عمر عبدالرحمن.. المرجع النظري لمنجز الجماعات الجهادية المعاصرة
-
اختلاف التيارات التكفيرية المتطرفة، وتعدد أسمائها وشعاراتها وحتى أساليبها، لا يحجبان حقيقة كونها، جميعا، تنهل من المدونة الفكرية نفسها، إذ تتفق على الانطلاق من تنظيرات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب وأبوبكر ناجي وعمر عبدالرحمن وغيرهم. عبدالرحمن الذي توفي منذ أيام قليلة نعته كل التيارات الإسلامية المتطرفة، بدءا من الجماعة الإسلامية في مصر وصولا إلى تنظيم القاعدة، وهو ما يدفع إلى البحث عن “الإضافات” التي وفرها للمدونة التكفيرية المتطرفة.
رحل عبدالرحمن وبقيت مدونته معينا تنهل منه التيارات التكفيرية
عمر عبدالرحمان، الذي توفي في سجنه بالولايات المتحدة الأميركية قبل أيام، يعتبر الزعيم الروحي لتنظيم الجماعة الإسلامية المصرية، التي خاضت العديد من المعارك المسلحة ضد النظام المصري الأسبق ونفذت عمليات إرهابية عدة داخل مصر، خلفت العديد من القتلى، طيلة مراحل المواجهة بين الجماعة ونظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.
اعتقل عمر عبدالرحمن في بداية الثمانينات من القرن الماضي بتهمة التورط في اغتيال أنور السادات في عام 1981، لكنه تمكن من الهرب. واعتقل بعد أشهر من فراره وحوكم أمام محكمة أمن الدولة المصرية، وتم الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات. وفي عام 1993 سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية بنية الإقامة فيها، لكنه اعتقل من طرف السلطات الأميركية وحكم عليه بالسجن المؤبد، بعد أن وجهت إليه اتهامات عدة من بينها التحريض على تفجيرات نيويورك عام 1993، والتآمر والتحريض على اغتيال حسني مبارك، والتآمر على تفجير منشآت عسكرية.
وبالرغم من أنه لم يعد حاضرا في واقع الجماعات الجهادية المصرية والعالمية منذ اعتقاله في بداية التسعينات من القرن الماضي، إلا أن تأثيره ظل قويا في فكر تلك الجماعات، بل إن الكثيرين من منظري جماعات الجهاد، أمثال عبدالقادر عبدالعزيز المعروف بـ”الدكتور فضل”، رددوا مواقفه وفتاواه في كتاباتهم بطرق مختلفة، مستلهمين كتاباته، على قلتها.
شكل عمر عبدالرحمن قنطرة ما بين أفكار أبي الأعلى المودودي وسيد قطب من جهة، وبين الجماعة الإسلامية وجماعات الجهاد اللاحقة لها من جهة أخرى. وقد أعاد صياغة مفهوم الحاكمية في كتابه الذي جُمعت فيه كلماته أثناء محاكمته في قضية السادات، تحت عنوان “كلمة حق”، حيث رأى أن الحاكمية “تعني أنه سبحانه هو المالك الآمر المشرع الذي لا يجوز لأحد غيره أن يحكم أو يأمر أو يشرع، فحق التشريع غير ممنوح لأحد من الخلق، غير ممنوح لهيئة من الهيئات ولا لحزب من الأحزاب ولا لبرلمان ولا لمجموع الأمة ولا لمجموع البشرية”، وهو نفس المفهوم التجريدي لمعنى الحاكمية كما نظر لها سيد قطب نقلا عن المودودي، حين صورها وكأنها شيء عائم في مجتمع يخلو من المؤسسات، من دون أن يتعرض للجوانب الفقهية في الإسلام التي تستوجب التأويل والتفسير والاختلاف في الاجتهادات، إذ جعل النص ناطقا عن نفسه ولسان حال ذاته.
