ينص الدستور المصري في مادته رقم 86 على أن «الحفاظ على الأمن القومي واجب، والتزام الكافة بمراعاته مسؤولية وطنية، يكفلها القانون. والدفاع عن الوطن، وحماية أرضه شرف وواجب مقدس، والتجنيد إجباري وفقًا للقانون»، وبسبب تلك المادة يلتحق سنويًّا مئات الآلاف من المواطنين المصريين بعيد انتهائهم من مراحل دراستهم بالخدمة العسكرية، ويخدم المواطنون المجندون في تلك الخدمة لمدة تتراوح بين عام واحد وثلاثة أعوام، ويتمّ تخفيض تلك المدة بحسب المؤهلات الدراسية، ويشتمل القانون أيضًا على العديد من حالات الإعفاء النهائي أو المؤقت، لأسباب عائلية أو صحية.
نشأ نظام التجنيد الإجباري في مصر، مع نشوء دولتها الحديثة، في عهد محمد علي باشا، في إطار خطته لتشكيل جيش قوي يفرض به سيادته، في مواجهة أي محاولة لإخضاعه، من طرف الدولة العثمانية تحديدًا، وما زال العمل بهذا النظام ساريًا في مصر حتى يومنا هذا، على الرغم من أن عديد البلدان المتقدمة لا ينص دستورها على إلزامية التجنيد.
لو كنت مصريًّا فإنك على الأرجح استمعت كثيرًا لقصص تروى بين الناس عن تجارب التجنيد الإجباري، بين من يشيد بها ويحكي عن فضلها في حياته وما علمته إياه، وبين من يحكي عن فظائع تُرتكب خلف الكواليس، لكن ظلت مساحة التجنيد الإجباري بالنسبة للإعلام، ضمن مساحة المسكوت عنه والمحظور الحديث فيه، والمدرج ضمن «ممنوع الاقتراب أو التصوير».
المخرج المصري عماد الدين السيد، الذي تواصل معه «ساسة بوست»، قرر أن يكسر حاجز الصمت، ويشيد مغامرة فنية وثائقية جريئة وصعبة، ويخترق عالم التجنيد الإجباري من داخل الثكنات، ويصنع فيلم «العساكر.. حكايات التجنيد الإجباري في مصر»، وسيُعرض الفيلم على قناة الجزيرة يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني).
وقد استغرق العمل في هذا الفيلم عامًا كاملًا، ويأتي هذا العمل بعد آخر أفلام عماد الوثائقية «المندس»، والذي أثار جدلًا كبيرًا في مصر، وحقق نسب مشاهدة مرتفعة.
«العساكر.. حكايات التجنيد الإجباري في مصر»
يستعرض الفيلم الوثائقي مع المشاهدين رحلة شباب يتهيأون لقضاء تجنيدهم الإجباري، لنسير معهم في الرحلة من الكشف الطبي، إلى الـ45 يومًا (فترة مركز التدريب)، ومن ثم الانتقال إلى الوحدة العسكرية، وصولًا إلى انتهاء الرحلة والعودة مرة أخرى للحياة المدنية.
يبدأ الفيلم الذي سيعرض يوم 27 من الشهر الجاري، بمشهد للوحة معلقة على جدار كتيبة، مكتوب عليها «منطقة عسكرية.. ممنوع الاقتراب أو التصوير»، ربما هذا يوحي بكم الصعوبات التي واجهت فريق العمل في جمع المادة الوثائقية عن هذا العالم المجهول.
يشتمل الفيلم على لقطات مسربة من داخل وحدات الجيش، معظمها صور استطاع المخرج الحصول عليها، ويتكتم على مصادره فيما يخص ذلك. إلى جانب صور أخرى صورها فريق العمل بنفسه، وكانت تعتمد بالأساس على الكاميرات السرية، ويقول المخرج أنها كانت أصعب ما في هذا الفيلم، وهذه لم تلتقط مشاهد من داخل الوحدات، وإنما استطاعت التقاط مشاهد للعساكر الذين يبيعون الخبز، والذين يقومون بمهمات جمع القمامة ضمن خدمتهم العسكرية، بالإضافة إلى مقاطع من أرشيف القوات المسلحة، والمشاهد التمثيلية التي تحاكي ما يحكيه العساكر من قصص، والتي لم يتمكن المخرج من تصويرها على الواقع، بالأخص تلك المتعلقة بتكدير العساكر أو ضربهم، إلى جانب لقطات أخذها طاقم العمل من جنود سابقين، كانوا قد أرخوا بالصور أيامهم في حياة التجنيد الإجباري.
