تغيرت طبيعة العاصمة السودانية «الخرطوم» خلال الأيام الثلاثة الماضية لحد واضح، إذ خلت الشوارع من المارين، واختفى الازدحام المروري الذي اعتيد عليه في الصباح مع خروج الموظفين والتلاميذ والطلبة لقضاء مصالحهم، فقد لبى هؤلاء نداء العصيان المدني الذي دعوا إليه عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
ومع انتهاء الأيام الثلاثة للعصيان، أُعلن عن تجديد هذا العصيان في وقت قريب، وهو ما يشير إلى أن النشطاء والمعارضين السودانيين دخلوا حلقة جديدة من الصراع مع السلطات الحاكمة في السودان، حيث يصرون على منع تطبيق قرارات الحكومة القاضية برفع أسعار سلع أساسية، في وقت يقبع فيه المجتمع السوداني في فقر شديد.
دوافع العصيان المدني
احتجاجًا على رفع الدعم عن المحروقات، والدواء وارتفاع أسعارها، أطلق ناشطون سودانيون الأحد الماضي دعوى لعصيان مدني، وإضراب عام كامل لمدة ثلاثة أيام، وانضمت أحزاب سياسية معارضة، وحركات مسلحة لهذا العصيان.
ورغم أن مظاهر الحياة عادت اليوم إلى مؤسسات وطرق الخرطوم بشكل تدريجي مع انتهاء العصيان أمس، إلا أن الحديث جاري عن عصيان آخر مفتوح في 19 ديسمبر (كانون الأول) القادم، كما أعلنت اللجنة التنفيذية للعصيان «خلاص».
بدت شوارع الخرطوم خلال أيام العصيان الثلاثة في استجابة واضحة من قبل قطاعات واسعة لقرارات العصيان؛ توقفت الحافلات ووسائل النقل العام عن العمل، وفضل العديد من السودانيين عدم إرسال أبنائهم إلى المدارس، إما استجابةً للإضراب، أو خوفًا من اندلاع اشتباكات مع الشرطة.
أما ردة فعل الحكومة السودانية، فتمثلت في مواصلة جهاز الأمن السوداني حملة اعتقالاته للمعارضة السودانية، والتحذير من أي تحرك احتجاجي، كما أوقفت قناة أم درمان التلفزيونية الخاصة عن البث، وصودرت طبعتان من عدد الأمس لصحيفتي الأيام والجريدة المستقلتين، وبقيت أسعار المازوت والبنزين على ارتفاعها بنسبة 30%، جراء تراجع احتياطي العملة الصعبة، ولكن الحكومة السودانية اضطرت على الجانب الآخر للتراجع عن قرار أصدرته بزيادة أسعار الأدوية.
يشار إلى أن السودان خسر ثلاثة أرباع احتياطياته النفطية بعد انفصال جنوب السودان في 2011، ومع تدهور الأوضاع رفعت الحكومة السودانية الدعم عن السلع الاستهلاكية الرئيسية، في وقت يعيش فيه غالبية الشعب السوداني تحت خط الفقر، وقد تسبب التضخم الذي تعيش فيه السودان فعليًّا في تخفيض القوة الشرائية للرواتب بنسبة 40% في المتوسط، وتعيش السودان تحت نيران الغلاء، حيث بلغ معدل التضخم 18% في شهر سبتمبر )أيلول( 2016، بالمقارنة مع معدل 12.6% في نهاية ديسمبر )كانون الأول) 2015، وفق الجهاز المركزي للإحصاء.
ويهدف الناشطون من العصيان الضغط على الحكومة، لحثها على التراجع عن حزمة القرارات الاقتصادية التي أقرتها أخيرًا، وصولًا إلى رغبة بعضهم في إسقاط النظام. يؤكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة أم درمان الإسلامية عبده مختار، أن: «سياسة الاعتقالات ربما تؤدي إلى انفجار الوضع بالكامل، وستزيد حدة المواجهة بين الحكومة والمعارضة، وتضعف الثقة في الحوار الوطني الذي جرى في السودان مؤخرًا»، متابعًا أنها: «ستسمم المناخ السياسي التصالحي الذي نشأ في البلاد خلال المرحلة الماضية».
