الفقهاء و القواميس والقرآن

خالد حسن في السبت ٣٠ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب ورواد ومشرفو موقع أهل القرآن السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد أثارت مقالة الأستاذ أحمد إبراهيم ( هل وجدت ما يسمى بالديانة الحنفية ) الكثير من التساؤلات والكثير من إعمال العقل إلى أن وصل الأمر إلى مسألة القواميس والمعاجم اللغوية ودورها في تغير ملامح الدين الإسلامي الحنيف .

التساؤل الآن , هل كانت القواميس والمعاجم اللغوية موجودة قبل القرآن الكريم أم بعده ؟
كيف تعامل القرآن الكريم مع الكلمات الغير عربية ؟
ما دور القواميس والمعاجم في فهم القرآن ؟
كيف يؤدي المنطق اللفظي والتركيز على البناء اللفظي لكلمات القرآن إلى القول بمحدودية النصوص ؟

إن النظر إلى (( النص )) من منظور كونه بالدرجة الأولى (( بناء )) من الألفاظ ينبغي (( بيانها )) لا بد أن يؤدي في النهاية إلى الإحساس بمحدودية النص القرآني حيال الزمن , وهذا ما حدث مع العلماء الذين نظروا إلى الآيات على أنها بناء لفظي فقط ويجب شرحها وبيان حركاتها هل هي منصوبة أو مجرورة , مما أدى إلى تفريغ القرآن من مقصده الرئيسي والحقيقي وهو هداية البشرية والتيسير على الناس هذا من جهة ومن جهة أخرى بدؤوا البحث عن مصادر تعويضية للتشريع بعدما ظنوا أن كلمات القرآن الكريم وألفاظه محدودة ومنتهية وأن القرآن الكريم نص جامد لا يتحرك مع الزمن , ولذلك بحثوا عن مصادر أخرى كالحديث والقياس والاجماع وغيره ليواري نقص القرآن وحاشا لله أن يكون كذلك .

 ويقول ابن القيم الجوزية مؤكدا على صحة ما نذهب إليه في كتابه ( إعلام الموقعين –ج1-ص333 ) ما نصه :
( إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث . وغلا بعض هؤلاء حتى قال : و لا بعشر معشارها . قالوا : فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص . واحتج هذا القائل بأن النصوص متناهية ومحدودة . وحوادث العباد غير متناهية , وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع ))
وهذا قول أحد متأخري الحنابلة الذين نصبوا أنفسهم ممثلين رسميين للتيار السلفي وهذه شهادة داخلية من اعتناق المذهب السلفي في مجمله لمقولة ثبات النص .

ويقول الآمدي في كتابه ( الإحكام في أصول الأحكام المجلد الثاني) (( وبه قال السلف من الصحابة والتابعين والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء والمتكلمين ))
ومن هنا نرى أن مدرسة الحديث تتبنى رأيا غريبا هو أن القرآن الكريم المعجز الموجه لجميع الأجيال على مر العصور هو عبارة عن كتاب جامد وغير قابل للاستمرار تنتهي كلماته عن التشريع وألفاظه محدودة .

لقد قام علماء اللغة في عصر التدوين بجمع اللغة العربية من أهل البادية ومن البدو المقيمين في الصحراء متجاهلين أهل الحضر وسكان المدن مما جعل اللغة العربية الموجودة بين أيدينا اليوم داخل القواميس هي تلك التي كانت موجودة داخل عقل ذلك الأعرابي الذي يعيش في خيمته وسط الصحراء لا يعرف شيئا عن التطور, مما جعل اللغة العربية لغة محدودة ذات طابع بدوي خشن ومما يدل على ذلك قلة أو ندرة المصطلحات الصناعية والطبية التي كانت متداولة في ذلك العصر داخل القواميس .

لقد قام الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170 هجري بتدوين اللغة العربية بين دفتي كتاب وذلك من خلال منهجه الرياضي في كتابه (( العين )) وهو :

(( حصر مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي , وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي )) فوصل بذلك إلى كل ما يمكن نظريا لهذا اللسان العربي أن ينطق به من الألفاظ فبلغت فيما يرويه البعض (( 12305412)) لفظا , ثم عرضها على اللسان العربي المستخدم بالفعل , فما كان منها أبقاه وسجله , وما لم يكن مستخدما أغفله ولم يسجله .

