الحسبة.. السلوك الأكثر دموية للتنظيمات الجهادية

في الخميس ٠٨ - سبتمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

الحسبة.. السلوك الأكثر دموية للتنظيمات الجهادية

 

  • الحسبة كانت أثناء بدايات تشكل الدولة في العصر الإسلامي الأول، أشبه بالجهاز الرقابي الذي يهدف إلى ضبط العلاقات بين الأفراد على جميع المستويات، ثم تلاشى هذا السلوك البدائي مع تطور أجهزة الدولة، إلى أن جاءت الجماعات التكفيرية مدّعية إحياء مفهوم الحسبة بطرق دموية، وقد أضفت عليه طابعا شرعيا، والحقيقة أنها تخفي من وراء ذلك تكالبا واضحا على السلطة.

العرب  [نُشر في 2016/09/09، العدد: 10391، ص(13)]

الحسبة بدأت بادعاء النوايا الحسنة وانتهت بسفك الدماء

دبي - تضمن كتاب “نهاية الرتبة في طلب الحسبة” لعبدالرحمن بن نصر الشيرازي (توفي 589هـ) تفصيلات دقيقة عن المحتسب وأخلاقه، وبحوثا عن المهن والحرف التي تقع تحت رقابته. ويعتبر كتاب الشيرازي هذا هو الأصل في كتب الحسبة وتأثرت به الكتب التالية له، بل اقتبسته بنصه ولم تزد عليه إلا إضافات قليلة.

أما ابن تيمية في كتابه “الحسبة” فقد وصف الحسبة بـ”السياسة الشرعية” وبذلك تحول مفهوم الحسبة إلى جهاز مفاهيمي قابل لإنتاج السلطة داخل المجتمع، وربط مفهوم الحسبة بموضوع الدولة العام في مقدمة كتابه. فبين أن مناصب الدولة مناصب دينية، فمن ساسها بعلم وعدل فهو من الأبرار الصالحين، وأن الشرع لم يبين بالتحديد اختصاصات كل منصب، بل ذلك متروك لعرف الناس في كل زمان ومكان. ثم تحدث عن مبادئ الحسبة العامة حديثا شاملا، وكان في حديثه ذلك مستقلا بالبحث غير ناقل عن غيره، كثير الاستشهاد بآيات القرآن والحديث، وبحث أهمية امتلاك المحتسب سلطة عقابية، وبحث أنواع هذه العقوبات وبخاصة التعزيرات المالية.

يمكن القول إن نظام الحسبة كان موجودا منذ بداية العصر الأموي، وإن لم يكن يحمل لفظ الحسبة، إنما كان دور المحتسب في تنظيم السوق موجودا طوال العصر الأموي، وقد نما النظام وتطور بما يوافق تطور قطاع التجارة، والأسواق.

ومنذ أواخر العهد الأموي بدأت الحسبة تأخذ شكل تنظيم وظيفي مستقل، وكان العصر العباسي في عهد الخليفة المهدي الذي استقرت فيه الدولة العباسية، العهد الذي ظهرت فيه مؤسسة الحسبة بسلطاتها الواسعة، وامتدت إلى مدن المشرق ومدن المغرب العربي فالأندلس، وأصبح دورها بارزا وحيويا في ضبط وتوجيه وترشيد السلوك الإنساني التعاملي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

تلاشت الحسبة في معظمها، واستمر تغيب هذه المؤسسة بعد حصول معظم البلدان الإسلامية على استقلالها، في إطار استراتيجيات التحديث التغريبي لمجالات الحياة.

الحسبة كإشكالية مجتمعية تظهر عبر قيام "داعش" بتطبيق الحسبة على المجتمعات الخاضعة لسيطرتها

بالرجوع إلى أدبيات المدونة الفقهية نجد أن الحسبة تمتلك تفصيلا دقيقا، وتخضع لاشتراطات عديدة، فالماوردي يعرف الحسبة بأنها “من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها”. أما القاضي أبو يعلى فيقول عنها إنها “أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله”.

ومع بداية ظهور الجماعات الجهادية وتشكيل ما يعرف بمجتمعات الهجرة، برز مفهوم الحسبة من جديد باعتباره مفهوما مجتمعيا يحق لسائر أفراد المجتمع، بل يجب عليهم ممارسته حتى بغياب الدولة الإسلامية أو الحاكم الشرعي، استنادا إلى نصوص الفقهاء.

مرة أخرى يظهر مفهوم الحسبة كإشكالية مجتمعية وسياسية عبر قيام ما يعرف بالدولة الإسلامية “داعش” بتطبيق الحسبة على المجتمعات الخاضعة لسيطرتها، واعتبار ذلك الاحتساب واجبا شرعيا، بل أساسا من أساسيات الدولة الإسلامية القائمة حاليا. ولكن لماذا اللجوء للعنف الدموي؟ الإجابة عن هذا السؤال من شأنها أن تقربنا مسافة أقرب لطبيعة وأهداف تنظيم الدولة، ولذا فإن مهمتنا هي فهم ما يحدث في سياقه الاستطرادي وفي علاقاته الاجتماعية، فالانتهاكات الخطيرة التي قام بها تنظيم الدولة باسم الجهاد، يمكن وصفها بأنها أقرب إلى الصراع الدموي والوحشي على السلطة منها إلى الجهاد، وبأنه صراع ظاهره ديني، أما باطنه فسياسي، وبأنه اقتتال بين المتصارعين على كسب الشرعية، ولو كان الثمن شلالات من الدماء.

ربما كان من نتيجة ذلك أن مارست هذه الجماعات الحسبة وفقا لفهمها المطلق لمبدأي الصواب والخطأ، وحاولت تعقب أولئك الذين اعتبروا أنهم يَعْتدون على الإسلام.

نجاح تنظيم “داعش” في فرض نفسه على أرض الواقع، وتمكنه من تطبيق ما يعرف بـ”إدارة التوحش”، هو ما جعله متفوقا على التنظيمات الجهادية الأخرى. وهذا ما تؤكده هلا رشيد أمون في دراستها “رحلة العنف المقدس، من الوهابية إلى الدولة الإسلامية”، إذ تقول “إن داعش خرج من رحم القاعدة، وإن صعوده المفاجئ الذي شكل صدمة للرأي العام المحلي والعالمي، خاصة بعد تحول ممارساته الإرهابية إلى أسطورة في التوحش والبربرية، تجعله بحق الممثل الواقعي الأكثر فجاجة للفوضى غير الخلاقة التي تمر بها حاليا المجتمعات العربية والإسلامية”.

اجمالي القراءات 3319