جرى العرف على تعريف النبي أنه رجل أتاه الله النبوه ، وجاءت على يده معجزة خارقة للعادة يؤيده الله بها لتكون دليلاً على صدق نبوته ، فكل نبي جاء بهذا الدليل ، فمنهم من عرفنا معجزته في القرآن الكريم ، ومنهم من لم نعرفها ، وما يهمنا هي معجزة خاتم النبيين وهي القرآن العظيم ، وما أعظمها معجزة ، فهذا رجل نزل عليه كتاب يتحدى به فصحاء العالم بما لم ولن يستطيع أن يأتي بمثله العالم أجمعون قال تعالى ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا )( سورة الاسراء الاية 88 ).
ويختار الله خير الناس لرسالته ، فيكون هذا النبي أنقى الناس قلباً ، وأكثرهم تقوى ، وأنبلهم خلقاً ، فهو أمين الرسالة المنبأة من العليم الخبير ، وأختيار الرحمن ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ )( سورة القصص الاية 68 ).
فلو كان هناك من البشر من هو خير منه لأختاره لهذه الرسالة بدلاً منه ، ولكن علام الغيوب يختار مايشاء ، ويختار خير الرجال ، ولاسيما إختار خاتم النبيين من خيرة الرجال الاحياء في عصره ، ومن أهم صفات الانبياء أنهم لايكتمون حقاً نزل عليهم ، ولايفترون حرفاً واحداً لم ينزل عليهم قال تعالى ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )( سورة الاعراف الاية 161 ) ، وقال تعالى ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )( سورة الاحقاف الاية 8 ).
نفى الله عن الانبياء جريمة الكتمان ، فهم لايكتمون ، والغل هو الكتمان ، وذكر الكتمان بطريقة الغل ذكر جميل وفصيح ، فالغل يأتي من الغلال اي الخزين ، فالذي يغل الغلال يخزنها ليستفيد بها وحده بعد ذلك ويمنع بيعها او تداولها بأي صورة.
فالانبياء صفحة بيضاء معروضة لإخوانهم البشر لايكتمون شيئاً ، واذا جاء احد من اتباع النبي وغل ؟ فهو يأتي بما غل يوم القيامة ويأخذ جزاءه بما كتم عن أخوانه البشر ، وكذلك الانبياء كما انهم لايغلون علماً فهم لايفترون جديداً بغير أمر من الله وهكذا أمر الله رسوله.
أمره الله بأن ينفي عن نفسه جريمة الافتراء لأنها لاتليق به كنبي رسول ، وحسبنا في ذلك تلك المرأة التي جائته تجادله في زوجها وتشتكي الى الله وتحاوره ويحاورها ، فهو لايعرف مصدراً يحاور به غير القرآن ، ولايستطيع أن يبني حكماً من عنده لانه لو تقّول على الله بعض الأقاويل فهو يعلم ماذا سيحدث له فقد أنذره الله بذلك ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ )( سورة الحاقة من الاية 44 الى 47 ).
فكيف يعصي ربه ويأتي بقرآن أخر اي بمصدر أخر غير المصدر الأول والأخير الذي هو القرآن ، فقد قالوا له إننا نريد منك مصدراً ثانياً لهذا القرآن او تبدله ، إما ان تأتي بمصدر ثاني او تغير هذا المصدر ؛ لأنه حساس جداً بالنسبة لهم فيه عقدتهم ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )( سورة يونس الاية 15 ).
وأمره الله أن يقول لهم إني لبثت فيكم عمراً طويلاً فهل قلت لكم كلمة في دين او أدعيّتُ شيئاً من هذا القبيل ؟
ولكن عندما أختارني الله لرسالته ، شاء الله لي أن أقول لكم هذا ، فلو لم يشاء الله ما قلت لكم شيئاً ولاعرفتُم عني شيئاً ( قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )( سورة يونس الاية 16 ).
