مساحات مختلطة ومناطق غير محسوب الخوض فيها، وتداخلات اجتماعية لا يمكن للسياسة أن تراها بمنظورها العاطفي، حيث إنسان كل ذنبه أنه من أب فلسطيني ووالدته مصرية، هذه التركيبة تجعله استثناءً وسط القاعدة القانونية، ويصبح حاله سؤال: هل يحصل على الجنسية المصرية؟ أم أنه سيتحمل ذنوب السياسة؟ بخاصة هؤلاء الذين تصادف ميلادهم قبل تطبيق قانون الجنسية المصري، عام 2004، مُنتظرًا قرارًا من وزير الداخلية المصري للحصول على جنسية والدته.
وتشغل القضية الفلسطينية مساحة كبيرة من الحياة السياسية المصرية، منذ عام 1948، ويرسم منحنى العلاقات بين القيادة الفلسطينية من ناحية، والنظام المصري مع اختلافه (الملكي والقومي والمهادن والثوري والعسكري)، تصاعد وهبوط يرتبط بموقف القادة الفلسطينيين من قرارات وسياسيات الجانب المصري.
وأمام تلك التقلبات، يدفع الشعب الفلسطيني ثمن سوء العلاقات في كثير من الأحيان، وتعد أبرز تلك الأثمان، التجنس والإقامة على الأراضي المصرية، وتحويل ملف القضية من ملف سياسي وقانوني وإنساني، كما كان من قبل، إلى ملف تديره أجهزة أمنية تقرر وتوافق وترفض وتسمح.
ويعد التجنس بالجنسية المصرية للمولود من أم مصرية وأب فلسطيني، أحد أهم وأبرز تلك التناقضات، فالشق القانوني أنهته المحكمة الإدارية العليا المصرية، وهي أعلى محكمة تفصل في القرارات الإدارية بين المواطنين والدولة، وذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، حيث أصدرت حكمًا بتأكيد أحقية الفلسطينيين المولودين لأم مصرية في حمل الجنسية المصرية، وفقًا للمادة الثالثة من قانون الجنسية المصرية، في حكم نهائي غير قابل للطعن، كما ألزمت المحكمة وزارة الداخلية بتطبيق المادة على الفلسطينيين شأنهم شأن أي جنسية أخرى.
ويأتي حكم الإدارية العليا تأكيدًا لحكم محكمة القضاء الإداري الأقل درجة منها، والتي قضت في ديسمبر (كانون الأول) 2014 بإلغاء قرار وزير الداخلية الصادر بتأجيل منح الجنسية لمن يولد لأم مصرية من أب فلسطيني، دون غيرهم من حملة الجنسيات لآباء آخرين، وإلزامه بمنحهم إياها.
تعديلات قانون الجنسية
صدر في 14 يوليو (تموز) 2004، القانون رقم 154، معدلًا لأحكام كسب الجنسية المصرية الواردة بقانون الجنسية، ونصت المادة الأولى من قانون 2004 على أن يستبدل بنص المادة الثانية من قانون الجنسية نصًا جديدًا يقرر: »يكون مصريًا من ولد لأب مصري أو لأم مصرية…«، وكان وزير الداخلية يرفض منح الجنسية لأبناء المصريات من أب فلسطيني، التزامًا بقرار لجامعة الدول العربية صدر سنة 1959 للحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية.
واستمر الحال قبول من يولد عقب القانون رقم 154 لسنة 2004، في مقابل الرفض لكل مواليد الأب الفلسطيني والأم المصرية، ممن ولدوا قبل إقرار القانون حتى جاءت ثورة 25 يناير واعتصم عدد من المصريات المتزوجات من فلسطينيين، وأعلن عصام شرف رئيس الوزراء وقتها، إصدار تعليمات لوزير الداخلية، بتعديل قرارات سابقة وإعطاء الجنسية لمن ولد لأب فلسطيني وأم مصرية؛ ليصدر منصور العيسوي، وزير الداخلية آنذاك، في الثاني من مايو (أيار) 2011 القرار رقم 1231 المُعدِّل لقانون الجنسية بقبول تجنيس المولود لأم مصرية وأب فلسطيني.
