الفصل الأول : المبادىء السبعة للشريعة الاسلامية
قلنا إن مبادىء الشريعة الاسلامية هى المساواة ، والديمقراطية المباشرة أو الحرية السياسية وحّكم الشعب ، وتحريم الاستبداد ، والحرية المطلقة فى الدين ، والعدل ، والسلام ، وحق الحياة ، والتخفيف والتيسير ورفع الحرج فى إصدار التشريعات. ونعرض لها بشىء من التفصيل .
المساواة : المبدأ الأول من مبادىء الشريعة الاسلامية
أولا : مبدأ المساواة بين البشر ينبع من عقيدة الاسلام ( لا اله ألا الله ):(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)(3)( فاطر )
1 ـ لا جدال بين طوائف المؤمنين فى أن الله جل وعلا هو وحده خالق هذا الكون بمن فيه وما فيه ، وبالتالى فهو جل وعلا وحده الاله الذى لا شريك له فى مُلكه وسيطرته ، أو بإيجاز رائع يقول جل وعلا (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ )(54)(الأعراف). فلأنه جل وعلا هو خالق كل شىء (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(62)(الزمر ) فهو وحده الذى لا اله إلا هو: (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ )(62)( غافر )(ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(102)(الانعام )( قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)(الرعد) .
2 ـ هذه حقائق معروفة ، أتينا بها هنا لأنه يترتب عليها أنه لا يجوز لمخلوق من البشر أن يضع نفسه فوق بقية المخلوقات البشرية ، وبالتالى فلا بد أن تتفرع ( المساواة ) بين البشر من حقيقة أنه ( لا اله إلا الله ) .
ثانيا : المساواة المطلقة بين البشر والأنبياء فى الخلق والموت والمسئولية والحساب :
1 ـ من الخطأ القول بأن الأنبياء والمرسلين هم ( أفضل البشر ) وبالتالى لا يتساوون مع البشر . صحيح أن الله جل وعلا يصطفى ويختار من هم الأكثر إستعدادا لتحمل مسئولية الرسالة ولكن وحى الرسالة السماوية يؤكّد على مساواتهم مع البشر فى الخلق والموت والمسئولية والحساب .
2 ـ فهم أنفس بشرية يسرى عليهم ما يسرى على بقية ألأنفس البشرية فى الخلق والتعرض لاحتمالات الفجور والتقوى :(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) الفجر )،وهم ضمن الأنفس البشرية المُطالبين بالتقوى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) (1)النساء )وقال جل وعلا للنبى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ )(1)( الأحزاب). ثم يوم القيامة هم ضمن الأنفس البشرية حيث ستأتى كل نفس يوم الحساب تدافع وتجادل عن نفسها ثم تلقى جزاء عملها : ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)النحل ).
3 ـ أكثر من هذا فإن الحساب يوم القيامة سيكون فرديا يشمل كل البشر فردا فردا ، لافارق بين نبى مُرسل وعربيد مجرم:(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95)( مريم ). وهنا منتهى المساواة. وهى مساواة مرتبطة بالعدل المطلق يوم القيامة ، حيث وزن الأعمال بالقسط : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)( الأنبياء ).
4 ـ بل ربما تكون مسئولية الأنبياء والمرسلين أثقل من الفرد العادى ، ومن هنا يقول جل وعلا عن المساءلة يوم القيامة :( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)(الاعراف)، أى وضع كل البشر فى كفة ، ووضع مقابلهم الرسل فى الكفة الأخرى فى إشارة الى مسئوليتهم الكبرى أكبر من الأفراد العاديين من بقية البشر .
5 ـ وبالتالى فإن الوحى الذى ينزل على فرد من البشر ويصير به نبيا رسولا لا يرفعه فوق مستوى البشر ، بل يظل به بشرا مساويا للآخرين فى التكاليف الشرعية ، بل ويزيد عنهم فى تحمل المسئولية .
ثالثا : المساواة بين خاتم النبيين وقومه فى الخلق والموت والمسئولية والحساب
1 ـ يؤمن الاخوان والسلفيون ومعظم المسلمين بأفضلية النبى محمد على بقية الأنبياء عليهم جميعا السلام ، ويرفعونه الى مستوى التقديس والتأليه بمزاعم الشفاعة والعصمة ، وقد أثبتنا تعارض ذلك مع الاسلام فى كتاب ( الأنبياء فى القرآن الكريم ) وأربعة كتب أخرى كنا قد قررناها على الطلبة فى جامعة الأزهر عام 1985،وتسبب هذا فى محنة استمرت عامين من المحاكمات ،وانتهت بتركى الأزهر ثم بالسجن عام 1987 . ومن هذا الافتراء العقيدى بتأليه النبى محمد عليه السلام ينبع عدم إيمانهم بالمساواة بين البشر ، ويشعر أئمة السنيين والاخوان والسلفيين بأنهم ( أعلى مرتبة ) من بقية الناس . وهناك فى القرآن الكريم أكثر من 150 آية تنفى شفاعة النبى وشفاعة البشر ، و150 آية تنفى عصمته البشرية ، وتجعلها بالوحى ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي )(50) ( سبأ )، وكان ينزل الوحى يؤنبه ويعاتبه ويصحّح له . وهناك أكثر من 30 آية تنفى القول بأنه أفضل الأنبياء وأنه سيد المرسلين أو أشرف المرسلين . وأن مرجع ذلك لرب العزة يوم الدين . لا مجال هنا للتفصيل ، ولكنها إشارة الى التناقض بين عقائد الاخوان والسلفيين السنيين وعقيدة ( لا اله إلا الله ) الاسلامية ، ومنها يتفرع الخلاف حول المساواة بين البشر ، فبينما يؤكد عليها رب العزة فى القرآن فإنها مرفوضة لدى السلفيين والاخوان.
2 ـ كان الرسول محمد عليه السلام مأمورا أن يعلن لقومه أنه بشر مثلهم ولكن يُوحى اليه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)( الكهف ).وعادة المشركين أن يتخيلوا أن يكون الرسول فوق مستوى البشر، لذا كانوا يسخرون من النبى محمد عليه السلام لأنه شخص من البشر مثلهم ( الأنبياء 36 )( الفرقان 41 ، 7 : 8 ). ولو بعث الله جل وعلا محمدا عليه السلام من قبره وجاء للقاهرة يعظ بالقرآن لاتهمه الأزهر والسلفيون والاخوان بإزدراء الأديان ، فطبيعة الذهنية المّشركة تأبى أن يكون الرسول بشرا ، على الأقل يطلبون أن يكون من الملائكة ، ولهذا تعجب العرب من أن يكون النبى محمد رجلا منهم ومساويا لهم فقال جل وعلا:( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ )(2) ( يونس ). ويؤكد رب العزة على أنه بعث فى العرب الأميين رسولا منهم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ) (2) ( الجمعة ). ( منهم ) تكررت فى الآيتين بمعنى المساواة ، فهو رجل منهم ومثلهم ،وهو عربى (أمّى ) منهم ومثلهم .
3 ـ وكونه نبيا مرسلا لا يعطيه أفضلية يوم الدين ، بل هو مُساءل كبقية أصحابه . كان مستكبرو قريش يتأفّفون ويستنكف من المساواة بالفقراء المستضعفين المؤمنين، ويرفضون الجلوس مع النبى لأن الفقراء المؤمنين يجتمعون بالنبى . وحرصا من النبى على التقرب لأولئك الملأ المستكبر قام بطرد أصحابه الفقراء فجاءه التأنيب والتهديد من رب العزة يقول له: ( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52)(الانعام). يهمنا هنا قوله جل وعلا له عن أصحابه الفقراء الذين طردهم (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ )، أى لن يحمل عنهم شيئا من حسابهم يوم القيامة ، وهم لن يحملوا عنه شيئا من حسابه يوم القيامة . وهنا أروع صورة للمساواة بين النبى والفقراء من أصحابه . وإذا كان أصحاب النبى لن يغنوا عنه شيئا يوم الحساب فإن خصومه أيضا لن ينفعوه يوم الحساب إذا أطاعهم ، وقد جاء له الأمر باتباع شريعة القرآن والنهى عن إتباع شريعة أصحاب الهوى الذين لا يعلمون لأنهم لن يغنوا عنه من الله جل وعلا شيئا يوم القيامة : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً )(19)الجاثية ). ومن أسف أن شريعة أصحاب الهوى ما لبث أن عادت بعد موته عليه السلام ، وتمت كتابتها بأثر رجعى فى العصر العباسى عبر أحاديث مزورة منسوبة للنبى بعد موته بقرنين وأكثر ..وهى أساس دين الاخوان والسلفيين .
4 ـ ويقول جل وعلا له عليه السلام عن القرآن: ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)( الزخرف ). هنا المسئولية والمساءلة بالتساوى بينه وبين قومه . كلا ، بل تأكيد المسئولية عليه أكثر لأنه فرد واحد فى كفة ، وقومه كلهم فى كفة أخرى . وعن موته هو وأعداؤه وخصومته معهم يوم القيامة يقول جل وعلا فى خطاب مباشر للنبى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)( الزمر)، قال له جل وعلا فى مكة حين كان حيا يؤكّد له أنه سيموت:( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) وقال عن خصومه ( وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) أى نفس المساواة فى استحقاق الموت للجميع على قدم المساواة ،والذى يعنى للجميع تحلل الجسد وتحوله الى جيفة ثم الى رماد ، لا فارق بين جسد النبى محمد و جسد أبى جهل . ثم سيتخاصم النبى محمد مع أولئك الاعداء وسيتخاصمون معه يوم الحساب على قدم المساواة حيث ستأتى كل نفس تجادل عن نفسها (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) أى مساواة أيضا فى التخاصم بعد المساواة فى معنى الموت. وأيضا نقول إن المسئولية على النبى أشد لأنه شخص يوضع فى كفّة مقابل مئات بل ألاف الخصوم فى الكفة الأخرى ..
5 ـ المستفاد مما سبق أن المساواة بين البشر تنبع من عقيدة أنه لا اله إلا الله ، وأن هذه المساواة تشمل صفوة البشر ، وهم الأنبياء الذين قال عنهم رب العزّة : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(124)( الأنعام ). وهى مساواة فى الخلق وفى العبودية للواحد القهّار، وفى التكاليف الشرعية وفى الحساب يوم القيامة . وبذلك يكون مبدأ المساواة أول مبدأ للشريعة الاسلامية ينبع من عقيدة الاسلام ( لا اله إلا الله ).
رابعا : بين المساواة وتكافؤ الفرص فى الدنيا والآخرة :
1 ـ وترتبط المساواة بتكافؤ الفرص ، يقول جل وعلا :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(13)الحجرات). فكلنا أبناء آدم وحواء متساوون من حيث النسب لأب واحد وأم واحدة، وقد جعلنا الله الخالق جل وعلا مختلفين من حيث العنصر واللون والثقافة لكى نتعارف لا لكى نتحارب . وجعلنا متساوين أيضا فى إختيار الطاعة أوالمعصية ، ومع هذه المساواة فلا يمكن أن يتساوى العاصى المجرم بالمتقى المؤمن ، وهذا ما سيحدده الله جل وعلا وحده وهو العليم الخبير يوم القيامة ، فالأكرم بيننا هو من سيكون يوم القيامة متقيا حسب عمله وإيمانه .
2 ـ وتبعا للمساواة فى التكاليف الشرعية والمساءلة عنها يأتى الجزاء لكل فرد طبقا للعمل، فمن يعمل صالحا فلنفسه ، ومن يعمل شرا فعلى نفسه:( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) فصلت) ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) الشورى ).
3 ـ وطبقا لتكافؤ الفرص فلا يمكن أن يتساوى الصالح بالمجرم :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) القلم )( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)( ص )( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) الجاثية ).(لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ (20)( الحشر).
4 ـ وحتى بين المؤمنين فهناك تفاوت حسب العمل ، كالانفاق فى سبيل الله: ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)( الحديد )، وفى القتال الدفاعى فلا يستوى القاعد بالمقاتل : (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)( النساء )
خامسا : بين المساواة والعدل فى تشريعات المرأة
1 ـ تتجلى المساواة بين الرجل والمرأة فى صور شتى : فكلمة ( الزوج ) فى القرآن يدل بمنتهى المساواة عن الرجل و المرأة ، و السياق هو الذى يوضح المقصود منهما إلا إذا جاء فى الآية القرآنية والسياق ما يؤكد اقتصار الخطاب على الرجل أو المرأة . وكلمة ( الوالدين ) و( آباؤكم ) تدل على الرجل والمرأة معا على قدم المساواة . وتدخل المرأة فى الخطاب القرآنى فى كلمات مثل ( النفس ) ( الناس ) ( بنى آدم ) و ( الذين آمنوا ) فالقرآن مثلا فى الصيام والصلاة والزكاة والجهاد يأمر الذين آمنوا ، ومعروف أن الأمر يشمل الجنسين. والأعذار تأتى عامة للجنسين للمريض والمسافر والأعمى والأعرج .والمقصود هنا هو المساواة الكاملة من حيث التكليف الشرعى بين الرجل والمرأة .
2 ـ يقول جل وعلا عن إرتباط المساواة بتكافؤ الفرص للذكر والأنثى:( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)غافر)( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً)(124)(النساء )(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)( النحل ).
3 ـ وترتبط المساواة بالعدل . نفترض أنك دخلت مدرسة وقمت بتوزيع مبلغ علي التلاميذ كلهم بالمساواة المطلقة بين الغنى والفقير، هنا يكون الظلم مع المساواة . العدل يصاحب المساواة كما يصحبها تكافؤ الفرص ، فالزوج يدفع المهر ويقوم بمسئولية رعاية زوجته وبالتالى تكون له القوامة عليها مع ارتباط القوامة بأن يعاشرها بالمعروف حتى لو كان يكرهها ( النساء 34 ، 19). بدون ذلك لا تكون له قوامة. وللمرأة أن تشترط أن تكون العصمة بيدها ، أو أن تكون لها القوامة ، فالزواج عقد بالتراضى ، ولا بد من الوفاء بالعقود ( المائدة 1 ). وكما للرجل حق الطلاق فللمرأة حق ( الخُلع ) أو الافتداء (البقرة 229 ) . وللذكر ضعف الانثى فى الميراث فيما يخص الأبناء والاخوة فقط ، لأن الانثى ليست مُطالبة بمهر أو نفقة ، ولكن تتساوى الأم مع الأب فى التركة (النساء 7 : 12 ) ثم هناك الوصية قبل التركة للوالدين والأقربين من الورثة وغير الورثة لاقرار العدل ( البقرة 180 ). أما عن الشهادة الشفهية للمرأة فى الأسواق وكونها نصف شهادة الرجل فهذا أمر تشريعى يخضع لمقصد تشريعى أعلى وهو ضمان الدّقة فى الشهادة( البقرة 282 ). فإذا تحققت الدقة بدون ذلك فلا داعى لهذا الأمر التشريعى .
4 ـ وفى النهاية فإن كل الأوامر التشريعية فى القرآن يخضع تنفيذها للمبادىء والمقاصد التشريعية الكبرى وهى العدل ومنع الظلم ، والتيسير والتخفيف . وكل مبادىء الشريعة الاسلامية مترابطة ومتداخلة.
المبدأ الثانى من مبادىء الشريعة الاسلامية:( حُكم الشعب بالديمقراطية المباشرة وتحريم الاستبداد)
أولا : الاسلام ضد العلو فى الارض ، اى ضد الاستبداد
المساواة تتناقض مع (العلو فى الأرض ) :
قلنا إن المساواة هى المبدأ الأول من مبادىء الشريعة الاسلامية ، وتنبع من عقيدة الاسلام ( لا اله إلا الله ). تطبيق المساواة سياسيا يعنى أن كل الناس تتساوى رءوسهم فى موضوع الحكم بحيث لا يعلو فرد على الجميع يحكمهم ويستبد بأمورهم ، يقتل ويسلب ويغتصب ويظلم .
العلو فى الأرض قرين الفساد ( الايدولوجى والسلوكى )
هنا يكون هذا ( العلو السياسى ) او الاستبداد بمفهوم عصرنا مقترنا بالفساد الايدلوجى والفساد الخُلقى .وهذا الفساد يصاحب قيام الدولة وتوطيدها . فلكى يُسوّغ هذا ( العلوّ ) على الناس لا بد له من ايدلوجية تبرّره، وقدتكون أيدلوجية علمانية تتمسّح بالوطن أو القومية أو حقوق الفقراء والعدل الاجتماعى ، وقد تكون أيدلوجية دينية ، وهى الأخطر حيث يزعم كذبا أنه المُختار من الله جل وعلا ليحكم الناس . وبالايدلوجية العلمانية تأسست الدول القومية والوطنية فى اوربا ، والفاشيستية فى ايطاليا والنازية فى ألمانيا والنظم القومية العربية فى الدول العربية . وتأسست بالايدلوجية العلمانية النظم الشيوعية تحت زعم حقوق العمال . أما الايدلوجية الدينية فهى دائما تنبنى على أديان أرضية ( أو مذاهب تتمسّح بالدين السماوى ) كدولة الخلافة العباسية فى العصور الوسطى والدول الدينية الوهابية السنية فى السعودية والسودان وطالبان ونظام الاخوان . وأقام التشيع دولا فى العصور الوسطى كالدولة الفاطمية ، ثم حاليا الدولة الشيعية الايرانية . ولكى تستمر هذه الدول فى الحكم فلا بد من إتّباع سياسة القهر للخصوم تتهمهم بالخيانة للمستبد الذى يتقمص دور الوطن أو القومية ، أو تتهمهم بالكفر وإزدراء الدين ( الأرضى ) لأن الخصوم لا يؤمنون بهذا الحاكم المتأله المستبد الذى يمثّل الدين ورب العزّة بزعمهم . وتوطيد هذه الدول قد يجرّها فى حروب أهلية وحروب خارجية مع محاكم تفتيش وخراب إقتصادى ، بما يجعل الفساد هو العُملة السائدة فى تعامل المستبد داخليا وخارجيا . ويصل الفساد الى الحضيض بتأليه المستبد صراحة أو ضمنا . وهكذا كان فرعون موسى إمام كل الدول الدينية اللاحقة حتى عصرنا الراهن . ومن هنا يكون العلو فى الأرض مناقضا لعقيدة الاسلام ، وشريعة الاسلام .
