لا تستهين السلطات الإماراتية بمجرد «منشور» أو «تغريدة» يكتبها مواطن أو مقيم أجنبي في الإمارات، فكل شيء يمر على المراقبة الإلكترونية بهدف اصطياد المنتقدين، لقد وصل الأمر كما يصفه بعض الحقوقيين لمرحلة «الهوس» بعدم التسامح إزاء أي شخص يقوم بانتقاد السلطات الإماراتية.
المفارقة التي تؤكدها حوادث الاعتقال، أن السلطات الإماراتية لا تسعى لتعقب الإسلاميين فقط، ولم تقتصر على الشبكات الاجتماعية المؤيدة للديمقراطية وحقوق الإنسان؛ بل كل شخص ينطق بـ«نصف كلمة» في حق سياسيات السلطات الحاكمة، في نظر المراقبين، عرضةً للاتهام.
الاعتقال ينال من الحقوقيين والأكاديميين
«إهانة رئيس أجنبي» تلك هي التهمة التي سجن بسببها الأكاديمي الإماراتي «ناصر بن غيث» منذ 18 أغسطس (آب) عام 2015، أما الرئيس الأجنبي فهو الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي»، أفضت هذه التهمة إلى حكم بالسجن عشر سنوات على ابن غيث، أبرز الأصوات الإماراتية الداعية لإعلاء حرية التعبير والحقوق السياسية والمدنية.
وقبل أن تهدأ ردود الفعل الغاضبة على الحكم، سارعت السلطات الإماراتية بنقل «ابن غيث» من سجن «الصدر» في أبوظبي إلى سجن «الرزين» الصحراوي سيئ السمعة قبل أيام، في خطوة تهدف إلى المزيد من «التضييق» و«التنكيل»، كانت هناك «سوابق» لابن غيث عن التهمة آنفة الذكر، كانتقاد «القتل الجماعي للمتظاهرين في ميدان رابعة قبل عامين على يد قوات الأمن المصرية»، وحديثه بعد اعتقال سابق تعرض له مع أربعة رجال أدينوا بـ«الإهانة العلنية لمسؤولين إماراتيين»، اتهم إثره بأنه يهدف: «إلى الإساءة لدولة الإمارات العربية المتحدة من خلال الادعاء بأنه تعرض للتعذيب، واتُهم ظلمًا خلال المحاكمة السابقة».
وتحضر قضية اتهام السلطات لـ«ابن غيث» بنشر تغريدة سخر فيها من قرار دولة الإمارات بتخصيص أرض لبناء معبد هندوسي في أغسطس (آب) عام 2015، المزيد أيضًا من الاتهامات أكيلت للرجل تتعلق بما قيل إنه ارتباط بحزبي «الأمة» و«الإصلاح» الإماراتيين اللذين صنفتهما السلطات «منظمات إرهابية»، إذ أفادت «خليج تايمز» أن: «ابن غيث ألقى محاضرات تدعم هاتين المجموعتين، ويظهر في تسجيلات فيديو متوافرة على الإنترنت لواحدة من هذه المحاضرات في إسطنبول الأمين العام لمنظمة الأمة حسن الدقي يقدم ابن غيث كأكاديمي».
التهمة ذاتها التي لحقت بـ«ابن غيث» نالت من أبرز الأكاديميين في العلوم السياسية في الإمارات «عبد الخالق عبد الله»، حين كتب: «خلف الأبواب المغلقة في العواصم الخليجية يتصاعد يومًا بعد يوم شعور الإحباط تجاه أداء النظام في مصر، وتحوله لعبء سياسي ومالي يصعب تحمله طويلًا»، وهو ما اعتبرته السلطات الإماراتية إساءةً للنظام المصري، خاصة أنه أبدى أيضًا تأييده لقرار المحكمة المصرية التي ألغت اتفاقية للتنازل عن الجزيرتين للسعودية، لكن المفارقة أن «عبدالله» لم يشفع له دفاعه المعتاد عن السياسة الخارجية والداخلية للإمارات من منظور ليبرالي، ولم يعجب الإمارات مجرد مطالبته بحرية التعبير، فقد قال في 15 يناير (كانون الثاني) على تويتر: «نأمل أن يشمل التسامح، في دولة الإمارات العربية المتحدة، حرية التعبير والصحافة، والتجمع، مثلما نتمتع الآن بحرية المعتقد، وحرية التجارة، والحريات الشخصية والاجتماعية».
وتذكر صحيفة «البايس» الإسبانية: «أنه لا يُعرف عن الأكاديمي الإماراتي الانتماء الإسلامي، أو النشاط السياسي، وبالتالي، فإن مسألة اعتقاله قد أثارت دهشة المراقبين الذين يخشون بدورهم أن تحدث تحولات جديدة في نطاق حرية التعبير في البلاد»، وأضافت الصحيفة أن: «المخاوف من انتقال عدوى الربيع العربي إلى البلاد قد أدت، في مطلع هذا العقد، إلى إطلاق حملة ضد كل من الإسلاميين والأصوات الليبرالية، وبعيدًا عن المخاوف التي تهدد سلامة البلاد، في منطقة تعيش انعدامًا للاستقرار، أدى الهوس بصورة البلاد إلى عدم التسامح إزاء كل شخص يقوم بانتقاد البلاد».