وكان المشركين أشد إصرار أن يتكلم خاتم النبيين بكلام أخر غير القرآن فظلوا يحاورونه على ذلك حتى وضعوا العقدة في مقابل المنشار ، وقالوا له بصريح العبارة إن عقدتنا القرآن فلو أنك أفتريت غير القرآن سنتخذك خليلاً ، وظلوا يفتنونه ويحاورونه حتى كاد أن يركن اليهم شيئاً قليلاً ، فكأنه رآى بعين السياسة لا بعين الحق انه اذا قال كلاماً من خارج القرآن غير القرآن ويكون متفقاً مع القرآن فلا ضرر طالما سيستجيبوا لي بهذا الاقتراح !!
ولكن الله ثبته على طريق الحق الذي نزل عليه ، وجعله يرفض أن يستجيب لطلبهم بأن يأتي بمصدر أخر للتشريع ، ويكتفي بالمصدر الأول والأخير وهو القرآن ، ولم يتأثر الرسول الكريم بإغرائهم ، ولم يفتري غير القرآن قال تعالى ( وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا )( سورة الاسراء من الاية 73 الى 75 ).
إنهم كانوا لا يكذبون رسول الله ، ولكنهم يجحدون بالقرآن ، وعقدتهم القرآن ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ )( سورة الانعام الاية 33 ).
وهذه العقدة لازمتهم فإذا تكلم النبي عن ربه من القرآن وحده كانوا يشمئزون منه.
لأنهم يريدون منه أن يقول كلاماً غير القرآن ومهما قال غيره يقبلوه ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا )( سورة الاسراء الاية 46 ).
فلو أنه ذكر ربه في الشعر لفرحوا بذلك ، ولو ذكره بكلام فصحاء العرب لأستبشروا بكلامه ، لأن جميع الكلام مزخرف ويغرر بعقول الناس البسطاء ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ )( سورة الانعام الاية 112 ).
فعباد الله الحق لايعبدونه الا بما أنزل على عبده المرسل اليهم.
لكن المشركين كانوا لايحبون أن يذكر الله وحده ، فذكره وحده معناه تلاوة قرآن ، وهم معقدون من القرآن فقد كرهوا ما أنزل الله ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ )( سورة محمد الاية 9 ).
ولما كان الله يذكر في القرآن وحده ، يشمئزون من هذا الذكر الذي يكرهونه حيث لايسبح بحمد أحد غير الله فهم يكرهون أن يكون المنزه والمسبح بحمده وحده هو الله الواحد القهار ، وعندما يذكر الله وحده أنظر ماذا يحدث ( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )( سورة الزمر الاية 45 ).
والله يتوعدهم فيقول ( ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ )( سورة غافر الاية 12 ).
وكلنا يعلم أن رسول الله شهيد على الذين أرسله الله فيهم ، وكل أمة عليها شهيد من جنسها أكانت قبله أو بعده الى نهاية الساعة ، فبأي شئ تكون المحاجة على المشهودين يوم قيامتهم ؟ بأي كتاب تقام الحجة على الناس ؟ هل بكتاب البخاري ام بكتاب مسلم ام .... ام ألخ ؟؟؟.
ومن يقول الحق في هذه القضية ؟ أننتظر الرواه ليقولوا كلاماً من عندهم ؟ أم نذهب الى قارئة الفنجان لتخبرنا بأي كتاب تكون المحاجة يوم القيامة ؟
لو تحدثنا عن اليهود فمحاجتهم بالتوراة ، ولا للتلمود او لكلام المؤلفين ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ )( سورة المائدة الاية 43 ).
وان تحدثنا عن النصارى فعندهم الإنجيل ، ولاقيمة لباقي الأقاويل ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )( سورة المائدة الاية 47 ).
وعندما نتحدث عن المؤمنيين بخاتم النبيين بأي كتاب يحاجون يوم القيامة ؟ ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ )( سورة المائدة الاية 48 ).
