كان الخامس من نوفبر (تشرين الثاني) 2013 يومًا تاريخيًا للهند، دخلت فيه سباق الفضاء من بابه الواسع، وفاجأت العالم، بعد أن تمكنت يومها من إطلاق أول مركبة فضائية لها نحو المريخ، وفور وصول المركبة الهندية مدار الكوكب الأحمر، أعلنت حينها الحكومة الهندية انضمامها عن جدارة لنادي البلدان الغازية للفضاء، الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا والصين.
لكن الصحافة الأمريكية في ذلك الوقت استقبلت الخبر بطعم السخرية من بلد يُعاني ثلاثة أرباع شعبه من الفقر المدقع، حيث نشرت آنذاك جريدة «نيويورك تايمز» رسمًا كاريكاتوريًا، يظهر فلاحًا هنديًا يجر بقرة، وهو يطرق باب محل راق، به أناس من النخبة من الأغنياء المثقفين؛ للدخول، كناية على أن الهند لا تزال متخلفة عن ركب سباق الفضاء.
وعقب هذه السخرية الكاريكاتورية، تلقت «نيويورك تايمز» سيلًا من الرسائل المنددة، التي تنتقد فكرة الكاريكاتور المبطنة في استصغار محاولات الآخرين في سعيهم نحو التقدم، وتقزيم جهود الغير في تطوير العلوم، إذا ما كانت قادمة من خارج حدود بلدان شمال القارة الأمريكية وأوروبا، لتضطر بعد ذلك الصحيفة إلى الاعتذار للهند.
أما اليوم فقد باتت الهند رقمًا صعبًا في سباق الفضاء الدولي، معترفًا بها بما لا يدع للشك، بعد كل الإنجازات الباهرة التي حققها هذا البلد خلال السنوات الأخيرة بإمكاناتها المتواضعة، معلنة بذلك أن الهند قادمة وبقوة لمنافسة الكبار في ميدان الفضاء.
وكالة الفضاء الهندية
تعد منظمة البحوث الفضائية الهندية، المسماة اختصارًا «إيسرو»، هي الهيئة الرسمية للبحوث الفضائية التابعة للحكومة الهندية، تتبع مباشرة لمكتب رئيس الوزراء لهندي، وعلى الرغم من نشأتها منذ عقود مبكرة من القرن الماضي، فإن إنجازاتها في ميدان الفضاء لم تظهر في الساحة العالمية، إلا في السنوات الأخيرة، حتى أصبحت أهم روافد النهضة الهندية.
تأسست وكالة الفضاء الهندية سنة 1969، عقب استقلال الهند بنحو عقدين، أسسها رئيس وزراء الهند جواهرلال نهرو، أحد قادة الاستقلال، بتشجيع مجموعة العلماء الهنود، كان يتقدمها فيكرام سرابهاي، الأب الروحي لبرنامج الفضاء الهندي، وتتلخص رؤيتها في «تسخير أبحاث الفضاء لتطوير الوطن، ومتابعة الأبحاث العلمية الفضائية، واستكشاف الكواكب».
وتمكنت «إيسرو» من بناء أول قمر صناعي لها سنة 1975، وأطلقته نحو الفضاء بالاستعانة بصواريخ سوفييتية، لتستطيع بعد ذلك تطوير صواريخ إطلاق خاصة بالهند، التي ستنقل بواسطتها مجموعة أقمارها الصناعية «روهيني» خلال الثمانينات من القرن الماضي.
وظلت برامج الفضاء الهندية تُصير تساؤلات بعض المراقبين حول مدى استفادة هذا البلد الذي لا يزال يتحرر من أغلال الفقر، من التوجه نحو الفضاء منذ سنوات مبكرة من استقلاله، إلا أن فيكرام سرابهاي، مؤسس البرنامج الهندي، رد على الذين يتساءلون عن جدوى وجود برنامج فضائي لدى دولة نامية، قائلًا «إن الهند لا تطمح إلى منافسة برامج الفضاء في الدول المتقدمة اقتصاديًا»، مُستدركًا «لكننا مقتنعون بأنه إذا أردنا أن يكون لنا دور بين الأمم، يجب أن نتفوق على الجميع في تسخير التقنيات الحديثة لخدمة الإنسان والمجتمع».
إنجازات «إيسرو» الهندية
قدمت وكالة الفضاء الهندية مجموعة من الإنجازات المذهلة في مسيرتها في مجال غزو الفضاء خلال السنوات الأخيرة، والتي لاقت الكثير من الإعجاب، خاصة وأنها تمت بميزانية محدودة للغاية مقارنة مع إنفاق الوكالات الفضائية الأخرى.
كان أول إنجاز فضائي جدير بالذكر للهند، هو إرسالها المسبار الفضائي «تشاندرايان»، إلى سطح القمر سنة 2008، وهو قمر صناعي غير مأهول، على شكل صندوق بوزن 34 كيلوغرام، يحمل ثلاثة أجهزة مستشعرة، نظام التصوير بالفيديو ومطياف الكتلة ومقياس الارتفاع الراداري، وبقي المسبار يعمل هناك حتى منتصف 2009.