( العلو ) لا يكون إلا لله تعالى فقط :
ولذا يقول المؤمن عن رب العزة " سبحانه وتعالى ". والله جل و(علا ) ينفى ما ينسبه له البشر من صفات بشرية ، لأنه جل و(علا ) يعلو ويسمو عليها ، يقول سبحانه و (تعالى ) : (وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام 100). فالعلو هو صفة الاهية لا يوصف بها إلا الخالق جل و(علا ) ، ولو فرضنا ـ جدلا ـ وجود آلهة مع الله لتنافسوا فى (العلو ) وتحاربوا ودمروا المخلوقات ، ولكن ليس للوجود سوى خالق واحد سبحانه وتعالى أن يكون له شريك ، واقرأ معنى هذا فى قوله جل و ( علا ) : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ )( المؤمنون 91 )(قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) ( الاسراء 42 ـ ).
( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ )(4) القصص )
فرعون (علا ) اى استعلى واستكبر ورفع نفسه فوق مستوى قومه ، وتلك أبرز خصائص المستبد ، فالأصل أن الناس سواسية ، تتساوى رءوسهم من حيث الحقوق والواجبات ، وهذا هو شرع الله جل وعلا القائم على العدل ، ولكن يدمر المستبد هذا العدل حين ( يعلو ) على قومه ، ويتميز عليهم . وهذه صفة الفرعون فى كل زمان ومكان . ولهذا يرفض الفرعون أى دعوة للهداية لأنها ستخفض قامته لتتساوى بغيره ، ولأنه سيفقد (رفعته ) و ( علوه ). دائما يكون الحق واضحا يستحوذ على تصديق كل إنسان ، حتى فرعون ، ولكن فرعون وآله وقومه وحاشيته ، مع ايمانهم بالحق فى قلوبهم فانهم يجحدونه بألسنتهم وأفعالهم ، حرصا على هذا ( العلو ) الممقوت ، لذا يقول رب العزة عن موقفهم من دعوة موسى عليه السلام : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) ( النمل 14 ).
العلو الفرعونى فى الأرض والتأليه
وبهذا ( العلو ) قابل فرعون المتعجرف المتأله موسى ودعوة موسى ، بل تطرف فى إدعاء العلو الى درجة الزعم بأنه (الرب الأعلى ) : وأعلن هذا فى مؤتمر حاشد جمع له قومه،أو (حزبه الوطنى ) ، يقول جل وعلا (فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) ( النازعات 23 : 24 ) ، أى لم يزعم مجرد الربوبية ، بل زعم أنه ( الرب الأعلى ) . أى إنه وضع نفسه أعلا من مكانة رب العزة جل و( علا ) ، لذا جاء فى نصح موسى لفرعون :( وَأَنْ لّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ) ( الدخان 19 ).
العلو الفرعونى والاسراف فى الارهاب
وبهذا الزعم بادعاء ( العلو ) أسرف فرعون وتطرف فى الاثم العقيدى وفى الاثم السلوكى أيضا بارهاب بنى اسرائيل بالتعذيب حتى يبتعدوا عن موسى الذى جاء لخلاصهم وتحريرهم من قمع فرعون وظلمه . وفعلا فبسبب الرعب من تعذيب فرعون وزبانيته ابتعد معظم قوم موسى عن موسى ، يقول جل وعلا :( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ) ويأتى التعليق الالهى يصف فرعون : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) ( يونس 83 ). وهنا يوصف فرعون بصفتين متلازمتين هما ( العلو والاسراف ). والاسراف هو المصطلح القرآنى لما نسميه فى ثقافتنا المعاصرة بالتطرف .وجاء وصف فرعون بالعلو والاسراف فى نفس سياق تطرفه فى تعذيب بنى اسرائيل فى قوله سبحانه وتعالى :(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ) ( الدخان 30 :31). ونلاحظ فى الآيات الكريمة السابقة ارتباط العلو والاسراف بارتكاب التعذيب للمستضعفين.فحتى يخضع الناس للعلو الفرعونى المزعوم لا بد لفرعون من ارهابهم بالتعذيب ، وكذلك اشتهر بالتعذيب فرعون موسى ، وسار على سنته كل فرعون بعده من خلافة عثمان الى رئاسة مبارك وصدام وغيرهم. والعجيب إن الذى يتصدى لهم ويدافع عن ضحاياهم هى منظمات حقوق الانسان الغربية التى تتمسك بالفضيلة الاسلامية (الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر ) . قارن بين تلك المنظمات النبيلة وبين ما يفعله خنازير الهيئة المسماة بالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فى الدين السّنى الوهابى ، الذين يرعبون المارة فى الطريق والآمنين فى بيوتهم ويتسلطون عليهم لارهاب الناس لصالح المستبدين المنحلين المترفين فى قصورهم . ويرتكبون هذا البغى باسم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. والعجب أن الفرعون المسرف هو الذى يتهم خصومه بالتطرف ، مع إنه الأشد تطرفا .
وقلنا إن مصطلح ( الاسراف ) فى القرآن الكريم يعنى التطرف فى ثقافتنا الراهنة . وقد تردد وصف فرعون بالاسراف ثلاث مرات فى سورة (غافر ) وحده ، يقول عنه (مؤمن آل فرعون )(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)،ويقول نفس الأمير الفرعونى المؤمن عن قومه فى معرض الدعوة:( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ )(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ )(غافر 28 ، 34 ، 43 ).ونلاحظ أيضا اقتران الاسراف بادمان الكذب (مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) و الارتياب والشك وسوء الظن (مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ).وكل فرعون هو مدمن للكذب ، ويمتلىء بسوء الظن والارتياب فى كل من حوله. فهو لأنه يخدع الناس يعتقد أن الآخرين يريدون خداعه والكذب عليه بمثل ما يكذب هو .
إرتباط الفرعونية بالفساد :
ولهذا كان وصف فرعون وقومه ونظامه بالفساد (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ )( القصص 4 ) ، وتكرر هذا فى رفضهم للحق ( النمل 14 ) ،(يونس 81 )وفى رفض توبة فرعون ( يونس 91 ) ومع تحذير اللاحقين من نهايتهم ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) الاعراف 103 )( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
الاخوان والسلفيون على سّنة فرعون الذى علا فى الأرض :
عقد فرعون موسى مؤتمرا أعلن فيه ملكيته لمصر وأنهارها وتندّر على موسى عليه السلام ، واستخفّ قومه فأطاعوه لأنهم كانوا مثله فاسقين ، وانتهى الأمر بإن أغرقهم الله جل وعلا جميعا ، وجعلهم الله جل وعلا سلفا ومثلا للأتين من بعدهم ( الزخرف 51 : 55 ) يقول جل وعلا :( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56) الزخرف ). وعلى سّنة فرعون أو ( دأب فرعون ) أو منهج فرعون أقام أساطين الديانات الأرضية دولا دينية تحت اسم الاسلام والمسيحية . والاخوان والسلفيون على سّنة فرعون يسيرون . ومن إعجاز القرآن الكريم أن كلمة ( السلف ) أتت مرة واحدة بهذا المعنى فى القرآن الكريم عمّن يسيرون على ( دأب فرعون )، هم سلف فرعون ، وسلف الخلفاء المتألهين فى العصور الوسطى .
ثانيا : الأصل العقيدى فى الاسلام لحُكم الشعب ( الديمقراطية المباشرة )
المؤمنون حقا لا ( يعلون فى الأرض )
ولأن الحاكم المستبد بالأمر هو من يعلو على الناس أى يتسيد عليهم فإن الديمقراطية المباشرة من جذور عقيدة الإسلام التى لا يعلو فيها إلا الله تعالى وحده ، والتى يكون فيها الحاكم خادما للناس وليس مستعليا عليهم ، والتى يكون فيها المتقون هم الذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا ، وذلك ما أشارت إليه نفس سورة القصص :(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ : القصص 83 ).وبهذه الآية الكريمة التى تصف المتقين المسلمين (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ : القصص 83 ) نعظ (الاخوان المسلمين ) إذا كانوا فعلا يريدون أن يكونوا مسلمين ، وأن يكون القرآن الكريم دستورهم والنبى محمدا عليه السلام زعيمهم وإمامهم .فخاتم المرسلين كان مأمورا بالشورى يستمد سلطته من الناس وليس من رب الناس ، مصداقا لقوله جل وعلا : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) ( آل عمران 159 )، أى من يستنكف عن الشورى ومن لا يؤمن بالمبدأ الاسلامى أن الأمة هى مصدر السلطات إنما يكون قد رفع نفسه فوق مقام النبى محمد عليه السلام. وفعلا فإن من ينكر أن الأمة هى مصدر السلطة يؤمن بالنقيض وهو أن المستبد الثيوقراطى يستمد سلطته من الله عز وجل ، أى يجعل ذلك المستبد ـ بالكذب والافتراء ـ الاها على الأرض يمارس سلطة الله تعالى على الناس، أى يجعل ذلك المستبد ( يعلو ) على الناس الى درجة أن يكون وحده المختار من بين الناس للتحكم فى الناس ولأن يتملك الناس وأموال الناس ومصائر الناس ، وهذا لا ينافى فقط العدل و القسط فى الاسلام ، ولا يناقض فقط قيمة الحرية فى الاسلام بل ينافى قبل كل شىء عقيدة الاسلام التى تقصر التأليه و التقديس على الله جل وعلا وحده ، بحيث لا يكون من حق أى فرد من البشر العلو فوق مستوى بقية البشر. وكل ذلك فى التأكيد على أن الشورى الاسلامية الحقة أو الديمقراطية المباشرة الكاملة جزء من عقيدة ( لا اله الا الله ) .ونعطى بعض التفاصيل.
الشورى أساس فى عقيدة الاسلام
1 ـ فالله جل وعلا وحده هو الذى لا يسأل عما يفعل ، وليس مسئولا أمام أحد من خلقه، وما عداه من مخلوقات هى تتعرض للمساءلة (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ )(الأنبياء 23). وعليه فالحاكم الذى يستنكف ان يسائله شعبه يكون مدعيا للألوهية كافرا بعقيدة الاسلام حيث رفع نفسه الى مستوى الله تعالى الذى لا يُسأل عما يفعل.
2 ـ ثم إن خاتم النبيين محمدا عليه وعليهم السلام قد أمره الله تعالى بأن يشاور الناس ، انه نبى يأتيه الوحى الالهى ومع ذلك فالوحى الالهى نفسه يأمره بالشورى ، وعليه فان أى حاكم مسلم يستنكف من ممارسة الشورى انما يرفع نفسه فوق مستوى خاتم النبيين ،ويدعى الألوهية، وهو بذلك يخرج عن الاسلام ويكفر به.
3 ـ القرآن الكريم ردد قصة فرعون موسى وجعله نموذجا لعقلية الحاكم المستبد الذى يصل به استبداده الى ادعاء الألوهية ويصل به فساده الى اهلاك نفسه ومملكته وجنده وقومه.وحين تتدبر القصص القرآنى عن ذلك الفرعون تجد كل ملامح العقلية الاستبدادية وانعكاسها على الملأ المحيط بالفرعون وترديدهم لما يحب أن يسمعه ، واكثر من ذلك تجد مستبدى عصرنا يرددون نفس التعبيرات ويعيشون نفس العقلية.
4 ـ وكما أن العدل أو القسط هو سبب انزال الكتب السماوية وارسال الأنبياء والرسل عليهم جميعا السلام ـ ( الحديد 25 ) فان الظالم هو خصم لدين الله تعالى وشرعه ، وعليه فالديمقراطية الاسلامية أو الشورى هى العدل السياسى فى الاسلام بينما يكون الظلم هو أساس الاستبداد المناقض للاسلام حين ينفرد شخص واحد أو أسرة أو حزب او قبيلة باحتكار السلطة والثروة دون بقية الشعب. كل ذلك يؤكد على ان الاستبداد قرين الكفر والظلم كما أن الديمقراطية الاسلامية لها جذور فى عقيدة التوحيد الاسلامية.
الشورى كالصلاة إحدى فرائض الاسلام الشرعية
الشورى فريضة اسلامية غائبة ، أقامها المسلمون فى عهد خاتم النبيين محمد عليه السلام ، ثم بدأ تجاهلها بعده بالتدريج ، الى إن تم نسيانها تماما وتحولت الى تعبير عن الاستبداد. ومن العجب ان الشورى الاسلامية كفريضة اسلامية جاء الأمر بها فى سورة مكية، اسمها الشورى،يقول جل وعلا ضمن صفات المجتمع المسلم والدولة الاسلامية:( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) الشورى) جاءت فريضة الشورى مقترنة بالصلاة وايتاء الصدقة ، لتؤكد أن فرضية الشورى مثل الصلاة ، فكما لا يصح الاستنابة فى الصلاة – اى لا يصح أن يصلى أحد عنك – فلا يصح أيضا أن ينوب عنك غيرك فى حضور مجالس الشورى - وهى جمعية عمومية فى كل قرية وحىّ تضم كل الناس ـ وبالتالى فالشورى الاسلامية هى الديمقراطية المباشرة وليست الديمقراطية النيابية والتمثيل النيابى ، أى أن الشورى الاسلامية تتفوق على أغلب الديمقراطيات الغربية النيابية . واذا كانت الصلاة فرضا عينيا على كل مسلم فى الصحة والمرض وفى الاقامة والسفر وحتى وقت الحرب فان فريضة الشورى كذلك يمارسها المسلم فى جماعة المسلمين أو المواطنين ، كما يمارسها فى بيته وعمله . من المهم هنا التأكيد على أن مصطلح المسلم هو كل مواطن مسالم بغض النظر عن عقيدته وايمانه .
نزلت فريضة الشورى فى مكة، وطبقها المسلمون فيها وقت أن كانوا أقلية مستضعفة ( الشورى – 38 -)، ثم بعدها فى المدينة كانت تؤدى علانية كفريضة اسلامية فى المسجد الذى يتحول الى مجلس عام أو جمعية عمومية تشمل كل افراد المسلمين رجالا ونساءا ،وحدث أن تخلف بعضهم فنزل القرآن يلومهم ويحذرهم من التغيب عن حضور هذه الفريضة ويتوعدهم بالعقاب اذا فعلوا.( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) النور ) وتردد فى أيات أخرى بعض ما كان يحدث فى مجالس الشورى. ( المجادلة 7 : 13).
اسس تطبيق فريضة الشورى الاسلامية
لا يمكن تطبيق الشورى الاسلامية بمعزل عن بقية القواعد الأساسية الأخرى للدولة الاسلامية ، ومنها:
1 ـ السلام :
فالاسلام فى معناه السلوكى هو السلام ، والمسلم سلوكيا هو من يسلم الناس من اعتدائه. وكل إنسان مسالم فهو مسلم بغض النظر عن عقيدته وايمانه. الاسلام فى معناه الاعتقادى هو التسليم القلبى و الطاعة لله تعالى ، وهذا ما سيحكم عليه رب العزة يوم القيامة ، وليس لأى بشر أن يتقمص دور الله تعالى فى هذه الناحية ، وإذا فعل فهو خارج عن الاسلام وعقيدته ومدع للألوهية. والشرك و الكفر فى المعنى الاعتقادى هو الاعتقاد فى غير الله تعالى أو تاليه غير الله تعالى. وذلك إعتداء على حق الله تعالى فى أن يكون وحده المعبود الذى لا اله سواه. و الشرك و الكفر فى معناه السلوكى هو الاعتداء على المسالمين بالقتل و القهر. أو هو الارهاب بمصطلح عصرنا. وبذلك فإن لنا ـ كبشر ـ أن نحدد المشرك أو الكافر حسب سلوكه العدوانى الارهابى ، دون تدخل فى عقيدته حيث أن مرجع الحكم فى العقائد لله جل وعلا يوم القيامة.
وفيما يخص موضوعنا عن الشورى فان كل المواطنين المسالمين الذين يعيشون فى إطار الدولة الاسلامية هم مجتمع الشورى فيها بغض النظرعن عقائدهم وطوائفهم، يستوى إن كانوا سنة أو شيعة أو يهودا او نصارى أو ملحدين أو مؤمنين. لا شأن لأحد بعقائدهم واختيارهم العقيدى فهم مسئولون عنه امام الله تعالى يوم القيامة. إنما الشأن فى سلوكهم السلمى فى المجتمع ، فإذا ارتكبوا جرائم على الأنفس و الممتلكات و حقوق الانسان عوقبوا بها ، وإذا كانوا ارهابيين يقتلون الآمنين المسالمين من الناس فهم خارجون عن الدولة و المجتمع ، وليسوا جزءا من نظام الشورى الاسلامية.
2 ـ الحرية المطلقة للعقيدة والفكر والتعبير عنهما .
وهنا تتحدد مهمة الدولة فى توفير الأمن الداخلى لكل افراد المجتمع ، وتوفير الأمن الخارجى للوطن ،و إقامة القسط بين الناس و توفير الحرية المطلقة للأفراد والجماعات فى العبادة والعقيدة والرأى والفكر. وهذا لا يعنى الاعتداء على الأشخاص وقذف المحصنات ، فلا بد من وضع حدود فاصلة بين هذا وذاك. وذلك مفهوم ومشروع. الهداية ليست مسئولية الدولة بل هى مسئولية فردية فمن اهتدى فانما يهتدى لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ، ولن تستطيع أن تهدى من أحببت ، ولكن الله تعالى هو الذى يهدى من يشاء أن يهتدى من البشر. وتلك علاقة بين الانسان وربه لا شأن للدولة الاسلامية بها.