وفور إعلان القرار تقدم عشرات الآلاف من الفلسطينيين بإثباتات وجهزوا أوراقهم، لتقديمها إلى الجهات المعنية في مصر للحصول على جنسية مصرية، ويعد القرار المصري بالنسبة لتلك الفئة الكبيرة من فلسطينيي غزة، الأهم على الإطلاق،
ومن أهم الشروط الواجب توافرها للحصول على الجنسية لمن ولد قبل إصدار القانون في عام 2004، شهادة ميلاد الابن وجواز السفر الأجنبي له، وصحيفة الحالة الجنائية المصرية لمن بلغ سن 16 عامًا، وشهادة ميلاد الأم، ووالد الأم، وعقد الزواج بين الأم المصرية والوالد الأجنبي.
ويجوز لصاحب الشأن طلب اكتساب جنسية الأم المصرية بقوة القانون بمرور مدة عام من تاريخ تقديم الطلب، ما لم يصدر قرار مسبب بالرفض من السيد وزير الداخلية.
وعقب الموافقة يحق له الحصول على أوراق ثبوتية مصرية كاملة. وكل أبناء الأم المصرية زوجة الأجنبي، من مواليد 15 يوليو (تموز) 2004، وما بعدها، يُعتبرون حاصلين على الجنسية المصرية بقوة القانون.
24 ألف موافقة و446 حالة رفض للفلسطينيين
ولأن الأمر مرتبط بالسياسة فعقب أحداث 30 يونيو (حزيران) وتصعيد الإعلام لنبرة التخوين وتأييد الفلسطينيين وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) لجماعة الإخوان المسلمين، فكانت المفاجأة بسحب الجنسيات عن بعض الحاصلين عليها من أب فلسطيني.
وتسجل حالة القيادي في حركة حماس محمود الزهار، أبرز حالات من رُفض قبول جنسيتهم، والتهديد بسحبها. وقال الزهار في مقابلة مع «بي بي سي»، في 30 أبريل (نيسان) 2012 إنه حصل علي الجنسية المصرية بعد تفعيل قانون الجنسية.
وعقب عزل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، قال حسين الريدي، مساعد وزير الداخلية لمصلحة الجوازات والهجرة والجنسية سابقًا، إنه ثبت وفقًا للتقارير الأمنية، انضمام الزهار، وأفراد عائلته لمنظمة «تقوم بالعمل على تقويض النظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة المصرية»، مضيفًا أن مصلحة الجوازات قامت بإعداد مذكرة شاملة بأسباب سحب الجنسية، وأرفقت بها كافة الأدلة والبراهين الموثقة ورفعتها إلى مجلس الوزراء لاتخاذ القرار، حسب قوله.
ووفقًا للقانون المصري، فإن لوزير الداخلية الحق في رفض أي طلب للجنسية سواءً من فلسطيني أو غيره، ورغم التصريحات الإعلامية الكثيرة حول سحب جنسية الزهار، لم يُعلن رسميًا حتى الآن، سحبها، وبشكل واضح وصريح بقرار رسمي من رئيس الوزراء، وإنما اُعلن رفض حصول عدد من عائلته على الجنسية المصرية، وهم هدى محمود خالد الزهار، وابنا أخيه عبد الله يوسف خالد الزهار، وأحمد يوسف خالد الزهار.
وبين قبول التجنيس والرفض، هناك أرقام وإحصائيات لرفض تجنيس الفلسطينيين، يُعد أبرز ما نشر منها حول الرفض، عقب ثورة 25 يناير وحتى مارس (آذار) 2015، إذ وصل عدد قرارات الرفض إلى 460 قرارا، منها 79 قرارا صدرت في الفترة التي تولى فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، والتي استمرت حتى 30 يونيو (حزيران) 2013، و259 في عهد محمد مُرسي، و98 في عهد الرئيس السابق المؤقت عدلي منصور، و24 قرار في عهد الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي، حتى مارس (آذار) 2015.
أما ما يدور حول حالات الموافقة وفقًا لمساعد وزير الداخلية لمصلحة الجوازات والهجرة والجنسية سابقًا، في تصريحات صحافية له، فإنّ 24 ألف فلسطيني حصلوا على الجنسية المصرية منذ شهر مايو (أيار) عام 2011، وحتى مايو (أيار) 2014، بينهم ثمانية آلاف فلسطيني، حصلوا عليها في عهد محمد مرسي.
