الباصات الخضراء تظهر مجددًا لتقلّ الآلاف من السوريين من مناطقهم إلى مناطق جديدة في مشهدٍ أصبح معتادًا لدى المعارضة السورية ومتابعيّ الشأن السوري، في حين تحاول الفصائل المعنيّة العاملة على أرض هذه المناطق إلقاء اللوم على جهاتٍ أخرى، وتوجيه أصابع الاتهام لبعضها في بعض الأحيان.
شهد اليوم حي برزة – الذي يعتبر بمثابة الخاصرة للعاصمة دمشق والطريق لغوطتها – عملية انسحابٍ لمعظم الفصائل المتمركزة فيه، وعلى رأس هذه الفصائل جبهة النصرة التي رفضت منذ البداية أيّ تفاوض مع النظام في سبيل إنهاء الحصار عن هذا الحي، كما أنّها الفصيل الوحيد الذي رفض المصالحة التي جرت عام 2013 في حي برزة. بعد عدة معارك استمرت لأكثر من 60 يومًا في ظل حصارٍ خانق شَهده هذا الحي، والذي أدى بدوره إلى إطباق الحصار على حي القابون الذي يشهد مفاوضاتٍ بشأن انسحاب مقاتليه الآن، كما شمل الحصار أيضًا الغوطة الشرقية.
لم يكن هذا الانسحاب هو الوحيد من قبل النّصرة، وإنما سبقته انسحابات عديدة سيشملها هذا التقرير.
«النصرة»
فصيل مسلح، قاتل ضد النظام في سوريا، وفعّال على أرضها، ينتمي إلى تصنيف «الفكر الجهادي»، يقوده «أبو محمد الجولاني» وهو إحدى أذرع تنظيم القاعدة الذي يتزعمه أيمن الظواهري حاليًا. تمّ تشكيل جبهة النصرة أواخر سنة 2011 خلال الانتفاضة السورية، وسرعان ما تنامَت قدراتها لتصبح في غضون أشهر من أبرز القوى المعارضة المسلحة للنظام السوري.
تنظيم جبهة النصرة هو سوري الطّابع، ولكن سواد مقاتليه ينتمون إلى جنسياتٍ غير سورية من عرب وأتراك وأوزبك وشيشان وطاجيك، وقلّة من الأوروبيين والأمريكيين.
بعد أن أعلن أمير جبهة النصرة عن فك ارتباط الجبهة بتنظيم القاعدة، والعمل بشكلٍ مستقل إلى جانب الجيش السوري الحر، خرج الجولاني أمير جبهة النصرة في 28 يوليو (تموز) 2016 من خلال تسجيل بُثّ على قناة الجزيرة معلنًا إلغاء العمل باسم جبهة النصرة، وإعادة هيكلة تشكيل جديد باسم «جبهة فتح الشام»، ليس له أي علاقات أو ارتباطات مع الخارج.
وفي يوم 28 من يناير (كانون الثاني) من السنة الحالية وخلال أوج معركة حلب، أعلنت كل من فتح الشام، وحركة نور الدين زنكي، وثلاثة فصائل أخرى عن حل هذه الفصائل المذكورة، وتشكيل (هيئة تحرير الشام) بقيادة أبي جابر هاشم الشيخ القائد السابق لحركة أحرار الشام.
عمليات جبهة النصرة
يمكن القول إن عمليات جبهة النصرة على امتداد 6 سنوات للثورة السورية صعبة الإحصاء الدقيق؛ نظرًا للتعتيم الإعلامي الذي يسود أغلب عملياتها، لكنّ أبرز عملية قام بها التنظيم هو اقتحام وتفجير مبنى قيادة أركان الجيش في العاصمة دمشق في أوائل أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2012، ومنه اكتسب التنظيم شهرته وشعبيته الكبيرة، وكانت أيضًا من العمليات البارزة له تحرير محافظة إدلب في 3 مارس (آذار) 2015، وكذلك تفجير مبنى المخابرات الجوية في حرستا شرقي دمشق في 8 أكتوبر (تشرين الأول) أيضًا، ونسف مبنى نادي الضباط في ساحة سعد الله الجابري في حلب في اليوم الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2012.
وللتنظيم مشاركاتٌ عديدة مع باقي القوى المسلحة مثل الجيش الحر، وحركة أحرار الشام الإسلامية أيضًا، ولكن هذه المشاركات لم تكن دائمًا ينظر إليها كمحقق لأهداف الثوار والمعارضة المسلحة؛ بل كانت بعض هذه النتائج عكسيةً تمامًا.
الانسحابات المتكررة من المعارك
العديد من أعمال تنظيم جبهة النصرة جعلت شرائح من المعارضة تشكك في أهدافها، ومدى اهتمامها بمصالح المعارضة السورية أو سلامة المدنيين، ففي بعض المناطق عمدت النصرة إلى إشعال أول شرارة للمعارك، وافتتاح الهجوم فيها، وبعدها تركت فصائل المعارضة ونأت بنفسها عن أي تحرُّك لتقلب مجرى الأحداث، وتكتفي فقط بإصدار البيانات والمراسيم الجهادية، وفي مراحل متقدمة تُفضل الانسحاب كما حصل في شرقي حلب، فبعد افتتاح الحرب في أغسطس (آب) 2016 فيها، واستمرار تقدم الفصائل المشاركة معها لأشهرٍ متواصلة، توقف التنظيم فجأةً عن القتال بحسب ما أفاد شاهد العيان (أبو عمار) من قلب حلب، وبعدها طلب التنظيم من جيش النظام الانسحاب من مناطق سيطرته إلى ريف حلب عبر معبر الكاستيلو، في ظل تقدم النظام والميليشيات المقاتلة الداعمة له في عدة أحياء شرقي حلب، وأهمها «الشيخ سعيد» جنوب شرقي حلب.