3 ـ العدل و القسط :
المهمة الكبرى للدولةالاسلامية هى إقامة القسط ، فى التعامل بين الأفراد ـ و فيما بين الجماعات ، وفى علاقتها بالدول الأخرى فى المجتمع الدولى. لا بد من توفير العدل الاقتصادى بكفالة حقوق الفقراء والمساكين و السائل والمحروم واليتيم وابن السبيل ، ولا بد من توفير العدل السياسى بان يكون كل المواطنين شركاء فى الحكم السياسى ، أى يحكمون أنفسهم بانفسهم. الظلم فى توزيع الثروة يؤدى الى الظلم فى تقسيم السلطة وقيام حكم استبدادى. و حصر السلطة فى فئة يجعل تلك الفئة متحكمة فى الثروة. فالثروة و السلطة يبحث كل منهما عن الاخر. فلا بد من وجود عدل اجتماعى ليتأكد العدل السياسى أى الشورى الاسلامية.
وهكذا لا بد أن تتضافر كل القيم معا حتى يمكن إقامة الديمقراطية الاسلامية أو الشورى الاسلامية . لا يمكن إقامة الشورى الاسلامية بضياع العدل الاجتماعى وسوء توزيع الثروة،أو بمصادرة الحرية الفكرية والدينية ، أوبالتفرقة بين المواطنين على اساس المعتقد والدين أو الجنس واللون و الذكورة والأنوثة.
4 ـ الموازنة بين العدل و الحرية:
الديمقراطية – او الشورى بالمفهوم الاسلامى – هى التى تجمع فى داخلها المعادلة السحرية التى توازن بين الحرية والعدل. فالديمقراطية الاسلامية المباشرة تعنى العدل المطلق فيما نسميه حاليا بالمشاركة السياسية فالمجتمع هو صاحب الحق المطلق فى السلطة السياسية أو هو مصدر السلطات ، وحق المجتمع هنا يتقسم بالعدل المطلق على عدد أفراد المجتمع بالمساواة المطلقة. الحاكم هنا هو ولى الأمر أى صاحب الاختصاص فى عمله الذى يجيد القيام به وهو مسئول امام المجتمع ومجرد خادم يقوم بعمله المختص به ويعاونه آخرون يطيعونه فى اطار طاعة الله تعالى ورسوله أى طالما يؤدى عمله فى حدود القانون الذى يتم تطبيقه على الجميع بلا استثناء. الديمقراطية الاسلامية المباشرة تساوى بين الأفراد جميعا بغض النظر عن الغنى والفقر ، الذكر والانثى، الملة والاعتقاد ، العنصر ، اللغة الأصل ، العرق ، الطبقة واللون...الخ. فالديمقراطية المباشرة عدالة مطلقة.وهى أيضا تؤكد على حرية المعتقد المطلقة ؛ فكما أن للفرد حريته المطلقة فى الايمان بالله تعالى أو الكفر به والتنقل بين أى دين كيف شاء وترك الايمان متى أراد وهو مسئول أمام الله تعالى فقط يوم الدين عما اختار - له أيضا حقه المطلق فى حريته السياسية بمعنى التساوى التام بين كل المواطنين ، والعدل المطلق فى المواطنة . المساس بهذا المعيار يضيع العدل ويفتح الباب لاستئثار مجموعة بالسلطة ،ثم بالثروة، ويتسلل الاستبداد والفساد فى غيبة الأكثرية من الناس مما يؤدى الى تهميشهم ثم الى العصف بحقوقهم.
الأمة مصدر السلطات فى الشورى الاسلامية
1 ـ فى ديمقراطية الاسلام تجد الأمة هى مصدر السلطات وليس الحاكم . لقد جاء النبى محمد هاربا بحياته ودينه من اضطهاد قريش فأقام له مسلمو المدينة وغيرهم له دولة ، هى أول وآخر دولة اسلامية حقيقية . قال له ربه تعالى يخاطبه وهو الحاكم لتلك الدولة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) ) أى بسبب رحمة من الله تعالى جعلك لينا معهم ورحيما فى التعامل معهم.فماذا اذا لم يكن لينا هينا معهم ؟ تقول الآية الكريمة (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) فماذا اذا انفضوا من حوله ؟ سيفقد قوته، وسيفقد الحماية، وسيعانى الاضطهاد. اذن هو يستمد السلطة والقوة والنفوذ والدولة من اجتماعهم حوله ، أى أنهم مصدر السلطة له فى الدولة التى أقاموها له ، أى أنه لا يستمد سلطته من الله تعالى وأنما يستمدها من الشعب ، ولأنها سلطة الشعب فلا بد أن يستميل اصحاب السلطة اليه- أى الشعب - كى لا ينفضوا عنه . فماذا يفعل ؟ تقول الآية تضع التشريع السياسى للنبى الحاكم وكل حاكم ديمقراطى ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) ( آل عمران 159 ) أى يعفو عنهم اذا أساءوا اليه ، ويستغفر لهم اذا أذنبوا فى حقه، ويشاورهم فى الأمر – كل أمر – لأنهم أصحاب الأمر. الأمر بالشورى جاء هنا يأمر النبى بأن يشاورهم جميعا فى أى أمر مطروح بحثه – أى يشاوركل المواطنين رجالا ونساء ، أغنياء وفقراء دون تفرقة من أى نوع أو استثناء لأى نوع - وفق الديمقراطية المباشرة التى لا مجال فيها للتمثيل النيابى أو الديمقراطية غير المباشرة.
لاحظ هنا أن الحاكم المستبد الذى يسرق سلطة الشعب ويحتكرها لنفسه لا يحتاج الى أن يكون لينا هينا مع الناس بل يمارس ما بسمى بهيبة الدولة أو هيبة النظام التى تتجلى فى تسلط ضابط البوليس مع أفراد الشعب لارهاب الناس وارعابهم وتخويفهم حتى يسكتوا عن حقوقهم المسلوبة . ولذلك يقترن الاستبداد بالتعذيب بدءا من فرعون موسى الى عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان مع بداية الخروج على تعاليم الاسلام وديمقراطيته وشفافيته وعدله ، حيث بدأ التعذيب لارهاب المعارضة ، وتعرض للتعذيب بعض كبار الصحابة – بدرجات مختلفة – ومنهم عمار بن ياسر وابن مسعود وأبو ذر وأبوالدرداء. ثم أصبح التعذيب سنة متبعة ملازمة للظلم والفساد والاستبداد من العصر الأموى وحتى عصرنا السعيد . وعليه كان لزاما التعتيم على فريضة الشورى الاسلامية ومصادرتها لصالح الاستبداد.
ليس فى الدولة الاسلامية حاكم فرد لأن الشعب هو الحاكم
1ـ ان الخطاب التشريعى فى القرآن الكريم جاء يخاطب عموم المسلمين يقول لهم مثلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة 178 ، 190 ) (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)( النساء 58) .(انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( التوبة 41 ). وحتى مع وجود النبى بينهم فقد كان الخطاب يأتى مباشرة للمؤمنين فيما يجب أن يفعلوه باعتبارهم هم الحكام الذين يحكمون انفسهم بأنفسهم . يقول تعالى لهم عما يجب أن يفعلوه مع المنافقين المعارضين (سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (التوبة95 ) .لم يأت التشريع القرآنى للمسلمين يخاطب حاكما فردا على الاطلاق وانما جاء يخاطب عموم المؤمنين بأوامر تشريعية عقيدية وأخلاقية وسياسية وحربية، على اعتبار انهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم.
وهذا الخطاب للمؤمنين فى دولتهم الاسلامية الديمقراطية بتلك الأوامر يخالف رسالة النبى موسى عليه السلام التى كانت فى البداية موجهة الى شخص واحد هو الفرعون الذى كان يمثل كل المصريين ويتحدث باسمهم ، لذا توجه موسى وهارون ليس للمصريين ولكن لفرعون فقط لأنه كان يملك مصر وما عليها ومن عليها ، وعلى نسقه سار الخلفاء غير الراشدين فى العصور الوسطى ، وعلى سنتهم السيئة يسير الاخوان حاليا فى دعوتهم الى الحاكمية التى تعنى ان الخليفة يحكم باسم الله تعالى وأنه مصدر السلطة وليس مسئولا أمام الناس ، بل هو مسئول فقط أمام الله تعالى عن الرعية ، فهو الراعى والناس رعية له أو انعام يملكها ويستغلها فى الانتاج ويقتل منها ما يشاء ويستبقى من يشاء ولا معقب لقوله ولا راد لارادته، أى انه التأليه للحاكم الناطق باسم الله والذى يحكم باسمه ، لذا كانت الشورى الاسلامية جزءا من عقيدة الاسلام التى تقصر الألوهية على الله تعالى وحده دون شريك من ولى معبود أو حاكم متأله . ومن هنا أيضا توجه الخطاب القرآنى لعموم المؤمنين ولم يتوجه لشخص حاكم اذ ليس فى الدولةالاسلامية وديمقراطيتها المباشرة وجود لحاكم ، ولذلك مات خاتم النبيين عليه وعليهم السلام دون أن يعين بعده حاكما لأنه ببساطة لا وجود لحاكم فى الدولة الاسلامية بالمعنى المتعارف عليه فى النظم الجمهورية أو الملكية.
2 ـ جاءت مرة واحدة كلمة ( الحُكّام ) فى معرض الحّكم الفاسد المرتشى المنهى عنه : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) البقرة ) .ولكن القرآن الكريم لم يذكر مطلقا كلمة ( حاكم ) فى أى من تفصيلاته التشريعية. بل أن لفظ " يحكم " أو "حكم " جاءت بمعنى التقاضى بين الناس فى الدنيا ، وليس الحكم السياسى ، أى الحكم بين الناس وليس حكم الناس كقوله تعالى ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)( النساء58 )هذا فى التقاضى أو الحكم بين الناس فى الدنيا. أما التقاضى بين الناس أو الحكم بين الناس فى الآخرة فهو لله تعالى وحده يوم الحساب حين يحكم بين الناس فى خلافاتهم العقيدية (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )(الزمر 46}. باختصار ، فان افعل " حكم" لم يأت فى القرآن الكريم متعديا أى بمعنى الحكم السياسى أى " يحكم الناس أو يحكم الشعب "، ولكن جاء لازما يحتاج الى ظرف أو جار ومجروربمعنى " يحكم بين الناس" ويكون هنا بمعنى القضاء والتقاضى أى يقضى بين الناس، أو " يحكم ب " أى يحكم فى القضاء بشرع الله تعالى أو شرع غيره . وفى هذا المجال جاء قوله تعالى ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)( المائدة 44 ،45 ،47 } . الاخوان المسلمون والسلفيون يستشهدون بالآيات الكريمة السابقة فى مزاعمهم السياسية ضد الاستبداد المحلى العسكرى والحزبى ، مع أن هذه الآيات الكريمة تحكم عليهم هم بالكفر والفسوق والظلم . انها تنطبق عليهم هم قبل غيرهم لأنهم الدعاة لتطبيق شريعة الفقه السنى المناقضة لما أنزل الله تعالى فى الأصول العقيدية و التشريعية . وهذا ما أثبتناه فى أبحاث عديدة لنا تناولت التناقض بين الفقه السنى والقرآن فى المصطلحات والمقاصد التشريعية والقواعد التشريعية والأحكام والتفصيلات التشريعية. الأمثلة عديدة ، ليس فقط فى تقديس النبى محمد والصحابة والأئمة والأولياء والقبور المقدسة والأسفار والكتب المقدسة وما وجدنا عليه آباءنا ، بل أيضا انكار فريضة الديمقراطية وفرض الحاكمية الاستبدادية وفى استحلال الدماء التى حرمها الله تعالى. فى شريعتهم الشيطانية يوجبون قتل المخالف لهم فى الرأى بتهمة الردة ، ويوجبون رجم الزانى وقتل تارك الصلاة وقتل المخالف للسلطان بل جعلوا من حق الخليفة قتل ثلث الرعية لاصلاح الثلثين.
أولو الأمر ، ليسوا الحكام بل الخبراء
أولو الأمر –بالمصطلح القرآنى – هم أصحاب الشأن والاختصاص ، أى الخبراء فى الأمر المطروح مناقشته حيث يتعذر على جمهور المسلمين أن يتخصصوا فى كل شىء ، لذا فان طاعتهم واجبة فى حدود تخصصهم وفى اطار طاعة المولى جل وعلا والرسول اى القرآن أو الرسالة. وجاء مصطلح أولى الأمر بهذا المعنى مرتين فقط فى القرآن الكريم { النساء 59 ، 83 } جاء التراث العباسى ليجعل أولو الأمر هم الحكام ويجعل طاعتهم مطلقة حسب تأويلهم للقرآن وتحريفهم لمعناه.
وجدير بالذكر ان تشريعات القرآن لا تزيد عن مائتى آية معظمها فى حماية الأسرة والمرأة وحماية المجتمع ، وتترك مجالا واسعا للتشريع البشرى الذى يغطى كل احتياجات المجتمع فى اطار العرف أو المعروف أو ما يتعارف الناس عليه على أساس انه القيم العليا والفضائل أو ( مبادىء الشريعة الاسلامية ) بمفهومنا . وكل تشريع يقننه المجتمع فى اطار هذه القيم العليا يكون تشريعا اسلاميا ، كما أن أى دولة تقيم حقوق الانسان ومعالم العدل وحرية الفكر والعقيدة تكون دولة اسلامية.
المبدأ الثالث من مبادىء الشريعة الاسلامية : الحرية المطلقة فى الدين
أولا : يكفى الكافر ما ينتظره من عذاب خالد يوم الدين
1 ـ فى موقعنا أهل القرآن باب للفتاوى تحت عنوان ( فاسألوا أهل الذكر ) . وجاءنى هذا السؤال ، وهو مناسب لموضوعنا، أذكره وأرد عليه:( أرجو منك ..أن تفسر سورة الحاقة. أنا من اشد المتأثرين بأسلوب فهمك للقرآن الكريم وقد أصبحت أفهم الآيات الكريمة بطريقة مختلفة عن النمط الذي تعلمناه بالمدارس. أما السبب في طلبي فقد لفت انتباهي الطريقة الرهيبة التي سيُعذّب فيها الذي لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين. أن الله رؤوف رحيم وهذا العذاب الشديد لا يستطيع عقلي استيعابه من أرحم الراحمين. ).
2 ـ إن المقابل فى الحرية الدينية المطلقة هى النعيم الخالد المُطلق أو العذاب الخالد المُطلق .وفى حياتنا الدنيا ( النسبية ) نعاقب من يخرق القانون ونكافىء المجتهد على اساس أن الحرية تستلزم المسئولية ، وهو نفس ما قاله رب العزة فى مسئولية النفس البشرية الحُرّة على افعالها : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) ) ( النساء )
3 ـ وفى القرآن الكريم حوالى ألف آية تقرّر الحرية الدينية المطلقة للبشر ومسئولية كل فرد عن إختياره الدينى فى الايمان أو الكفر وفى الطاعة أو العصيان ، وأن مرجع الحكم فى الدين هو لله جل وعلا وحده فى (يوم الدين ). وهناك نفس العدد من الأيات تقريبا عن العذاب أو النعيم المترتب على هذه الحرية المطلقة التى منحها ربا العزة للبشر فى مجال الدين من إعتقاد وعبادات ودعوة .
4 ـ وأحيانا يأتى تقرير الحرية الدينية مقترنة بما يترتب عليها من عذاب أخروى هائل أو نعيم فى الجنة خالد ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ويتحمل مسئولية إختياره يوم القيامة بأن يكون فى الجحيم أو فى جنة نعيم : (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)( الكهف )
5 ـ وفى تحديد مسئولية النبى عليه السلام فى مجرد التبليغ والتذكير يأتى التنبيه والتأكيد بالعذاب الأكبر يوم القيامة لمن يمارس حريته فى الكفر وأن الله جل وعلا وحده هو الذى سيتولى حسابه وعذابه : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)( الغاشية )
6 ـ وبهذا فيوم القيامة فسنكون خصمين فى الدين ، خصم يؤمن بالله الواحد الذى لاشريك له ، والمستحق وحده بالتقديس ، وأنه وحده الولى والشفيع ومالك يوم الدين يعبده وحده ويقدسه وحده ويخشاه وحده ويتوسل به وحده ، وخصم آخر يجعل شركاء لله جل وعلا فى التقديس والعبادة ، يؤله البشر والقبور والحجر ، يقدس الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء ، ويضيف لهم الشفاعات يوم الدين ، ويجعلهم متحكمين فى مصائر البشر فى الدنيا ويوم الدين ، ويأخذ من التقديس الواجب لله جل وعلا وحده فيضيفه لهم . كل خصم يعتقد أن الحق الى جانبه، ولكن هذه الخصومة الدينية لا تُبيح لخصم فى هذه الدنيا أن يكون قاضيا على خصمه الآخر ، لأن العدل يقتضى أن يكون صاحب الشأن فى الفصل والحكم بينهما هو رب العزة الذى يقضى بحكمه على هذين الخصمين اللذين يختصمان فى ذاته ، وموعد هذه الخصومة هى يوم الدين ، وليس (يوم الدنيا ). وفى يوم الدين هذا وعن الحديث عن هاذين الخصمين يخبرنا رب العزة عن أصناف العذاب وأصناف النعيم المترتب على هذه الحرية الدينية المطلقة فى هذه الدنيا . يقول جل وعلا :( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) الحج )
7 ـ : لهذا فإنّ من يُلحد فى كتاب الله هو حُرُّ فيما يفعل ومسئول أيضا عما يفعل أمام الله جل وعلا يوم القيامة ، أى لا سلطان لأحد عليه فى هذه الدنيا ، لأنّ الله جل وعلا هو الذى سيتولى حسابه يوم القيامة،ويكفيه عقابه فى النار:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) ( فصلت )
8 ـ هوعذاب خالد وهائل ولا خروج منه ولا تخفيف فيه، لذا فإن الداعية للاسلام يجب أن يصفح عن خصومه فى الدين، فيكفيهم ما ينتظرهم من عذاب أليم:( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)الحجر)( وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) الزخرف)( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) الجاثية ).