يعتقل أيضًا، الناشط الحقوقي البارز أحمد منصور منذ 20 مارس (آذار) 2017، الحاصل على جائزة «مارتين أينالز» للمدافعين عن حقوق الإنسان، وهو مهندس كهربائي وشاعر، فمهنته تلك جعلته في بؤرة الاستهداف والتضييق الحكومي الإماراتي، وحسب ما جاء في وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية (وام)، فالسلطات الإماراتية تحتجز منصور للاشتباه في استخدامه مواقع التواصل الاجتماعي في نشر «معلومات مغلوطة وأخبار كاذبة من أجل إثارة الفتنة الطائفية والكراهية والإضرار بسمعة الدولة».
يذكر أن «منصور» قد أعلن سابقًا عن اكتشافه ثغرات في هاتف (أيفون) تسمح بالتجسس على الهواتف الشخصية، وقال إنه اكتشف محاولة الاختراق بعد استقبال رسالة نصية على هاتفه حملت عنوان «أسرار جديدة حول تعذيب إماراتيين في السجون»، وعندما شك في الرابط استعان بمختبر متخصص في مجال الاختراق والتجسس، ليؤكد أن الرابط المرفق عبارة عن برنامج خبيث طورته شركة إسرائيلية، تقوم ببيعه للحكومات، وقد أشارت منظمة «هيومن رايتس ووتش» لتجسس الحكومة الإماراتية على المعارضين، عندما نشرت في يناير (كانون الثاني) الماضي، أن: «السلطات الإماراتية عززت بشكل كبير قدرتها على المراقبة الإلكترونية في إطار جهودها لقمع حرية التعبير»، وأكدت المنظمة في التقرير العالمي 2017، إن «الحكومة الإماراتية استخدمت برمجية مراقبة باهظة الثمن لاستهداف ناشط حقوقي بارز».
للنساء نصيب أيضًا، ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حكم على الإماراتية «أمينة العبدولي» بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة إنشاء حسابين على تويتر، ونشر معلومات تحرض على الكراهية ضد الإمارات، كما اتهمت «العبدولي» بالسخرية من سمعة الدولة.
الأجانب يعتقلون أيضًا لآرائهم
«إذا أردت تغيير العالم، فاذهب إلى الإمارات، أحبها بصدق. السعادة والراحة والابتكار قررت أن تصنعها الإمارات»، كاتب هذه السطور في كتاب «دولة الإمارات .. دولة السعادة» هو الصحافي الأردني «تيسير النجار»، الذي يقبع منذ 13 ديسمبر (كانون الأول) 2015 في سجن «الوثبة» الصحراوي الإماراتي.
النجار الذي اعتقل في مطار أبوظبي، وبلغت مدة احتجازه من دون محاكمة عامًا كاملًا، حوكم في منتصف الشهر الماضي بالسجن ثلاث سنوات، وفرضت عليه غرامة قدرها 500 ألف درهم (136 ألف دولار)، والتهمة كما قالها القاضي في آخر جلسة أمام المحكمة هي «الإساءة لدولة الإمارات»، أما وسيلة هذه الإساءة فهي منشور على «فيسبوك» كتب عام 2014، وانتقد فيه النجار موقف الإمارات من العدوان الإسرائيلي على غزة.
قضية أخرى، كانت من نصيب مواطن خليجي من سلطنة عُمان، فبينما كان الشاب العُماني «ثامر البلوشي» يتبادل الحديث في شهر مارس (آذار) 2016 مع بعض العاملين على الحدود مع الإمارات، عبر الرجل عن معارضته للحرب ضد الحوثيين في اليمن، ليجد نفسه بعد ذلك في السجن، ثم أمام محكمة أمن الدولة في أبوظبي بتهمة «الاستهزاء بسياسات البلاد»، وبحسب التفاصيل التي نشرتها «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان»، فإنه «معتقل في سجن الوثبة في إمارة أبوظبي منذ شهر آذار/ مارس 2016، على خلفية إعلان رأيه أمام أفراد أمن الحدود في الحرب التي يشنها التحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن».
وبالانتقال إلى بلد خليجي آخر، وهي البحرين، حيث لم يكن المواطن «علي حسن مهدي محمد» يعلم أن مقطع فيديو مدته 12 ثانية نشره عبر تطبيق (إنستغرام)، سيتسبب في وضعه خلف القضبان في الإمارات، فقد اعتقل «محمد» في الرابع من يونيو (حزيران) 2016 في البحرين، ثم بعد أربعة أيام من توقيفه في مبنى التحقيقات الجنائية، تم ترحيله إلى الإمارات، ليشاع أن سبب الاعتقال يعود إلى الفيديو الذي التقط من أمام مأتم للطائفة الشيعية في منطقة بر دبي، علق فيه «محمد» بالقول: «أين تفرون إلا طحين»، وهو ما قيل إنه يقصد به الطرفة لا أكثر.
