محمد الشيخ ولد ميخيطر.. حين يقودك القلم إلى حبل المشنقة

في الجمعة ١٨ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

شهدت موريتانيا أمس أطوار محاكمة مثيرة للجدل، محليًا ودوليًا، تتعلق بقضية محمد الشيخ ولد ميخيطر، المهدد بحكم الإعدام على خلفية كتابته مقالًا منذ عامين، اعْتُبر «مسيئًا للنبي».

وأصدرت المحكمة العليا بشأن قضية المدون الموريتاني قرارًا بإرجاء النطق في الحكم، تعقيبًا على حكم القتل الصادر سابقًا في حقه بسبب تهمة «الردة»، إلى جلسة أخرى في 20 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بغاية مزيد من التداول حول الملف.

وقد حضر المحاكمة مجموعة من الناشطين الحقوقيين بالإضافة إلى سفراء أمريكا وفرنسا وإسبانيا من أجل مساندة محمد الشيخ في قضيته، بينما تظاهر مئات المواطنين الموريتانيين أمام بناية المحكمة العليا، مطالبين القضاة بتنفيذ حكم الإعدام في حق المتهم.

حيثيات قضية المدون الموريتاني

تعود الواقعة إلى سنة 2014، عندما كتب محمد الشيخ ولد ميخيطر مقالًا بعنوان «الدين والتدين و(المعلمين)» على شبكة الإنترنت، ينتقد فيه مسؤولية التراث الديني والنصوص الدينية في التراتبية العرقية بموريتانيا، رأى فيه البعض «زندقة» تسيء للدين.

اعتقل على إثر هذا المقال المدون الموريتاني، تحت صيحات مئات الموريتانيين المتظاهرين الذين طالبوا بإعدامه، وحوكم في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2014، حيث وجهت إليه المحكمة الجنائية في نواذيبو تهمة الاستهزاء بالرسول، وأصدرت في حقه حكمًا بالإعدام في ظرف لا يتجاوز 84 ساعة من المداولات، ليصاب حينها المتهم بحالة إغماء عند نطق الحكم قبل أن يتم إنعاشه.

خلف الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية صدمة عارمة وسط الهيئات الحقوقية العربية والغربية، التي طالبت السلطات الموريتانية عاجلًا بالتراجع عن الحكم، ليجيب السفير الموريتاني داخل هيئة الأمم المتحدة، بأنه قد تم اعتقال المواطن الموريتاني محمد الشيخ ولد مخيطير من أجل حمايته من الموريتانيين الغاضبين، ردًا على تعقيب في الموضوع لقاسم الغزالي الناشط العلماني المغربي والملاحظ لدى الأمم المتحدة.

لكن عادت محكمة الاستئناف الموريتانية لتؤكد الحكم بالإعدام مرة أخرى، بعد أن قامت بتكييف التهمة من «الكفر» إلى «الردة»، مراعاةً لتوبة المتهم. وكان الشيخ ولد محمد قد أعلن أمام المحكمة الابتدائية توبته قائلًا  «إذا كان فُهم من كتاباتي أنها ردة فأنا أنفي ذلك كليًّا وأعلن توبتي بشكل علني».

لم تقنع توبة المتهم حتى الساعة المحكمة العليا بالتراجع عن حكم الإعدام الصادر في حقه، بعد أن أرجأت أمس النطقَ بالحكم النهائي حول القضية إلى 20 ديسمبر (كانون الأول) القادم.

ودعا محاميا المتهم، محمد ولد أمين وفاطمة إمباي، أثناء جلسة المحاكمة أمس إلى تخفيف الحكم بتغريم المتهم بدل إعدامه، في حين طالب فريق الجانب النبوي المحامييْن بالاستتابة، بسبب تجرؤهما على الدفاع عن المتهم «المسيء للنبي» في نظرهم، وطالب الفريق أيضًا بتأكيد حكم الإعدام.

