من التأسيس إلى نسف المئذنة: ماذا تعرف عن المسجد الأموي في حلب وعن رمزيته في الحرب؟

في الثلاثاء ٢٠ - ديسمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

شكَّل دخول الجيش السوري وحلفائه إلى المسجد الأموي الكبير في حلب ضربةً قاصمةً للمعارضة المسلحة في القسم الشرقي للمدينة، نظرًا للقيمة المهمة للمسجد، والتي يتداخل فيها الجانب المعنوي والروحي بالدلالات العسكرية والسياسية والميدانية المؤثرة في سير المعارك في حلب، وربما في الحرب السورية عامة.

نستعرض في هذا التقرير أهمية هذا المسجد التاريخية، ودوره المهم في تحديد مسارات معركة حلب التي اتفقت جميع الأطراف على دورها المفصلي في الحرب التي تقترب الآن من إتمام عامها السادس.

عودة إلى التاريخ.. متى أنشئ المسجد الأموي الكبير في حلب؟

 

 

 

 

يتفق المؤرخون على أن المسجد الأموي في حلب قد بُنِيَ في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك سنة 717م، لكنهم يختلفون في بعض الحيثيات والتفاصيل، أولها الموقع، الذي يرجح أنه يعود لمقبرة كاتدرائية سانتا هيلينا المشيدة خلال فترة الحكم الروماني، وثانيها صاحب الفكرة، فقد أشار المؤرخ المعماري كروزويل (اعتمادًا على كلام المؤرخ الحلبي ابن العديم) إلى أن سليمان كان يخطط لبناء مسجد تنافس روعته المعمارية نظيره في دمشق، والذي بناه الوليد بن عبد الملك شقيق سليمان، لكن بعض الكتابات الأخرى تشير إلى أن التشييد قد بدأ في عهد الوليد نفسه، سنة 715م، ولا علاقة للتنافس الأخوي بذلك، فيما يشير رأي ثالث إلى أن نواة بناء المسجد قد تمت على يد مسلمة شقيق سليمان والوليد، والذي شغل منصب حاكم جند قنسرين، وهذا بالنظر إلى أهمية تشييد مسجد في حلب، لكونها قاعدة أساسية في الصراع المستمر مع الإمبراطورية البيزنطية.

بالوصول إلى القرن الحادي عشر الميلادي، تأسست في حلب ومنبج والرقة وبعدهما طرابلس وبعلبك وصيدا الدولة المرداسية، على أنقاض الدولة الحمدانية، والتي قامت ببناء النافورة المقببة في باحة المسجد، ليتبعها الحكم السلجوقي، الذي شيد مئذنة في الركن الشمالي الغربي، يبلغ طولها 45 مترًا، وذلك على يد القاضي أبي الحسن محمد، الذي كلف المعماري حسن بن مفرج آل سرميني بالمشروع الذي استغرق 4 سنوات، بين عامي 1090م و1094م.

 

 

 

 

دمر حريقٌ كبير المسجد، فأعاد السلطان نور الدين زنكي ترميمه سنة 1159م، لكنه هدم على يد المغول سنة 1260م، ليدخل المماليك عدة إصلاحات وتعديلات عليه، وأضافوا أيضًا منحوتات كوفية، ونقوشًا جديدة على المئذنة. بقي المسجد على هذه الحال إلى غاية عام 2003، عندما قامت الدولة السورية بإطلاق مشروع لترميم صحن الجامع ومئذنته، وهو ما تمَّ بالفعل.

اقرأ أيضًا: ما بين التتار والروس.. إليك أبشع 5 مشاهد في «إبادة حلب»

ماذا عن هندسة الجامع الأموي وأهميته الحضارية الكبيرة؟

 

 

 

 

يتألف الجامع الأموي الكبير من أربعة أبواب، فالباب الشمالي يجاور المئذنة، والغربي يؤدي إلى شارع المسمارية، فيما ينفذ الشرقي إلى سوق المناديل، ويطل الجنوبي على سوق النحاسين. تحيط بصحن المسجد ثلاثة أروقة، وحرم في الجهة القبلية، فيما تم تبليط الصحن ببلاطٍ رخاميٍّ يعود للحقبة العثمانية، وكما أشرنا إلى ذلك، فإن المئذنة بنيت على مراحل، يبلغ طولها 45 مترًا حتى شرفة المؤذن، فيما يبلغ طول ضلعها المربع خمسة أمتار تقريبًا.

