ي أعقاب الهجوم الانتحاري على كنيستين مصريتين، في يوم الأحد 9 أبريل (نيسان) 2017، والذي يوافق أحد الشعانين، نشر موقع مجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية مقالًا تناول فيه الهجوم، الذي أسفر عن مصرع ما لا يقل عن 44 وجرح 150 شخصًا، كما تناول استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مصر، وما قد يعنيه ذلك للمنطقة في السياق الأوسع.
بدأ مختار عوض، كاتب المقال، وهو باحث زميل بجامعة جورج واشنطن الأمريكية، بالتذكير بالهجوم الذي نُفِّذ منذ أربعة أشهر وأدَّى إلى مقتل 28 من المصلين المسيحيين في القاهرة، وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مسؤوليته عنه.
وأشار عوض، الذي يركز عمله على الجماعات الإسلاموية والسلفية في الشرق الأوسط، إلى أنَّ هجومي أحد الشعانين، اللذين لم يفصلهما سوى ساعات، استهدفا كنيسة في طنطا بدلتا النيل والكنيسة المرقسية في الإسكندرية حيث كان البابا تواضروس يقود القدَّاس، في ما يُعَد «أعنف هجومٍ موجَّه ضد الطائفة المسيحية الأكبر في الشرق الأوسط منذ عقود»؛ ولم يكُن من قبيل المفاجأة أن يعلن «داعش» مسؤوليته عن الهجومين بعد ساعاتٍ من تنفيذهما.
ومحللًا أسباب «داعش» في الاتجاه إلى هجمات كتلك على المسيحيين المصريين، قال عوض إنَّ «داعش» قد دأب، على مدى أشهر، على تسريع استقدام التكتيكات الطائفية العراقية إلى مصر. وفي هذا الصدد، يواصل المقال، يأمل التنظيم في زعزعة استقرار البلد الأكثر سكانًا في الشرق الأوسط، وتوسيع نطاق مشروعه الذي بات هدفه واضحًا الآن بإبادة الأقليات في المنطقة.
لم تتمكَّن السلطات المصرية حتى الآن من التعامل مع هذا التهديد المتصاعد. قد يرجع ذلك، إلى حد كبير، إلى عدم كفاءتها، ولكنَّه يعكس أيضًا التطوُّر المتزايد لقدرات «داعش» الموجَّهة إلى مصر؛ ومع تقهقهر التنظيم إلى وضعٍ دفاعي في دولٍ أخرى، فإنَّ الأراضي المصرية تُعَد منطقة جذَّابة جدًا لتكون جبهة محتملة في حملاتها الجهادية. ويبدو أنَّ داعش يخصص لمصر الآن المزيد من اهتمامه وموارده، والأهم من ذلك عناصره المميزة؛ مما يجعل الوضع مرشحًا لأن يزداد سوءًا في المستقبل.
تهدف خطة «داعش»، في رأي عوض، إلى «إشعال الفتنة الطائفية في مصر كخطوة أولى في تفكيك البلاد». صحيحٌ أنَّ «داعش» (أنصار بيت المقدس سابقًا قبل أن يُعلِن مبايعته «داعش» في 2014) قد نفَّذ العديد من التفجيرات في القاهرة والدلتا في الأعوام الأربعة الماضية، لكنَّه يُرجِع ذلك جزئيًا إلى قوَّة الحكومة المركزية، وسِمات الهواة التي تُميز «داعش»، وربَّما الأهم من ذلك هو التماسك النسبي للمجتمع المصري. وعلى العكس، حقَّق «داعش» نتائج أفضل بكثيرٍ في شمال سيناء، حيث قتل أكثر من ألف جندي حكومي في السنوات الأخيرة، ولكن سيناء منطقة بعيدة للغاية عن القاهرة، الأمر الذي يجعل من الصعب أن تُشكِّل تهديدًا وجوديًا للحكومة المصرية.
ولهذا السبب، يرى عوض أنَّ هذا الهجوم على كنيستي طنطا والإسكندرية يُمثِّل «تغييرًا محوريًا في طبيعة التهديد الذي يواجهه المسيحيون المصريون الآن، حتَّى وإن لم يكُن أوَّل هجوم يضرب الأقباط سواء كان مصدره الجهاديين، أو الإسلاميين، أو حتى جماهير المسلمين العاديين».
يقول عوض: لقد اتخذ «داعش» خطوةً متطرفةً تتمثَّل في افتراض أن المسيحيين هم، بالنسبة إلى مصر، كالشيعة بالنسبة إلى العراق، معتنقًا موقفًا يقضي بأنَّ الأقباط يُمكن قتلهم دون تمييز ودون سبب غير عقديتهم. ومنذ تفجير كنيسة القاهرة في ديسمبر (كانون الأول) 2016، دفع مؤيدو التنظيم على الإنترنت هذا المفهوم بقوَّة، مُدَّعين أنَّ «المسيحيين المصريين هم مشركون أولًا، وقد أظهروا الغدر عبر التحالف مع الغرب والحكومة المصرية؛ ولذا يجب أن يُقتلوا».