9 ـ هذا فى الاسلام الحق . أما فى أديان المسلمين الأرضية وخصوصا دين السّنة الوهابى ففيه الإكراه فى الدين بتشريع يقول إفتراءا على خاتم المرسلين ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ..) وفيه قتل المرتد وقتل الزنديق ، وقد شرحنا ذلك فى كتاب ( حد الردة ) الصادر عام 1993 ، وهو منشور هنا ، وتأثر بها التشريع المصرى فى قوانين إزدراء الدين والحسبة. وفى كل الأحوال هى عقوبات تدافع عن الدين السّنى السائد وعن طموحات أربابه الدنيوية والسياسية ، والعادة أن تلك الأديان الأرضية تحتاج الى قوانين تعطيها حصانة تقيها شرّ النقاش ، بل وتفرضها على الناس لعجزها عن المواجهة الفكرية. ولهذا فإنهم يقيمون يوما للدين قبل يوم الدين ، ويغتصبون دور الرحمن فى الحكم بين عباده ، ويقيمون لخصومهم فى الدين والمذهب والفكر محاكم تفتيش بالتناقض مع الاسلام ، وفى حرب مُعلنة لرب العزة جل وعلا .
10 ـ وقد صدر لنا فى هذا الموضوع بحث ( حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين ) وكان مقدما للمنظمة المصرية لحقوق الانسان ، ثم أصدرته فى كتاب ضمن بحوث أخرى عام 1993 ، وهو منشور هنا . وصدر لنا أيضا كتاب ( حد الردة ) عام 1993 بعد إغتيال الراحل فرج فودة ، وهو منشور فى موقعنا ( أهل القرآن ) بالعربية والانجليزية . وقدمت بحثا للمفوضية الأمريكية العالمية للحرية الدينية بعنوان ( الحرية الدينية بين الاسلام والمتعصبين المسلمين ) وهو بالانجليزية ( Religious freedom between Islam and fanatic Muslims ). وقد تأكد فيه أن حرية الدين فى الاسلام بلا سقف أعلى ، بينما قام السنيون بتحويلها الى تعصب وإكراه فى الدين . ويقع هذا الكتاب فى حوالى 400 صفحة . وهو منشور للبيع على موقع الامازون :http://www.amazon.com/s/ref=nb_sb_noss?url=search-alias%3Daps&field-keywords=Religious+freedom+between+Islam+and+fanatic+Muslims
ثانيا : بعض تفاصيل عن الحرية المطلقة فى الدين الاسلامى
لا إكراه فى الدين:
1 ـ يكفى أن نقرا سورة الكافرون:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)) يعنى بصراحة نحن متناقضان مختلفان فى الدين أيها الكافرون ، ولكم دينكم ولنا ديننا . نتهمكم بالكفر ولكم انتم أن تتهمونا بالكفر. فنحن نكفر بما تؤمنون به من تقديس للبشر والحجر ، ولا نعبد البشر ولا الحجر ، وأنت تكفرون بما نؤمن به وهو الله جل وعلا الذى لا شريك معه .وانتم لا تؤمنون بالله إلا إذا كان معه شركاء (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) يوسف) ( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) غافر ) . إيمانك أنّك على الحق لا يعطيك الحق فى الاستعلاء على من تعتقد بكفره ، لأن الآخر يعتقد أيضا بكفرك ، وسورة الكافرون السابقة بدأت بأمر للنبى محمد نفسه عليه السلام بأن يقول هذا لكفار العرب:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )، وبقية الايات تنقسم بالسوية بينه وبينهم ، ولم تعطه أفضلية يستطيل بها عليهم مع أنه على الحق وهم بالباطل، النتيجة هى التعادل:( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ).
2 ـ ولقد تحمّس عليه السلام فوصل الى درجة من الاكراه فى الدين فنزل قوله جل وعلا يخاطبه بأنه جل وعلا لو شاء لخلق الناس بلا إرادة حرة وجعلهم كلهم مؤمنين ، ولكنه خلقهم أحرار المشيئة ، ولذا فلا يصح للنبى أن يُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين :( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) يونس ) . كان هذا فى مكة ، ثم نزل تشريعا فى المدينة يؤكّد أنه:( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (256)( البقرة )
تشريع القتال لمواجهة الاكراه فى الدين أو ( الفتنة )
1 ـ الفتنة فى الدين فى المصطلح القرآنى تأتى بمعنى الاضطهاد الدينى ، نفهم هذا من قوله جل وعلا عن قريش:( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا )(217)البقرة ) وعندما تكونت للنبى عليه السلام دولته الاسلامية نزل تشريع القتال الدفاعى أولا بالإذن بالقتال ، ومنه نفهم أن من أهدافه حصانة بيوت العبادة لكل الملل والنحل والأديان ، فالاية تقول (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج 4)الاية هنا تعطي حيثيات الاذن بالقتال لرد العدوان ،الاول ان اولئك المظلومين تعرضوا للقتل والقتال، والثاني انهم تعرضوا للطرد من بيوتهم ووطنهم لمجرد انهم يقولون ربنا الله ،ثم تؤكد الأية التالية انه لولا حق المظلوم في الدفاع عن نفسه لتهدمت بيوت العبادة للنصاري واليهود والمسلمين وغيرهم حيث يذكر العابدون فيها اسم الله كثيرا . والاهمية القصوي هنا في تأكيد القرآن علي حصانة بيوت العبادة لليهود والنصاري والمسلمين حيث ذكر الصوامع والبيع والصلوات ،أي كل ما يعتكف فيه الناس للعبادة من اديرة وكنائس وغيرها ثم جاء بالمساجد في النهاية وقال عن الجميع انهم يذكرون فيها اسم الله كثيرا ولم يقل طبقا لعقيدة الاسلام في الالوهية (يذكر فيها اسم الله وحده) حتي يجعل لكل بيوت العبادة لكل الملل والنحل حصانة ضدالاعتداء . والاهمية القصوى هنا ايضا ان تشريع الاذن بالقتال ليس فقط لرد الاعتداء وانما ايضا لتقرير حرية العبادة لكل انسان في بيت عبادته ،مهما كانت العقيدة والعبادة ،فلكل انسان فكرته عن الله وعقيدته في الله وهو يقيم بيوتا لعبادة الله و لابد ان تكون هذه البيوت واحة آمنة تتمتع هي ومن فيها بالامن والسلام .
2 ـ ثم نزلت تفصيلات التشريع فى قتال أولئك الذين يشنون حربا هجومية على الدولة الاسلامية: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)( البقرة )، ونزل فيها المقصد التشريعى للقتال وهو منع الفتنة فى الدين أو الاضطهاد الدينى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ )(193) البقرة )( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )(39)الانفال ). بمنع الاضطهاد الدينى وتقرير الحرية المطلقة فى الدين يكون الأفراد أحرارا فى مشيئتهم الدينية يعتقدون ما يشاءون ، ومرجعهم الى الله جل وعلا يوم الدين ليحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون . وهذا معنى أن يكون الدين لله ، أو أن يكون الدين كله لله وحده ، هو وحده صاحب التشريع فيه ، وهو وحده صاحب الحكم بين البشر فيه يوم الدين .
الهداية والضلالة مسئولية شخصية وليس مسئولية الدولة أو المجتمع :
1 ـ أى من أهتدى فلنفسه ومن ضل فعلى نفسه :( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108 ) ( يونس ) (مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (15) ( الاسراء )( وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ (92) ( النمل )( إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)( الزمر )( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)( الأنعام ). وبالتالى فإن وظيفة الدولة ليست هداية الناس للجنة ولكن تحقيق العدل وحماية الحرية الدينية لكل فرد فى هذه الدنيا حتى يكون مسئولا عنها يوم الدين .
2 ـ والعادة أن مشيئة الهداية أو الضلال ترتبط بالانسان إبتداءا . وتأتى مشيئة الله تؤكد ما شاءه الانسان لنفسه، إذا شاء الهداية وسعى اليها ، فتأتى له مشيئة الله جل وعلا فتهديه وتزيده هدى : ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً (76) مريم ) ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) محمد ) ، أما الذى ارتضى الضلال ورفض الهداية فقد زيّن له الشيطان سوء عمله فيريه سوء عمله حسنا ،يقول جل وعلا فى استحالة هداية هذا الصنف من البشر: ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (8)( فاطر ) أى إن الله جل وعلا ( يُضِلُّ ) من البشر ( مَنْ يَشَاءُ ) منهم الضلال ( وَيَهْدِي) من البشر ( مَنْ يَشَاءُ ) منهم الهداية. ولذلك فلا ينبغى للنبى ان يتحسّر على من زين له الشيطان الضلال فرآه حسنا: ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) .
كل الاختلافات الدينية مرجعها لله جل وعلا يوم القيامة
1 ـ يقول جل وعلا يخاطب البشر جميعا يضع لهم قوانين محددة فى المسئولية الشخصية والحرية الدينية وأنّ المرجعية له جل وعلا وحده للحكم على الناس يوم الدين:( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)(الزمر ). (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)( الأنعام ).
2 ـ وكما أنه جل وعلا وحده هو عالم الغيب والشهادة وهو وحده فاطر السماوات والأرض فإنه جل وعلا وحده له الحكم بين الناس فى إختلافاتهم الدينية : ( قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)( الزمر) ، وعليه فإن من يقيم محاكم تفتيش فى الدين إنّما يتقمص دور خالق السماوات والأرض بالإثم والعدوان . إنّ حساب الكافر عند ربه وليس فى محاكم تفتيش تفتش عن قلبه :( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)( المؤمنون )،
3 ، وعلى المؤمنين الاهتمام باصلاح أنفسهم من داخل الاسلام ، لا يضرهم من ضل طالما كانوا مهتدين، وفى النهاية سيحكم رب العزة يوم الدين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)( المائدة ).
4 ـ ويجب ترك التعصب الدينى ليحلّ محلّه التنافس بين الطوائف المختلفة فى عمل الخير ، وينتظروا أن يحكم بينهم ربهم جل وعلا فيما هم فيه مختلفون :( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)( المائدة )
الدولة الاسلامية تبيح حرية الكفر لمن يشاء
للكافر بالاسلام داخل دولة الاسلام أن يمارس دينه كيفما شاء شأنه شأن المؤمن، وبالمساواة المطلقة معه ، مع إنتظار المؤمن للحكم عليه وعليهم يوم القيامة ، فهذه كانت سُنة الرسول عليه السلام المأمور بها فى القرآن بكلمة ( قل ) : (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) ( الزمر )(قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) ( الأنعام )( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) (هود)(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122)( هود ).
لا مصادرة فى الرأى الدينى
والله تعالى لم يستنكف أن يسجل آراء الكافرين مع أن آراءهم لا تستحق أن تكون آراءا ، إنما هي سباب وتطاول وسوء أدب ، فاليهود قالوا يد الله مغلولة ( المائدة/ 64) وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ( آل عمران 181) وفرعون قال إنه لا يعلم إلها للمصريين غير فرعون وأنه ربهم الأعلى (القصص/38، النازعات / 24) والجاهليون قالوا إن الله جل وعلا أمرهم بالفحشاء ( الأعراف 28 ـ ) وكان من الممكن أن يصادر الله سبحانه وتعالى هذه الأقوال فلا نعلم عنها شيئا . وبعضها قيل في عصور سحيقة قبل نزول القرآن . ولولا القرآن ما علمنا عنها شيئا . ومصادرة الكتب والمؤلفات هي الهواية المفضلة للكهنوت الديني والسياسي . وكم شهد العالم في العصور الوسطى ـ وفى عالمنا الثالث الذي لا يزال في العصور الوسطى ـ مذابح للكتب والمؤلفات والمؤلفين ، ولكن الله العزيز الحكيم سجل كل آراء خصومه حتى ما كان منها تطاولا على ذاته المقدسة ، فأصبحت من آيات القرآن التي نقرؤها ونتعبد بتلاوتها ، وطبيعي أن الله تعالى رد عليها بما يناسب المقام .
أخيرا : بناء على ما سبق نقول الآتى :
1 ـ لا تتدخل الدولة على الاطلاق فى مجال الدعوة الدينية السلمية، بل تكون مهمتها تأكيد حرية هذه الدعوة للجميع أفرادا وطوائف على قدم المساواة المطلقة . وبالتالى لا بد من إلغاء كل القوانين التى تصادر أو تُحدّ من حرية الدعوة مثل قانون ( إزدراء الأديان ) والذى يتم تطبيقه لحماية الدين السّنى الوهابى فقط بينما يتم إزدراء الدين القبطى والدين الشيعى والدين البهائى ، بل يتم إزدراء الدين الاسلامى الحقيقى بتطبيق هذا القانون على ( أهل القرآن ) وسجن بعضهم عدة سنوات عام 2001 . ولا بد من الوقوف بحسم ضد دستور الاخوان الحالى والذى يمنع التعرض للأنبياء والذى يجعل الشريعة الوهابية السنية هى مصدر التشريع طبقا للمادة :(220): ( مبادىء الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنه والجماعة ).
2 ـ حرية الدعوة الدينية السلمية للجميع تعنى واقعيا حرية المسيحى للتبشير بدينه بين المسلمين ، وحرية المسلم فى التبشير بدينه بين غير المسلمين ، وحرية السّنى الوهابى فى التبشير بدينه بين غير السنيين ، وحرية الشيعى فى التبشير بدينه بين السنيين وغير الشيعة ، وحرية الصوفى فى الدعوة للتصوف بين السنيين وغيرهم وحرية البهائى فى الدعوة لدينه بين غير البهائيين ، بل حرية الدعوة الى الالحاد ..
3 ـ حرية الدعوة الدينية السلمية هذه لا بد أن تبتعد عن الإكراه فى الدين ، هى ( عرض للدعوة) لا ( فرض للدعوة) ، أى أن الداعية يعرض على الناس دينه ولا يفرضه على الناس . فإذا لجأ الى الاكراه فى الدين فلا بد من عقابه قانونا لأنّه تعدى على حق الأخرين فى حريتهم الدينية .
4 ـ حرية التبشير تعنى حرية التكفير ، وبلاحرج . إنّ لبّ الدعوة الدينية هو التكفير للآخر ، فأنت حين تدعو الى دينك يعنى أنك تعتقد أن دينك هو الصحيح وأن غيره هو الباطل ، وأن دينك هو الحق وغيره هو الكفر ، والاسلام فى عقيدته ( لا اله إلا الله ) تبدأ بالكفر بكل إله مع الله ، للتأكيد على ألوهية الله جل وعلا وحده ، والله جل وعلا يقول : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)( البقرة )، أى لا إكراه فى الدين ، وقد إتّضح بالقرآن الرشد وتميّز عن الغىّ،وهنا أتهام للأديان الأخرى بأنها غىّ مع تقرير أنه لا إكراه فى الدين ، ثم إن المؤمن طبقا للقرآن هو من يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، أى يكفر أولا بالطاغوت لكى يؤمن بالله جل وعلا وحده ، وبهذا يكون هو إستمسك بالعروة الوثقى ، وبالتالى فإنه يعتبر غيره ضالّا طبقا للقرآن . ويتأكد هذا فى قوله جل وعلا : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ (19)( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85)( آل عمران ) ، وهذا واضح فى أن من يعتنق دينا غير الاسلام الحق الذى جاء فى القرآن فهو من أهل الجحيم . من حقّى أن أدعو بهذا وأن أحكم بكفر من يعبد المسيح ومن يقدس محمدا والصحابة والأئمة والأولياء ، ومن حقى أن أعلن أن من يحج الى القبر المنسوب للنبى محمد يكون كافرا، وأن هذا القبر هو رجس من عمل الشيطان ، ولكن ليس من حقى أن أفرض رأيي هذا على أحد ، بوسعى أن أعزز رأيى بكل الحجج ، ولكن دون إكراه للغير . وأيضا من حق هذا الغير أن يكفر بالقرآن وأن يقول ما شاء فى الاسلام وفى النبى محمد عليه السلام ، سواء كانت معه حجة أو لم تكن . من حق البهائى أن يطعن فى أديان الغير ، ومن حق المسيحى أن يحكم بكفر المسلمين وكل من لا يؤمن بالمسيح الاها ومخلّصا ومنقذا . لكل إنسان الحق فى تكفير الأخرين سواء كانت معه الحجة والمنطق أو كانت حجته تدليسا وإفتراءا وتحريفا ، أو لم تكن لديه حجة على الإطلاق . وموعدنا جميعا يوم الدين أمام الرحمن جل وعلا ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون. أى إن حرية التبشير هى حرية التكفير للمخالفين ولكن دون الإكراه فى الدين . وطبعا لا يستتبع التكفير هنا إقامة ما يعرف بحدّ الردّة ، فهذا فى شريعة السنيين والشيعة ، وكان من قبل ضمن أصول الدين الكاثوليكى فى عهد سيطرة بابوات روما . هنا نتحدث عن حرية الدعوة بلا قيود ، وحرية التبشير والتكفير بأى دين بلا فرض أو إكراه .
