العلّامة بن بيَّه».. كيف تحاول الإمارات السيطرة على صورة الإسلام

في الأربعاء ٢٦ - أبريل - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

«العلامة عبد الله بن بيَّه» أحد كبار العلماء المسلمين، يُدير عددًا من المؤسسات الدينية الدولية المحسوبة على النظام الإماراتي، إذ تقع أغلب مقرات مؤسساته الدينية في أبوظبي، وهو أوَّل عالم مسلم يستشهد به رئيس أمريكي كأوباما، ويُقبِّل رأسه رجل الإمارات القويّ، محمد بن زايد. في هذا التقرير تعريجٌ على حياةِ هذا العالم، وطريقهُ الذي عادَ ومحاه، أو عادَ واستبرأَ منهُ.

من هو بن بيَّه؟

وُلد الشيخ عبد الله بن محفوظ بن بيّه عام 1935 في مدينة تمبدغة في موريتانيا، ولم يدخل المدارس الفرنسية، فوالده من أكبر المطالبين بمقاطعة الاستعمار الفرنسي، ومن كبار العلماء الموريتانيين، ولذا كانت نشأته نشأةً علمية تقليدية، تلقّى خلالها كثيرًا من العلوم الإسلامية في محظرة أهل بيَّه (المحاظر هي المكان التقليدي لتلقي العلوم في موريتانيا). يهتم ابن بيه الآن بشكل أساسي بعلم الأصول.

بن بيه كان رجل سياسةٍ أصيلًا في مرحلة من عمره، إذ قام بعبءِ عددٍ كبيرٍ من الوزارات في موريتانيا، في بداية مشواره كان أول وزير للشئون الإسلامية، وهو الذي اقترح إنشاء هذه الوزارة، كذلك كانَ وزيرًا للتعليم الأساسي والشؤون الدينية، ووزيرًا للعدل والتشريع، ووزيرًا للمصادر البشرية برتبة نائب الرئيس، وحمل منصب الأمين الدائم لحزب الشعب الموريتاني الحاكم في تلك الفترة.

حاليًا، بن بيه هو رئيس مجلس حكماء المسلمين، ورئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وكذلك يعمل أحد مستشاري وأمناء مؤسسة طابة، كافة هذه المؤسسات مقرّاتها في أبوظبي وتعمل في إطار دعم من النظام الإماراتي، ومعظم العاملين والمُشاركين في نشاطاتها من العاملين في مؤسسات تتبع رسميًّا الدول التي يسكنونها، كدار الإفتاء، والهيئات الدينية التابعة للدولة.

رحلةُ العُمر.. من الثورات إلى الحكَّام

مع انطلاق ثورات «الربيع العربي»، لم يتوانَ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن إعلانه الدعم لهذه الثورات ولشبابها، وفي بدايات الربيع، كانَ بن بيه عضوًا في الاتحاد بمنصب نائب الرئيس. اجتمع أعضاء إدارة الاتحاد في ندوةٍ بعنوان «مستقبل الأمَّة الإسلامية في ظل التطورات الراهنة»، في أبريل (نيسان) 2011، كانَ التقرير الصادر عن الندوة حادًا وشرسًا في دفاعه عن الثورات، وهجومه على الأنظمة العربية التي قامت الثورات ضدها، مُصوّرًا سقوط الأنظمة بـ«تهاوي الأصنام»، وندّدت الندوة بكبت الحريات والقمع، واعتبرت الثورات هبةً من الله مع الالتزام بما أسماه البيان «الجهاد السلمي».