كما أن قضايا حرية الرأي لحقت بالغربيين المقيمين في الإمارات، ففي فبراير (شباط) الماضي، اعتقلت أمريكية بتهمة شتم الإمارات وقادتها، وهي على موعد في مايو (أيار) القادم للمحاكمة، ونشرت صحيفة «ذي ناشونال» الناطقة بالإنجليزية أن المرأة التي تبلغ الخامسة والعشرين من العمر متهمة بتوجيه «شتائم ضد البلاد وقادتها»، بحسب ما نقلت.
القانون في خدمة القمع
«إثارة الفتنة»، و«الإضرار بالوحدة»، و«السلم الاجتماعي»، هذه المسميات وغيرها استخدمت في الإطار التشريعي الإماراتي لقمع حرية التعبير، وتبرير ملاحقة أي شخص يحاول التعبير عن رأي لا ينسجم مع الموقف الرسمي الإماراتي، بحسب العديد من المراقبين.
لقد اعتمدت الإمارات قانون مكافحة التمييز في يوليو (تموز) عام 2016، القانون «يجرم بث أو نشر أو نقل أي مواد استفزازية بأي وسيلة كانت، بما في ذلك وسائل الإعلام أو الإنترنت»، أما التعديلات التي أضيفت لقانون العقوبات في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، يكفي القول إن المادة 182 المدرجة فيها تنصّ على أنه: «يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن عشر سنوات كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار من شأنها إثارة الفتنة، أو الإضرار بالوحدة أو السلم الاجتماعي»، كما تسمح المادة 288 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الإماراتي «بعقوبة تتراوح بين 3 و15 عامًا في السجن لمن ينشر أي شيء على الإنترنت من شأنه تعريض أمن الدولة ومصالحها العليا للخطر أو المساس بالنظام العام»، خصصت أيضًا المادة 166 من قانون العقوبات الإماراتي بعقوبة أقصاها عشرة أعوام في السجن لأي شخص يرتكب أي «عمل عدائي ضد بلد أجنبي يمكن أن يعرض الإمارات لخطر الحرب، أو قطع العلاقات الدبلوماسية».
ويؤكد المركز الدولي للعدالة وحقوق الإنسان (مقره جنيف) على أنه: «تعمّدت سلطات دولة الإمارات العربية المتحدة صياغة مواد التجريم والعقاب بشكل عام وفضفاض، من أجل التمكن بسهولة من ملاحقة الناشطين السياسيين والحقوقيين والمدونين وحبسهم لمدد طويلة، فلقد خلا تعديل قانون العقوبات والمادة 182 مكرر من صياغة دقيقة تلتزم الضوابط المعتمدة في مجتمعات ديمقراطية حين تقييد الحريات، وأهمها الضرورة والتبعية والتناسب والهدف المشروع»، أما في تقرير المركز الذي نشر في مارس (آذار) الماضي، فقد أكد المركز على أن العام 2016 شهد انتهاكات خطيرة، تعرض لها مواطنون إماراتيون، وأيضًا أجانب، وأحصى المركز محاكمة 116 شخصًا من الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان في العام الماضي، وجاء في تقرير المركز : «أوضاع حقوق الإنسان لم تتحسن في الإمارات خلال العام المنقضي، وأن الانتهاكات تضمنت ممارسة التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والحرمان من الجنسية»، واستشهد المركز في القضية المعروفة بـ«الإمارات 94»، والتي حوكم فيها 94 ناشطًا بسبب انتقادهم سياسات السلطات الإماراتية.
يذكر أن غالبية سجناء الرأي في الإمارات يوضعون في سجن «الرزين» الذي احتل قائمة السجون العشرة الأسوأ سمعة في الوطن العربي، حسب تقرير لـ«المركز الدولي لدراسات السجون» الصادر العام الماضي، إذ يتعرض المعتقلون للتعرية التامة من أجل الخضوع للتفتيش، ويخضعون للتعذيب كالضرب بالكرابيج، ووضع العصا في الدبر، ونزع الأظافر، والكي بالكهرباء، والضرب المبرح، والتبريد الشديد، ويعقب نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش «جو ستورك» بالقول: «تلاحق السلطات الإماراتية كل شخص لا يلتزم بتوجهاتها، والفضاء الافتراضي أصبح مكانها المفضل لاصطياد المنتقدين والمعارضين. الانتهاكات المتعلقة بحرية التعبير، ومعاملة السلطات للمحتجزين، تُعدّ أسبابًا كافية للشعور بقلق كبير»، وقد أشارت «منظمة العفو الدولية» في تقريرها السنوي عن حالة حقوق الإنسان في العالم لعام 2017/2016، إلى «استمرار شيوع حوادث الاختفاء القسري، والمحاكمات الجائرة، وتعرض المحتجزين للتعذيب، وغيره من ضروب المعاملة السيئة».