5 ـ ينتج عن حرية التبشير والتكفير بين الدعاة من كل نحلة ودين أن تتسع مجالات الإختيار بين الناس لتكون بلا سقف أعلى . فمن يشاء الخروج عن الاسلام والدخول فى المسيحية فهذا شأنه وحسابه عند ربه ، ومن شاء التحوّل عن المسيحية والدخول فى الاسلام فلا عائق أمامه، ولا يحتاج الى شهادة رسمية من الأزهر أو خلافه لأنه ليس فى الاسلام مؤسسة دينية أو كهنوت. ومن أراد التشيع أو الانخراط فى التصوف أو إعتناق البهائية فلا يحق لأحد منعه . ومن أراد الكفر بكل الأديان أو حتى عبادة الشيطان فهذا شأنه وتلك مسئوليته ـ مثل غيره ـ أمام الواحد القهار يوم القيامة .
6 ـ ينتج عن حرية التبشير والتكفير وحرية الايمان والكفر وحرية الإختيار بين الناس فى الدين أن يتحرر الناس من الخضوع لأحطّ البشر ، وهم رجال الدين الذين يجعلون أنفسهم واسطة بين الله جل وعلا والناس ، وأحقر منهم من يستخدمون إسم الله جل وعلا فى الوصول للسلطة والثروة . هذه الحرية الدينية تؤسس الوعى السياسى بين الجماهير، كما تقوم بتطهير المجال السياسى من المتاجرة بالدين ، وتحصر المنافسة السياسية بين من هو الأقدر على خدمة الناس فى حياتهم الدنيا مع إحترامه لإختياراتهم الدينية . كما أن هذه الحرية الدينية فى التبشير والتكفير ينتج عنها حرية حقيقية فى التفكير ، بما يؤدى الى تقليص الايمان بالخرافات الدينية الغيبية ، والتشجيع على نقد تقديس البشر والحجر والسخرية من الخزعبلات الدينية الى تحولت الى مقدسات بسبب السكوت عن نقدها ونقاشها .
7 ـ معنى الخصومة هو إختلاف فى الرأى ، أى إن لكل خصم رأيه ، ويأتى الحكم النهائى من الله جل وعلا يوم القيامة . أنا أقول رأيى معززا بالحجة أقصد به الوعظ ، وأومن بأن الحكم النهائى لله جل وعلا يوم القيامة . هو فى النهاية رأيى أنسبه لنفسى وليس للاسلام، لذا أقوله معتقدا تماما أننى سأؤاخذ عليه يوم القيامة ، وسيتم حسابى عليه إن كان حقا أو باطلا . ومن حق خصمى كذلك أن يقول رأيه وأن يسفّه رأيى ، والحكم النهائى لرب العزة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون . وهنا يكون العدل بين حقوق الخصوم . لكل منهم نفس الحق فى التعبير عن رأيه وعمّا يعتقده . وهنا أيضا تتعانق الحرية مع العدل .
8 ـ ومن عجب أن يصل الغرب اليوم الى ما قرّره القرآن من 14 قرنا فى الحرية المطلقة فى الدين بينما يكفر بها الوهابيون وأضرابهم . فى أمريكا تنتشر الدعوة الى الاسلام بلا عائق ، ويتحوّل امريكيون مسيحيون الى الاسلام بلا إعتراض أو إستنكار لأنها حرية شخصية ، بل إن بعضهم يشترى كنائس ويحولونها الى مساجد، ويجدون المساعدة من الأمريكيين المسيحيين، أقول هذا عن دراية وعلم . وفى نفس الوقت فإن المساجد الوهابية السّنية والتى تتمتع بكل حريتها فى أمريكا لا تسمح للشيعة بدخولها . وفى نفس الوقت فإنه من أكبر الكبائر أن يقوم مسيحيون بالتبشير بدينهم بين المسلمين . إنهم يفهمون الحرية الدينية من جانب واحد فقط : حرية التحول من المسيحية الى الاسلام ، وليس الردة عن الاسلام والدخول للمسيحية . بل إن المسيحى إذا دخل فى الاسلام ثم أراد الخروج عنه فعقابه القتل بتهمة الردّة . ولقد سبق لنا تفصيل ذلك كله فى مقالات : ( التسامح الاسلامى بين مصر وأمريكا ) و ( بناء الكنائس والدفاع عنها حق مقرر فى الاسلام ) و ( أيها الأفغانى المتنصر يجب إحترام حريتك فى الاختيار ) ( كل هذا الهلع من التنصير ) ( الاسلام دين السلام ).
المبدأ الرابع من مبادىء الشريعة الاسلامية : العدل والقسط
أولا : العدل والقسط مقصدا وهدفا لكل الرسالات السماوية :
1 ـ القسط هو تمام العدل، والقسط هو الهدف من إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب السماوية، يقول تعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25) فإقامة الناس فى أى مجتمع للقسط والعدل هى إقامة لشريعة الله التى جاءت بها الرسالات السماوية فى كل عصر. ومعنى ( لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ ) أن الرسالات السماوية تحرّض الناس على ان يتعاونوا جميعا فى إقامة أو تأسيس دولة القسط ، وكلمة ( الناس ) شاملة للرجال والنساء والأغنياء والفقراء ، أى كل أفراد المجتمع ، كلهم مُطالبون بأن يقيموا دولة العدل والقسط للجميع على قدم المساواة . إن لم يحدث هذا وظلت دولة الظلم والاستبداد قائمة فإن البديل للرسالات السماوية هو ( الحديد ) الذى فيه بأس شديد ومنافع للناس، وتكلمة الاية الكريمة تشير الى وجوب الثورة المسلحة على الظلم بهدف إقامة العدل والقسط ونصر دين الله جل وعلا ، وهو الذى يعلم بالغيب أنصار العدل والقسط : ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ). إنّ المستبد لا يتنازل عن سلطانه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلكى يستمر مستبدا لا بد له من قهر الناس وإرهابهم بالتعذيب ، وتحصين نفسه ونظامة بترسانة من الأسلحة وترسانة أخرى من القوانين سيئة السُّمعة . وهذه هى خبرة البشرية مع كل مستبد ، لذا يظل أساس المواجهة مع المستبد بالوعظ ونشر الوعى بين الناس بقيمة العدل والحرية كجوهر للدين السماوى ،فإن لم يستجب المستبد فالبديل هو اللجوء الى الثورة المسلحة عليه بالحديد ذى البأس الشديد . ولنقرأ الآية الكريمة كاملة : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد )
2 ـ لذا فإن إقامة القسط هى إقامة للشرع الالهى ، أو إقامة لجوهر الدين الالهى ، وهذه هى أُسُس الشريعة التى نزلت فى كل الرسالات السماوية من رسالة نوح عليه السلام الى نزول القرآن الكريم خاتم الرسالات السماوية ، وهذا ما يرفضه عُتاة المشركين الظالمين فى كل عصر ، يقول جل وعلا : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) الشورى ). بإقامة العدل والقسط مع الحرية الدينية للجميع بالمساواة لا تحدث إنقسامات تهدد كيان المجتمع إذ لا سيطرة لأحد على أحد ، فالكل يأخذ حقه بالعدل فى هذه الدنيا ، والاختلاف فى الدين مرجعه لله جل وعلا ليحكم فيه يوم القيامة .
ثانيا : أنواع القسط والعدل :
فى التعامل مع الله جلّ وعلا :
فالقسط فى التعامل مع الله يكون بالإيمان به جل وعلا إلهاً واحداً لا شريك له ولا نظير، ولم يلد ولم يولد. ومن هنا فإن الإشراك بالله تعالى ظلم عظيم للمولى جل وعلا وهو وحده الخالق لكل شىء :﴿ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان 13). وهذه قضية يختلف فيها البشر، ومرجعها إلى الله تعالى يوم القيامة. وهذا من تمام العدل ، لأننا خصوم فى موضوع الالوهية والاعتقاد ، وتتجسّد هذه الخصومات فى ظهور الديانات وما يتفرع عنها من مذاهب وطوائف ، كل منها يعتقد أنه الذى يملك الحقيقة المطلقة ويتهم الآخرين بالكفر والهرطقة وإنكار الحق ، والحق عنده هو مايؤمن به فقط . ومن المتعذّر فك الاشتباك الدينى بين الخصوم المتشاكسين ، لذا فإن من الظلم أن يكون الخصم حكما وقاضيا على اقرانه من الخصوم الآخرين . ومن العدل أن يكون رب العزة جل وعلا هو الذى يحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون ، فهو صاحب الشأن ، وقد أعد لهذا اليوم يوما هو ( يوم الدين ).
القسط مع البيئة:
1 ـ يأتى القسط فى التعامل مع البيئة والطبيعة فى تدبر كلمة قرآنية هى الميزان، وهى تشير الى القسط . و( الميزان ) تعنى فى ثقافتنا المعاصرة التوازن الطبيعى، و(الميزان) أو (القسط ) أو ( التوازن )هو أساس خلق الكون وأساس الرسالات السماوية، وهو أيضاً أساس الحساب يوم القيامة.. وإليكم التفصيل..
2 ـ عن خلق السماوات والأرض وفق ميزان دقيق يقول تعالى ﴿وَالسّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن 7: 9) فالسماء ـ وهى كل ما يعلونا من غلاف جوى وأجرام سماوية ـ تقوم على أساس دقيق من التوازن، وعلينا ألا نطغى على ذلك التوازن فى العالم الكونى من الغلاف الجوى أو فى ذرات الأرض وهندسة الجينات وعناصر التربة ومعادنها، وإلا فإن الطغيان على ذلك التوازن الطبيعى يفتح الباب للفساد، ويحدث هذا بين الناس إذا ضاع القسط فى التعامل فيما بينهم، لذا يقول تعالى يربط التوازن الطبيعى بالتوازن العادل فى التعامل بين البشر ﴿أَلاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ﴾.
3 ـ إن الميزان الإلهى فى خلق المادة تجده فى أوزان العناصر والذرات والمعادلات الكيماوية بنفس ما نجده فى حسابات الفلك والنجوم والكواكب، وعن طريق الحسابات الرياضية توصل أينشتين إلى نظريته فى النسبية قبل أن تتحقق بتفجير القنبلة الذرية، وعن طريق الحسابات الرياضية يتوصل علماء الفلك إلى اكتشاف بعض الأقمار والمجرات قبل أن يتعرفوا عليها بالمراصد. والله تعالى يقول عن منازل القمر ﴿وَقَدّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس 5) ويقول عن التقويم القمرى والشمسى ﴿وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً﴾ (الأنعام 96) ونفس الميزان المحسوب فى المواد أشار إليه القرآن الكريم :﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْزُونٍ ﴾ ، ﴿وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مّعْلُومٍ﴾ (الحجر 19،21).
4 ـ وهذا الميزان الدقيق فى المخلوقات الحية وغير الحية يستلزم عدم المساس به حتى لا يفسد النظام فى الذرة والعناصر والخلايا والغلاف الجوى. ومن أجل ذلك فإن الله تعالى خالق هذا الكون ( الموزون ) أو ( المتوازن ) ينزل أيضاً كتاباً سماوياً فيه (الميزان) العادل الذى يهتدى به الناس فى تعاملهم مع الكون والبيئة وفى تعاملهم مع بعضهم البعض. يقول تعالى عن ذلك الكتاب السماوى الذى نزلت به الرسالات السماوية ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25) ففى الآية الكريمة يأتى إرتباط الكتاب السماوى بالميزان (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ )، وذلك بهدف أن يقوم الناس بالقسط . أى بالكتاب الذى هو الميزان يعتمد الناس القسط فى تعاملهم مع الله تعالى وفى تعاملهم مع أنفسهم وفى تعاملهم مع البيئة.
5 ـ ولأن الميزان واحد فكل رسالة سماوية كانت تنزل واحدة لكل نبى ، فلكل نبى رسالة سماوية واحدة ، فلا يقال أن له ( كتاب وسُنّة ) بل هو الكتاب فقط . ولآن كل الرسالات السماوية تؤكد أنه لا اله إلا الله وتؤكد قيم القسط والعدل والحرية والرحمة فإن الله تعالى يجعل الكتب السماوية كتاباً واحداً جوهرها القسط والعدل. والله تعالى يأمرنا بالعدل والاحسان ( أى العفو وهو درجة فوق العدل ): ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) ( النحل )، ويأمر خاتم النبيين ـ عليهم جميعا السلام ـ أن يقول لأهل الكتاب الذين أتوا ليحكم بينهم : ﴿ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ (الشورى 15) .ونزل القرآن خاتم الرسالات السماوية قبل قيام الساعة، يقول تعالى عن القرآن الذى جاء ميزاناً محفوظاً إلى قيام الساعة ﴿اللّهُ الّذِيَ أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ (الشورى 17). أى نزل القرآن (بالحق وبالميزان ). ومصطلح ( الحق ) فى القرآن الكريم يعنى رب العزة ، ويعنى الصدق ويعنى القرآن ويعنى العدل . وكما أنزل الله جل وعلا كل الكتب السماوية ووصفها بالبينات والميزان فالقرآن الكريم موصوف بالحق والميزان .
6 ـ ويوم القيامة يتم وزن الأعمال بالقسط وعلى أساس الذرة، يقول تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47) وتوزن الأعمال فى مقابل الكتاب السماوى الذى كان الميزان الذى ينبغى أن يحتكم إليه الإنسان فى الدنيا ويقيس على أساس حياته، يقول تعالى ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ (الأعراف 8: 9) فآيات الكتاب هى الميزان فى الدنيا، وستكون هى الكفة فى ميزان الآخرة مقابل كتاب الأعمال لكل فرد يوم الحساب ، وكل ذلك بالقسط. القسط الذى ينبغى مراعاته فى التعامل مع الله تعالى ومع الناس ومع البيئة.
7 ـ والفساد هو عكس القسط، وإذا تحكم الفساد فى علاقات البشر فلابد أن يصل إلى البيئة، ولعل ذلك ما أشار إليه القصص القرآنى فى حديث النبى شعيب مع قومه الذين اشتهروا بخيانة الكيل والميزان، لذا اقترن خطاب شعيب لهم بالنهى عن تطفيف الكيل والميزان وعن الفساد فى الأرض (الأعراف 85، هود 85) بل أن الله تعالى يجعل حدوث الفساد فى الأرض ناشئاً عن فساد العلاقات بين الناس، يقول تعالى ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم 41) ومن المعروف أن موسم الجرد يرتبط فيه إحراق المخازن والمنشئات للتغطية على السرقات، أى تدمير البيئة بعد جرائم السرقة.
8 ـ ومن هنا كان القسط أساس الدين وأساس الشرع وأساس الخلق فى الكون، وفى النهاية هو أساس الحساب يوم القيامة. لذلك يقول تعالى يؤكد شهادته ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران 18) هنا تأكيد على أن شهادة الاسلام واحدة ( لا اله إلا الله ) هى لله الواحد الخالق وحده دون شريك معه ، ويؤكدها أن هذه الشهادة ب( لا اله إلا الله ) فقط هى قيام بالقسط يشهد به الله تعالى والملائكة وأولو العلم . ومن الظلم وإنعدام القسط أن تكون شهادة التوحيد مثناة يرتفع فيها إسم ( محمد ) متميزا دون الأنبياء وفوق رسل الله ليكون الى جانب الواحد القهار جل وعلا ويتم تفضيله على باقى الأنبياء ، فهذا يناقض القسط المنصوص عليه فى الآية الكريمة التى تكررت فيها عقيدة الايمان الاسلامية ( لا اله إلا الله ) مرتين .
القسط والعدل مع الناس :
1 ـ وليس من القسط أيضا أن تنعدم المساواة بين المسلم والمسيحى، أو أن يكون غير المسلم أهل ذمة. فذلك من تشريعات الأديان الأرضية للمسلمين، ولم يعرفه عصر النبى عليه السلام، وإنما هو مصطلح لم يعرفه القرآن، ولكن أوجدته دولة المسلمين بعد أن فتحت ممالك وشعوباً وعاملت أبناء الأمم المفتوحة على أنهم أقل مكانة من المسلمين يدفعون الجزية وفق المفاهيم السائدة فى العصور الوسطى وقتها. وهذا ينافى تشريعات القرآن القائمة أساساً على القسط والعدل.
2 ـ إنّ القسط فى التعامل مع البشر يكون بالتعامل بالعدل مع الناس جميعاً سواء كانوا من الأهل والأقارب أو كانوا من الخصوم والأعداء. ومن هنا جاءت الأوامر فى القرآن بالعدل والقسط داخل البيت، مع الزوجات أو الاكتفاء بزوجة واحدة ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً﴾ (النساء 3).ثم القسط والعدل فى التعامل مع الأقارب حتى لا تؤثر القرابة على القيام بالقسط فتقع المحاباة والظلم، لذلك يقول تعالى ضمن الوصايا العشر ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ﴾ (الأنعام 152) ويقول تعالى ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ أَن تَعْدِلُواْ﴾ (النساء 135) فالأمر الإلهى هنا للمؤمنين بأن يقوموا بالعدل والقسط، وأن يكونوا بذلك شهداء لله تعالى حتى على أنفسهم وأقاربهم إحقاقاً للعدل وابتعاد عن الهوى. فهنا القيام على القسط لوجه الله حتى لا تؤثر محاباة الأقارب عليه. ويتكرر نفس المعنى فى القيام بالقسط حتى لا يتأثر العدل والقسط بكراهية الأعداء فتحكم عليهم ظلماً، يقول تعالى ﴿يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ﴾ (المائدة 8) أى أن يقوموا ابتغاء مرضاة الله تعالى بالقسط فلا يؤثر فيه كراهيتهم لقوم فيحكموا عليهم ظلماً. وبالتالى فإذا كان أولئك المختلفون فى العقيدة قوماً مسالمين لم يضطهدوا المؤمنين ولم يطردوهم من ديارهم ولم يساعدوا العدو فى اضطهادهم، فإن من حقهم على المؤمنين أن يعاملوا ليس بالقسط فقط ولكن بالبر والإحسان. يقول تعالى ﴿لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8) والواضح فى هذه الآية أنها تتحدث عن قوم من طبيعتهم الحرب والعداء إلا أنهم لم يحاربوا المؤمنين ولم يعتدوا عليهم، وقد أوجب القرآن القسط والبر فى التعامل معهم لأنهم كفوا أيديهم عن اضطهاد المؤمنين وقتالهم. وبالتالى فإن الأقباط (وهم أصلاً مسالمون امتلأ تاريخهم بالصبر على الاضطهاد وإيثار الاستشهاد على المقاومة للظلم) هم أولى الناس ببر المسلمين وعدل المسلمين، وإلا فمن يعتدى عليهم بالظلم والعدوان فقط استحق نقمة المولى عز وجل.