ولأنهم كانوا يريدون أحكاماً من خارج القرآن قال له في نفس الاية ( وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ، ومايهمنا عن أي كتاب يسألنا الله يوم القيامة هل يسألنا عن كتب السند إياهم ؟ ام يسألنا عن مؤلفات البشر ؟ ام عن كتابين أنزلهما على محمد ؟ تلك آية تجيب على هذه التساؤلات ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء )( سورة النحل الاية 89 ) فقد شهد خاتم النبيين يوم لقاء ربه ويشهد المسلمون من بعده كل يوم فالمحاجة يوم الشهادة تخبرنا بها نفس الاية ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ).
فهل أشارت هذه الاية الى أن الله أنزل على عبده كتابين أحدهما قرآن والأخر سنة ؟
ام إن الكتاب الذي أنزله عليه سن فيه كل شئ حيث أنه ( تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) وأكرر وأقول ( تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) هل آن لنا أن نفيق من غفلتنا ونومنا العميق على طريق الأباء...
والمؤمنون بخاتم الانبياء يظنون أنهم بتمسكهم بكتابين لابكتاب واحد هذا هو طريق النجاه ، علماً أن الله لم ينزل على عبده سوى كتاباً واحداً هو القرآن ، ووعد الله بحفظه من كل تحريف فقال ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )( سورة الحجر الاية 9 ).
وما عدا هذا الذكر فهو مفترى من أعداء القرآن الذين قال عنهم الرحمن ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ )( سورة فصلت الاية 26 ).
كيف يلغون فيه ؟ إن لم يؤلفوا كلاماً أخر ينعكس أثره على رغبتهم السابقة في محاورة رسول الله أن يفتري غير القرآن ، فلما يئسوا من إقناع خاتم النبيين أقاموا مسجداً لهذه المهمه ؟ وجعلوه مرصداً لجمع الأباطيل ، وقد أشار القرآن إلى هذا المسجد ذي المبادئ الأربعة ، الضرار ، والكفر ، والتفريق بين المؤمنيين ، والأرصاد لقدماء المحاربين للقرآن ، ولم يأمر الله رسوله بهدم هذا المسجد كما يدّعون بل أمره بالإبقاء عليه ليقوم بمهمته في الإضلال ، ولكنه نهاه عن أن يقوم فيه أبداً ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا )( سورة التوبة الاية 107 و 108 ) ، وفي أخر الحديث عن المسجد إياه قال تعالى ( لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )( سورة التوبة الاية 110 ).
فهذان دليلان على بقاء المسجد ، وهو الابدية حيث أمر الله محمد ومن يسير على طريقه بأن لايقوم فيه أبداً فالمسجد له صفة الأبدية الخالدة ليوم مرسى الساعة أي نهايتها ، والدليل الثاني أن بنيانهم لايزال والقرآن يتحدث للعالمين الى يوم مرسى الساعة اي يوم نهايتها فإن بنيانهم لايزال باقياً ريبةً في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم ويذهبون الى الأخرة ، والخلف يقوم بمهمة السلف ، وهكذا تسير الدورة ولاتنقطع ، وهي دورة الشيطان في إضلال العباد ، وعلى غرار مسجد الضرار كثرت المساجد من هذه العينة.
فبعد أن قال الله سبحانه وتعالى ( لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ) قال بعدها ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ )( سورة التوبة الاية 111 ).
فكأنها إشارة صريحة أن ساحة الجهاد في سبيل الله بعد الفتح هي مسجد الضرار ، فلايوجد مايختلف عليه المؤمنون بخاتم النبيين سوى قضية مسجد الضرار الذي وضع الأحاديث المفتراه في وجه الحديث الحق وهو حديث الرحمن ( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )( سورة فصلت الاية 42 ).
وكتاب الله الحديث الصادق الذي تحدث به خاتم النبيين عن ربه ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )( سورة الزمر الاية 23 ) ، ولما كان حديث الله الذي هو القرآن أصدق الحديث وأحسنه وأعظمه يتسائل رب العالمين عن الذين يريدون أحاديثاً أخرى وينسبونها الى البشر أنبياءً كانوا او من يسمونهم أقطاباً أي آلهةً !!!