كانَ هذا موقف الاتحاد – بما فيه بن بيه- حتى تلك اللحظة، وبعدَ عددٍ كبيرٍ من البيانات التي أصدرها الاتحاد مؤيدًا فيها الثورات ورافضًا لـ«الانقلاب العسكري» المصري في 3 يوليو (تموز) 2013، بعد كل هذه الأحداث والبيانات، أعلنَ بن بيه انسحابه من الاتحاد مُقدِّمًا استقالته في 13 سبتمبر (أيلول) 2013، وفي بيان سبب استقالته قال إن: «ظروفي الخاصة والدور المتواضع الذي أحاول القيام به في سبيل الإصلاح والمصالحة مما يقتضي خطابًا لا يتلاءم مع موقعي في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، فما الخطاب الذي اتجه بن بيه نحوه بعد ذلك؟ ولماذا لم يكن موقعه موقعًا مُلائمًا؟

بعد عامٍ من خروجه من الاتحاد، كان أوَّل تصريحٍ لابن بيه مُشككًا في الربيع العربي؛ إذ قال فيه إن الثورات «التي كانت أمامنا هي حروب تدميرية وتقطيع للأرحام، وتشتيت للأمة»، وفي انتقالٍ كبير في نوعيّة الخطاب، من صفّ «الثورة» إلى صف «الحكام»، قالَ بن بيه: «المراهنة على الزمن أولى من شق عصا الطاعة، وأن طريق السلام والمهادنة أضمن للحقوق من شق صف المسلمين، والخروج على السلطان».

كيان موازٍ: من «اتحاد» علماء المسلمين إلى «حكماء» المسلمين

قد يكون هذا التغيّر في آراء بن بيه معقولًا في ضوء قناعته المعروفةِ عنه: «قد يكون من الواجب تركُ الواجب».

يدعو الشيخ بن بيه منذ زمنٍ طويل إلى «الحوار» و«السِّلم»، واستمرّ في دعوته لهذه القيم وهو في إطار اتحاد العلماء، ولكن بعد خروجه قرّر أن يؤسس مجلسًا للعلماء يُشبه الاتحاد العالمي، ولكن باسم «حكماء المسلمين»، يضمُّ المجلس وزراء شؤون دينية في دول مختلفة مثل إندونيسيا والنيجر ومصر، ويضمُّ عددًا من علماء السنّة في الإمارات ككبير المفتين في دبي، أحمد الحداد، ومن الأسماء الجديرة بالذكر، الأمير الأردني غازي بن طلال، ورئيس مؤتمر العالم الإسلامي عبد الله نصيف، ويرأس المجلس أحمد الطيب شيخ الأزهر، وعبد الله بن بيه. بينما إن شئنا الدقَّة فيظهر من الأسماء المذكورة أنها محسوبة سياسيًّا على أنظمتها التي تنتمي لها.

تأسيس حكماء المسلمين كانَ بمثابة إعلان قيام كيانٍ موازٍ لاتحاد علماء المسلمين، يقوم عليه علماءٌ في اتجاه مُخالف لاتجاه الاتحاد، ويبدو أن الحكماء قرّروا أن يقفوا ضد كل ما يقف الاتحاد معه، فضمّ الحكماء لمجلسهم أحمد الطيب شيخ الأزهر الذي كان الرمز الديني الأقوى للنظام المصري في أحداث 3 يوليو (تموز) 2013 وحتى فترة بعدها، قبل أن تبدأ المشكلات في التفاقم بين الطيب والسيسي.

باستعراضٍ سريع لبيان تأسيس «حكماء المسلمين»، الذي غطته وبثته قنواتٌ إماراتية رسمية وغير رسمية، نجد أن المجلس يخالف المبدأ الذي وضعه لنفسه بتعيين أحمد الطيب رئيسًا للمجلس، وهو الرجل الذي ضرب في أعماق الخلاف والعمل السياسي – بتأييده للسيسي-؛ المبدأ الخامس: «التجرد من أية عوامل ذاتية تجعل أعضاء المجلس طرفًا في أيّ صراع سياسي، أو ديني، أو عرقي». وعلى عكس اتحاد العلماء، فإن مجلس الحكماء لم يُعلن عن آلية تمويله، ولا عن آلية انضمام الأعضاء الجدد، وعبّر عن نفسه في بيانه التأسيسي أنّه «هيئة دولية مستقلّة».

