أولاً الوقـت
ما أَكثر الذين يتحدثون في واقعِنا عن الفارقِ بين (قيمةِ الوقتِ) عند أفرادِ المجتمعاتِ الأكثر تقدماً وبين قيمته ومعناه لدينا. ويتفاوت المعنى المقصود من فردٍ لآخرٍ: فبينما تدل العباراتُ عند البعضِ على نظرةٍ خارجيةٍ (وربما سطحيةٍ) للظاهرة عندما يظنون أن الشعوبَ الأكثر تقدماً في تعاملها مع الوقت هي مجردُ شعوبٍ منظمة ودقيقة ، فإن البعضَ الآخر يملكُ نظرةً أكثرَ عمقاً تدرك أن الأمرَ أكبرُ وأعمقُ وأوسعُ وأخطرُ بكثيرٍ من مجرد فارقٍ بين (شعوبٍ دقيقةٍ في مسألةِ الوقتِ) و(شعوبٍ أقل دقة في التعاملِ مع الوقتِ). فجوهرُ الأمرِ أعمقُ بكثيرٍ من كلماتٍ مثل (الإنتظام) و(الدقة) و(الإنضباط) فكلُ هذه العباراتِ وعشرات غيرها هي مجرد المظاهر النهائية لاختلافٍ عميقٍ في فهمِ وتقديرِ وتقييمِ (بل وتقديسِ أو عدم تقديسِ) الوقت . ففي المجتمعاتِ الأكثرَ تقدماً فإن الوقتَ هو الإطارُ الذي من خلالِه تتم الخططُ وتُنفذ وتعد المشروعات وتُحوّل من فكرةٍ إلى واقعٍ ؛ فالوقتُ هو إطار كل شئ: إطار كل فكرةٍ… وإطار كل مشروعٍ… وإطار كل خطةٍ… وإطار كل برنامج… وإطار كل إصلاحٍ… بل وإطار كلِ التطوراتِ الإقتصاديةِ والعلميةِ والتعليميةِ والثقافيةِ والإجتماعية ِ . وبالتالي فإن من لا يعرف قيمةَ الإطارِ لا يعرف بالضرورةِ قيمةَ أي شئ يمكن أن يحتويه هذا الإطارُ .
ومن أكثرِ الأمورِ غرابةً أن الكثيرين في مجتمعِنا يظنون أن تقديسَ الوقتِ واحترامَه والإلتزامَ بالمواعيدِ إلتزاماً شبة عسكري هو مجرد (طبع) يتسم به البعضُ ولا يتسم به آخرون: وهذه زلةٌ فكريةٌ متكاملةُ الأركان … فتقديسُ الوقتِ والإيمانُ العميقُ بحتميةِ احترامِه واحترامِ المواعيد… ولزومية أن تكون كلُ الأفكارِ والمشروعاتِ والخططِ والبرامج في ظل أُطرٍ زمنيةٍ… وأن عدمَ إحترامِ الوقتِ والمواعيد هو شرخٌ في المصداقيةِ والكفاءةِ لا علاقةَ له بالطباع : فالناسُ لا يولدون بطبعٍ يقدس الوقت ويحترمه وينظر للمواعيدِ وكأنها مواقيتٌ سمائيةٌ وآخرون على خلاف ذلك… وإنما نحن بصدد مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ من فرطِ فقرِه في تقديسِ الوقت والمواعيد والأُطر الزمنية أصبح يفرز تلك الفكرة الخاطئة وجوهرها أن الذين يتشددون في المواعيد والوقت هم أصحابُ طبعٍ معين جُبلوا عليه بينما الآخرون مختلفون (وكأننا بصدد مجرد إختلاف وتنوع لا ينُمّان عن رقيٍّ في حالةٍ وتدهورٍ في الأُخرى) .
إن التقدمَ والتحضرَ والتمدنَ مسائلٌ لا تحققها الأموالُ ولا تبلغها الثرواتُ الطبيعيةُ وإنما تحققها منظومةُ القيمِ الذائعة والشائعة في المجتمع من قاعدتِه إلى قمتِه وأهم تلك القيم هي : تقديس الوقت … والإيمان بفعالياتِ العملِ الجماعي … والاهتمام البالغ بالبشر (الموارد البشرية) … والتعليم القائم على الإبداع (وليس التلقين) … وإشاعة روح توخي الكمال والتميّز والسعي الدؤوب للإتقان … ورسوخ فكرة عالميةِ المعرفة والعلم في العقول منذ سني التعليم الأولى … وقيام التعليم بخلق شخصياتٍ إنسانيةٍ تنافسيةٍ – فعن طريق توفر هذه المنظومة من القيمِ يتقدم الذين يتقدمون … وعن طريق إنتفاءِ هذه القيم (وأَحياناً وجود نقيضها) يتأخر الذين يتأخرون ثم يغرقون في خداعِ أنفسِهم بأنهم متأخرون إما لأن الظروف غير مواتيةٍ أو لأن الإمكانياتِ ناقصةٌ أو لأن العالمَ الخارجي يتآمر عليهم ولا يريد لهم خيراً – وكلها أوهامٌ في روؤس الفاشلين لا أساس لها على الإطلاقِ في الواقعِ ولا مبرر لوجودِها إلاِّ لتعزيةِ الفاشلين عن فشلهم لأن البديلَ (وهو الحق والمنطق والصواب والحكمة) أن يقولوا لأنفسهم أننا متأخرون لأننا متقاعسون ولأننا نفتقر لآلياتِ التقدمِ وكلها آليا ت توجد داخلِ الإنسان وليس خارجِه.