العصيان.. مفاجأة للحكومة
في عام 2013، قررت الحكومة السودانية خفض دعم المحروقات، وزيادة تعريفة حافلات الركاب، وتمثلت ردة الفعل الشعبية حينها بتظاهرات واسعة سقط خلالها نحو 200 قتيل، كما قالت منظمات حقوقية دولية.
لذلك عندما لامست الحكومة السودانية احتجاجًا شعبيًّا بعد رفع الأسعار مؤخرًا، استعدت للمواجهة، إلا أن العصيان المدني والتزام السودانيين به فاجئ النظام السوداني، كونه وسيلة كانت خارج الصندوق، ولم يستخدم من قبل ضد حكومة البشير التي مضى عليها 27 عامًا.
ومع تفاجئها بإعلان العصيان المدني، تعجلت الحكومة السودانية بإعلان فشل دعوات العصيان، وعكفت خلال الأيام الماضية على التأكيد عبر بياناتها أن العمل يسير بصورة طبيعية في كافة المنشآت والمرافق والمؤسسات، مصرة على حالة الإنكار، والقول بأن العصيان المدني فشل، وأن «مؤسسات الدولة والموظفين ذهبوا إلى مكاتبهم ولم يستجيبوا لدعوات العصيان والمعارضة»، حتى أن الرئيس السوداني عمر البشير قال بالأمس لصحيفة «الخليج»: «نؤكد أن العصيان المدني الذي تم الترويج له مؤخرًا كان فاشلًا بنسبة مليون%، وجميع الناس كانت حريصة على الحضور لعملها، ويوم الأحد الماضي شكل نسبة حضور عالية».
يعقب المحلل السياسي محمد علي سعيد بالقول إن: «التزام المواطنين وعدم التظاهر فاجأ الأجهزة الأمنية التي كانت تستعد للمواجهة، وكانت محاولات وزارة الصحة تدارك الأمر بإعلانها إلغاء زيادة فاتورة الدواء لم تقنع المواطنين لأن قرار الزيادة نفسه لم يأت من وزارة الصحة».
هل انتهى العصيان؟
«العصيانُ المدني هوّ الشرارةُ الناجعة للتغيير، أمّا العصيان المدني الناجح، مثل الذي أحدثتموه بجدارةٍ وشجاعة خلال الثلاثة أيام الماضية، هوّ منصةُ التغيير ذاتُها«، هكذا خاطب البروفيسور السوداني كامل إدريس المواطنين السودانيين في اليوم الأخير للعصيان، ويحتمل استخدام العصيان المدني كوسيلة احتجاج طويلة النفس، لأن المواجهة مع السلطات الحاكمة غير قائمة، لذلك سرعان ما أعلنت اللجنة التمهيدية للعصيان المدني «خلاص» أنها: «تخطط ليكون العصيان المدني عبر مراحل تمهيدية، ثم مرحلة عصيان مدني مفتوح يبدأ في 19 ديسمبر (تشرين الأول) القادم الذي يوافق ذكرى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان.«
وأضافت اللجنة في بيانها: «المرحلة القادمة تشمل تكوين لجان للعصيان والتغيير في كل مدينة بالسودان، وتحرك هذه اللجان الدعوة للعصيان بنشاط وفعالية»، وقالت اللجنة إن 19 من ديسمبر (تشرين الأول) «سيكون بداية العصيان المدني ببقاء الجميع في بيوتهم، وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى، وعدم مواجهة أو استفزاز القوات الأمنية».
يقول الكاتب السوداني ياسر محجوب الحسين: «لعل أكبر مشكلة تعاني منها الحكومة اليوم انعدام ثقة المواطن في الإجراءات التي تتخذها، وعدم شفافية مسؤوليها، ونهيها عن أشياء لتأتي هي بمثلها»، ويوضح أنه منذ عام 1990 وحتى اليوم، تكرر الحكومة البرامج والسياسات المعلنة ذاتها بمسميات مختلفة، «بيد أن النتيجة هي الفشل الذي يتحمل المواطنون أعباءه، فقد كان هناك البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي، ثم الإستراتيجية القومية الشاملة، ثم النفرة الزراعية، ثم النهضة الزراعية، وأعقبها الخطة الخمسية الأولى، والثانية، وبعد انفصال جنوب البلاد، جاء البرنامج الإسعافي الثلاثي. كل ذلك لم يفلح في وقف تدهور الأوضاع، ولم يفلح بالضرورة في كسب ثقة المواطن»، حسب الحسين.