ويؤكد المخرج أن فريق العمل بذل جهدًا كبيرًا لتتبع العساكر في تلك الحياة السرية، والبحث عن نوعياتهم المختلفة، مثل العسكري الذي يصطلح عليه في فترة التجنيد بـ«العكسري السيكا»، والذي تكون مهمته الأساسية خدمة الضابط مباشرةً، كما يؤكد نقطةً أخرى، أن فريق العمل أثناء رحلته الشاقة في التتبع وتجميع المادة الوثائقية، كان حريصًا بشدة على ألا يتعرض لأسرار الجيش المصري، أو أي شيء يمت لذلك بصلة، وأن يرصد الوضع للمجندين إجباريًّا، بعيدًا تمامًا عن أي أسرار حربية إن وجدت.
يتتبع الفيلم قصص العساكر الذين يعملون في المشروعات التجارية للجيش، مثل الفنادق والمزارع، ويستكشف ما طبيعة عملهم، ويستكشف هل حقًّا يتم تدريبهم على القتال والشجاعة كما يقال؟ وتروي شهادات الجنود طبيعة التدريبات التي يتلقونها، وطبيعة العلاقة التي تتشكل بينهم وبين الضباط، وما هو الطعام الذي يتناولونه خلال فترة التجنيد، وإلى أي مدى هو ملائم، وهل يختلف عن طعام الضباط؟ وما هي طبيعة العسكري السيكا، وما طبيعة أدواره في الجيش؟
عماد الدين السيد، صانع الفيلم، لم يمر بفترة التجنيد الإجباري، وقد جاءته فكرة الفيلم من مجموعة خبرات متراكمة على مدى طويل في القضية، جاءت عبر مقالات وجلسات مع أصدقاء، طُرح فيها الأمر. ووجد المخرج في فكرة التجنيد الإجباري ضالته، بعد فيلم المندس، فهي فكرة غير اعتيادية، وفي منطقة محرمة لا يقترب منها صنّاع الأفلام الوثائقية عادةً، لكن صعوبات كبيرة كانت بانتظاره منذ حلم بصناعة هذا الفيلم، خلال التحضير، وصار التحدي بالنسبة له هو كيف يحول هذه الفكرة التي لا توجد مقاطع مرئية لها إلى فيلم يعتمد أساسًا على الصورة.
ويضاف إلى ذلك من الصعوبات أن أصحاب الشهادات التي يعتمد عليها الفيلم، كانوا خائفين للغاية من عرضها، فكان التحدي أن هذه الفكرة حين تتحول لفيلم، ستواجه صعوبة الحصول على الصور والمشاهد، بالإضافة إلى أن كل من سيظهرون من أصحاب الحكايات، سيتحدثون دون أن تظهر وجوههم، وسيتم تغيير أصواتهم أيضًا، وهنا يبرز التحدي في أن قضية الفيلم شائكة وحساسة، وتحتاج إلى مادة موثقة دقيقة ومصورة لتكتسب مصداقيتها، وتوجد كل تلك الصعوبات للوصول لتلك المادة؛ لذلك يعتبر المخرج أن الفيلم تحدٍ بكل المقاييس، وفي الواقع ستكون تجربة عماد المحفوفة بالمخاطر على محك الاختبار يوم 27 القادم حين يعرض الفيلم، ويحكم المشاهدون إن كان هذا التحدي قد نجح في إبراز حياة التجنيد الإجباري بتفاصيلها بدقة، رغم الصعوبة البالغة في الحصول على المواد الموثقة، أم لا.
خلال فترة تحضيره للفيلم، وجد المخرج تشابهًا كبيرًا بين كل قصص الذين انخرطوا في التجنيد الإجباري، كلها ترسم نمط «الميري» البائس من وجهة نظر المخرج، والذي لا يتحدث عنه أحد، ويرى المخرج أن تواتر القصص وتشابهها، ومنع الحديث عنها قد استفذه، ووجد نفسه راغبًا بشدة في عرض ورصد ما يحدث بداخل هذا العالم الذي يُمنع الاقتراب منه، أو تصويره. بات الأمر رغبةً ملحةً أن يرصده، وحتى لم تعد فكرة الانتقاد للسلبيات بداخل هذا النظام هو ما يشغله، بقدر انشغاله بالحكي بصوت مسموع، وقد حاول خلال الفيلم أن يعتمد أكثر على الحكايات المتواترة، لا على الحكايات المنفردة والاستثنائية، والتي قد تقلل من مصداقية العمل؛ «كنت عاوز الناس تشوف نفسها في المراية بس.. الفيلم مش فيلم هجومي، الفيلم بيحكي حدوتة».