2 ـ ثم هناك القسط فى التعامل التجارى وفى الأسواق وفى كتابة الديون ﴿وَلْيَكْتُب بّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾.. ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ﴾ (البقرة 282) وفى الكيل والميزان ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ (الأنعام 152) والقسط مع اليتامى وحقوقهم ﴿وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىَ بِالْقِسْطِ﴾ (النساء 127) والقسط فى التقاضى بين الناس ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء 58) وفى الحكم بين القوم الآخرين ﴿وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ (الشورى 15) والقسط فى الشهادة ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مّنكُمْ﴾ (الطلاق 2) والقسط فى الحكم بين دولتين متصارعتين ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ﴾ (الحجرات 9).
القسط فى السياسة :
1 ـ العدل السياسى هو بالديمقراطية المباشرة التى تؤسس المساواة بين المراطنين ، وتمنع أن ( يعلو ) أحد فوق أحد ، لأن ( العلوّ ) لا يكون إلا لله جل و ( علا ) سبحانه و ( تعالى) . ولذا فلا توجد فى الدولة الاسلامية طبقات مميزة أو مناصب سامية عُلوية يُقال لأصحابها ( صاحب السّمُوّ ) أو ( صاحب الجلالة ) أو ( صاحب الرفعة ) أو ( صاحب المعالى )أو أو ( سيادتك ) أو ( معاليك ) أو ( فخامتك ) ..الخ . هذه الألقاب تأليه للبشر وتكريس للظلم وتقنين له برفع أفراد فوق مستوى الأغلبية من الشعب بالتناقض مع شرع الله جل وعلا القائم على القسط والمساواة بين الناس . هذه المناصب العُلوية بأوصافها الضخمة تتّسق مع ثقافة الدولة الدينية وأديانها الأرضية ، فمن مخلّفات الدولة الدينية فى مصر أن يُقال عن شيخ الأزهر ( الامام الأكبر للمسلمين ) فإذا كان فلان هو الامام الأكبر للمسلمين فماذا نقول عن خاتم النبيين محمد عليه السلام ؟!، ومنها أن يقال فى دين التشيع ودولته الدينية ( آية الله، روح الله). فهل نزل عليهم منشور من رب العزة يعطيهم هذه الصفة ؟ هو إفتراء على الله جل وعلا ، وتدمير للعدل بين الناس بتمييز قوم عن قوم بالافك والبهتان .
2 ـ فى دولة الاسلام ترى أولى الأمر هم أصحاب الاختصاص والخبرة ، وهم خدم للمجتمع ويتعرضون للمساءلة والثواب والعقاب ، وهو نفس الوضع فى الدول الديمقراطية الغربية . فى دين الاسلام لا تمييز للنبى عن قومه فى المسئولية والمساءلة مع أنه يُوحى اليه . وقد كان الناس يخاطبون أنبياءهم بأسمائهم المجردة قائلين يا موسى ويا عيسى :(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى) (55) (61)( البقرة )(قَالُوا يَا مُوسَى )(22) المائدة) ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ) (112) المائدة ). لم يقولوا لموسى يا صاحب الجلالة ولم يقولوا لعيسى يا أية الله وروح الله أو سعادتك أو معاليك أو فخامتك أو قداستك .!!. أكثر من هذا ففى الدعاء لرب العزة نقول له جل وعلا ( أنت ):(أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) البقرة )( أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) الاعراف)( أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف) ( لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ (87) الأنبياء )( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ) (41) سبأ ) . أى تدعو الخالق جل وعلا فتقول له ( أنت ) ، ولكن لو قلت لواحد من ( أصحاب الفضيلة ) أو من ( أصحاب الجلالة وأصحاب السمو ) : ( أنت ) (فأنت ) يومك أغبر ..!!
القسط فى الثروة ( العدل الاجتماعى ـ العدالة الاجتماعية ـ التكافل الاجتماعى )
الموارد فى هذه الأرض هى للبشر على قدم المساواة وطبقا لتكافؤ الفرص ، وهذا ما جاء فى القرآن الكريم عن الأرض :( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)( فصلت )، الإيجاز والإعجاز فى قوله جل وعلا عن الأرض (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) فهى سواء لمن يبحث عنها ويكدّ للحصول عليها . والله جل وعلا خلق الناس متفاوتين فى المواهب والقدرات والصفات ، بما يؤثر فى إختلاف أوضاعهم الاقتصادية ، لذا فمن الاختبار الالهى أنه جل وعلا جعل البشر متفاوتين فى الرزق ( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ )(71)( النحل ). ولعلاج هذا نزلت تشريعات الاسلام فى رعاية الفقراء والمساكين واليتامى وذوى القربى وأبناء السبيل والسائل والمحروم . وهذا جانب هائل فى التشريع القرآنى تتحقق به العدالة الاجتماعية.
ثالثا : بين العدل المطلق والعدل النسبى فى التطبيق
1 ـ العدل المطلق يتطلب المستحيل ، وهو أن يعرف القاضى سرائر الشاهد والمتهم والمحامى ..الخ . هذا لو كان القاضى متحريا للحق والعدل ، وكان القانون فى حدّ ذاته ينطق فى نصوصه بالعدل . لذا فإن العدل المطلق لا يوجد إلا يوم القيامة ونحن بين يدى الذى يعلم خائنة ألعين وما تخفى الصدور . يقول جل وعلا يصف ملمحا من ملامح هذا اليوم : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ )(20)( غافر ) .
2 ـ وإذا كان تحقيق العدل المطلق مستحيلا فى هذا العالم فإن المطلوب تحقيق أكبر نسبة من العدل بقدر المُتاح من إمكانات البشر . وهذا يتطلب أولا وقبل كل شىء التقوى ، أو بتعبيرنا المعاصر ( الضمير ). يجب أن يكون الضمير حيّا ويقظا لدى القائم بالتشريع والذى يحكم فى مجلس القضاء والشاهد والمُدعى والمحامى و المتهم . يجب أن يكون منهج القسط والعدل حاضراً لدى المسلم .
3 ـ ولأن الأمر مرتبط بالتقوى والضمير فإنّ الله جل وعلا ـ الذى يعلم ما فى الصدور ـ يجعل ميزان القسط متناهى الحساسية، بمعنى أن القسط المطلوب هو بنسبة مائة فى المائة فإن تراجعت النسبة إلى 99% أصبح الحكم ظلماً، طالما دخلت فيه نسبة الواحد فى المائة من الظلم. نفهم هذا من التفرقة اللغوية والقرآنية بين كلمتين "قاسط" و"مقسط". فالقاسط هو الذى يحول الحكم لهواه ولو بنسبة 1%، والله تعالى يقول عن القاسطين ﴿وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾ (الجن 15) أما المقسط فهو صيغة مبالغة من القسط أى الذى يراعى القسط دائماً وأبداً. وذلك المقسط يستحق حب الله تعالى، يقول تعالى ﴿إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ وقد تكرر ذلك فى القرآن ثلاث مرات (المائدة 45، الحجرات 9، الممتحنة 8) فعلى المؤمن الذى يتقى ربه جل وعلا أن يختار لنفسه منزلته عند الله تعالى، هل يكون من المُقسطين المسلمين الحقيقيين الراشدين أم من القاسطين الظالمين ﴿وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـَئِكَ تَحَرّوْاْ رَشَداً. وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾ هل يكون ممن يحبهم الله تعالى ﴿وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ أم من الذين يكرههم الله تعالى؟
المبدأ الخامس من مبادىء الشريعة الاسلامية : السلام
المبدأ الخامس من مبادىء الشريعة الاسلامية : السلام
أولا : معنى الاسلام
الاسلام في معناه القلبي الاعتقادي هو التسليم والانقياد لله تعالي وحده . وليس لأحد من البشر ان يحاسب انسانا بشأن عقيدته ،والا كان مدعيا للالوهية.والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).هذا هو معني الاسلام الباطني القلبي الاعتقادي ، هو فى التعامل مع اللة تعالي استسلام وخضوع له بلغة القلوب ،وهي لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعا، وعلي اساسها سيكون حسابهم جميعا امام الله تعالي يوم القيامة.
2 ـ اما الاسلام في التعامل الظاهري فهو السلم والسلام بين البشر مهما اختلفت عقائدهم يقول سبحانه وتعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208 ) البقرة 208 ) .أي يأمرهم الله تعالي بايثار السلم .ونتذكر هنا تحية الاسلام الا وهي السلام وان السلام من اسماء الله تعالي، كل ذلك مما يعبر عن تأكيد الاسلام علي وجهه السلمي .
3ـ والانسان الذي يحقق الاسلام السلوكى في تعامله مع الناس فيكون مسالما لا يعتدي علي احد ،ويحقق الاسلام العقيدى في تعامله مع الله تعالى فيسلم قلبه وجوارحه لله تعالي وحده ،هذا الانسان يكون مستحقا للسلام عند الله تعالي يوم القيامة، لذلك فان الله تعالي يعدهم بالسلام و الامن فى الجنة (15 / 46) والجنة هى دار السلام (6 / 127) والسلام هو تحية أهل الجنة ( 13 / 24 ) ( 10 /10 ) ( 36 / 58 )
ثانيا : مفهوم الكفر والشرك فى القرآن الكريم
1 ـ الكفر و الشرك سواء, هما قرينان فى مصطلح القرآن لذلك يأتيان مترادفين فى النسق القرآنى. ( 9 / 1 ، 2 ، 17 ) ( 40 /42 )
2 ـ الكفر فى الغة العربية يعنى التغطية, أى كفر بمعنى غطى , ومثلها أيضا " غفر" ومنه المغفر الذى يغطى الوجه فى الحرب. وكلمة "كفر" أى غطى انتقلت الى لغات أخرى منها الأنجليزية : [Cover]. الا ان الله تعالى وصف المزارعين بالكفار, فالزارع كان يطلق عليه فى اللغة العربية "كافر" لأنه " يكفر الزرع " اى يغطيه بالتراب والماء لينمو. وجاء هذا المعنى فى القرآن الكريم ( 57 / 20 ).
لقد خلق الله تعالى البشر بفطرة نقية لا تعرف تقديسا الا لله تعالى ولا تعرف غيره جل وعلا ربا والاها و معبودا ووليا وشفيعا ونصيرا ( 30 / 30 ). ثم تأتى البيئة الأجتماعية وموروثاتها الدينية فتغطى تلك الفطرة النقية بالاعتقاد فى آلهة وأولياء و شفعاء ينسبونهم الى الله تعالى زورا , ويزعمون أنها تقربهم الى الله تعالي زلفا أو أنها واسطة تشفع لديه. ذلك الغطاء او تلك التغطية هى الكفر بالمعنى الدينى . و فى نفس الوقت فان ذلك هو أيضا شرك لأنه حول الألوهية الى شركة وجعل لله تعالى شركاء فى ملكه ودينه.
وفى الواقع فان فى داخل الكفر والشرك بعض الأيمان حيث يؤِمنون بالله ايمانا ناقصا اذ يجعلون معه شركاء فى التقديس , أو يأخذون من مساحة التقديس ـ التى ينبغى أن تكون لله تعالى خالصة ـ ويعطونها لمن لا يستحقها من البشر و الحجر. وبهذا يجتمع ذلك الايمان ـ الناقص ـ بالله تعالى مع الايمان بغيره أي بتأليه البشر و الحجر , ووصف الله تعالى أن أكثرية البشر لا تؤمن بالله إلا أذا آمنت معه بغيره ، وهذا هو حال المشركين ، ( 12 / 106 ). أى أن الشرك يعنى وجود إيمان بالله لكنه إيمان ناقص حيث يؤمن بالله تعالى ويؤمن أيضا بوجود آلهة أخرى معه. وهذا الايمان الناقص فى عقيدة الشرك سيؤدى بأصحابه الى النار يوم القيامة ، وسيقال لهم وقتها أنهم كانوا إذا قيل لهم فى الدنيا آمنوا بالله وحده رفضوا ولم يؤمنوا بالله إلا إذا جعلوا معه شريكا وحولوا الالوهية الى شركة بين الله تعالى وغيره ( 40 / 12 )
والله تعالى لا يأبه بذلك الايمان القليل لأنه " كفر" أى غطى الفطرة بتقديس غير الله . والفطرة كما جاء فى القرآن الكريم تجعل الالوهية لله وحده . وقد لعن الله تعالى الكافرين بسبب إيمانهم القليل بالله ( 4 / 46.) وأكد أن أيمان الكافرين القليل لن ينفعهم يوم القيامة ( 32 /29 ).
3 ـ وفى كل الأحوال فان الشرك والكفر يعنيان معا الظلم والاعتداء. وقد وصف الله تعالى الشرك بالله بأنه ظلم عظيم (13 / 31) فأعظم الظلم أن تظلم الخالق جل وعلا وتتخذ الاها معه ، وهو خالقك ورازقك، وهذا طبعا فى العقيدة والتعامل مع الله. أما فى التعامل مع البشر فإذا تطرف أحدهم فى ظلم الناس بالقتل والقهر والاستبداد ومصادرة الحقوق الأساسية للانسان فى المعتقد والفكر ، أصبح هذا الظالم مشركا كافرا بسلوكه وتصرفه وتعامله الظالم مع الناس ، ولا شأن لنا بما فى قلبه أو بعقيدته التى يتمسح بها أو يعلنها. نحن هنا نحكم فقط على جرائمه الظاهرة من قتل للابرياء واعتداء على الآمنين وقهر للمظلومين . أما عقيدته وعقائدنا فمرجع الحكم فيها فالى الله تعالى يوم القيامة.
4 ـ وعليه فكما للاسلام معنيان (الايمان بالله وحده الاها والانقياد والاستسلام لله وحده) حسب العقيدة القلبية فى التعامل مع الله، و( الأمن والثقة والسلام )فى التعامل مع كل الناس ، فان الشرك والكفر يعنيان معا الظلم والاعتداء. الظلم لله تعالى والاعتداء على ذاته بالاعتقاد فى آلهة أخرى معه ، وتقديس غيره ، فيما يخص العقيدة ، والظلم والاعتداء على البشر بالقتل للابرياء وسلب حقوقهم وقهرهم، في التعامل مع الناس. وبينما يكون لله تعالى وحده الحكم على اختلافات البشر فى أمور العقيدة ـ من اعتقاد فيه وحده أوبالعكس مثل إتخاذ أولياء وآلهة معه أو نسبة الابن والزوجة له ـ فإنه من حق البشر الحكم على سلوكيات الأفراد وتصرفاتهم ، إن خيرا وإن شرا. إن كانت سلاما وأمنا فهو مؤمن مسلم ، وإن كانت ظلما وبغيا فهو مشرك كافر بسلوكه فقط. هنا يكون سهلا تحديدنا المسلم بأنه الذى سلم الناس من أذاه مهما كان دينه الفعلى أو الرسمى أو إعتقاده، والمشرك الكافر هو المجرم الارهابى والمستبد الظالم الذى يقهر شعبه ، او الطاغية ، من الطغيان ، وهو أفظع الظلم ، والبغى وهو الظلم الذى يجاوز الحد ويعتدى على الآخرين ظلما وعدوانا.
5 ـ لقد ارتبط الكفر والشرك فى القرآن الكريم بوصف الظلم. وتكرر وصف الظلم فى القرآن الكريم نحو مائتى مرة ، كما ربط الله تعالى بين الكفر والشرك ومصطلح الاعتداء فى مواضع كثيرة ،وقد حرّم الله تعالى البغى ووصف كبار المشركين بالبغى والطغيان .
ثالثا : السلام مبدأ فى الشريعة الاسلامية
يتداخل مبدأ السلام فى مبادىء أخرى للشريعة الاسلامية ، كالحرية والعدل والمساواة وحُرمة قتل النفس البريئة . ونعيد التاكيد على :
تفصيلات تشريع القصاص فى جريمة القتل فى ضوء معنى السلام .
يتضح القصاص فى القتال الدفاعى للمسلمين ضمنيا فى قوله جل وعلا :( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)، ويأتى صراحة فى قوله جل وعلا :( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) البقرة ). ولكن الأمر يحتاج لبعض التوضيح :
1 ـ فى دولة الاسلام فإن كل فرد مسالم هو مسلم بغض النظر عن دينه وذلك هو معنى الاسلام السلوكى الظاهرى . والكافر المشرك بالسلوك هو المعتدى الذى يستخدم دين الله جل وعلا فى قتل الأبرياء والإكراه فى الدين كما يفعل فى عصرنا الوهابيون . لذا فإن القتال والمواجهة الحربية الدفاعية هى ضد سلوك عدوانى يهاجم المسلمين المسالمين ، وأولئك المسلمون المسالمون لا يبدأون بالعدوان بل يردن العدوان ، وهم يعلمون أن الله جل وعلا لا يحب المعتدين ، لذا يقاتلون من يعتدى عليهم طبقا لشرع الله جل وعلا (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة)، وهم حين يقاتلون هذا العدو المعتدى الذى لا يحبه الله جل وعلا يدعون الله جل وعلا أن ينصرهم على هؤلاء الكافرين المعتدين : (أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)( البقرة ). أى إنّ أولئك المعتدين استحقوا وصف الكفر بسلوكهم المعتدى حسب التعامل بالسلوك وليس بالعقائد .
