عندما شهدت المنطقة العربية موجة الثورات العربية مع بداية عام 2011، سارعت النخب الثرية في المغرب من سياسيين ورجال أعمال وموظفين كبار إلى سحب كميات ضخمة من أموالهم من البنوك الداخلية لتهريبها نحو الخارج، بعدما أحست هذه النخب باقتراب سيل الاحتجاجات إلى المملكة، فخشيت أن تضيع أموالها التي كدستها بطرق غير شرعية طوال عقود.
وبعدما هدأت الاحتجاجات الشعبية في المغرب، واستقر الوضع السياسي في البلد عقب دستور 2011 والانتخابات البرلمانية المبكرة، لم ينس النظام السياسي المغربي الطعنة التي سددتها النخب الفاسدة وراء ظهره، إذ فضلت تهريب أموالها نحو الخارج في الوقت الذي كانت فيه الدولة المغربية في أمس الحاجة إليها من أجل الاستقرار الاقتصادي، بينما كانت سابقًا تكدس الأموال بدون حسيب ولا رقيب، منذ عقود.
ومباشرة بعد ذلك تم إيقاظ مؤسسات «نائمة» مختصة بمراقبة شرعية الأموال، مثل مكتب الصرف، والمجلس الأعلى للحسابات، الذي سيفتح ملفات بعض السياسيين ورجال الأعمال، فكانت أول مرة يتم إثارة ظاهرة تهريب الأموال على نطاق واسع بالمشهد المغربي.
أرقام «مرعبة» في تهريب الأموال بالمغرب
في تقرير منظمة النزاهة المالية العالمية الصادر سنة 2014، تذكر المنظمة بخصوص تدفقات الأموال غير المشروعة خارج المغرب، أن حجم الأموال المهربة من المغرب إلى البنوك الخارجية خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 2004 و2013، فاق الـ41 مليار دولار أمريكي، أي ما يعادل ثلثي ميزانية المغرب السنوية.
وتتبوأ المغرب المركز 34 من بين 149 بلدًا شملها تصنيف المنظمة العالمية لأكثر الدول تهريبًا للأموال طوال عقد من الزمن، إذ بلغ متوسط التهريب أربعة مليارات دولار سنويًّا، وفي تقرير المعهد السويسري «بازل»، الصادر نهاية العام المنصرم، احتل المغرب المرتبة 80 عالميًّا من بين 149 دولة على مستوى تهريب الأموال بنحو 5.59 نقطة.
وليست الظاهرة بالجديدة، إذ سبق للجنة الأمم المتحدة لإفريقيا أن كشفت عن أن المغرب فَقَدَ حوالي 33.9 مليار دولار من أمواله التي هُربت إلى الخارج، خلال الفترة ما بين عامي 1970 و2008.
ويتجه معظم هذه الأموال التي يهربها أثرياء المغرب نحو البنوك السويسرية، وفق ما أشارت له منظمة النزاهة المالية العالمية، إذ يكون تهريبها بغرض التهرب من دفع الضرائب، وتهريب السلع، والتغطية على نشاطات تجارة المخدرات، وكذا تأمينها بعيدًا عن التحقيقات في جرائم الفساد المالية.
ضعف الحكومة أمام تهريب الأموال
كان شعار عبد الإله بنكيران أول ما تقلد رئاسة الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة في 2012 هو «عفا الله عما سلف»، ناشدًا بذلك أن يتشجع أثرياء المملكة الذين دأبوا على تهريب الأموال نحو الخارج تجنبًا للضرائب والتحقيقات، ويعيدوا الأموال إلى الداخل، متعهدًا بألا يحاسبهم على ما مضى.
ومن أجل ذلك أقرت الحكومة «قانون العفو الضريبي» الذي يزيح عن المهربين عقوبات السجن والغرامة مقابل أداء واجبهم الضريبي وإعادتها إلى البنوك الداخلية، بهدف إنعاش الاقتصاد المغربي، وتصل غرامات جريمة تهريب الأموال بالقانون المغربي إلى أداء ستة أضعاف الأموال المهربة، بالإضافة إلى عقوبة الحبس ما بين شهر، وخمس سنوات.
مكنت إجراءات العفو من استعادة حوالي 2.85 مليار دولار من الأموال المهربة إلى الخارج خلال عام 2014، غير أنه رغم ذلك يبقى مبلغًا قليلاً بالمقارنة مع الـ41 مليار دولار المهربة فقط خلال العقد الماضي، إضافة إلى أن تهريب الأموال تواصل على قدم وساق في السنوات اللاحقة، وإلى اليوم، وكانت فضيحة تسريبات «بنما»، التي انفجرت منتصف العام الماضي، دليلًا على فشل الإجراءات الحكومية في معالجة هذا الملف.
وظهر واضحًا عجز السلطات المغربية عن كبح تهريب الأموال نحو الخارج، على الرغم من التسريبات المتتالية التي تفضح المهربين بالأسماء والأرقام، إذ كان بإمكان الحكومة استرجاع الأموال المهربة من البنوك السويسرية والبريطانية وغيرها من الملاذات الضريبية، كما فعلت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، والفرنسية، وغيرهما من الدول.
وفي هذا الصدد، دعت منظمة «جلوبل فاينانس إنتجريتي» المغرب إلى سد مجموعة من الثغرات التي يستغلها المهربون للأموال، مثل ضعف المراقبة الجمركية، إذ تُزوّر فواتير الصادرات والواردات، وتستفحل الرشوة في وسط الموظفين. كما يدعو الناشطون الحقوقيون إلى تفعيل دور مكتب الصرف والمجلس الأعلى للحسابات، للتحقيق في الجرائم المالية، دون استثناء الشخصيات النافذة.
وكانت السلطات المغربية قد أدخلت إجراءات جديدة إلى مكتب الصرف، بهدف محاربة تهريب الأموال، إلا أن المهربين يبتكرون طرقًا جديدة في كل مرة من أجل نقل الأموال نحو البنوك الخارجية بعيدًا عن أعين السلطات، خاصةً وأن المملكة لا تتوفر على القدرة التقنية والتخصصية اللازمة لملاحقة الجرائم المالية المعقدة، كما تفعل الحكومات الغربية.
تهريب الأموال يُضعف الاقتصاد المغربي
تكلف عمليات تهريب الأموال نحو الخارج، التي يقوم بها أثرياء المغرب، الدولة المغربية نتائج باهظة على مجموعة من المستويات.
فمن جهة أولى، يتكبد الاقتصاد خسائر فادحة، إذ تُحرم ميزانية الدولة من ضرائب تقدر سنويًّا بملايين الدولارات، إذ يتملص أغنياء البلد من أداء الضرائب المستحقة عليهم من خلال تهريب أموالهم الطائلة إلى ملاذات ضريبية آمنة، في الوقت الذي تحتاج فيه الدولة إلى كل درهم من الضريبة لتستطيع القيام بخدماتها العمومية نحو المواطنين. علاوة على أن بقاء تلك الأموال داخل البلد يمكنه أن يسهم في التنمية والاستثمار، الشيء الذي يعود بالنفع على جميع المواطنين.
ومن جهة ثانية، يستطيع لصوص المال العام، وجامعو الثروات بطرق غير شرعية التملص من الرقابة القضائية عن طريق تهريب الأموال الفاسدة خارج البلد، مثلما يلجأ تجار المخدرات وأعضاء الجريمة إلى غسل الأموال وتهريبها لتفادي أعين السلطات الأمنية، ومن ثمة تصبح عمليات تهريب الأموال منفذًا لتشجيع الجريمة والفساد داخل البلد.
ويبقى غياب الإرادة السياسية الحقيقية في المغرب، وفق مراقبين، أبرز عائق في محاربة تهريب الأموال نحو الخارج، على اعتبار أن المهربين هم أنفسهم النخب السياسية والمالية وكبار الموظفين في الدولة، لتكون الطبقات الشعبية الأكثر تضررًا من عمليات التهريب، بالنظر إلى أنهم الأحوج للشغل، وخدمات الدولة العمومية.