الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ،،، أما بعد
اللهم أحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
قرأت رأي للدكتور الفاضل محمد شحرور في معنى الإسلام ومعنى الإيمان جاء فيه (هناك دين واحد عند الله هو الإسلام، بدأ بنوح (ع)، وتنامى متطوراً متراكماً على يد النذر والنبوّات والرسالات، إلى أن خُتم متكاملاً بالرسول الأعظم محمد (ص). والإسلام هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو منظومة المثل العليا، وهو العروة الوثقى، وهو الصراط المستقيم.
الإسلام فطرة.. والإيما&al;ن تكليف. الإسلام يتقدم على الإيمان، إذ لا إيمان دون إسلام يسبقه يأتي قبله. المسلمون هم معظم أهل الأرض، وأما المؤمنون فهم أتباع محمد (ص). فإبراهيم (ع) أبو المسلمين، ومحمد (ص) أبو المؤمنين)
وقد أفاض الدكتور الكريم / محمد شحرور في شرح الإسلام بأنه منظومة المثل العليا وأنه أساس العمل الصالح والإحسان والأخلاق ، مستشهدا بألكثير من الآيات التي تثبت أن الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لجميع الأمم والرسل من قبل الرسول محمد صلى الله وسلم عليهم جميعا
وتسائل في استنكار كيف نربط الإسلام بأركان جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام وهو كدين سابق على بعث محمد عليه السلام ، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلما …الأية " آل عمران 67 ، وقال"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون". البقرة 132 ، وقال "رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين" يوسف 101، وقال "وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين" الأعراف 126 ، وقال "فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون" آل عمران 52. ، وقال "فإن توليتم فما سألتكم من أجر، إن أجري إلا على الله، وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن. معه في الفلك …" يونس 72، 73. ، وقال سبحانه وتعالى"فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" الذاريات 35، 36
فابراهيم ويعقوب ويوسف وسحرة فرعون وحواريي عيسى ونوح ولوط عليهم جميعا السلام كانوا قبل بعثة النبي محمد عليه السلام ، وكانوا مسلمين ، إذا الاسلام هو الفطرة التي فطر الله عليها البشر.
ومع إتفاقنا مع الدكتور شحرور أن كل أنبياء الله سبحانه وتعالى من أدم إلي محمد عليهم جميعا السلام مسلمين ، إلا أننا نختلف معه في وجود معنى واحد للإسلام في كتاب الله
ولكي نقرب المعنى فإنه يجب أن نقر أن لكل كلمة في القرآن مدلول واحد فقط ، ولكن يختلف معناها وفقا لسياق النص القرآني مع بقاء المدلول كما هو دون تغيير ، ولنأخذ كلمة الإسلام كمثال
مدلول كلمة الإسلام:
قال تعالى "قلْْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)"[سورة آل عمران]
وقال تعالى" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" المائدة3
فمدلول كلمة الاسلام في الآيتين واحد وهو التسليم والانقياد لله رب العالمين ، لأن الاسلام من المصدر (سلم) وبتشديد اللام تصبح (سلَم) أي سلم قياده وأنقاد وأتبع ما أنزل الله سبحانه وتعالى على رسله ، والتسليم هنا له معنيين أحدهما إعتقادي وهو مرادف لمعنى الإيمان والأخر عملي يعتمد على أداء العبادات.
معنى كلمة الإسلام:
أولا: المعنى الاعتقادي
اما المعنى الاعتقادي فهو الإيمان بالله وما أنزله على محمد وما أنزله على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون ، فيكون الإسلام إعتقاد بألوهية الله سبحانه وتعالى وإقرار بصحة كتبه والإيمان بكل رسله ، لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعض ، وهذا هو الإسلام الذي من يبتغي غيره فهو في الآخرة من الخاسرين
وهذا الإسلام يكون رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم (من المسلمين) وليس أولهم ، لقوله سبحانه وتعالى" إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" النمل 91 ، أمر رسول الله عليه السلام أن يعبد الله سبحانه وتعالى تسليما وانقيادا ، التسليم بأن له كل شيء والانقياد لصاحب كل شيء ، فيكون الرسول واحد من المسلمين مثل نوح وإبراهيم ولوط ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ، وليس أولهم.