إن الأثر الذي تركته العملية التدوينية على اللغة العربية , حيث أعلنت بشكل رسمي , إغلاق الحدود بينها وبين حركة التطور في الزمن وأصبح المعجم الذي رسمه الخليل وثيقة رسمية مختومة بشعار عصر التدوين تأبى على المفاهيم والمصطلحات والاستعمالات اللاحقة أن تجد لها مكانا في قاموس العربية الرسمي . فقد كان الخليل الفراهيدي وغيره من اللغويون لا يعرضون الألفاظ النظرية إلا على لغة الأعراب في البادية ولم يكونوا يجمعونها من الحواضر والمدن بما في ذلك مكة والمدينة الأمر الذي يعلله ابن جني بقوله

(( إن علة ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخلل . ولو علم أن أهل المدن باقون على فصاحتهم لم يتعرض شيء من الفساد للغتهم لوجب الاخذ منهم كما يؤخذ من أهل الوبر ))

إن هذا الأمر كان لابد أن ينتج عنه جمود في اللغة عن ملاحقة التطور وقصورها عن مواجهة الواقع المتغير . ولما كان هذا الواقع المتغير جزءا من كينونة النص القرآني ذاته , كان لابد أن تقف اللغة ذات لحظة عن مواجهة النص .
وهذا ما لاحظه بعض الكتاب المعاصرين وهو يقيم العملية التي تم بها جمع اللغة العربية من قبائل البادية مصرحا :

(( النتيجة التي حصلت هي أن اللغة العربية التي جمعوها من الأعراب جاءت فقيرة جدا بالمقارنة مع النص القرآني , ذلك أنه بينما تبنى النص القرآني كلمات غير عربية فعربها , اعتبرت القواميس والمعاجم اللغوية الفصحى هذه الكلمات من الدخيل عليها فتعاملت معها بوصفها كذلك , إن اعتماد خشونة البداوة كمقياس , جعل اللغة العربية تفقد كثيرا من الكلمات والمفاهيم الجديدة الواردة في القرآن , والتي كانت رائجة في مجتمع مكة والمدينة , خاصة الكلمات الحضارية , فكانت اللغة العربية لغة المعاجم والنحو , أقل اتساعا وأقل مرونة من لغة القرآن الكريم , وبالتالي أقل تحضرا منه , وهذا ما جعل القرآن الكريم دائما يبقى أوسع وأخصب وجعل اللغة العربية التي رسمها عصر التدوين تبقى عاجزة عن استيعابه كامل الاستيعاب , لقد كان طبيعيا أن ينعكس هذا على فهم القرآن من طرف العرب أنفسهم , فكثير من الكلمات الواردة في هذا (( الكتاب المبين )) لا نجد لها معاني مضبوطة في هذه اللغة التي جمعت من الأعراب ))

يقول المفكر محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي ص 79

(( إن قاموس ( لسان العرب ) هو أضخم قاموس وأغنى قاموس في اللغة العربية , لا ينقل لنا على ضخامته أسماء الأشياء الطبيعية والصناعية ولا المفاهيم النظرية ولا أنواع المصطلحات التي عرفها عصره , القرن السابع والثامن للهجرة , وفي القاهرة أحد المراكز الحضارية الرئيسية في التاريخ الإسلامي , ذلك أن الثمانين ألف مادة لغوية التي يضمها هذا القاموس الضخم لا تخرج عن دائرة حياة ذلك الأعرابي الذي كان بطل عصر التدوين ))
وهكذا نرى كيف تغلغل البناء اللغوي الفقير إلى عقول العلماء والمفسرين فتعاملوا مع القرآن من خلال اللغة البدوية المحدودة على أنه بناء لغوي فقير يحتاج إلى مصادر أخرى تعينه على تفسير ما يريد
ونختم بمقولة للفقيه الجرمي أوردها الإمام الشاطبي في كتابه (( الموافقات )) :

(( أنا منذ ثلاثين سنة أفتي للناس في الفقه من كتاب سيبويه ))

اجمالي القراءات 13653