عبدالرحمن شكل قنطرة ما بين أفكار المودودي وقطب، وبين الجماعة الإسلامية وجماعات الجهاد اللاحقة لها
لكن الكتاب الذي كان له التأثير الأكبر على الفكر الجهادي، حتى اليوم، هو كتاب”موقف القرآن من خصومه من خلال سورة التوبة”، وهو كتاب ضخم يضم حوالي 850 صفحة، ضمنه عمر عبدالرحمن رؤيته لقضية الجهاد والقتال، وموقفه من اليهود والنصارى، من خلال إعادة قراءة سورة التوبة وغزوات الرسول ومعاركه.
ينطلق عمر عبدالرحمن في هذا الكتاب من أن الواقع اليوم هو واقع الشرك والكفر، وأن تحكيم الشريعة غائب في المجتمعات الإسلامية، مستعيدا آراء سيد قطب في مفهومه للجاهلية المعاصرة.
ومقارنة بسيد قطب الذي ترك مفهوم”الجيل القرآني الفريد” مفهوما ضبابيا وتحدث عن ضرورة”المفاصلة” بين هذا الجيل وبين المجتمع الجاهلي الذي يعيش فيه، فإن عمر عبدالرحمن حاول أن يضع تصورا تنفيذيا لمهمة الجيل الجهادي الجديد، يقوم على أساس السيطرة على بقعة من الأرض والإعلان منها عن الدولة الإسلامية، قبل المرور إلى مرحلة القتال ضد الآخرين لإدخالهم في الإسلام، حيث يقول “إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام، أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق فيشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ويطبقون هذا في واقع الحياة، ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان، ويومئذ، يومئذ فقط، سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات”.
ولا شك أن هذا التصور هو الذي انطلقت منه الجماعات الجهادية المعاصرة، في الإيمان بضرورة بناء دولة الخلافة والسيطرة على مساحة من الأرض والهجرة إليها، وآخر نموذج لها تنظيم ما يسمى”الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
وقد رأى أن كل ما في المجتمعات المسلمة اليوم يدخل في نطاق “مسجد الضرار”، أي المسجد الذي بُني بجوار المسجد الذي تقام فيه الصلاة لثني الناس عنها، كما حصل في عهد النبي، فأنزل ذلك النموذج على الواقع المعاصر وحكم بحرمة جميع المؤسسات والمراكز لأنها “مسجد ضرار” ولأنها تدل على الشرك والكفر.
وقد تأثر بهذه المقولة العديد من منظري الجهاد المعاصر، على غرار أبي محمد المقدسي الأردني، في تكفير المجتمعات الإسلامية وتحريم العمل في المؤسسات التابعة للدولة، وتحريم المشاركة في البرلمانات القائمة والمشاركة في الحكومات والصلاة في المساجد التي تشرف الدولة على بنائها، بل وصل الأمر إلى تحريم المدارس القائمة والمؤسسات التعليمية التابعة للدولة.
ورغم أنه يؤكد على أن “السلم في الإسلام هو القاعدة، والحرب هي الاستثناء”، وأنه “لم يكن من أهداف الحرب في الإسلام أن تكون للإكراه في الدين”، فإنه يسقط في تناقضات فادحة هي نفسها التي يرددها الجهاديون اليوم. قد يفهم من هذه المقولة تحريم الحرب والعدوان على الآخرين، إلا في حالة الدفاع عن النفس، كما هو مقرر في الأديان والمواثيق الدولية، لكن الحقيقة أنها مقولة خادعة، لأن الحرب عنده مشروعة بهدف “حماية حرية انتشار العقيدة في الآفاق”، وهذا يتضمن نشر الإسلام بالعنف والقوة، أي الإكراه في الدين، وهو ما يؤكده هو نفسه في الكتاب حين يقول “وليس من الحق والعدل أن يدافع أصحاب المذاهب الباطلة عن باطلهم بالقوة، وأن يترك أصحاب العقائد والشريعة السمحة من غير أن يؤذن لهم في الدفاع عن عقيدتهم ودينهم”، فطالما أن الآخرين يستعملون القوة لنشر معتقداتهم على المسلمين أيضا أن يستعملوا القوة في نشر الإسلام.