المقال المهدد لرقبة المتهم، يتحدث فيه محمد الشيخ ولد ميخيطر عن مسؤولية نصوص التراث الديني والتدين الموريتاني في دونية طبقة «المعلمين» التي ينتمي إليها، مستشهدًا بمجموعة من الوقائع المذكورة في التراث والتي وقعت في زمن النبي، قائلًا «إن محاولة التفريق بين روح الدين وواقع التدين هي محاولات طيبة لكنها لا تنافس، فالحقائق لا يمكن طمسها، وهذا الشبل/ البيظاني من ذاك الأسد…».

العبودية في المجتمع الموريتاني

قال محمد الشيخ عند مواجهته المحكمة «لم يكن الهدف الإساءة إلى النبي بل الدفاع عن طبقة من السكان (الحدادين التي ينتمي إليها) تتعرض لسوء المعاملة»، ولفهم إطار حديث محمد ولد الشيخ، ينبغي إدراك طبيعة المجتمع الموريتاني الديموغرافية.

يتشكل المجتمع الموريتاني من عرب (أغلبية) يتحدثون اللهجة الحسانية، وأفارقة ينطقون لهجة الهالبولار والسونوكي والوولوف، وتتخلل كل من الفئتين طبقات عرقية واجتماعية، ورغم فترة التحديث خلال الاستعمار التي مرَّ بها المجتمع الموريتاني، إلا أنه لا يزال يعاني بحدة من التقليدانية والتراتبية حسب الانتماء العرقي والقبلي.

لعل موريتانيا هي إحدى البلدان القلائل التي لا تزال تحتضن «العبودية» بمعناها الحرفي خلال الوقت الراهن، حيث تورد منظمة «walk free» المتخصصة في قياس مؤشرات العبودية في العالم، أن على الأقل %4 من سكان موريتانيا هم تحت العبودية التقليدية، ومن 10% إلى 20% من الشعب الموريتاني معرضون للعبودية، أي حوالي 140 ألف موريتاني، في حين تذهب تقارير أخرى إلى مئات الآلاف من العبيد في موريتانيا.

وتعرف «والك فري» العبودية بكونها «حالات استغلال، حيث لا يمكن للشخص الذي يعاني من العبودية أن يرفض عمله أو يتركه بسبب تهديدات أو عنف أو إكراه أو إساءة استخدام للسلطة أو الخداع»، وهو الوضع الذي يمس طائفة «الحراطين»، وهي فئة من السود الأفارقة الموريتانيين، ترزح تحت نير التهميش والاحتقار والعبودية، من قبل ذوي البشرة المتفتحة من العرب الذين يسيطرون على الهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية للبلاد.

في نفس الإطار، يذكر تقرير الإدارة الأمريكية الأخير لسنة 2016 بشأن موريتانيا، أن خبراء محليين ودوليين متفقون على أن العبودية الموروثة ما زالت متجذرة في الأرياف والمدن في هذه البلاد، ويضيف «منذ أجيال تعاقبت وعائلات الأسياد تستغل ضحايا العبودية الموروثة للعمل في رعي البقر والخدمة المنزلية دون أجر».

وقد وصفت الخارجية الأمريكية موريتانيا بكونها دولة «لا تستوفي المعايير الدنيا لمحاربة الاتجار بالبشر، ولا تبذل أي جهد لتحقيق تقدم في هذا المجال»، متهمة الحكومة الموريتانية باستمرارها في سجن نشطاء مناهضين للعبودية، وبقمع مطالب المجتمع المدني الساعية لتفعيل قوانين محاربة الاتّجار بالبشر.

من جهة أخرى، تتهم المنظمات المحلية الحقوقية النخب الموريتانية باستغلال النصوص الدينية لشرعنة الاستعباد، وقد سبق لمنظمة «إيرا» لمناهضة الرق أن قامت بحرق متون المالكي علنًا في مظاهرات سنة 2011، كناية منها عن دور هذه الكتب الفقهية في ترسيخ هذه الظاهرة.

في هذا السياق جاءت مقالة المدون الموريتاني، محمد الشيخ ولد ميخيطر، والتي خلص فيها قائلًا «إن الذي يعاني يجب أن يكون صريحًا مع ذاته في سبب معاناته مهما كان السبب، إذا كان الدين يلعب دورًا فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين ورجال الدين وكتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية من: قضايا لحراطين ولمعلمين وإيكاون الذين ما زالوا صامتين».