حكمت المحكمة
حكم المحكمة الإدارية العليا، يُعد ردًا على كل التبريرات، برفض إعطاء الجنسية، حيث أشار حكم المحكمة الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، أن حصول الفلسطيني من أم مصرية على الجنسية، لا يخالف اتفاقية الجنسية الموقعة بين الدول الأعضاء في الجامعة العربية عام 1954، ووقعت عليها مصر في العام نفسه، والتي حظرت في المادة السادسة منها قبول تجنس أحد رعايا دول الجامعة العربية بجنسية دولة أخرى عضو بالجامعة إلا بموافقة حكومته.
وذكرت المحكمة أن منح الجنسية للفلسطينيين لا يتناقض مع قرار مجلس جامعة الدول العربية رقم 1547 لسنة 1959، الذي يحظر منح جنسية أي من الدول الأعضاء للفلسطينيين حفاظاً على الهوية الفلسطينية، مشيرة إلى أن »هذا القرار هو مجرد توصية، ولم تتعامل معه مصر كقرار«.
تاريخ الصعود والهبوط
تشير معظم الدراسات الموثقة، أن مصر استقبلت في فترة الملك فاروق بعد عام النكبة، نحو ثمانية آلاف و500 لاجئ فلسطيني قدموا إليها من يافا، واللد، والرملة وقراها، مع قيام العصابات الصهيونية بحصار مدينة يافا ومناطقها، في الأعوام 1948 إلى 1960.
واختلفت روايات النقل عن أسباب عودة الكثير منهم إلى قطاع غزة، وكانت وقتها تابعة للحاكم العسكري المصري، فقال البعض إن الفلسطينيين خرجوا من المخيمات، وقالوا: »بدنا غزة بدنا عزة» خلال زيارة لوزير المعارف المصري عام 1949، فجرى الاتفاق على نقلهم إلى القطاع، وتبقى البعض في مصر وسافر البعض الآخر للخارج.
ومع حكم عبدالناصر، وارتفاع النبرة القومية، أعطي الفلسطيني حقوق المصري من خلال الدراسة في المدارس الحكومية والعمل في بعض الجهات الرسمية، وأيضًا التملك، وبحلول عام 1969، بلغ تعداد الفلسطينيين في مصر نحو 33 ألفًا.
ولم يكن وقتها تجنيس الفلسطينيين مهما، إذ قُررت لهم كافة الحقوق، بالإضافة إلى أنّ قرارًا صدر من جامعة الدول العربية بمنع حصول الفلسطينيين على الجنسيات العربية، التي توطنوا بها، خوفًا من ضياع القضية لتحفظ حقهم في العودة وفي الحصول على تعويضات عن خسائرهم.
وعقب مباحثات كامب ديفيد ودخول اتفاقية السلام بين الجانب المصري والإسرائيلي حيز التنفيذ، في فترة حكم أنور السادات، بدأت المضايقات تنال الفلسطينيين في مصر، ووصلت ذروتها مع اغتيال الكاتب المصري يوسف السباعي، وكان وزير الثقافة وقتها، في فبراير (شباط) 1978، على يد منظمة أبو نضال (صبري البنا)، المتمردة على حركة التحرير الفلسطيني (فتح)، وأثناء جنازة السباعي، أعلن رئيس الوزراء المصري آنذاك، مصطفى رياض، بأنْ «لا فلسطين بعد اليوم».
وفي يوليو (تموز) 1978، صدر قراران من رئيس الجمهورية، حملا رقمي 47 و48 لسنة 1978، بإلغاء القرارات التي كانت تعامل الفلسطينيين معاملة المصريين، كما حظرت وزارة القوى العاملة اشتغالهم في الأعمال التجارية كأجانب، إلا لمن كان متزوجًا بمصرية، منذ أكثر من خمس سنوات.
واستمر التنكيل بالفلسطينيين في مصر حتي المولودين لأمهات مصريات، ومنعوا من العمل، وفقًا لبعض القوانين، وكانت أهم وأبرز القرارات التعسفية، في عام 1981، حين صدر قرار وزير التربية والتعليم المصري، بنقل الطلاب الفلسطينيين من المدارس الحكومية إلى المدارس الخاصة، ما عدا أبناء العاملين في الجيش وإدارة الحاكم العام لقطاع غزة، كما مُنِع الطلبة الفلسطينيون من الالتحاق بكليات الطب والهندسة والصيدلة والاقتصاد والإعلام، أو ما تُسمى بكليات القمة.