2 ـ وفى داخل الدولة الاسلامية أنت مؤمن حسب الظاهر طالما أنّك مؤمن ظاهريا أى مأمون الجانب ، لذا يقول جل وعلا للمؤمنين يأمرهم بالتزام طريق السلم والسلام وأن يحذروا من مكائد الشيطان التى تسوّل لهم الاعتداء وإنتهاك حقوق الغير وأهمها الحق فى الحياة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) ( البقرة ). وليست عقيدتك الكافرة حائلا دون وصفك بالمؤمن طالما أنت مأمون الجانب ، لأن حريتك فى الدين هى مسئوليتك أنت وحدك أمام الله جل وعلا ، ولا دخل لدولة الاسلام فيها .
أولئك المؤمنون المسالمون كانوا مشركين بالعقيدة لذا فإنّ الله جل وعلا دعاهم لأن يؤمنوا عقيديا بالله تعالى ورسوله وما أنزل من كتاب سماوى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)( النساء ) هنا خطاب للذين آمنوا بسلوكهم السلمى الذى يؤثر الأمن والأمان يقول لهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ولأنه إيمانهم سلوكى من الأمن والأمان وليس إيمانا قلبيا بالايمان بالله جل وعلا وحده ورسوله وكتبه فإن الله جل وعلا يدعو أولئك المؤمنين بالسلوك الى أن يؤمنوا أيضا بالعقيدة :( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ )، ويحذرهم من عاقبة كفرهم العقيدى يوم القيامة:( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) . كان هذا فى أوائل ما نزل فى المدينة . ولم يعمل به ( الذين آمنوا ) بالسلوك المسالم فظلوا مشركين بالعقيدة يعبدون الأنصاب الوثنية فى المدينة وقت نزول القرآن ، فكان من أواخر ما نزل من القرآن الكريم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)المائدة). وهنا حقيقة قرآنية خطيرة مسكوت عنها وهى أن بعض الصحابة ـ خارج نطاق المنافقين ـ ظّلوا يشربون الخمر ويدمنون القمار ويعكفون على عبادة الأنصاب أو الأضرحة الى أن قال جلّ وعلا يعظهم فى أواخر ما نزل من القرآن ، ويخاطبهم بالذين آمنوا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )، ولا يأمر جل وعلا بهدم تلك الأضرحة والقبور المقدسة بل يأمر بإجتنابها (فَاجْتَنِبُوهُ) حتى يفلحون (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ولا يكونون من الخاسرين يوم القيامة. ولأنّ أولئك الصحابة ـ المؤمنين حسب السلوك السلمى ـ قد أدمنوا عبادة هذا الرجس الذى هو من عمل الشيطان فإن رب العزة يحذّرهم بطريقة ليّنة:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) المائدة). ونتأمّل قوله جل وعلا لهم:(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)؟ وهى تفيد وتؤكد أدمانهم الكفر العقيدى ، ولكن لأنهم يؤثرون السّلم والأمن والأمان فلهم حريتهم فى الدين ، وهم :(الذين آمنوا )، غاية ما هنالك أن الله جل وعلا يعظهم ويحذرهم مقدما فيقول:( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)(المائدة ). أى ليس على النبى سوى التبليغ .
3 ـ فى دولة الاسلام الأساس هو السلام وحقن الدماء فى التعامل مع مواطنيها وفى التعامل أيضا مع العدو الخارجى ، لذا لا بد أن تكون الدولة الاسلامية المسالمة قوية حتى لا يغرى ضعفها العدو المحب للإعتداء على ان يعتدى عليها ، ولهذا كانت القاعدة التشرعية فى الإعداد للقوة هى للردع وإرهاب وتخويف المعتدين لمنع إعتدائهم: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (60) الأنفال). والعدو الذى يتوقف عن الاعتداء بسبب الردع يكون قد حقن دمه ودم المسلمين .
4 ـ والعدو المعتدى المهاجم إذا توقف عن الاعتداء فيجب أن يتوقف المسلمون عن قتاله لأن الحرب مرتبطة بوقف العدوان:( فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) البقرة) . بل أنهم لو إنتهوا عن الاعتداء فسيغفر الله جل وعلا لهم :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) الأنفال ).
5 ـ وإن جنح العدو المهاجم للسلام فلا بد من الاستجابة لدعوة السلام مع التوكل على الله : ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) الأنفال ). وإن كان العرض بالسلام خداعا فلا بد من الاستجابة للسلم توكلا على الله لأنه الله جل وعلا مع من يريد السلام مخلصا متوكلا على الله جل وعلا:( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) الأنفال ).ولا بد من تحالف كل القوى المحبة للسلام وأـن توالى بعضها ضد قوى الاعتداء والشّر لمنع الفتنة والاضطهاد الدينى وحتى لا يكون فى الأرض الفساد : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) ( الأنفال ).
6 ـ وفى حالة الإشتباك الحربى مع العدو المهاجم فلا بد من حقن دم الجندى المعادى لو إستسلم فى الميدان طوعا (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)( التوبة ) أى لا بد من إسماعه القرآن ليكون هذا حجة عليه يوم القيامة ثم إبلاغه مأمنه. أما من يقع فى الأسر عجزا وكرها فلا بد من حقن دمه بإطلاق سراحه مجانا أو بالإفتداء بعد الحرب:( فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا(4)(محمد ) .
7 ـ وفى حالة الإشتباك الحربى فى ميدان المعركة فإنّ للجندى فى المعسكر المعتدى أن يحقن دمه من القتل بمجرد أن يقول كلمة السلام ، بمجرد أن يلقى كلمة السلام يحقن دمه مهما قتل من المسلمين ، فهذا شرع الله جل وعلا:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(94)( النساء ).
هذا المؤمن المسالم بلسانه وسلوكه يحرم قتله، وليس متصورا من مؤمن أن يقتل مؤمنا إلّا على سبيل الخطأ وعدم التعمّد ، ولو وقع مؤمن فى قتل خطأ لمؤمن مسالم مثله كانت عليه كفّارة ثقيلة :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) النساء ) . أمّا الذى يتعمّد قتل مؤمن مسالم فلو نجا من العقاب الدنيوى قصاصا فإن الذى ينتظره يوم القيامة الخلود فى جهنم وغضب الله جل وعلا ولعنته :(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93).النساء ).
المبدأ السادس من مبادىء الشريعة الاسلامية : حق الحياة وحصانة النفس البريئة
ونتوقف الان مع المبدأ الخامس : حق الحياة وحصانة النفس البريئة الذى ينبع من الاسلام دين الرحمة
أولا : الوهابية دين الغلظة والقسوة :
1 ـ الغلظة والوحشية الدموية إشتهر بها الاخوان النجديون الوهابيون الذين أقاموا لعبد العزيز آل سعود دولته الراهنة ، وتسلل عبد العزيز آل سعود الى مصر فتحولت ( الجمعية الشرعية ) من التصوف الى الوهابية ، ثم أنشأ الشيخ حامد الفقى جمعية أنصار السنة لنشر الوهابية تحت مسمى السنة والسلفية ، وكان الشيخ رشيد رضا هو اليد اليمنى لعبد العزيز آل سعود فى مصر ، وهو مهندس نشر الوهابية فى مصر بديلا عن التصوف السّنى ، وقد أنشأ جمعية شبه عسكرية للشباب باسم ( الشبان المسلمين ) ، ثم إختار أنجب شبابها وهو حسن البنا وأقام له ( الاخوان المسلمين ) لتعمل بالسياسة تحت رداء الدين مستفيدة من نشر الجمعيات الأخرى للسلفية الوهابية . ومن عام 1928 وحتى الآن نجح الاخوان وما تمخّض عنهم من حركات ارهابية فى نشر الوهابية بوجهها الدموى ، وتحول التدين المصرى الصوفى المسالم الى تدين وهابى متزمت غليظ دموى، فانتشر الارهاب والاغتيال على يد الاخوان وما تمخض عنهم من جماعات وجمعيات من الأربعينيات حتى وقتنا هذا ، حيث نرى الآن وحشية الاخوان وغلظتهم ممتزجا بنفاقهم وكذبهم ، يستأسدون على الناس فى عنفوانهم ويصطنعون البراءة فى وقت ضعفهم ، ، يذبحون الأبرياء من الاطفال والنساء والرجال ، ويقتلون غدرا ويغتالون إثما ، ويسلبون الممتلكات وينتهكون المحرمات : ( جهاد المناكحة ).
2 ـ ينطبق عليهم وصف رب العزة للمنافقين الذين كانوا يزعمون الايمان وما هم بمؤمنين ويزعمون أنهم مصلحون وهم مفسدون ، يواجهون الناس بوجه باسم مخادع وهم متآمرون:( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)( البقرة ). الاخوان أيضا على سُنّة اليهود يسيرون ، واليهود فى المصطلح القرآنى هم العصاة من بنى اسرائيل ، ولقد كانوا يتآمرون على النبى عليه السلام فى المدينة يزعمون الايمان وقلوبهم أشد قسوة من الصخر ، يخاطبهم رب العزة فيقول :( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) البقرة ) ثم يحذّر رب العزة المؤمنين منهم ومن خداعهم وألا يثقوا فيهم : ( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) البقرة ) وإذا كانوا يفترون على الله كذبا عمدا وهم يعلمون فكيف بهم فى خداعهم للمؤمنين ؟!. لذا يقول جل وعلا يفضح تآمرهم :( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)( البقرة ). أى هى نفس مسيرة النفاق والخداع وسياسة الوجهين والقلوب القاسية المتحجرة . ولهذا يحذّر رب العزة المؤمنين من سُنّة المنافقين واليهود ، يقول جل وعلا بعد أن حكى ما سيحدث للمنافقين يوم القيامة :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)( الحديد ).
3 ـ الاخوان يؤدون الصلاة ، وينطقون الفاتحة ،ويتلفظون بالبسملة (بسماللهالرحمنالرحيم) ومع ذلك فليس لهم حظّ فى الرحمة التى يجب أن يتّصف بها المؤمن. والشاهد هو تاريخهم الماضى وإجرامهم المسجل بالصوت والصورة . هذا نقيض الاسلام ، والاسلام دين الرحمة.
ثانيا : الاسلام دين الرحمة
1 ـ (الرحيم) من أشهر صفات رب العزة فى القرآن الكريم .ومن خلال سورة البقرة فقط نرى صفة (الرحيم) تأتى مقترنة بالرحمن:(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) وبالتواب:(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )(37) (54)( إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)( وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)وبالرءوف:(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)وبالغفور( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)( فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)(أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)(فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) البقرة ).
2 ـ ورحمة الله جل وعلا ليست للمجرمين بل هى للمحسنين :( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56) الاعراف)، ومع أنها وسعت كل شىء فهى تخصّ المتقين :( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)(الأعراف) . وبهذه الرحمة التى وسعت كل شىء يغفر الله جل وعلا يوم القيامة للتائبين وينجيهم من الجحيم:( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)(غافر). ونزل القرآن الكريم الرسالة الخاتمة فيه الشفاء والرحمة لمن يشاء الايمان ويسلك طريق التقوى ، وفيه أيضا الخسار لمن يتلاعب بآيات القرآن ، ويستخدم دين الله مطية للوصول والثروة ويشترى بآيات الله جل وعلا ثمنا قليلا ، فالقرآن شفاء ورحة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا :( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء).
3 ـ ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء ):
أرسل الله جل وعلا رسوله بالقرآن رحمة للعالمين فتستّر الوهابيون بالاسلام وارتكبوا تحت إسمه العظيم المجازر فأصبح اسم الاسلام إرهابا للعالمين .!. فى تشريعات القتال فى الاسلام تأكيد على الوجه السلمى للاسلام ، وكتبنا فى هذا كثيرا ، ولكن حمامات الدم فى ( الجهاد) الوهابى غطّت على كل شىء، وفاز أعداء الاسلام الوهابيون بلقب ( الاسلاميين)،وفُزنا نحن بلقب ( إنكار السّنة ) ونحن نؤمن بالسّنة الحقيقية للرسول عليه السلام وننكر أن ينسبوا له أقوالا لم يقلها ولم يعرفها تشوه الاسلام دين العدل والحرية والرحمة . والتناقض هائل حين تقرأ قوله جل وعلا ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)الأنبياء )، وأنت تنظر الى شاشات التليفزيون ومواقع اليوتوب وترى فظائع الجهاديين الوهابيين ، يقتلون الأبرياء وهم يهتفون ( الله أكبر ).! ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء )، يؤكدها رب العزة حين يحذّر من يقنط وييأس من رحمة الله جل وعلا :( قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) (الحجر). وحين يدعو المذنبين للتوبة مهما أسرفوا على أنفسهم ، لأن رحمته تتسع للغفران لهم لمن يتوب وهو فى حياته :( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر )
السّنة الحقيقية للرسول هى الرحمة والرأفة
1 ـ ولأنه جل وعلا أرسل رسوله بالقرآن رحمة للعالمين فقد كان النبى عليه السلام فى حياته رحمة تسعى على قدمين . لم يكن فظّا غليظ القلب كالوهابيين بل جعله الله جل وعلا لينا سمحا طيب القلب :( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)( آل عمران ). كانت تتجلى رأفته ورحمته أكثر مع خصومه فى المدينة حين كان قائدا لدولته . كان المنافقون يؤذونه يتهمونه بأنه (أُذُن ) أى يسمع ما يقال له ، وكان عليه السلام يسمع هذا التقوّل عليه فيصفح ، الى أن نزل الوحى الالهى يدافع عنه ، ويأمره أن يرد عليهم بالحق : ( وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) التوبة )، أمره ربه جل وعلا أن يقول لهم عن نفسه أنه سمّاع للخير ، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين أى يثق فى المؤمنين ، وأنه رحمة للمؤمنين . وكان يستغفر لبعض المنافقين الذين يسخرون من المؤمنين الفقراء الذين يتطوعون بالقليل مما يملكون فنزل الوحى الالهى يعاتبه بأنه مهما استغفر لأؤلئك المنافقين فلن يغفر الله لهم :( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) التوبة ). ويكفى أن الله جل وعلا وهو الرءوف الرحيم وصف خاتم النبيين بأنه عليه السلام بالمؤمنين رءوف رحيم :( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) التوبة ). وهو عليه السلام الوحيد من البشر الذى يوصف بهاتين الصفتين . 2 ـ هنا الفارق بين السنّة الحقيقية للرسول الذى كان رءوفا رحيما وبين السّنة الوهابية المؤسسة على الافتراء والكذب وسفك الدماء والغلظة والقسوة والتزمت والتشدد والتطرف . ومن السّنة القرآنية نبع المبدأ التشريعى بحصانة النفس البشرية وحق الحياة ، ومن السّنة الشيطانية الوهابية نبعت شريعة الوهابية بالقتل العام للأفراد ( قتل المرتد والزنديق وتارك الصلاة والزانى المحصن والمعارض للمستبد وفى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.) وبالقتل العام بحجة الجهاد .
ثالثا : الانتحار بين تشريع الاسلام والتشريع الوهابى
1 ـ فتح العالم المعاصر عينيه عجبا ورُعبا وهو يشهد نوعا جديدا من الارهاب ، يقوم فيه المجرم الارهابى الوهابى بتفجير نفسه ليقتل الناس عشوائيا . جريمة دنيئة بكل المقاييس يرتكبها أولئك الوهابيون على أنها جهاد فى سبيل الله ، ويقتنع الارهابى المنتحر بأنه وطبقا لأحاديثهم الضالة سيجد بمجرد موته عشرات الحور العين يفتحن أحضانهن له . هنا أسفل الحضيض فى الانتحار؛ أن تقتل نفسك عدوانا وظلما لكى تقتل الأبرياء عدوان وظلما . هنا العدوان والظلم مركّب ومتشعب .
2 ـ فى مقابل هذا الحضيض الوهابى نقرا هذا التشريع الالهى الذى يعبّر عن مبدأ الرحمة الالهية بنا : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) النساء ) هنا نهى وتحريم للإنتحار لأن الله جل وعلا رحيم بنا. !. فماذا إذا إنتحر بعضهم عدوانا وظلما كالارهابيين الوهابيين ؟ يقول جل وعلا : ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)النساء ). ليس من حقك أن تقتل نفسك إلا إذا كنت مضطرا متيقنا أن مصيرك القتل وأنت بين أعداء شرسين يعذبونك لتعترف . والله جل وعلا هو الذى يعرف سريرتك . إن لم تكن فى حالة ضرورة فأنت تنتحر عدوانا وظلما ومصيرك الخلود فى النار . الحضيض أن تنتحر لتقتل معك أبرياء كالجهاد الوهابى .. حضيض الحضيض هم أرباب الوهابية من الشيوخ والقادة الذين يخدعون الشباب ، ويحولونهم بالافتراء الدينى الوهابى من شباب مُقبل على الحياة الى شباب يضحى بحياته ويقتل الأبرياء .! بينما أولئك القادة مع عائلاتهم يمرحون .!
رابعا : التأكيد على تحريم قتل النفس البريئة الزكية فى التشريع الاسلامى
1 ـ المقصود بالنفس البريئة الزّكية هى التى لم ترتكب جريمة قتل تؤاخذ بها بعقوبة القصاص .
2 ـ وفى السور المكية كان التركيز على الدعوة الى ( لا اله إلا الله ) باخلاص الدين لله جل وعلا والتربية الاخلاقية السامية.ولم يتسع المجال حينئذ للتفصيلات التشريعية التى نزلت فيما بعد فى المدينة. نزل فى السور المكية الكليات التشريعية والقواعد التشريعية الأساس،بما يشبه فى عصرنا (الاعلان الدستوى ) الذى يمهد لدستور قادم يحوى التفصيلات .