اكتسب المسجد الأموي الكبير في حلب أهميةً قصوى لا ترتبط فقط بتفرُّدِ طرازه المعماريّ وزخارفه ونقوشه، بل بشهادته على تعاقب الكثير من الفترات الحرجة والصعبة في تاريخ حلب والمنطقة، بالإضافة إلى الكنوز القيِّمة التي يحتوي عليها، بداية من الحرم الذي يضم سدة من الخشب المزخرف بألوانٍ مختلفة مع كتابة تشير إلى عصر بانيها «قره سنقر كافل حلب»، والمنبر الذي صنعه محمد بن علي الموصلي، ويعود إلى عصر الملك الناصر محمد، وهو من أجمل المنابر على الإطلاق، نظرًا لزخرفته بالرقش العربي الهندسي المركَّب من خشب الأبنوس والمنزل بالعاج والنحاس البراق، أما المحراب فقد بُنِيَ بالحجر المشقَّف بزخارف هندسية مشابهة لنظيرتها في الجامع الأموي في دمشق، وهو يعود إلى عصر السلطان قلاوون، أما الضريح النبوي الذي يقال بأنه يضم رفات النبي زكريا عليه السلام، فإنه يحتوي بالإضافة إلى جدرانه وقناديله الأثرية على مخطوطات قيمة، لعل أبرزها مصاحف قديمة كتبت بيد خطاطين سوريين قبل عدة قرون.

 

 

 

 

المسجد الأموي الكبير في معادلة الحرب السورية

 

 

 

 

كان من الطبيعي أن يتأثر المسجد الأموي الكبير بتطورات الحرب السورية التي لم تصل نيرانها إلى حلب، إلا في وقت متأخر من سنة 2012، فوقع صيف تلك السنة تحت سيطرة لواء التوحيد أحد أكبر فصائل المعارضة المسلحة آنذاك بقيادة عبد القادر صالح (الذي قتل في غارة جوية روسية قبل عام)، لتتعرض مكتبة الجامع الوقفية التاريخية لأضرارٍ جسيمة نجمت عن حرقها بفعل تصاعد حدة المعارك المستعرة، كما هو الشأن بالنسبة للحجارة الأثرية للمسجد، والتي دمرت أو أحرقت، وحصل ذلك بالضبط في أكتوبر (تشرين الأول) 2012، وبعد استعادة قوات الجيش السوري له، أصدر بشار الأسد مرسومًا بتكليف لجنة لإصلاح المسجد مع نهاية عام 2013.

بحلول مطلع 2013، عادت قوات المعارضة المسلحة لتسيطر على الجامع الأموي الكبير مرة أخرى، وتكرر اشتداد المعارك بنفس الطريقة، بفعل قرب مواقع الاشتباكات من بعضها البعض، لتنهار مئذنة المسجد الأثرية يوم 24 أبريل (نيسان) 2013، فتبادلت الأطراف المتنازعة الاتهامات حول المسؤولية عن نسف المئذنة التي يعود تاريخ تشييدها إلى قرونٍ طويلة، كما أسلفنا الذكر.

 

 

 

 

قالت وكالة سانا السورية الرسمية إنَّ عناصر من جبهة النصرة قامت بتفخيخ المئذنة وتفجيرها، متهمة إياها باستخدام قناطر المسجد ونوافذه الأثرية كمنافذ لقنص واستهداف الجنود السوريين في الأماكن القريبة، لدفعهم إلى الرد على مصادر النيران، والقول بأن الجيش يتعمد ضرب المساجد، وهو ما فطنت إليه قيادة القوات السورية الحكومية وتحاشته على حد تعبيرها.