لن تكون كل الشهادات بداخل الفيلم سلبية عن التجنيد الإجباري، حيث توجد بعض الشهادات لأناس يمتنون لفترة تجنيدهم الإجباري، ويقولون إنها كانت فترة تعلموا فيها الكثير: الصبر والرجولة، لكن المخرج يؤكد أن تلك الحالات كانت تحمل مأسويتها الخاصة، فعند سؤالهم كيف تعلموا الصبر من الجيش؟ أجاب أحدهم: «كنت بتهان وبتعامل وحش وكنت بتعلم الصبر على ده»، وعلى الجانب الآخر يشير المخرج إلى مقولة لأحد العساكر في الفيلم: «إن المشقة لا تعني المهانة»، وهنا يشير المخرج بعد الاستشهاد، إلى الفارق الكبير بين أن يتعلم العسكري الصبر حين يسير 20 كيلومترًا، وبين أن تضرب العسكري على قفاه أو تسبه حين يشعر بالتعب الشديد ويتوقف أثناء هذا السير. هناك خط فاصل بين المشقة والمهانة، وبين التدريبات القوية، وإجبار العسكري على العمل كسيكا للضابط، ينظف له حذاءه ومكتبه، أو أن تكون مهنتك في الجيش أن تبيع خبزًا، هكذا كان رأي عماد.
يؤكد المخرج أيضًا على خطأ التصور القائل بأنك كلما ارتفع مؤهلك التعليمي، كلما تلقيت معاملة أفضل في الجيش، وابتعدت عن الإهانات، ويؤكد أنه اكشتف كون السر يكمن في «الواسطة»، فإذا كنت تمتلك واسطة، فستعامل معاملة ممتازة في الجيش، ولا علاقة للأمر بشيء آخر، ويرصد الفيلم معاناة أصحاب المؤهلات العليا في التجنيد الإجباري، وما يلاقونه من سوء معاملة في أحيان كثيرة، لأن ضباط الصف، يتعاملون معهم في كثير من الأحيان من خلال عقد نقصهم، وهنا لا ينكر المخرج أنه تأكد في رحلته من أن الجنود الذين لا يمتلكون مؤهلات، هم الأكثر تعرضًا للإهانة والقسوة داخل الجيش، لكن هذا لا يعني أن أصحاب المؤهلات العليا لا يتعرضون لنمط آخر من الإهانة، بدوافع أخرى.
يذكر المخرج أن أكثر ما أفزعه خلال رحلة صناعة الفيلم، هي بعض القصص – التي لم تظهر في العمل- عن العساكر الذين ينتحرون داخل الثكنات، وتقوم الإدارة العسكرية بتبليغ ذويهم أنهم قضوا نحبهم في التدريبات، ويؤكد المخرج أن الشهادات تتواتر في هذا الجانب، هذا بخلاف حالات القتل التي تحدث بالخطأ أثناء التكدير، ويحكي المخرج عن إحدى الشهادات التي لم تظهر في الفيلم، وتحكي عن حالة قتل من تلك الحالات، لعسكري يبدو أنه قُبل ومر من الكشف الطبي بالخطأ، وكان لديه مشاكل في عضلة القلب، فسقط أثناء التدريبات، وظن الضابط أنه يدعي المرض ويتكاسل، وضربه حتى الموت، وهناك أيضًا عديد من القصص عن التكدير والتعذيب، بحسب المخرج، ويلفت هنا إلى أن نظام الجيش يجرد العساكر الصغار من القدرة على الشكوى.
بعد رحلة الفيلم الطويلة، لا يمتلك المخرج موقفًا حاسمًا إزاء التحنيد الإجباري، فهو يعلم أن أغلب الدول المتقدمة لا تعتمد فكرة التجنيد الإجباري، لكنه يرى أن الفيلم لا يتحدث عن جدوى التجنيد الإجباري، بقدر ما يتناول جدوى النظام المفعل الذي يقهر العساكر في أحيان كثيرة. يرى عماد أنه يمكن للتجنيد الإجباري أن يستمر ويكون مفيدًا إذا تحسنت شروطه، ويصبح مصنعًا للرجال بحق، بتعليم المهارات والقتال والصبر، بدون إهانات ولا امتهان.