وهو على هذا المعنى يفهم على أنه الفطرة لأن فطرة الله في خلقه أنهم ينزعون للكمال ومع إعترافهم بنقصهم فإن الكمال للخالق وحده فهم ينزعون إليه بالإيمان والعبادة ، كما أنهم متفقون على القواعد العامة للإخلاق (مع إختلافهم في الجزئيات) ولكن تبقى القواعد الكلية من معاني الخير والحب والإخلاص والأمانة وغيرها متفقا عليها في كل زمان ومكان
المعنى التجسيدي (الشرعي)
أما في الآية الثانية فقد ذكر الله سبحانه وتعالى آخر ما حرم على أتباع محمد عليه السلام (المسلمين) ، الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما زكيتم ، وهنا نكون أمام الإسلام بمعنى مجموعة الأوامر والنواهي التي نزلت على محمد عليه السلام ، أي الدين الذي نزل على محمد وهو ملة إبراهيم عليه السلام والذي سمانا كآخر أمة ينزل عليها كتاب من السماء مسلمين ، لقوله تعالى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)[سورة الحج] ، وهذا النوع من الإسلام من الطبيعي أن يكون رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم (أول المسلمين) ، لأن المسلمين أتباع القرآن الكريم بما نزل فيه من أوامر ونواهي أولهم هو محمد عليه السلام وهم جميعا تبع له ، يقول الحق سبحانه وتعالى" قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)[سورة الأنعام] ، فترى الله سبحانه وتعالى يذكر في هذه السورة (الصلاة) و(النسك) وهي مجموع العبادات التي نزلت على محمد وأعتبرها أيضا إسلام ، ولكن هذا الإسلام يكون الرسول عليه السلام هو (أول المسلمين).
وقد كرر الله سبحانه وتعالى هذا المعنى في قوله " قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)[سورة الزمر] ، وإذا نظرنا إلي هذه الآية وجدنا قوله (لأن أكون أول المسلمين) فـ (اللام) في (لأن) هي لام تعليلية ، أي من أجل ماتنزل علي أكون أول المسلمين أي أكون أول من ينقاد لما تنزل علي من أوامر ونواهي في الكتاب (القرآن الكريم)
وعليه فقصر معنى الإسلام على أنه الفطرة فقط ، ونسيان باقي الآيات التي تتكلم عن الإسلام كدين له أوامر ونواهي وعبادات ونسك (معنى تجسيدي حسي) يمكن إدراكه ، هو قصور ، أدى إلي قصور آخر وهو إعتبار الإيمان هو التكليف أي هو الأوامر والنواهي (أي هو المعنى الحسي الشرعي للإسلام) ، ولكننا لو اتفقنا على أن مدلول الإسلام هو التسليم والانقياد ، وهو مدلول ثابت من آدم إلي محمد عليهما السلام ، فالسؤال المتبادر للذهن التسليم بماذا والانقياد لماذا؟ ومن البديهي أن يكون الانقياد وفقا لزمن كل رسالة لمجموعة الأوامر والنواهي التي جائت بها هذه الرسالة ولما كانت رسالة محمد عليه السلام هي الخاتمة للرسالات فإن الاسلام بمعناه التعبدي هو آخر ديانة نزلت للعالمين ، وهو ما بها من أوامر وعبادات ونسك ، ويكون الرسول محمد عليه السلام هو أول المسلمين في الأداء (مخلصا له الدين) وفي الأنقياد لقوله تعالى"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" الأعراف 157
وعليه وإن كنت أتفق مع الدكتور الكريم / محمد شحرور على أنه الفطرة ، إلا أن مدلوله هو التسليم والانقياد ، وله معنيان ، المعنى الأول دين كل الأنبياء والمرسلين من لدن آدم حتى محمد عليهم جميعا السلام وهو وفقا لهذا المعنى (من المسلمين) ، والمعنى الثاني هو مجموعة الأوامر والنواهي (العبادات) و (النسك) التي نزلت على محمد عليه السلام ، فكان أول من أتبعها ثم بلغها لنا لكي نتبعها ، وهي دين الإسلام الذي جاء على الرسول والنبي الخاتم عليه السلام.
ويجدر الإشارة هنا أن المعنى الأول للإسلام مستغرق للمعنى الثاني ، والمعنى الثاني قاضي على المعنى الأول ، على نحو ما سنبين.