«تفجيرات الكنائس».. مصر: ساحة النجاح المضمون للـ«إرهابي» المبتدئ
ويشير الكاتب في هذا السياق إلى حملة للإخبار عن المرتدين أطلقها مؤيدو «داعش» المصريون عبر الإنترنت من أجل جمع معلوماتٍ عن كل «عسكري، ومخبر، وفرد أمن، وأمين شرطة، وضابط، وعقيد، ومدير بنك، ورأس نصرانية كافرة، وصليبي أو صهيوني مقيم بين ظهرانيكم». وظهرت الآثار المحتملة لهذه الدعوة في فبراير (شباط) الماضي، عندما فرَّ مئات المسيحيين في شمال سيناء من منازلهم مذعورين بعد مقتل سبعة مسيحيين بوحشية على يد مقاتلي «داعش».
لكن عوض يؤكدُّ أنَّ هذه الاستراتيجية ليست في واقع الأمر نتيجةً لمراجعات أيديولوجية داخل «داعش»، وأنَّ تنفيذها له تداعيات خطيرة على أمن مصر، وعلى الاستقرار الإقليمي إن نجحت؛ فلسنواتٍ طوالٍ كان ثمَّة سؤال يؤرق أعضاء التنظيم، والجهاديين بشكل عام، ألا وهو: «لماذا فشل الجهاد في داخل الأراضي المصرية؟». وهذا السؤال محوريٌ للتنظيم، ليس فقط بسبب مساحة مصر الشاسعة، بل أيضًا لأنَّه يختبر ما إذا كان المشروع الجهادي يمكن أن ينجح في بلدان لم تدمرها الحرب الأهلية أو تزعزع استقرارها دون أملٍ في العودة إلى ما كانت عليه في السابق.
ويعرض الكاتب دراسةً كتبها أحد منظري «داعش»، أبو مودود الهرماسي، بعنوان سر اللغز المصري؛ يصف فيها المسلمين المصريين بأنَّهم «كالماشية لعدم فهمهم واقع النضال، قبل أن يُقدِّم «مفاتيح النجاح الجهادي»، ومن بينها «القتل الطائفي للمسيحيين من أجل إشعال المناطق الريفية، والأهم من ذلك استهداف كل مسيحي دون استثناء»، مضيفًا أنَّ إثارة الفتنة الطائفية ستكون «مفتاح الكشف عن واقع الصراع و(التحريض على) المشاعر الكامنة في المسلمين تجاه عقيدتهم (المسيحية)». ويتابع أبو مودود الهرماسي ما يعتقده بأنَّ الجهاد لم يسيطر على العراق، وسوريا، واليمن إلَّا بعد أن جرى استهداف الأقليات هناك؛ ويختم رسالته قائلًا: «لا تذروا أي مسيحي كافر في مصر حتى تُهددوا حياته».
ويُعلِّق عوض: «في الأشهر الأخيرة في مصر بدأت «داعش» أيضًا في تبني نغمة مماثلة تجاه الصوفية، الذين يُشكِّلون نسبة كبيرة من المسلمين في مصر، وشمال إفريقيا، وأماكن أخرى؛ فقطعوا رأس اثنين من رجال الدين الصوفية في سيناء وحاولوا إجبار الآخرين على التوبة».
ويختم عوض مقاله بالقول إنَّه من المستبعد نجاح هذه الاستراتيجية في مصر بالطريقة التي يتصوَّرها «داعش»، لكنَّ محاولة تنفيذها ستترك ضربًا من الدمار الذي سيُحطِّم الأقلية المسيحية في مصر. ويضيف:
قد يؤتي برنامج الإبادة الجماعية الذي يتبنَّاه «داعش» نتائج عكسية كما كان الحال بالنسبة إلى أسلافهم الجهاديين في الثمانينيات والتسعينيات، الذين جرَّف قتلهم الوحشي للمدنيين أي قاعدة من الدعم الشعبي. ولكن، كما يشير الهرماسي، فإنَّ للطائفية جذورًا عميقة في المجتمع المصري، كان الإسلامويون ينشرونها منذ عقود، وساهمت فيها السياسات الحكومية أيضًا. وما زالت مصر، شأنها في ذلك شأن العديد من الدول الأخرى في المنطقة، تفرض قوانين التجديف، وتضع قيودًا تمييزية على بناء الكنائس، وتُخفِق في محاكمة الجناة الطائفيين، بينما يواصل الإسلاميون إثارة الكراهية ضد الأقليات دون رقابة. لم تُكن الطائفية لتنجح مع «داعش» في مصر، أو في أي مكان آخر قبلها، لو لم يجد التنظيم سياقًا أيديولوجيًا يمكن أن تزدهر فيه أفكاره المتطرفة.