في ذات الوقت أبدى البيانُ إعجابًا وامتنانًا للنظام الإماراتيّ، ومدحًا لمؤسس الإمارات الأمير زايد آل نهيان، وشكرًا  للنظام على سماحِهِ للمجلس باتخاذه مقره في العاصمة الإماراتية أبوظبي، إذ صرّح البيان بأن «شهدت الإمارات وبتكرُّم من قادة هذا البلد الكريم أعمال منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وذلك ترسيخًا لما كرس له حكيم العرب الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رحمه الله- حياته من سعيٍ لإقرار السلم في العالم، والسعي نحو التعارف والتآلف والتعايش السعيد»، شاكرين ومقدرين لدولة الامارات وللقيادة الحكيمة ترحيبهم الكريم بهذا الاختيار.

بن بيه: الوجه الديني للإمارات و«تحديث الإسلام»

علاقة بن بيَّه بالإمارات علاقةٌ فريدة، كلّ خطوةٍ يخطوها بن بيه تبدأ من الإمارات وتنتهي بالإشادة بها وبحكامها، ويظهر بن بيه في مؤتمراته واجتماعاته وبجانبه إماراتيون من رجال النظام الإماراتي ووزرائه، أو أحد أفراد الأسرة الحاكمة، وفي إطار هذا الحضور والدعم الإماراتي الطاغي على الجو يظهر بن بيه وجهًا دينيًّا للنظام الإماراتي، يتحدث عنه أمام العالم، ويُلمّع صورته على أنّه نظام يسعى للسلم والسلام، ويُحارب «التطرّف والإرهاب»، الذي كثيرًا ما يُقصد به الثوارات – أو مآلاتها- في العالم العربي.

اقرأ أيضًا: كيف أجهضت الإمارات الربيع العربي؟

تصرحياتُ بن بيه المختلفة تُظلِّلُ النظام الإماراتيّ بشرعية دينيةٍ وسلميةٍ، فمثلًا يقول بن بيه إن الإمارات «مقر لكل دعاة الخير والسلام والتسامح في المنطقة»؛ لأن لها «مبادرات في كل الاتجاهات من أجل تعزيز السلام والتسامح». عندما نقول في هذا التقرير إنّ كل خطوة لبن بيه تنطلق بدعمٍ إماراتي، فنحنُ نقصد ذلك حرفيًّا، بل إن النظام الإماراتي يتحدث عن نشاطات ومؤسسات بن بيه وكأنّها له، ففي افتتاح الجلسة الأولى لمؤتمر منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، المنتدى الذي أسّسه ويديره بن بيه، كان الراعي الرسمي للحفل وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، الذي تحدّث في بداية المؤتمر وكأنه هو الذي قام بتنظيمه: «رأينا أن تنظيم حشد دولي يختص بمعالجة الأفكار والقضايا التي تعد من مسببات تلك الاضطرابات هو أمر في غاية الضرورة».

استعمال مجلس الحكماء أداةً تلميعية واضح جدًّا في الخطاب الإماراتي مع المؤسسات الرسمية في أمريكا، ففي جلسةٍ عُقدت في جامعة الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع، بتاريخ 28 ديسمبر (كانون الأوَّل) 2015، قال يوسف العتيبة – السفير الإماراتي في أمريكا- إنَّ مجلس الحكماء هو «تجمّعٌ تم تأسيسه ودعمه من قبل القادة الإماراتيين»، بهدف «تحديث طريقة تدريس الإسلام في المدارس، يطور برامج تدريب جديدة للأئمة، ويحدّث التفاسير القرآنية»، ويؤكد العتيبة في مقالات منشورة له في سي إن إن وفوكس نيوز، أنّ الإمارات تُعلي من صوت الإسلام المعتدل «من خلال مؤسساتٍ دينية، كمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، ومجلس حكماء المسلمين»، ويؤكد أنّ هذا في إطار حرص الإمارات على مواجهة الإرهاب جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية.

أمّا بن بيه فيعامِل النظام الإماراتي بالمثل، بل يتعدَّاه بأنه يصير مُمثلًا عنه ومتحدثًا باسمه، ففي لقاءٍ له مع توني تان، رئيس سنغافورة، في 21 مارس (آذار) المنصرم، قال بن بيه: «جئنا من الإمارات لنبحث عن السلام، ولا نستثني أحدًا في دعوةٍ لكل أصحاب النيات الطيبة في العالم بأن يتَّحدوا في مواجهة الكراهية والحروب».

