حزب التحرير: الخلافة تحرير والديمقراطية اضطهاد
-
ينظم حزب التحرير في تونس مؤتمره السنوي الذي يحمل شعار “الخلافة محررة البشرية من اضطهاد الديمقراطية” السبت 15 أبريل الجاري. مؤتمر لحزب يعادي الدولة المدنية علنا، ولا يعترف بالديمقراطية التي أتاحت له النشاط، ويتبنى شعارات وأدبيات تتفق مع أكثر التيارات الإسلامية قصوية وتطرفا، ويتناقض في الوقت نفسه مع دستور البلاد التونسية. مؤتمر بقدر ما أثار من تساؤلات سياسية وفكرية، إلا أنه يضع الدولة ومؤسساتها أمام مفارقة قانونية ودستورية تنبع من تناقض هذا الحزب مع الدستور التونسي ومع القوانين التي تنظم عمل الأحزاب.
الدولة تعترف بالحزب الذي لا يعترف بها
مؤتمر حزب التحرير الإسلامي (ولاية تونس كما يسميها في وفاء للأدبيات الإسلامية الشقيقة) الذي ينعقد في ظرفية محلية موسومة بتصاعد الاحتجاجات، وفي ظرفية إقليمية مشوبة بتصاعد أثر التيارات المتشددة من قبيل تنظيم داعش وسواه، يطرح أكثر من زاوية للنظر إلى الحدث وإلى منظم الحدث أي حزب التحرير.
تأمل موقف الحكومة من الحدث ومن الحزب، وتفضيلها عدم التدخل لمنع الحزب من النشاط أو على الأقل منع المؤتمر من الانعقاد قد يبرر بأنها تتفادى التصعيد من حزب إسلامي، وقد يعلل أيضا بأن حركة النهضة الإسلامية لا ترى ضيرا في تنظيم الحزب لنشاطه الدعوي والسياسي (جدير تأمل موقف محمد بن سالم القيادي بحركة النهضة القائل إنه لا يخشى على الديمقراطية من أقلية حزب التحرير)، إلا أن موقف الحكومة والدولة من الحزب يأخذ القضية إلى مفارقة قوامها أن وجود حزب التحرير الإسلامي يتناقض مع قوانين البلاد ودستورها، التي تجمع على رفض إنشاء الأحزاب على أسس دينية، والتي تجمع أيضا على الذود عن قيم الجمهورية ومن ضمنها الديمقراطية والانتخابات والدولة المدنية.
حزب التحرير تحصل على الترخيص بممارسة النشاط من الدولة التونسية في 17 يوليو 2012 زمن حكم الترويكا، ومع ذلك يعادي الدولة ومؤسساتها ويعارض الديمقراطية ووسائلها وآلياتها، ما أفرز مفارقة عجيبة قوامها أن الدولة تعترف بحزب لا يعترف بها. لكن نقاش المفارقة القانونية والدستورية المترتبة على نشاط حزب التحرير ومؤتمراته، لا يجب أن يحجب أن القضايا التي تطرحها مؤتمرات هذه الأحزاب والتيارات من زاوية كونها فرصة لفضح ضحالة وتناقض أطروحاتها.
هل أن عدم ممارسة حزب التحرير للعنف يعفيه من صفة توفره على كل مقومات التشدد التي تكتظ بها أدبيات داعش
الشعار المركزي للمؤتمر “الخلافة محررة البشرية من اضطهاد الديمقراطية”، الذي سينظم السبت يوحي بأن الفعالية تنتظم في زمن آخر. النكوص الغالب على الشعار بالدعوة إلى الخلافة، بل اعتبارها الحل لـ”تحرير البشرية من اضطهاد الديمقراطية”، وهو شعار مكمل لما جاء في ندوة نظمها الحزب في 19 مارس الماضي وحملت وسم “عجز الدولة المدنية وحتمية دولة الخلافة”.
دعوة الحزب للخلافة في دولة تعيش انتقالا سياسيا ديمقراطيا وإن وصف بالبطء والتعثر لا تمثل فقط إشكالا قانونيا ودستوريا، بل هي من ضروب النكوص الفكري والحضاري عن قيم العصر. حزب التحرير يقدمُ حلولا ماضوية غابرة لمشاكل معاصرة وراهنة، وبهذا المعنى تصبح القضية القانونية والدستورية المتصلة بحزب التحرير غير ذات أهمية مقارنة بما يطرحه الحزب من أفكار.
“أفضل طريقة للكشف عن حدود فكرة معينة هي الدفع بها على حدودها القصوى” (كما يقول كانط)، ومن هذا المنطلق يصبح مؤتمر حزب التحرير وندواته ولقاءاته الدعوية “مفيدة” من زاوية كونها تمثل فرصة لاطلاع الناس على ضحالة أفكاره وأنها مغتربة عن الزمن الراهن ومقتضياته.