وهكذا يتضح جلياً أن تقديسَ الوقتِ وتقديرَه واحترامَه وتأسيسَ كل أَنشطةِ الإنسان والمؤسساتِ والمجتمعِ بأسرِه على أساسِ أُطرٍ زمنيةٍ تحترم الوقت كأحترامِ المؤمنين للعقائدِ هو ليس مجرد (صفة من صفات البعض) أو (طبع لدى البعض) أو (إحدى السجايا أو حتى المزايا الشخصية) وإنما هي علامة فارقة بين منظومتين من القيم: منظومة قديمة تنتمي إما للثقافةِ الزراعيةِ في شكلهِا البدائي أو للثقافةِ البدويةِ وأنها واحدةٌ من معالمِ مُنَاخٍ ثقافيٍّ عامٍ وليست مجرد طبع أو خصلة أو سجية. إن الدارسَ لتطورِ القيم يعرف أن الوقتَ لم يصبح تلك القيمة العليا المحورية والعلامة الفارقة بين المتأخرين والمتقدمين إلاِّ منذ زمن الثورةِ الصناعيةِ: فالثورةُ الصناعيةُ هي التي فرضت ذلك الإهتمام المتصاعد بالوقتِ ودقته وقيمته وحتميةِ الإلتزام به حتى وصلنا إلى نموذج فريد يتمثل في القطاراتِ السويسرية التي تبدأ وتنهي رحلاتِها ليس بالساعةِ ولا بالدقيقةِ وإنما بالثانيةِ فيما يمثلُ ترجمةً عليا لقيمِ الصناعةِ ولقيمِ المجتمعاتِ الخدميةِ ، ثم هبت رياحُ ثورةِ الإتصالاتِ وحقائق عصر التكنولوجيا فإذا بالتمسكِ بقيمةِ الوقت وتقديسها يبلغُ حداً يشبه العقيدةَ الدينية في ن فوسِ كبارِ المؤمنين.
وكما هي الحال في العديدِ من قيمِ التقدمِ فإن هذه القيم يسهل شيوعها وذيوعها إذا جاءت من الرقائق الأعلى في الهرمَ المجتمعي أي في شكلِ أمثلةٍ وقدوةٍ ممن يُفترض أنهم المثلُ الذي يُحتذى – أما إذا داس هؤلاء الذين يشكلون الرقائق العليا للهرم المجتمعي قيمَ التقدمِ ومن بينها قيمة الوقت فإن إنتشارَ هذه القيم في المجتمع يكون ما بين (المستحيل) أو (شبه المستحيل): فليست هناك مقولات أسلم ولا أحكم من الأقوال المأثورة (الناس على دين ملوكهم) و(السمك يفسد من رأسه) و(إذا كان رب البيت على الدف ضارباً … إلخ) . ومعنى كل ذلك أن الرقائقَ العليا في المجتمع من كبارِ المسؤولين في الإدارات الحكومية وقيادات الحياة الإقتصادية العامة والخاصة والوزراء وشاغلي المواقع المرموقة في المجتمع … إذا لم يكن هؤلاء قدوةً في قيمِ التقدم بوجهٍ عامٍ وفي قيمة تقديس واحترام وإجلال قيمة الوقت وإعطائها كل ما تعنيه من أبعادٍ هامةٍ وخطيرةٍ وذات صلةٍ وثيقةٍ بعمليةِ التقدم – إذا لم يكن الأمرُ كذلك فقل على المجتمعِ السلام - لأن بثَ تلك القيم عن طريق الرقائقِ الأدنى من الهرم المجتمعي مسألةٌ في غايةِ الصعوبةِ إذ أن أفرادَها لا يملكون عضلاتِ فرض نموذجهم ومُكنة أن ي كونوا مثلاً يحتذى وقدوةً تُقتفى.