ويرجع الناشط السوداني الطيب عبد السلام عدم تحقيق العصيان لكل أهدافه لعدم وجود قطاع عام يستطيع أن يفعل إضرابًا، فقد خصخصت الحكومة كامل القطاع العام، وبالمقابل أغلقت الباب أمام أي تعددية اقتصادية، تستطيع مشاركتها القرار السياسي، وأضاف عبد السلام لـ«ساسة بوست»: «لكن كي لا نظلم هذا الحراك المدني، نقول إن من مزاياه إشراك الأجيال الجديدة في هم وطنها، لقد أبرز الملكات الفردية في العمل العام، واستثمار قدرات الأفراد في هم مشترك لا يرتبط بمصلحة ذاتية، فهذا التدريب الجماعي لا شك سيخرج لنا مناضلين أقوياء في المستقبل».
وحول دوافع العصيان من وجهة نظره، يقول عبد السلام: «هبطت قيمة الجنيه بعد مساواة سعر الصرف بالبنك المركزي مع السائد خارجه، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار، وانعدام الإنتاج والصادرات، أدت جميعها إلى إفقار الشعب الذي كان الإضراب عنده رد فعل إكلينيكيًّا في مواجهة الوضع الجديد».
وكي لا يُعاق العصيان المدني، يقترح الناشط السوداني وائل علي، التخلي عن العشوائية في الدعوات، وقال علي: «يحتاج العصيان المدني الحالي ليتطور، إلى جسم سياسي يمثله ويتفاوض بالنيابة عنه، مثلما فعلت النقابات والأحزاب عندما توحدت في جسم التجمع الوطني الديمقراطي، وتفاوضت مع المشير سوار الدهب على انتقال السلطة بعد الانتفاضة ضد النميري في 1985».
ويضيف الناشط السوداني: «كما يحتاج العصيان إلى النزول في الشارع للتظاهر، فالجلوس في البيت ليس حلًّا، ودون تهشيم عصا النظام الغليظة فإن حكمه باقٍ، ولن يتزحزح، وبالتالي يجب على دعاة العصيان أو من أحب أن أسميهم بالعصاة أن يدعوا الجماهير للنزول للشوارع والاحتشاد مثلما فعل آباؤهم وأجدادهم، وأسقطوا حكم الطاغيتين إبراهيم عبود، وجعفر نميري».
السودانيون مصرون على حل أزماتهم!
يؤكد المدون والناشط السوداني وائل علي، أن العصيان المدني هو تمهيد لحراك قادم على الأرض «يقتلع النظام ويستبدله بنظام ديمقراطي تكون فيه السيادة للشعب وليس للدبابة والسلاح»، كما قال.
يقول وائل: «السودانيون كانوا دائمًا يتحركون حتى في الفترة التي تسبق العصيان كان هناك حراك سياسي، وحراك مسلح معارض للنظام، وذلك رغم أن النظام السوداني قبضته الأمنية قوية جدًّا، تشبه إلى حد كبير قبضة نظام صدام حسين ونظام الأسد، ولذلك فالمعارضة السياسية كانت رهانًا فاشلًا حتى عام 2005، وبعد عام 2005 حدث تغيير وأصبح نظام البشير نظامًا نصف ديمقراطي، ولكن منذ انفصال الجنوب النظام استعاد قبضته الأمنية، وهو يريد العودة لزمانه الأول، لذلك اشتعل العمل المسلح».
ويواصل علي حديثه لـ«ساسة بوست»: «ما يؤخذ على هذا العصيان أنه افتقد لقيادة هرمية، لكن في المجمل من يقود الدعوة للعصيان هم شباب يرغبون في حدوث التغيير، وقد ملوا من الأحزاب السياسية التي تقيم الصفقات مع النظام».
ويضيف علي: «نتائج هذا الحراك في رأيي هي في إرسال رسالة قوية للنظام أن خدعة الحوار الوطني التي دعا لها البشير لم تعد تنطلي على أحد، وأن الشعب يريد خطوات عملية في التغيير ومكافحة الفساد»، ويوضح علي أن النظام عنده فرصة أخيرة لينقذ نفسه، تتمثل في تنفيذ خارطة الطريق 8 أغسطس (آب) 2016، التي وقعها مع الاتحاد الأفريقي والمعارضة، كاملة وبدون مماطلة، وعليه الدخول في نظام انتقالي كامل.