الزاوية الأخرى للنظر إلى مؤتمر حزب التحرير هي أن للحزب جمهورا و”مريدين”، وبصرف النظر عن قياس عددهم أو نسبتهم من عموم الشعب، ومهما كان حجم التعاطف مع الحزب محدودا وضئيلا إلا أنه جدير بالدراسة والتأمل وطرح استفهام يقرأ اللحظة ويستشرف القادم؛ هل للحزب حاضنة اجتماعية؟ وكيف توصل إلى تسريب رمله بين الناس في مجتمع يفترض أنه مجتمع متمدن وحداثي نتيجة عقود من البناء في المستويات التعليمية والمجتمعية والتشريعية؟
شعار الخلافة المطروح في المؤتمر ومسألة معاداة الدولة المدنية التي نوقشت في ندوة سابقة، هما محوران يتماهى فيهما حزب التحرير مع تنظيم داعش وسواه من التنظيمات المتشددة التي توزع منسوب تطرفها في كل أنحاء العالم العربي الإسلامي، فما الفروقات والاختلافات التي تفصل حزب التحرير عن داعش؟ وهل أن عدم ممارسته للعنف يعفيه من صفة توفره على كل مقومات التشدد والتطرف التي تكتظ بها أدبيات داعش؟
حزب التحرير تحصل على الترخيص بممارسة النشاط من الدولة التونسية في 17 يوليو 2012 زمن حكم الترويكا، ومع ذلك يعادي الدولة ومؤسساتها ويعارض الديمقراطية ووسائلها وآلياتها
مؤتمر حزب التحرير بما يحمله من مضامين يتجاوز عاديات الحدث، بل هو فرصة لطرح الأسئلة الحقيقية التي لا تقتصر على الإشكاليات القانونية المتصلة به، بل يجب أن تتقصد الأسئلة بيان ضحالة برامج الحزب وأدبياته، وفي الآن نفسه تبين خطورة أنشطته انطلاقا من كونه لا يختلف في شيء عن التنظيمات المتطرفة، وإن تبرأ من دمويتها.
مشكلة حزب التحرير (تناقضه مع الدولة ومفارقته للزمن الراهن) هي في عمقها مشكلة حركة النهضة. الأخيرة التي أعلنت تبنيها للفصل بين الدعوي والسياسي وتثبيت نفسها حزبا سياسيا تونسيا (بكل ما في الكلمة من مسؤولية وتأصيل سياسيين) ظلت قابعة في مستوى “المنزلة بين المنزلتين”. موقع مريح يتيح لها التنقل والترحال بين المستويين (الدعوي أو السياسي) كلما عنّ لها ذلك، أو كلما فرضت عليها حوادث السياسة ذلك.
هذا التردد بين المنزلتين هو الذي حال دون ذهاب حركة النهضة بعيدا في الحسم في حزب التحرير وفي غيره من القضايا ذات الصلة، فالنهضة لا يضيرها أن يمارس الحزب نشاطه وإن تناقض مع دستور البلاد، ولا يضيرها أن يطرح الحزب شعارات الخلافة حلولا للمشاكل السياسية التونسية، بل نجدها أحيانا تذود عن حق الحزب في النشاط من منطلق أن القضاء وحده من له الحق في البت في الحزب.
المثير أن هذا الموقف تبناه أيضا الرئيس السابق المنصف المرزوقي عندما قال في يونيو 2016 دفاعا عن حزب التحرير “أن نقبل أيديولوجيا حزب التحرير أو أن نرفضها مسألة شخصية وخيار سياسي، والكل يعرف أنني أبعد ما يمكن عن هذا الخيار، لكن المبدأ الذي ارتضيناه في دستورنا أن لكل التونسيين، طالما لم يمارسوا العنف ولم يلجأوا للإرهاب البغيض، حق التنظم وحق الدفاع عن رؤاهم”.
“الخلافة محررة البشرية من اضطهاد الديمقراطية”، شعار سينتظم وفقه السبت مؤتمر حزب التحرير (ولاية تونس) وهو شعار يعلن العصيان على الدولة ومؤسساتها، لكن البعد الأخطر الكامن فيه أنه يمثل ارتدادا كاملا عن العصر وما يقتضيه. ارتداد تنادي به تنظيمات “شقيقة” للحزب أودى تطبيقها للشعار ببلاد عربية عديدة إلى منحدر سحيق من الخراب، ولعل زهد حزب التحرير عن الفعل لا يعفيه ولا يعفي من مكنه من تأشيرة العمل ولا يسعف من يذود عن حقه “الديمقراطي” في النشاط من مسؤولية الأخطار القادمة.