إستغراق المعنى الأول للإسلام للمعنى الثاني:
الاستغراق هنا يعني الشمول ، أي أن المعنى الأول شمل المعنى الثاني ، لأن الإسلام في معناه الأول هو دين كل الرسل من آدم لمحمد عليهم السلام ، وفي معناه الثاني هو مجموعة الأوامر والنواهي التي جائت على محمد وهو في مجموعة الأنقياد والتسليم ، فيكون في معناه الثاني هو جزء لا يتجزأ من معناه الأول لأن محمد عليه السلام هو ضمن سلسلة الرسل فيكون إسلامه وإسلام أمته جزء من إسلام باقي الأمم ، والتمييز الوحيد هو كونه الآخير ، وقد إستفاد كملة(ملة إبراهيم) بالأسم الشامل للدين دون وجود إسم علم على الدين الخاتم غير الإسم الذي إرتضاه الله لكل الأديان ، فهناك (إسلام اليهودية) و(إسلام المسيحية) و (إسلام الإسلام) ، وهذا تفسير لقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)[سورة الحج] فالآية الأولى تتكلم عن الركوع والسجود والعبادة ، وهي مناسك الدين الخاتم وأسمه أيضا (الإسلام) على نحو تسمية إبراهيم عليه السلام لنا ، أي أن إبراهيم عليه السلام بمشيئة رب العالمين إختار آخر الأمم لتون مفضلة على الأمم السابقة بأمرين ، أولهما إستأثارها بإسم الإسلام ، وهو أسم علم على جميع رسالات التوحيد من عند رب العالمين ، والثانية أن نكون شهداء على الأمم السابقة ، أي أن معيار (الإسلام) بمعنى (الفطرة) قد أصبح من القرآن وميزان أفعال الأمم السابقة موجود في الديانة الخاتمة.
ونأتي لتدبر قوله تعالى" فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) [سورة القصص]
في هذه الآيات يفرق الله بين صنفين من أهل الكتاب
الصنف الأول: استكبر ورفض إتباع الإسلام الذي نزل على محمد ، بل وطالبوه أن يأتي لهم بمعجزات كما نزلت تسع آيات على موسى (العصى والمن والسلوى والقمل وإنفجار الحجر وإنشقاق البحرعن طريق وغيرها)، ولكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم بأنهم رغم معجزات موسى فقد كفروا به من قبل فهم ليسوا بحاجة لمعجزات ولكنهم بحاجة لأن يتركوا الكبر والغرور ولن يفعلوا ، لأنهم متبعون لأهواءهم وليس أضل ممن يتبع هواه على غير هدى من الله فإن الله لا يهديهم لأنهم هم القوم الظالمين (كل ذلك فيمن رفض إتباع النبي) فهم ليسوا مسلمين
الصنف الثاني: بكتاب القرآن وبالرسول عليه السلام يؤمنون ، وإذا يتلى عليهم القرآن قالوا (آمنا به) أنه الحق من ربنا ، وهذا الإيمان هو (الإسلام) بمعناه الثاني (الدين الذي انزل على محمد عليه السلام) ، وقولهم إنا كنا من قبله (مسلمين) هو الإسلام بمعناه الأول ، ولكن إيمانهم بالكتاب (القرآن) أكمل وأتم إسلامهم فجعله مقبولا من رب العزة ، ولهم أجرهم مرتين مرة على إسلامهم لرسلهم ، ومرة أخرى على إسلامهم لمحمد عليه السلام ، ومن صفاتهم الصبر (على التسليم والانقياد) ، ويدرؤون بالحسنة السيئة (تحمل على معنيين أولهما إذا هموا بسيئة فإنهم يدفعونها عنهم بإتيان حسنة ، والثاني أنهم يدفعون جزاء السيئة بأجر حسنة) وينفقون من رزق الله لهم كنوع من شكر النعمة ، ويعرضون عن اللغو
وأخيرا فإن الله سبحانه وتعالى يقر حقيقة أن الرسول عليه السلام لا دخل له ولا قدرة لديه على تحويل أي من البشر من الصنف الأول للصنف الثاني ولكنها من إطلاقات رب العزة سبحانه وتعالى.