فالله يعرض سؤلاً قيماً فيقول ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ )( سورة الجاثية الاية 10 ) وقد سبق بنوإسرائيل المؤمنين بالرسالة الخاتمة فأتخذوا علمائهم أرباباً من دون الله ، وسنوا شرعاً مع شرع الله ، وقال عنهم الرحمن ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )( سورة التوبة الاية 31 ) ، وقد حذر الله الذين أمنوا من إتخاذ الملائكة والأنبياء أرباباً من دون الله فقال ( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا ) ، ولأن هذا العمل كفر صريح قال الرحمن بعدها ( أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )( سورة آل عمران الاية 80 ).
وجميع الأنبياء الذين أصطفاهم الرحمن من البشر كانوا نِعّمَ العباد فليس منهم من قال للناس كونوا عباداً لي من دون الله ، وإنما جميعهم قالوا ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )( سورة المائدة الاية 117 ).
وأي نبي أو رسول دائماً يفوض الأمر إلى ربه فيقول ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )( سورة المائدة الاية 118 ).
وشهد الله للأنبياء بالنزاهة التامة فقال عن سلوكهم نحو الدعوة الى الله ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )( سورة آل عمران الاية 79 ).
والمؤمنون اليوم يقدسون مسجد الضرار الذي بناه المنافقون في مواجهة مسجد التقوى الذي أسسه الله لرسوله من أول يوم على التقوى ، والله يقول ( لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )( سورة التوبة الاية 108 ).
فالأنبياء مثل أخوانهم من البشر عندما يحضرهم الموت ويلقون ربهم تدفن أجسادهم مثل باقي البشر في المقابر التي أعدت لهذا الغرض فلا فرق بين جثمان نبي ورجل آخر ، وإنما العبرة في النفس ، فأنفس الأنبياء يقول لها الرحمن مثل مايقول لأنفس الصالحين ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي )( سورة الفجر من الاية 27 الى 30 ).
أما الإفتراء أن الأنبياء لايبلى جثمانهم مثل باقي البشر ، وحرم الله على الأرض أن تأكل أجسامهم فهذا محض أفتراء فكيف بجثمان يوسف الذي قال عنه القرآن أنه هلك ( وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا )( سورة غافر الاية 34 ).
رغم أن يوسف الأن في الجنة مع أخوانه الانبياء ومع أبيه أبراهيم إلا أن جثمانه الدنيوي هلك ولم يبقى منه أثار ، وهو منعم مع المتقين بمثلهم الأخروي الذي بعثهم الله به في جنة عرضها السموات والأرض.
ولأن المنافقين بداؤا خطتهم في محاربة الدعوة في حضور خاتم النبيين فبعد رحيله كانوا أكثر نشاطاً ، حيث توقف نزول القرآن وتمت آياته ، وكانوا يخشون القرآن ويحذرونه قال تعالى ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ )( سورة التوبة الاية 64 ).
فعندئذ فرغت لهم الساحة وأصبح الملعب في أيديهم ، ولولا أن الله تعهد بحفظ القرآن لاستطاعوا القضاء عليه لكن الله على كل شئ قدير ولاغالب على أمره ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )( سورة يوسف الاية 21 ).
وقد دبروا المكائد للمسلمين في الخفاء فقتلوا عمراً الخليفة الثاني ، وقتلوا عثماناً الخليفة الثالث ، وأذاقوا علياً أشد ألوان العذاب وخلعوه في النهاية ثم قتلوه ، وبدأت الفتن الكبرى فهل نجد بعد ذلك كله حقاً في غير القرآن المحفوظ بتعهد من رب العالمين ، ومن أصدق من الله حديثاً ، ومن أصدق من الله قيلاً ، ومن أوفى بعهده من الله ، فهو إذا قال وتعهد فهو قادر على الوفاء ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )( سورة الحجر الاية 9 ).