صورة مُحسَّنة.. أم إسلامٌ غربيّ!

هل صار بن بيه مرجعًا إسلاميًّا يُقلده أوباما؟ لقد آتت التلميحات الإماراتية عن مواجهة الإرهاب وتحديث الدين أُكلها، ففي خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أشاد أوباما بمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، واقتبسَ من بن بيه كلمته «يجب أن نشن حربًا على الحرب؛ لتكون النتيجة سلمًا على سلم».

فعن أيّ سلمٍ يتحدث؟ يشرح هذا الفهم صديقٌ سابقٌ له، هو الدكتور معتز الخطيب، أستاذ المنهجية والأخلاق في مركز التشريع الإسلامي والأخلاق، يرى الخطيب أنّ فهم بن بيه للسلم هو «إقامة السلم على أساس الحفاظ على الظلم».

إن «التطرف» و«الإرهاب» اللذين يتحدث عنهما بن بيه محلُ خلافٍ كبير، فالنظام الإماراتي – الذي يمثله بن بيه- يُصنف عددًا ضخمًا من التيارات الإسلامية على أنها إرهابية، وعددٌ من هذه التيارات لم يُصنف إرهابيًّا حتى في المحاكم البريطانية، كالإخوان المسلمين، وقد أثارت قائمة المنظمات الإرهابية التي أصدرتها الإمارات في أواخر عام 2014 سخرية رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب ضمّها لعدد ضخم من المؤسسات والمنظمات الإسلامية السلمية، وعدم اشتمالها على أي مؤسسة إرهابية غير مسلمة، أو صهيونية.

يبدو أن القدرات المالية لبن بيه، ومشاريعه ضخمة وكبيرة، فبعيدًا عن مؤتمراته الضخمة التي يحضر بعضها أكثر من 250 شخصية بارزة ورسمية، فإن لدى هذه المؤسسات برامجُ أخرى تعمل على بناء شبكات مصالح وعلاقات في أنحاء العالم، على سبيل المثال؛ فإن المؤسسة التي يُديرها الحبيب الجفري ويعمل فيها بن بيه مستشارًا وأمينًا، مؤسسة طابة، تُشرف على 10 برامج، ومؤسسات أخرى تعمل تحتها، لهذه الـ10، أهدافٌ وبرامجٌ ومشاريع قائمة ومشاريع مُنجزة، تعمل – وفقًا لمؤسسة طابة- على «إعادة صياغة الخطاب الإسلامي المعاصر» وعلى إنتاج صورة جديدة للإسلام!

تُغطي هذه البرامج مجالات مختلفة وواسعة، منها ما هو إعلامي، من برامج تلفزيونية وأفلام وثائقية وإعلانية، مُوجهة لعامة الناس في العالم العربي، وبعضها للعالم الغربي. ومن البرامج ما هو أكاديمي صِرف، يتوجه لـ«طلاب العلوم الشرعية» في اليمن وشرق إفريقيا وأوروبا (بروكسيل)، تعمل على إعادة تدريب المُتخرجين منهم، وتخريج آخرين جدد بعيدين عن «التطرف والإرهاب».

من الوسائل التي تستعملها مؤسسات بن بيه لبناء الشبكات «الوفود»، إذ يُرسل مجلس الحكماء وفودًا دورية للعواصم الأوروبية، وانطلق أول وفد في رمضان عام 2015 إلى 14 عاصمة أوروبية، من شباب الأزهر «تهدف كلها لتصحيح المفاهيم، وتخفيف حدة التوتر الديني».

بالرغم من كل هذا، تُصر مؤسسات بن بيه على أنها لا تنحاز لفئةٍ دونَ غيرها، ويتجدد السؤال القديم عن استغلال الدولة للدين، واستغلال بعض رجال الدين لمناصبهم الدينية.

اجمالي القراءات 3729