قضاء الإسلام كآخر دين على باقي الآديان الآخرى والتي هي إسلام:
من البديهي إذا كان مطلوب منا الإيمان بكل الرسل والكتب السابقة وعدم التفريق بين الرسل جميعا لقوله سبحانه وتعالى" قلْْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)"[سورة آل عمران] ، فإن هذا الطلب هو أمر لكل البشر على إختلاف أديانهم منذ بعثة محمد عليه السلام ، أصبح مطلوب منهم الإيمان به وبكتابة لكي يكتمل إسلامهم ، فلو أنكروه وجحدوا كتابه الذي أرسل به فلا يحق لنا أن نسميهم (مسلمين) ، لأنه من شروط دين الإسلام الذي لن يقبل الله غيره ، الإيمان بالله ورسله وكتبه (كل رسله) و(كل كتبه) ومحمد عليه السلام من رسله والقرآن من كتبه ، وعليه يكون الإسلام بمعناه الدين الأخير قاضيا من حيث الإيمان به على الإسلام بمعناه دين كل الرسل والأنبياء والأمم.
وهنا نعاود الاستشهاد بقوله تعالى " وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)[سورة الحج] ، فيكون معيار الإسلام المقبول موجود في القرآن الكريم الذي نتبعه ، ومعيار إتباعنا له هو شهادة الرسول ، أما معيار إتباع باقي الإمم للإسلام بمعنى الفطرة (المعنى الإعتقادي) هو شهادتنا نحن أن نقول أنهم آمنوا بل الرسل بما فيهم رسولنا عليه وعليهم السلام ، وآمنوا بكل الكتب بما فيه كتابنا القرآن ، والله تعالى أعلم.
لذلك فإن قول الله تعالى هو أبلغ وصف لحالة قضاء دين الإسلام الذي نزل على محمد على دين الإسلام الذي آمنت به كل الرسل ، ولنتدبره حيث قال عز من قائل"َّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)[سورة آل عمران] ، ففي الآية 19 الدين عند الله الإسلام هو بمعناه العام الشامل الذي آمنت به كل الأنبياء والمرسلين والأمم السابقة من لدن آدم إلي محمد عليهم جميعا السلام ، ولكنهم أختلفوا بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، أما في معناه الثاني في الآية 20 ، فإن قامت اليهود والنصارى بمحاجاة الرسول فيقول أسلمت وجهي لله ومن أتبعن ، وهنا الإسلام بمعناه آخر دين ، فهاتين الآيتين جمعتا المعنيين للإسلام وجعلت المعنى الأول مستغرق للمعنى الثاني في قوله (ما أختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم) وجعل المعنى الثاني قاضي على الأول في قوله (فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ) ، أي أن إسلامهم الأول في قوله إن الدين عند الله الإسلام ليس كافيا إلا أن يسلموا لك وهو دليل الهدى وبيان النجاه ، أما إذا أبوا ورفضوا فإن الله بصير بالعباد.
كلنا يعرف قصة موسى عليه السلام مع قومه عندما أرادوا روئية رب العالمين فأخذتهم الرجفة وفي ذلك يقول رب العزة "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ...الآية [سورة الأعراف] ، هنا الجزء الأول من القصة أنهم (موسى عليه السلام وقومه) دعوا الله سبحانه وتعالى مستغفرين تائبين ، مؤمنين بأنه سبحانه لن يهلكهم بما فعل السفهاء منهم ذلك لأنه القائل (لا تزروا وازرة وزر أخرى) ودعوه ليغفر لهم ويرحمهم وأن يكتب لهم في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، فماذا كان جواب رب العالمين؟ قال سبحانه وهو خير من قائل "...قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [سورة الأعراف] ، سبب تمتعهم برحمة الله التي وسعت كل شيء أنهم يتقون ويؤتون الزكاة ، فإذا جاء زمان النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والأنجيل وجب عليهم إتباعه حتى يتمتعون بنتيجة دعوة نبيهم موسى عليه السلام ، وحتى لا يكون لهم عند الله حجة أن الرسول عليه السلام لم يبلغ فقد تبع ذل قوله تعالى " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)[سورة الأعراف] ، بما يؤكد أن الرسول قد بلغ فعلا فأصبحت دعوته قاضية على ما عداها لأنها ببساطة شديدة تكمل معنى الإيمان بالله ورسله وكتبه المذكور في القرآن في الآئيات التالية ( البقرة 136 ، 285 ) ( آل عمران 84 ) ( النساء 150 : 152 ) ( الأحقاف 9 )
ونكتفي بهذا القدر في هذا البحث ، ونعود لتعريف مدلول الإيمان في بحث قادم ، وتفهم معانيه ، وشكرا لمتابعتكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شريف هادي