من جهتها، تضاربت تعليقات فصائل المعارضة المسلحة حول حقيقة ما جرى، فقد قال ناشطوها في البداية إن قذيفة دبابة تابعة لقوات النظام تسببت في تدمير المئذنة، لكنهم عادوا وقالوا إن الجيش السوري قام بتفخيخ المسجد قبل انسحابه منه، وأنهم تمكنوا من تفكيك كل المفخخات باستثناء تلك المزروعة في المئذنة بسبب تمركزها في الجهة الشمالية من المسجد، وهي المطلة على دوار السبع بحرات الذي لا يبعد أكثر من 300 متر عن المسجد، حيث تتمركز قناصة النظام، فيما قال المرصد السوري المعارض إن المئذنة قد انهارت ربما من تلقاء نفسها بسبب المعارك السابقة.

يمكن القول إن هذه الاتهامات تستنسخ بشكلٍ حرفيّ ما جرى في مسجد وضريح خالد بن الوليد في مدينة حمص، عندما اتهمت قوات المعارضة المسلحة، الجيش السوري بقصف الضريح، وربطت الأمر بدلالاتٍ طائفية، في حين رد عدد من الخبراء العسكريين قائلين بأن الصور ومقاطع الفيديو تثبت حسب رأيهم، أن الدمار ناجم عن تفجير داخلي، وليس بقصفٍ خارجيّ.

بالعودة إلى المكتبة الوقفية التابعة للمسجد، مرّ تأسيسها بمرحلتين، من 1928 إلى 1953، حين جمعت إلى المكتبة الشرفية الشافعية مكتباتٌ أخرى، وأجزاء من كتب المدرسة المنصورية، وما تبقَّى من كتب المدرسة الإسماعيلية، وكتب جامع السكاكيني، مع تبرُّعات من وجهاء حلب آنذاك، من كتب ومخطوطات ولوحات، من أمثال محمد مرعي باشا الملاح حاكم حلب، ومحمد رضا معين الذي قدم للمكتبة مجموعة من اللوحات والخرائط النادرة، وعبد القادر الجابري مفتي حلب، قبل أن تتخذ شكلها الحالي الحديث سنة 2006 بعد اختيار المدينة عاصمة للثقافة الإسلامية.

اتهمت الحكومة السورية قوات المعارضة بسرقة مخطوطات المكتبة ونفائسها قبل إحراق مبانيها، وإلصاق التهمة بالجيش السوري على حد قولها، وتحدثت عن دلائل عن ظهور مجموعة كبيرة من هذه المخطوطات في تركيا، بالإضافة إلى المنبر المذكور أعلاه، والذي يعدُّ ثاني أقدم منبر بالعالم الإسلامي بعد منبر المسجد الأقصى، وظهر هو الآخر في تركيا، كما اتهمتها بسرقة ضرس الرسول محمد وشعراته من علبة داخل صندوق زجاجي مفرغ من الهواء كانت موضوعة بمقام صغير في الجامع، وجرى الحديث أيضًا عن تدنيس ضريح النبي زكريا والعبث برفاته، ولكن بالنهاية لا دليل ناجز في هذا الأمر.

 

 

 

 

هذا وقد تحول الجامع الأموي الكبير إلى نقطة ارتكاز ذات رمزية معنوية، أكثر منها عسكرية بالنسبة للمعارضة المسلحة، فتكرر ظهور عبد الله المحيسني القاضي الشرعي لجبهة النصرة في صحن المسجد لإلقاء خطاباته.

ودخل الجيش السوري وحلفاؤه إلى الجامع الأموي في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2016، وتحدثوا عن دمار ما يقارب 70% من الجامع، بعدما حولته قوات المعارضة قبل انسحابها إلى ما يشبه الثكنة العسكرية على حد وصفهم، لتطرح عدة علامات استفهام حول إعادة ترميم الجامع وإمكانية ذلك بالنظر إلى غموض مستقبل الحرب في سوريا بشكلٍ عام.

 

 

اجمالي القراءات 3263