2 ـ الكليات التشريعية : مثل قوله جل وعلا :( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)( الأعراف). هنا تحريم عام ومُجمل للفواحش (الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)،وهى تشمل الزنا ومقدماته والشذوذ ، وتحريم (وَالإِثْمَ) والإثم يشمل الخمر ، ثم جاء فى المدينة تشريع تحريم الخمر لأنها ( إِثْمٌ كَبِيرٌ )البقرة 219 )، وتحريم (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، والبغى بغير الحق يشمل التعدى بالقتل والسلب والنهب والاغتصاب . ، وتحريم الشرك وإفتراء الأحاديث الكاذبة تقوّلا على الله ورسوله.
3 ـ ونزلت فى مكة القواعد التشريعية ضمن الوصايا الأخلاقية والدعوة لاخلاص العقيدة لله جل وعلا وحده : 3/ 1 :فالوصايا العشر جاءت فى ثلاث أيات فى القرآن الكريم ( الأنعام 151 : 153 ) ، فى الآية الأولى منها يقول جل وعلا ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)الانعام ) . وهنا تحريم لقتل الأبناء بما يشمل الاجهاض لجنين ينبض بالحياة،مع قاعدة تشريعية تحرّم قتل النفس إلا بالحق :(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ )
3/ 2 : وتكررت هذه القاعدة التشريعية (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) فى سورة الاسراء المكية ضمن منظومة من الوصايا الايمانية العقيدية والاخلاقية تكرر وتفصّل الوصايا العشر، بدءا من قوله جل وعلا :(لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23)( الاسراء ) ، وفى ضمنها يقول رب العزّة : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ )(33) ( الاسراء ).
3/ 3 : وتكرر هذا وتأكّد ضمن صفات عباد الرحمن السامية العالية ، وتبدأ بقوله جل وعلا :( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63)الفرقان ). ونلاحظ التناقض هنا بين أتباع الشيطان وعباد الرحمن .وضمن الصفات السامية عنهم يقول جل وعلا :( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ )(68) الفرقان ). ويلاحظ أن التعبير القرآنى جاء بصيغة واحدة فى تلك القاعدة القرآنية ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ﴾، ﴿وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ﴾.ومعناه أن الله تعالى حرم قتل النفس، وتلك هى القاعدة الأساسية، والاستثناء الوحيد هو القصاص الذى نزل فى كلام الله الحق ، يقول تعالى عن القرآن ﴿وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ﴾ (الإسراء 105). فالحق هنا هو القصاص ، وهو الذى نستطيع به الاستثناء من القاعدة القائلة ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ﴾ ، فالحق هو كلام الله تعالى الحق فى القرآن الحق الذى نزل بالحق . المستفاد مما سبق أن قاعدة (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) تكررت فى التشريع المكى ثلاث مرات دليلا على الحرص البالغ على حق الحياة وحصانة النفس البريئة الزكية . ثم جاءت التفصيلات التشريعية فى السور المكية سواء فى القتل الجنائى أو فى القتال الدفاعى .
خامسا : التخفيف والرحمة فى تشريع القصاص فى جريمة القتل
1 ـ ليس هناك مبرر لقتل النفس إلا إذا قتلت النفس نفساً أى فى القصاص. وقاعدة ( النفس بالنفس ) نزلت فى التوراة ، وذكرها رب العزة فى سياق تحاكم بنى اسرائيل للنبى فى سورة المائدة ، وهى من أواخر ما نزل فى القرآن . يقول جل وعلا للنبى عنهم : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ) (44) المائدة ) بعدها يقول جل وعلا عن عقوبة القصاص فى التوراة : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (45)المائدة).
هذا هو المكتوب عليهم ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ). أما المكتوب علينا أهل القرآن فهو تحديد وتقليص للقصاص ، وإمكانية العفو عن القاتل بالدية تخفيفا من الله جل وعلا ورحمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)البقرة).أى فى التشريع الخاص بنا نحن المسلمين نزل تخفيف واستثناء ينجو به القاتل من القتل إذا رضى أهل القتيل بالدية ، فالتخفيف هو الأداء للدية بإحسان بعد عفو أهل القتيل أصحاب الدم. إذن فقاعدة ﴿النّفْسَ بِالنّفْسِ﴾ نزل فيها استثناء هو إعطاء الدية أى أن القاتل لا يقتل فى كل الأحوال..وذلك (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).
سادسا : القصاص فى تشريع القتال فى سبيل الله :
1 ـ وحتى فى القتال فى سبيل الله فإن القصاص هو القاعدة الأساسية لأن تشريع الله تعالى حياة للناس وعدل ورحمة وإحسان.والقصاص فى حد ذاته يؤكد عدم الاعتداء لأنك لا تعتدى بل تقتصّ من المعتدى الذى سبق وإعتدى عليك ، ومفهوم القرآنى للقصاص إنه عقاب بالعدل بلا تجاوز فى الانتقام . إنّ الله سبحانه وتعالى يمنع الاعتداء ويجعل القتال فى الدفاع عن الدولة فقط ضد من يهاجمها يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة 190). وجاء تشريع القصاص فى القواعد الأصولية للقتال فى قوله تعالى: ﴿الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ﴾ (البقرة 194).أى يحرم الله تعالى على المسلمين مجاوزة القصاص فى حربهم مع المعتدين فإذا قتلوا من المسلمين عشرة فيحرم على المسلمين أن يقتلوا منهم أكثر من عشرة.. وذلك هو تشريع القصاص الذى هو حياة لنا ولغيرنا.
2 ـ وإذا كان ذلك فى تشريع القتال مع العدو الذى يعتدى علينا فالأمر يكون أكثر أهمية فى التعامل مع الإنسان الذى لا يرفع سيفاً، إذ لا مبرر لقتله إلا فى حالة واحدة، وهى أن يرتكب هو جريمة قتل ويصمم أهل القتيل على القود منه أى على قتله ويرفضوا أخذ الدية.
3 ـ ومن أفظع الظلم أن نحكم بقتل نفس لسبب آخر خارج القصاص ثم ننسبه لدين الله تعالى، ودين الله تعالى يرىء من هذا الافتراء .
4 ـ وهناك تفاصيل أكثر فى أبحاث سبقت لنا ، مثل ( حد الردة ) و( الاسلام دين السلام )و ( المسكوت عنه من تاريخ عمر ) و ( إضطهاد الأقباط بعد الفتح ( الاسلامى ) ..
المبدأ السابع من مبادىء الشريعة الاسلامية : التخفيف والتيسير فى إصدار التشريعات
فى الفصل السابق عن المبدأ الخامس ( حق الحياة وحصانة النفس البريئة ) قلنا إن هذا المبدأ ينبع من ( الرحمة ) فالله جل وعلا هو الرحيم ، وهو الذى أرسل رسوله بالقرآن الكريم رحمة للعالمين ، وأن سنة النبى وطريقته فى حياته أنه كان بالمؤمنين رءوفا رحيما ورحمة تسعى على قدمين ولم يكن فظّا غليظ القلب كالوهابيين . وبهذه الرحمة نزل الـتأكيد على عدم قتل النفس البرئية وتحريم الانتحار ونزل تخفيف القصاص بدفع الدية ، ونزلت تشريعات القتال بالدفاع فقط قصاصا . المبدأ السادس عن التخفيف والتيسير فى التشريعات ينبع أيضا من الرحمة الالهية بنا . ولقد سبق تأصيل موضوع الرحمة فى الاسلام بحيث لا نحتاج الى تكراره هنا ، وندخل مباشرة فى موضوعنا عن مبدأ التيسير ورفع الحرج والعنت والمشقّة.
أولا : مبنى الدين الاسلامى وشريعته على رفع الحرج :
1 ـ يقول جل وعلا ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(78) ( الحج ).و( الحرج ) هنا هو المشقة والعنت ، فشريعة الاسلام مؤسسة على التخفيف ، وهذه هى إرادة الله جل وعلا فى التشريع : ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) النساء )
2 ـ ومن مظاهر التخفيف ورفع الحرج أن الله جل وعلا لا يكلف نفسا إلا وسعها أى فى حدود طاقتها ، وتكرر هذا فى القرآن الكريم : وخلال الوصايا العشر ( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا )(152)الأنعام). والمؤمنون الحقيقيون أصحاب الجنة ليسوا المتزمتين المتطرفين بل هم الملتزمون بتطبيق شرع الله جل وعلا القائم على أنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، يقول جل وعلا عن أصحاب الجنة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) ( الأعراف )ويقول عن صفات المتقين :( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)( المؤمنون ).
3 ـ ومن التخفيف عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ غير المقصود ، وأن تتحمل النفس فى حدود طاقتها فقط : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ )(286)البقرة ).
وبالتالى فالمؤاخذة فقط عند التعمّد :( لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)( البقرة )( لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ )(89)( المائدة )(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)) ( الاحزاب ).
4 ـ ومن التخفيف عدم المؤاخذة عند الإكراه حتى فى التلفظ بالكفر : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)( النحل )، ولا مؤاخذة على من يكون ضحية الاضطهاد ظلما فيلجأ للتقية بأن يوالى ظاهريا الكافرين المعتدين لينقذ حياته : (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً )(28) ( آل عمران ) ولا مؤاخذة على الأنثى ضحية الاغتصاب : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور )
5 ـ وعند الاضطرار أباح الله جل وعلا الكل من الطعام المحرم : (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة ) (فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)المائدة )
6 ـ ورفع الحرج على المُعاقين والمرضى ( لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) (61)( النور ) (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ (17 ) ( الفتح )، وهذه الأعذار تشمل النساء والرجال معا بلا تفرقة فى السفر والحضر والعمل والجهاد والتفاعل الاجتماعى .
ثانيا : مظاهر التيسير والتخفيف فى العبادات
1 ـ الطهارة : هناك ملايين الصفحات فى كتب الفقه السّنى التى تتفرّغ لموضوع الطهارة والوضوء والغسل والتيمم والمسح على الخفين والاستنجاء ..الخ .وقد دخلت فى تفريعات شتى ومعقّدة عن نوعيات الماء وكيفية التطهر من البول والبراز والغسل والنجاسات .. وإمتلأت بالخلافات والتصورات الخيالية والمضحكة . هذا مع أن الله جل وعلا أنزل فى تشريعات الوضوء والغسل والطهارة آيتين فقط فى سورتين مدنيتين ، فى سورة النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) ) وقد ختمت الاية بعفو الله جل وعلا وغفرانه بما يشير الى التيسير ورفع المشقة . وجاء فى سورة المائدة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)) وجاء ختم الآية بالتأكيد على رفع الحرج : ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)( المائدة )
2 ـ الصلاة : أباح الله جل وعلا قصر الصلاة عند الخوف فى وقت الحرب أو المّطاردة من العدو المعتدى ( النساء 101 :102) وأباح الله جل وعلا الصلاة بأى كيفية عند الخوف : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)( البقرة ). ومنه الخوف من ضياع وقت الصلاة ، أو عندما يكون المؤمن فى سفر فى طائرة أو سيارة لا يستطيع أداء القيام والركوع والسجود ، او الذهاب الى دورة المياه ليتوضأ ، عندها يمكنه أن يتيمم بمسح يديه بأى شىء طاهر ويمر بيده على وجهه وذراعه ويصلى وهو جالس فى مكانه. المهم أن يخشع فى صلاته .
3 ـ الانفاق فى سبيل الله جل وعلا :فى الاستعداد لمعركة ( ذات العُسرة ) تحتم التبرع المالى ، والتطوع للقتال . وكان بين المؤمنين ضعاف ومرضى وفقراء ، أولئك رفع الله جل وعلا الحرج عنهم طالما كانوا بضمائرهم يتمنون الخير للمؤمنين وينصحون لهم ، بل جعلهم رب العزة ( محسنين ) طبقا لمشاعرهم النبيلة ، فقال جل وعلا :( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)التوبة ) . وألحق رب العزة بهم الفقراء العاجزين عن وسيلة ركوب تحملهم ، وقد جاءوا للنبى عليه السلام يرجون أن يساعدهم ، ولم يكن يستطيع ، فرجعوا يبكون لحرمانهم من شرف الجهاد لسبب خارج عن إرادتهم ، فقال جل وعلا فى رفع الحرج عنهم وفى إعتبارهم محسنين :( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92)) ( التوبة )
4 ـ الحج : ومعروف أن الحج ليس فريضة على الجميع بل على المستطيع فقط بماله وجسده : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97)( آل عمران ). ولو كان فرضا على الجميع كالصلاة لأصبح مشقة . ومن العججائب أن يحرص الفقراء والمرضى على الحج فى عصرنا ، وأن يتكبدوا رسوما هائلة لدولة تسيطر ظلما وعدوانا على البيت الحرام ، وتستغله فى ملء خزائنها ، وهى مكدسة أصلا بالبلايين .
5 ـ الصيام : جاء فى تشريع الصيام خمس آيات فى سورة البقرة ( 183 : 187 ). ذكرت الآية الأولى فرضية الصوم وسيلة للتقوى ، وأن طريقة الصوم مثلما كانت فى ملة ابراهيم ،وبعدها جاء التخفيف والتيسير بالافطار للمريض والمسافر مقابل ان يقضى الايام التى يفطرها ، والفطر لمن يجد مشقة فى الصوم مقابل أن يدفع فدية طعام مسكين . ثم نزل التخفيف بأن يقتصر الصيام من الفجر الى دخول الليل ، وقبلها كان الصيام يمتد من العشاء الى مغرب اليوم التالى . والملاحظ أن آيات تشريع الصيام تحتوى على 179 كلمة . منها 19 كلمة فقط فى فرضية الصوم ، و 160 كلمة فى الأعذار المبيحة للفطر ، وفى تخفيف وقت الصيام . وجاء ضمن الآيات التأكيد على مبدأ التيسير قوله جل وعلا :(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)( البقرة ).
ثالثا : من مظاهر التيسير والتخفيف فى تشريعات الأحوال الشخصية والمعاملات
1 ـ التراضى : فى عقد الزواج : بعد الاتفاق على الصداق ـ وهو فرض ـ فكل الشروط مفتوحة بالتراضى بين المتعاقدين : ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ )(24)( النساء ). وبالتراضى يُباح كل تعامل تجارى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ )(29)( النساء )
2ـ بالتراضى وبالمعروف ( أى المُتعارف على انه عدل وقسط ) تتم سائر الأحوال الشخصية فى الطلاق ، مثل رضاعة المولود ( البقرة 233 ) ومتاع المطلقة ( البقرة 236 ) وسكن المطلقة وإعاشتها ( الطلاق 6 : 7 ) وفى حرية المطلقة فى الزواج بعد الانفصال ( البقرة 232 ).
رابعا : التخفيف فى محدودية الالزام فى شريعة الاسلام :
1 ـ لا تتدخل الدولة فى علاقة الفرد بربه فى العقائد والعبادات طبقا للحرية المطلقة فى الدين . ينحصر تدخلها فى حقوق الأفراد والأحوال الشخصية بما يخص حقوق المرأة . والتعويل الأساس ليس على الضبطية القضائية بل على ضمير المسلم ، فمعظم التشريعات تكون علاقة خاصة بين المؤمن وربه ، لذلك يأتى التأكيد على الوعظ بالتقوى فى تنفيذ التشريعات كقوله جل وعلا: ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)الطلاق )( وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) ( البقرة ).
2 ـ التدخل الأساس هو فى حماية الفرد والمجتمع ،وهنا تأتى العقوبات فى القتل والزنا والشذوذ والسرقة وقطع الطريق وقذف المحصنات . وليس فى شريعة الاسلام عقوبات الرجم والردة وترك الصلاة وشرب الخمر، فهى من إفتراءات الفقه السّنّى . والتيسير فى هذه العقوبات يتجلى فى أنها ليست للانتقام بل للإصلاح ، بدليل أن التوبة الظاهرية تُسقط عقوبة الزنا والقذف ( النور : ـ 5 ) والشذوذ ( النساء 16) وتُسقط عقوبة السرقة وقطع الطريق ( المائدة 39 ، 33 : 34 ) .
3 ـ إن المقصد الأكبر هو التقوى وأن ينجو الفرد من الخلود فى النار . وكل عذاب الدنيا لكل البشر لا يعادل لحظة عذاب لفرد واحد فى الجحيم فى اليوم الآخر . وهناك أكثر من ألف آية تصف هول عذاب الآخرة ، وفى هذا تكون العقوبات هى للاصلاح وليس للأنتقام . يؤكد هذا أن هناك عذاب يوقعه الله جل وعلا بالعاصى فى الدنيا جزاء عدوانه ، فالقاعدة القرآنية تؤكد : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) ( النساء ). وهذا الجزاء السىء يكون عذابا فى الدنيا قبل الآخرة ( آل عمران 56 ) ( التوبة 55 ، 85 ، 74) ( السجدة 21 ). وبالتالى فالتعويل هو على عذاب الله جل وعلا للعصاة فى الدنيا والآخرة ، وأن العقوبات المنصوص عليها فى القرآن هى للاصلاح ، لذا تسقط بالتوبة . وسبق أن القاتل ينجو من القصاص لو رضى أهل القتيل بالدية .
أخيرا : التخفيف فى قلّة التشريعات المنصوص عليها فى القرآن :
1 ـ التشريعات الاسلامية الواردة فى القرآن فى حدود مائتى آية ، بما فيها من تكرار وتفصيلات ووعظ ، ومعظم تفصيلاتها ينصب على الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وما يتبع ذلك من ميراث ووصية ، وبعض المعاملات التجارية .. ثم تأتى قواعد تشريعية تحتكم الى العُرف أو المعروف أى المتعارف على أنه عدل وقسط . ، أى إنّ المجال مفتوح للناس فى سنّ قوانين تراعى مصالحهم فى أمور دنياهم وفى إطار العدل والقسط والتيسير والتخفيف .