فماذا لو أعتصمنا بكتاب الله وحبله المتين ، وأستمسكنا به وحده حيث هو الحق اليقين ، وحيث هو سنة الله التي سنها لرسوله وللمؤمنين من بعده إلى يوم مرسى الساعة ، فهلا عودة إلى الحق المبين وإلى الكتاب الذي تخلق به رسول الله كما أمره ربه وقال له ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )( سورة القلم الاية 4 ).
إشهدوا ياقوم إني متمسك بالكتاب الحق الذي نزل على محمد خاتم النبيين وحده ، ومؤمن بالكتب التي سبقته من الله ولكن نسكي وصلاتي ومحياي ومماتي لا أخذها الا من الكتاب الذي نزل على محمد.
حيث أخذ منها محمد وأخذ معه أصحابه وبذلك أستحقوا لقب ( خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) فمحمد رسول الله والذين أتبعوه بإحسان وتمسكوا معه بالكتاب العظيم هم الأن في عليين وصدق الله حيث قال ( لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )( سورة التوبة الاية 88 و 89 ).
وكل من سار على نفس المنهج وتمسك بالكتاب وحده وعمل عملاً صالحاً وأنتقل إلى الأخرة هو الأن في الجنة الواسعة التي عرضها السموات والأرض.
ومسجد الضرار هذا لم يسبك في مسبكه الاحاديث المفتراه على رسول الله فحسب ، بل سبك قصة المعراج وصلاتها الخمس متحدياً في ذلك القرآن العظيم وصلاته التي جاءت فيه واضحات مبينات ، فلو تصفحنا التوراة لوجدنا الصلاة فيها واضحة التي كتبت على بني إسرائيل كما جاء بها القرآن.
فكيف يأتي القرآن العظيم بصلاة بني إسرائيل ولا يأتي بصلاة الذين نزل فيهم ؟؟؟
ثم إن القرآن جاء بكل المناسك صغُرت أو كبرت ، فكيف لا يأتي بالصلاة وهي أصل العباده ؟؟؟
وقد خلقنا الله للعباده فكيف لا يأتي بأهم منسك وقد جاء بما دونه من المناسك البسيطة مثل كفارة اليمين ، والإغتسال للصلاة ، والتطوف بالصفا والمروة ، وإفاضة عرفات ، وفدية التمتع من العمرة الى الحج ، وذكر الله عند المشعر الحرام ، وهناك شعيرة تركها رب العزة لولي الأمر يحكم فيها فذكرها ذكراً صريحاً فقال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ )( سورة المائدة الاية 95 ).
تدبر أخي المؤمن كيف أن الله حينما يوّكل أمراً لعباده لكي يحكموا فيه يشرح أسلوب الحكم شرحاً دقيقاً فكأنه يأتينا بالخامات التي نسبك منها الحكم بدقة متناهية.
فهل جاء في القرآن تفويض لرسول الله أن يشرع الصلاة للمؤمنيين ؟؟؟
وإذا كان قد جاء هذا التفويض فأين هو في القرآن العظيم ؟؟؟
وقد أسلفنا أن رسول الله لم يؤتَ غير القرآن بنص الآيات فرب العزة لم يترك صغيرةً ولاكبيرةً إلا جاء بها في القرآن كما أوضحنا فالمناسك البسيطة جاءت في القرآن ويمكن الرجوع اليها في آيات ( سورة المائدة الاية 89 و الاية 6 ) وفي ( سورة البقرة الاية 158 ومن الاية 196 الى 200 ) كيف يذكر ربنا هذه المناسك ويترك ذكر أهم العبادات بل أصلها !!!
والله ذكرها والله ذكرها والله ذكرها وفصلها تفصيلاً مبيناً في قيامها وسجودها وقنوتها ولكن مسجد الضرار أعمانا عنها فحسبنا الله ونعم الوكيل وصدق الله ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ).