الحب أعزّك الله داء عياء وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقام مستلذ، وعلة مشتهاة، لا يود سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة. يزين للمرء ما كان يأنف منه، ويسّهل عليه ما كان يصعب عنده، حتى يحيل الطبائع المركبة والحيلة المخلوقة». الحب هو الداء والدواء عند ابن حزم، صاحب أول كتاب وصل إلينا في الحب وعنه، من العلماء المسلمين المتقدمين؛ كتابه هو ﻃﻮق اﻟﺤﻤﺎﻣﺔ في اﻷُﻟﻔﺔ واﻷُلَّاف.
وُلد ابن حزم في قرطبة بالأندلس في رمضان عام 384هـ، وكان أبوه عالمًًا ووزيرًا لأبي عامر المنصور محمد، وسُجن ابن حزم بعد قتل الخليفة أبي عامر، وتولى الوزارة في عهد الخليفة المعتمد بالله، ثم ترك الوزارة وأقبل على الثقافة وطلب العلم، ونقح ابن حزم مذهب ابن داوود الظاهري، واجتهد واتخذ لنفسه مذهبًا خاصًا أبطل فيه كل ما لا يستند إلى القرآن والحديث، ولم يأخذ إلا بظاهر لفظيهما. أما ابن الجوزي –صاحب كتاب ذمّ الهوى- فهو فقيه حنبلي، وواعظ، ومفسر، وأديب كذلك، ولد سنة 512هـ ببغداد. ويقول عنه الذهبي في سِير أعلام النبلاء: «كان ذا حظ عظيم وصيت بعيد في الوعظ، يحضر مجالس الملوك والوزراء وبعض الخلفاء والأئمة والكبراء».
الحب في طوق الحمامة
طوق الحمامة هو أقدم الكتب العربية الإسلامية التي يدور موضوعها حول الحب، ويقول ابن حزم إن سبب تأليفه لهذا الكتاب هو أن أحد فقهاء عصره، أو أحد معارفه طلب منه أن يضع رسالة في الحب، ومعانيه، وأسبابه، وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة.
ويبدو أن الكتابة في الحب لم تكن شيئًا يستسيغه الفقهاء عامة، ويظهر ذلك في غير موضع من كتاب ابن حزم في مقدمته، إذ يؤكد أنه لولا أن طلب هذا الصديق منه لما كتب في الحب شيئًا، إذ يرى موضوعه من التكلّف، ومن الفقر، ومما لا يرجو منه شيئًا في آخرته.
كما أنه في موضع آخر ينبّه إلى أن الشعر الذي يقوله في هذا الكتاب على لسانه لا يعبّر عن ذاته بأي حال، فيقول: «وسأورد في رسالتي هذه أشعارًا قلتُها فيما شاهدتُه، فلا تنكر أنت ومن رآها عليّ أني سالك فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهب المتحلّين بقول الشعر»، رغم أنه يظهر في ثنايا الكتاب بعض ما عاناه ابن حزم نفسه من الحب، فقد ذكر في أحد أبواب الكتاب، باب البين، ما عاناه من ألم بعد فراق جاريته نعم: «وعني أخبرك أني أحد من دهي بهذه الفادحة وتعجّلت له هذه المصيبة، وذلك أني كنت أشدّ الناس كلفًا وأعظمهم حبًّا لجارية لي كانت فيما خلا اسمها نعم، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتني بها الأقدار واخترمتها الليالي ومرّ النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار».
وقد سعى ابن حزم في كتابه في وصف الحب كما يراه هو في مجتمعه ومن حوله، لا نقلًا عن أخبار العرب والمتقدمين -أي أنه اقتصر على أخبار الحب في أهل زمانه وحدهم، وكذلك أهله هو حيث الأندلس- وأشار إلى أنه سيتبع أسلوب الكناية في الحكي عن الأسماء التي لا يمكنه ذكرها.
وقسم ابن حزم كتابه إلى ثلاثين بابًا أولها في أصول الحب العشرة، بدأت بباب تعريف ماهية الحب، وباب عن علاماته، ثم باب من أحب في النوم، ومن أحب من نظرة واحدة، ثم ذكر من لا تصح محبته إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول، والإشارة بالعين، ثم باب المراسلة، وباب السفير. ومنها في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر بابًا، منها باب الوصل، وباب الوفاء، وباب الغدر، وباب الموت، كما أفرد في الآفات الداخلة على الحب مثل باب العاذل والواشي، وباب البين.
واختتم كتابه ببابين هما باب في قبح المعصية، وباب في فضل التعفف، وبذلك يختتم الكتاب فقيهًا بعدما بدأه أديبًا وشاعرًا فيقول: «ليكون خاتمة إيرادنا وآخر كلامنا الحضّ على طاعة الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مفترض على كل مؤمن». وذكر فيه ما قد يُحدِث الحب من معصية لله وبُعد عنه، وحذّر من الزنا واللواط.
الشهوة عند الرجل والمرأة واحدة
يجدر بنا الإشارة إلى أن ابن حزم أقرّ في باب قبح المعصية بأن الرجل والمرأة في احتياج متساوٍ لقمع الشهوة على عكس الرأي الشائع في ذلك، إذ أورد حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: من وقاه الله شر اثنتين دخل الجنة، فسُئِل عن ذلك فقال: ما بين لحييه وما بين رجليه. وعلق قائلًا: «وإني لأسمع كثيًرا ممن يقول الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء. فأُطيل العجب من ذلك، وإن لي قولاً لا أحول عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء».
الخلفاء وقعوا في الحب!
يُثبت ابن حزم في أول حديثه عن الحب أنه لا دخل للإنسان فيه، إذ إن القلوب بيد الله تعالى، ولذلك فهو «ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة»، ودلّل على أنه ليس بمنكر ولا محظور بأن كثيرًا من الخلفاء والأئمة المهديين الراشدين وقعوا في الحب، وذكر من بينهم عبد الرحمن بن معاوية في الأندلس وحبّه لدعجاء، والحكم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم الذي كان شغوفًا بطروب أم عبد الله ابنه. وذكر من الصالحين والفقهاء ما أثبت شعرهم وأخبارهم عن الحب مثل عبيد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة، وقول ابن العباس: «هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود».
وذكر أيضًا في باب آخر ما يُبيّن مذهبه في اعتبار الحب فطريًّا اضطراريًّا، لا يحدث عن عمد واختيار: «أما استحسان الحسن وتمكّن الحب فطبع لا يُؤمر به ولا يُنهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها، ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في فرق ما بين الخطأ والصواب، وأن يعتقد الصحيح باليقين، أما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة».
علة الحب عند ابن حزم
وأرجع ابن حزم حدوث الحب والتآلف بين الأرواح لسبب التقائها من قبل في مقرّ عالمها العلوي، وأن علّته من الله، لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا»، ويعلّق ابن حزم على الآية: «فجعل علّة السكون أنها منه، ولو كان علّة الحب حُسن الصورة الجسدية لوجب ألّا يستحسن النقص من الصورة».
ثم أفرد أنواع المحبة ابتداءً بأفضلها، وهي محبّة المتحابين في الله، ثم محبّة القرابة، ومحبّة الأُلفة والاشتراك في المطال، حتى وصل إلى محبّة العشق التي لا علّة لها إلا ما علّله قبلًا من أنها اتصال النفوس والأرواح، وهي المحبّة الوحيدة التي لا فناء لها إلا الموت، بعكس الأنواع الأخرى التي تنتهي بانتهاء عللها.
وقد أبان ابن حزم عن رأي وتجربة موقفه تجاه بعض قضايا الحب، منها مثلًا جدلية سؤال: هل يجمع القلب حبًّا لاثنين متغايرين معًا؟ فيرى ابن حزم أن الحب لا يكون إلا لواحد، وأن ما يقع من استحسان غيره إنما هو من قبيل الشهوة، فيقول: «وأما نفس المحب فما في الميل به فضل يصرفه من أسباب دينه ودنياه، فكيف بالاشتغال بحب ثانٍ؟».
كما رد ابن حزم على من يقول بأن دوام الوصل يودي بالحب، بأن العكس هو الصحيح، فإن المحب لا يملّ لقاء محبوبه أبدًا، وأن دوام الوصل لا يروي ظمأ المحب، بل إنه كلما زاد وصلًا زاد اتصالًا، ويتحدث عن تجربته في ذلك فيقول: «وعنّي أخبرك أني ما رُويت قط من ماء الوصل، ولا زادني إلا ظمأً».
الحب عند ابن الجوزي
ونبدأ من حيث انتهينا مع ابن حزم، لنجد أن ابن الجوزي يتخذ موقفًا عدائيًّا من الحب، ويظهر مرماه في عنوان كتابه، فذمّ الهوى هو غاية ابن الجوزي من كتابه، إذ يقول عن سبب تأليفه: «شكا إليّ بعض من أثرت شكواه إثارة همتي في جمع هذا الكتاب من بلاء ابتُلي به، وهوى هوى به، وسألني المبالغة في وصف دواء دائه».
يرى ابن الجوزي أن ذمّ الهوى لا يمكن أن يكون على الإطلاق، لأن الله خلق الهوى في الإنسان لضرورة بقائه، فخلق فيه ميله للطعام والشراب والنكاح وكل ما يشتهيه، وإنما يذمّ المفرط في ذلك، ولكنه أطلق ذمّ الهوى لأن الغالب من موافق الهوى أنه لا يقف منه عند حد المنتفع.
ويظهر التباين بين الفقيهين في عدة أمور، أولهما الدافع وراء تأليف الكتاب، فمن طلب من ابن حزم ذلك، لم يكن يعاني من الحب ويطلب دواءً، مثلما فعل سائل ابن الجوزي، وعليه فقد اختلف مسلك الفقيهين، فانطلق الأول من أن الحب فطري، ولا دخل للإنسان به، وانتهى ببابين عن قبح المعصية وفضل التعفف، بينما ابتدأ ابن الجوزي بما انتهى منه ابن حزم بذمّ الهوى، والتحذير من الإفراط في الانسياق خلفه.
واتّسم تقسيم كتابه بالمحاذير التي يجب أن يراعيها المسلم من وجهة نظره، فبدأ بفضل العقل وما جاء فيه، وذمّ الهوى والشهوات، ثم ذكر مجاهدة النفس ومحاسبتها وتوبيخها، فمدح الصبر والحث عليه، وذكر إثم النظر وعقوبته، وذمّ الزنا، والتحذير من عمل قوم لوط، والحث على النكاح، وذمّ من خببّ امرأة على زوجها… إلخ.
علة الحب عند ابن الجوزي
ويتفق ابن الجوزي مع ابن حزم في أن سبب الحب هو مصادفة النفس لما يلائم طبعها، فتستحسنه وتميل إليه، وأكثر أسباب المصادفة النظر، ولا يكون ذلك باللمح بحسبه؛ بل بالتثّبت في النظر ومعاودته. وأن العشق لا يقع إلا لمجانس، ويقوى ويضعف على قدر المشاكلة. ويتفق كذلك مع ابن حزم في أن العشق يتأكّد بإدمان النظر وكثرة اللقاء، وإن لم ينفِ تمامًا فكرة الحب من النظرة الأولى مثلما نفاها ابن حزم، فيرى ابن الجوزي أن وقوع العشق لا يحدث بلمحة واحدة، وأنه إن حدث فإن علاجه يكون سهلاً «مثل حبة تلقى في الأرض فإذا لم يُلتفت إليها يبست، وإن سُقيت نبتت، فكذلك النظرة إذا أُلحقت بمثلها».
ويمكننا القول بأن الفقيهين اتفقا على أن حصول الحب مما لا دخل للإنسان فيه، وإنما هو مسؤول عما يصدر عنه من أفعال، وإن كان ابن حزم متلطفًا كثيرًا في كتابه فيما يخص هذا الأمر، فلم يذكر مسئولية الإنسان عن الحب إلا في بابيه الأخيرين، أما ابن الجوزي فجعل هذه المسؤولية محور كتابه، مؤكدًا أن على الإنسان أن يحارب هذا «الهوى»، وإن كان في طبعه، ومن ذلك نقله لقول الجنيد: «الإنسان لا يُعاب بما في طبعه إنما يُعاب إذا فعل بما في طبعه».
ابن الجوزي وذمّ العشق
بعدما عرض ابن الجوزي آراء من قالوا بمدح العشق وذمه، قال رأيه بأن العشق مذموم، فهو يشغل القلب عن معرفة ما خُلق له، ويلهيه عن ذكر الله ومعرفته والتقرب إليه، وبقدر ما ينال غرضه من المحرّم يكون قد خسر آخرته، وأنه كلما قرب من هواه بعد عن الله، وأن العشق وإن وقع في الحلال فإن زواله سريع، كما أن من ضرره في الدنيا أنه «يُورث الهم الدائم، والفكر اللازم، والوسواس، والأرق، وقلة المطعم، وكثرة السهر، فالرأي عاطل والقلب غائب عن تدبير مصلحته»، وهذا على الرغم من أنه ذكر في غير موضع أن النكاح خير علاج للمحبين، وأن الدعاء إلى الله بتقريب محبوبه إن كان جائزًا له ذلك شرعًا لكنه تعسر، ليعجّل الله له مراده منه.
وقد أورد ابن الجوزي علاجات لمن ابتُلي بالعشق، ومنها دوام البعد عن المحبوب فهو «يعمل في محو ما نُقش في القلب، كما أن مرور الزمان يمحو أثر المصيبة من القلب».