هذه التقدمات جاءت في ظروفٍ غامضة وغريبة بعد حشد الثوار آلاف المقاتلين والمعدات الثقيلة والمتوسطة، وسيطرتهم على 87 كيلومترًا من حلب الشرقية، حيث عمدت النصرة إلى تهدئة عملياتها العسكرية بالكامل؛ مما أدى إلى استعادة النظام معظم نقاط سيطرة الثوار خلال أيام، وتقلّصت نقاط سيطرة الثوار لـ10 كيلومترات.
أجابت قوّات النظام عن هذا الطلب الذي طلبتهُ النصرة بالانسحاب، وتأكيد أن وجهة مسلّحي النصرة هي إدلب فقط، وليس ريف حلب، وإلا سيكون مصيرها الموت تحت ضربات الجيش السوري وحلفائه، مما اضطر عناصر النصرة إلى الانسحاب باتجاه إدلب.
معارك تنتهي بتسليم المناطق للنظام
لم تكتفِ جبهة النصرة بإشعال معركة حلب غير المتكافئة، والتي أدت إلى خسارتها بالكامل، بل جددت نشاطها في قلب العاصمة دمشق، وتحديدًا في وادي بردى حسبما أفاد (ع.ت.) أحد مصادر «ساسة بوست» في ريف دمشق: بأنها أشعلت معركة هناك أيضًا بقيادة (أبو مالك التلّي)، وهو أمير جبهة النصرة في منطقة القلمون وبردى، وقد أسفرت المعركة عن جلب طائرات الحليف الروسي لقصف النبع المغذّي لدمشق (بردى)، ونتج عن هذا القصف خروج هذه المحطة المائية بالكامل عن الخدمة، وانقطاع المياه عن 8 ملايين نسمة في دمشق.
حسبما يذكر (ع.ت.) فلم يكن على التنظيم افتتاح هذه المعركة في هذا الموقع الحساس من دمشق على خلفيّة علمه بما قد يفعله النظام كردّ فعل لاستعادة الهيمنة على منطقة الوادي، ولعلمه أيضًا بعدم تكافؤ القوى بنسبة كبيرة جدًّا تقتل أي أمل لفصائل المعارضة بحسم النتيجة لصالحها، أو حتى باستمرارية القتال، خصوصًا بعدما عمدت النصرة مجددًا لتهدئة عملياتها العسكرية في المنطقة، وأسفر هذا الهجوم عن خسائر ماديّة وبشريّة كبيرة، وانتهى به المطاف بالخروج إلى إدلب أيضًا عبر عملية المصالحة التي يقوم بها النظام في مختلف المناطق التي تخضع لسيطرة الثوار.
انتقل نشاط التنظيم أيضًا هذه المرّة إلى قلب العاصمة دمشق، ولكن في مناطق حساسة منها في حيّي برزة والقابون، بعد العدوان من قبل النظام عليهما، ونجاحه في قطع كافة طرق الإمداد لهما، وفرض حصار خانق امتد منذ 60 يومًا وحتَّى كتابة هذا التقرير، مع استمرار هذه الهجمات اقترح النظام السوري على فصائل المعارضة الذين وصفهم بالمسلحين والمتمردين بنود اتفاق كان من أبرزها خروج بعض المسلحين، وبالأخصّ من هم ليسوا من أهل المنطقة إلى محافظة إدلب أيضًا، وتسوية أوضاع باقي المقاتلين لدى الدولة السورية.
يقول «جلال الشامي» – أحد مقاتلي الجيش الحر ضمن هذه المناطق- لساسة بوست: «هنا كان قد جاء دور النصرة للتنديد بهذه البنود ورفضها جملةّ وتفصيلًا، باعتبارها خيانة للدين الإسلامي ومظاهرة للكافرين على حد زعمها، ودعت أيضًا إلى استمرار المعارك مع العلم بضآلة مشاركتها به ، غير آبهة بالمدنيين الموجودين داخل هذه المناطق، والذين يقدّر عددهم بـ 250 ألف نسمة، ولم يبقَ لهم أي مكان آمن ليلوذوا إليه، بالإضافة لانعدام الغذاء والدواء والظروف المزرية التي يعيشونها».
فقدان الحاضنة الشّعبية
عطفًا على ما سبق، يقول جلال الشامي أيضًا: ليست هذه الانسحابات هي كل شيء غامض قامت به النصرة على مدى السنوات الماضية من عمر الثورة، ولكن كان فيها ما يكفي لتتكشّف شعارات التنظيم الزائفة، والتي كان أبرزها أنه ما جاء إلا لنصرة الشعب السوري والذود عن دمائه وأعراضه ، ليتضح أنه يقاتل ليحقق أهدافًا مستقلة وغامضة أيضًا خاصة به.
كل هذا أودى بالتنظيم لفقدان ما يمكن تسميته «حاضنته الشعبية» في سوريا، إذ تنامت انتقادات ورفض من قطاعات بالشعب السوري والمعارضة المسلحة كذلك للتنظيم، ورفض احتضان وجودهم أحيانًا، لعلم أهالي المنطقة المسبق أن هذه المنطقة في طريقها إلى الدمار والتخاذل أحيانًا، وبالأخص من الذين يشعلون فتيل الحرب بشعاراتهم.