وفي عام 1984، صدر قانون «تنمية موارد الدولة»، الذي اعتبر الفلسطينيين أجانب، ففرضت بموجبه وزارة الداخلية المصرية، على الإقامة السنوية لكل فلسطيني، رسمًا قدره 42,5 جنيه مصري، ومنذ ذلك الحين بدأت تصعد أزمة المولود الفلسطيني من أم مصرية، بخاصة بعد أن أصبح التعليم لهم في مصر، بمقابل بالجنيه الإسترليني.
الانتشار في مصر
وينتشر الفلسطينيون في المدن المصرية الكبرى، كالقاهرة، والشرقية، والقليوبية، والإسكندرية، وبورسعيد، والإسماعيلية، والعريش، ورفح، وعادة ما يحاول الفلسطينيون في مصر الانخراط في المجتمع المصري، كما أن سياسات مصر المقيدة، لم تسمح لهم بإنشاء هيئاتهم المجتمعية المحلية الخاصة بهم.
وبالفعل، كان للاتحادين الفلسطينيين الرئيسيين، وهما اتحاد العمال الفلسطينيين، واتحاد المرأة الفلسطينية، دورٌ سياسي إداري وليس دورًا تمثيليًا، فوظيفة اتحاد العمال الفلسطينيين محصورةٌ في تسجيل الفلسطينيين كعمالٍ بالأجور، وسائقين لسيارات الأجرة ومزارعين، حتى يتسنى لهم تجديد إقامتهم. أما اتحاد المرأة الفلسطينية فيُنفذ أنشطة ثقافية وخيرية لصالح عدد محدود من الفلسطينيين في مصر.
وتحدث «ساسة بوست» إلى بعض الفلسطينيين الحاصلين على الجنسية، وغير القادرين على الحصول عليها، ومن بينهم حاتم جلال، وهو مصري الجنسية، والذي قال: «والدي فلسطيني ووالدتي مصرية، وأنا ولدت في مصر وتربيت فيها حتى أصبح عمري 32 عامًا، وبعد صدور قرار التجنيس للفلسطينيين تقدمت وحصلت على الجنسية«.
وأضاف جلال: «كان الأمر عاديًا عقب ثورة 25 يناير 2011، ولم يكن هناك أية مشاكل، وإنما مجرد تضييقات إدارية، وأعتقد أنها بيروقراطية طبيعية في النظام الإداري المصري».
أما ياسر أحمد، وهو فلسطيني، لأب فلسطيني أمه مصرية، فقال: «جدتي مصرية، وعقب صدور القرار، حاول والدي التقدم بأوراقه للحصول على الجنسية، ولكن كانت هنا بعض المشكلات المتعلقة بالأوراق كما قيل لنا، حيث كان اسم جدتي مختلفًا في الأوراق الرسمية، عن أخواتها».
ونظرًا لوجود والد ياسر أحمد، في قطاع غزة، كانت متابعة الأوراق والتعاملات صعب، ثم بعد 30 يونيو (حزيران) 2013، كانت الصعوبة أكبر، بداية من العبور من معبر رفح، وعلى ما يبدو أدى ذلك إلى أن تخلى والده عن «حلم» الحصول على الجنسية المصرية.
باسل، الذي اكتفى بنشر اسمه الأول، فلسطيني من أم مصرية، قال لـ«ساسة بوست»، إنه لم يتقدم من الأساس للحصول على الجنسية المصرية، لأنه يفضل الاحتفاظ بالجنسية الفلسطينية فقط.
ويعتقد باسل أن أهم المشكلات في الحصول على الجنسية المصرية، هي الشروط الواجب توافرها، والتي يصفها باسل بـ«الشروط الصعبة»، لكن وفقًا له، فإن المشكلة الأكبر والأكثر تأثيرًا هي «التعطيلات المستمرة من الموظفين، والاستعلام الأمني، وهو الأمر الذي يكون سببًا في رفض معظم الحالات».