعة، لدى ماري ستة أطفال يتضورون جوعًا في المستنقعات ينتظرون عودتها بالطعام.
كانت ناييل ونساء أخريات يجلسن بانتظار أن يأخذن بذورًا وأدوات لزراعة هذه البذور بها. سلمتهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر خراطيم وفؤوسًا وبذور ذرة لزراعة بعض المحاصيل في الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون خارج المستنقعات. لو زرع الناس الذرة قبل هطول الأمطار، فسوف يكون بإمكانهم الحصاد في شهر أغسطس (آب). لكنَّ الكثير من الجالسين بقربي سوف يموتون قبل حصاد الثمار بوقت طويل.
أحرق جنود الحكومة السوق الصغيرة عندما استولوا على المنطقة في بدايات
<"> Embed from Getty Images
الصراع. والآن ما يزال القرويون الذين كانوا يبيعون ويشترون هنا على قيد
الحياة بفضل المساعدات الخيرية. لم تكن البلدة في حالة مجاعة دومًا.