الحريات محظورة في موريتانيا اجتماعيًا وقانونيًا

تصف موريتانيا نفسها بكونها «جمهورية إسلامية»، ويؤكد رئيسها محمد ولد عبد العزيز مرارًا على حرص بلده على «تطبيق الشريعة الإسلامية ومحاربة العلمانية»، وهي تتبنى المذهب المالكي، وعليه تستمد موريتانيا جل قوانينها القضائية انطلاقًا من هذا المذهب.

وكانت المادة 306 من القانون الموريتاني هي ذريعة حكم الإعدام الذي يواجهه محمد الشيخ، وهي تنص على أن «كل مسلم كان ذكرًا أو أنثى ارتد عن الإسلام صراحة، أو قال أو فعل ما يقتضي أو يتضمن ذلك، أو أنكر ما علم من الدين بالضرورة، أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو أنبيائه، يحبس ثلاثة أيام، يستتاب أثناءها، فإن لم يتب حكم عليه بالقتل كفرًا، وآل ماله إلى بيت مال المسلمين».

وأيضًا تذكر نفس المادة أن «كل شخص يظهر الإسلام ويسر الكفر يعتبر زنديقًا، ويعاقب بالقتل متى عثر عليه بدون استتابة ولا تقبل توبته إلا إذا أعلنها قبل الاطلاع على زندقته»، وهو حكم مستمد من موقف تراث المذهب المالكي في حكم الردة.

ويخالف ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ينص في المادة 18 على أن «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة».

ونفس الشأن في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تقول، «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية».

لكن هذا الانغلاق في الحريات لا يقتصر في موريتانيا على المستوى القانوني فقط، بل يتجاوز ذلك إلى الصعيد الاجتماعي، ويبدو ذلك جليًا في المظاهرات الشعبية التي ترافق كل جولات المحاكمة منذ 2014 إلى أمس، حيث تصيح الجموع فرحًا بحكم الإعدام في حق المتهم، وتهاجم محاميه.

وتظهر هذه المشاهد أن قطاعات واسعة في الشارع الموريتاني تشجع على إعدام محمد الشيخ ولد ميخيطر بسبب مقاله، بالإضافة إلى أن الأحزاب السياسية والنخب الدينية والوسائل الإعلامية بموريتانيا، تعلن تأييدها لهذا الحكم، وهو ما قد يهدد حياة محمد الشيخ حتى إن تم إطلاق سراحه.

بيد أن ذلك ليس غريبًا، بالنظر إلى الطبيعة المحافظة الملحوظة للمجتمع الموريتاني، إذ يظهر استطلاع المؤشر العربي لسنة 2014، أن ما يفوق نسبة 90% من المواطنين الموريتانيين صرحوا برغبتهم في تطبيق الشريعة، كما أن معظمهم لا يفضل النظام الديمقراطي بنسبة %70، بحسب المؤشر، خلافًا لكل الدول العربية.

وتُبَوِّئ المنظماتُ المحلية والدولية الناشطة في مجال الحريات وحقوق الإنسان، موريتانيا، مراتبَ متأخرةً عن بلدان العالم، حيث تضع منظمة «فريدم هاوس»، على سبيل المثال، الدولة الموريتانية بين «البلدان غير الحرة»، بمعدل 5.5 وفق مؤشر الحريات الخاص بالمنظمة لسنة 2015.

هذا وتنخرط مجموعة من الهيئات الحقوقية لتعطيل حكم الإعدام الصادر في حق المدون الموريتاني محمد الشيخ، البالغ 31 سنة، كما يدشن رواد مواقع التواصل الاجتماعي حملات إلكترونية للتعاطف مع قضية المدان، تحت هاشتاج «كلنا_محمد_الشيخ».

ويمكنك عزيزي القارئ أن تطلع على مقال محمد الشيخ ولد ميخيطر الذي تسبب في كل هذه الضجة، وتهددت حياته بسببه؛ من هنا.

اجمالي القراءات 2979