وأُطلق بواسطة مركبة «إطلاق الأقمار الصناعية القطبية PSLV C11» مباشرة من مركز ساتيش داوان الفضائي في مقاطعة نيلور الهندية، بتكلفة لا تتجاوز 80 مليون دولار. وقام المسبار الهندي في رحلته الفضائية بثلاثة آلاف دورة حول سطح القمر، حصل خلالها على 70000 صورة لسطح القمر، وتم إرسال الصور بنجاح مركزها الفضائي في «بنغالور» الهندية، وأكدت الوكالة آنذاك أنها استطاعت تحديد الموقع الخاص برحلة «أبولو 11» أول بعثة نقلت بشرًا على سطح القمر.
وعادت إيسرو الهندية لتحقق إنجازًا آخر أكثر إثارة، في سبتمبر (أيلول) 2014، حينما استطاعت مركبتها الفضائية دخول مدار الكوكب الأحمر، لتصبح بذلك الدولة الأولى التي تنجح في من المحاولة الأولى في وصول المريخ، وأول دولة آسيوية تنجح في بلوغ هذا الكوكب، بعدما قطع مسبارها الفضائي أكثر من 215 مليون كيلومتر لمدة عام كامل قبل أن يصل المدار، بغرض التقاط صور لسطح الكوكب الأحمر ودراسة أغلفته الجوية.
لكن المثير في هذا الإنجاز، والذي استدعى اهتمام وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) بطلبها عقبها التعاون مع منظمة الفضاء الهندية (إيسرو)، هو الكلفة الرخيصة للرحلة الفضائية التي قات بها الهند نحو المريخ، حيث لم تتعد ميزانية المشروع بكامله 73 مليون دولار، بينما بلغت مهمة مسبار «مارفن» الأمريكي نحو الكوكب الأحمر 671 مليون دولار كميزانية لمشروع الرحلة، أي أن الرحلة الهندية كلفت عشر ما أنفقته الولايات المتحدة الأمريكية لنفس المهمة.
وهو ما لفت العالم إلى الطفرة النوعية التي حققتها الهند في برنامجها الفضائي، جعلتها فورًا ضمن اللاعبين الكبار في سباق الفضاء نحو الأكوان السحيقة، ولاسيما أنها استطاعت بلوغ المريخ بتكلفة زهيدة وموارد متواضعة فقط.
فتح الأسواق من خلال الفضاء
لم يكن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي مخطئًا عندما خاطب الجمهور وسط ساحة «تايم سكوير» سنة 2014، أثناء زيارته للولايات المتحدة، قائلًا «أيها الأمريكيون، إن الهند لم تعد أمة السحرة الذين يُراقصون الثعابين!»، فقد باتت الهند إحدى القوى الاقتصادية المتنامية بشكل متسارع. وفي ظل حاجتها الماسة للموارد الاقتصادية، بدأت الهند تستثمر برنامجها الفضائي، ليس فقط من أجل الاستكشاف والمساهمة في مراكمة المعرفة العلمية بالكون، وإنما أيضًا كمنجم اقتصادي يدخل إيرادات مهمة للدولة.
وظهر هذا التوجه الهندي جليًا في الانجاز الأخير، منتصف فبراير (شباط) الجاري، حيث تكفلت وكالة الفضاء الهندية بإطلاق 104 قمر صناعي دفعة واحدة على متن صاروخ واحد، ونجحت في وضع جميع وحدات سرب الأقمار في مواقعها المدارية المحددة، لتحقق بذلك إنجازًا تاريخيًا آخر في سجلها الفضائي، احتفل به مدير المشروع، بي جاياكومار، قائلًا: إنها «لحظة عظيمة لكل أمتنا، اليوم صنعنا التاريخ». فيما هنأ رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، مؤسسة أبحاث الفضاء الحكومية.
وتولت «إيسرو» الهندية مهمة الإطلاق لصالح عملاء دوليين، منهم الولايات المتحدة الأمريكية التي تملك 101 قمر صناعي بين الأقمار التي أطلقتها، وكانت الهند العام الماضي قد أطلقت 75 قمرًا صناعيًا أجنبيًا لصالح بلدان، منها 20 قمرًا أطلقتها دفعة واحدة.
وتسعى الهند إلى الاستحواذ على الحصة الضخم من سوق إطلاق الأقمار الاصطناعية، التي يبلغ حجمها 300 مليار دولار، مع العلم أن هذا السوق يزداد نموا بفضل مجموعات التكنولوجيا وتطوير الاتصالات وتزايد حاجة دول العالم للأقمار الصناعية لاستخدامها في الأغراض التجارية والعسكرية.
فيما تتزايد ثقة العملاء الدوليين، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، في تكليف وكالة الفضاء الهندية بإطلاق أقمارهم الصناعية إلى الفضاء، بالنظر إلى التكلفة الرخيصة التي توفرها «إيسرو» الهندية، علاوة على سجلها الخالي من الانتكاسات في إطلاق الأقمار الصناعية الأجنبية؛ مما يمكن الهند من إدخال إيرادات مهمة إلى خزينة الدولة.