إن كاتبَ هذه السطور والذي كان المسئول الأول في واحدةٍ من أكبر المؤسساتِ الأقتصادية في العالم لقرابةِ عقدٍ كاملٍ من الزمان وكان بالتالي يشرفُ على آلافٍ يمثلون أعلى درجات الخبرة العالمية ومن خلفياتٍ مختلفة (أكثر من 20 جنسية) يجزم بأنه يستطيع أن يرى أمام ناظريه علاقةً شبه مؤكدة بين تقديسِ الوقتِ واحترامِه والالتزامِ به التزاماً يشبه التزام أشد المتمسكين بقواعدِ الدين والإيمان بأن التأخرَ في المواعيد والإخلال بالإلتزامات الموعدية وإنجاز الأعمال خارج الإطارِ الزمني المتفق عليه وبين درجةِ الكفاءةِ - فمن بين عشرات الآلاف من كبارِ الشخصياتِ الإقتصاديةِ والسياسيةِ التي تعاملت معها وأنا في موقع يسمحُ بالتعامل مع زبدةِ المجتمعات ، كنت أرى بوضوحٍ كاملٍ أنه لا يمكن وجود شخص لا يقدس الوقت ويتأخر في المواعيد ولا يقدس الإلتزام بالأداءِ في الإطار الزمني المتفق عليه إلاِّ وهو في الوقتِ ذاته على غيرِ درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة : فكلُ الأكفاء الذين قابلتهم في الحياةِ في عشراتِ المجتمعاتِ كانوا ممن لا يتأخرون ثانيةً واحدةً عن مواعيدِهم ويلتزمون بالوفاءِ بإكمالِ مهامِ عملهم على أعلى درجاتِ الإتقانِ في ظلِ زمن محددٍ وينظرون في نفسِ الوقتِ لمن لا يتسمون بهذه السمة بنظرةٍ يشوبها قدرٌ غير قليل من عدمِ التقديرِ - وكانت طبيعةُ عملي التي تقتضي التعامل مع خلفياتٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ متباينةٍ تُظهر لي بوضوحٍ إختلافَ ردودِ الفعلِ حول مسألة الوقت والمواعيد والإلتزام بالأُطر الزمنية : فعندما كنت أقومُ بإلغاء تعاقدٍ بمئاتِ الملايين مع شركة لا تفي بتعهداتها في الأُطر الزمنية المُتفقِ عليها في دولةٍ من دولِ العالمِ الثالثِ كان ردُ الفعلِ الغالب هو إستهجان قرار من هذا النوع بينما كان نفسُ القرار إذا إتخذ في بيئةٍ غربيةٍ أو في جنوب شرق أسيا يحظى بعظيم الإستحسان بل والإكبار والإجلال : والفارقُ أن جانباً كان يرى في القرار ردَ فعلٍ مبالغ فيه تجاه مسألة غير ذاتِ أهمية بينما كان الجانبُ الآخرُ يرى أن القرارَ جاء متفقاً مع قيمِ التقدمِ والتي لا تعرف تجاه الوقت إلاِّ الإجلال والإكبار والتقديس والإحترام بل وتأسيس الحياة كلها على أساسٍ من الأُطر الزمنية التي لا يحق لأحدٍ أن يتجاهلها أو يتجاوزها – بل كانت الأغلبيةُ في معظمِ المجتمعاتِ من دولِ العالمِ الثالثِ تنظر لقرارٍ مثل الذي ضربتُ به مثلاً وكأنه من قبيل الأطوار الغريبة: فلماذا المبالغة في ردِ فعلٍ تجاه شخصٍ تأخر عن موعدِه أو مقاولٍ تجاوز الحدودَ الزمنية المتفق عليها - وهي مجتمعات وصل فيها التدهور القيمّي لحد أن أصبح التأخرُ رمزاً للقيمةِ العالية للشخص ، فالأشخاصُ الكبارُ والمهمون وأصحاب القوة والمكانة من حقِهم أن يكونوا متأخرين كيفما بدا لهم وعلى الناسِ أن ينتظروهم (!!) ، فهم مهمون وأصحاب مسؤوليات واسعة وعلى الآخرين أن يقبلوا ذلك (!!!) … وفي المقابلِ فقد كنت أرى في المجتمعاتِ الأكثرَ تقدماً رجالاً يقومون بإدارةِ مشاريع بحجمٍ يفوق مجمل حجم إقتصاد كل الدول العربية ولا يمكن أن يكونوا متأخرين دقيقةً واحدةً عن موعدٍ بل ويفتخرون بأنهم يسبقون المواعيد وأن مؤسساتهم في سباقٍ مع الزمن بهدفِ أن يكونوا في أطار المواعيد المتفق عليها بل ويكون هدفهم في كثيرٍ من الأحيان لا أن يقابلوا الحدودَ الزمنية المتفق عليها بل أن يسبقوها. وقد أصبح يقيني راسخاً أن كلَ من لا يعرف كيف يضبط مواعيده ومواعيد عمله ومواعيد تنفيذ مشروعاته إنسان أو شركة أو مؤسسة مدموغة بالفشل الإداري (بل ولدي إعتقاد راسخ أنهم بنفس القدر لا يتقنون كل الأشياء الأخرى التي يقومون بها في الحياةِ) - وأي استثناءٍ من ذلك أو أية محاولةٍ لقبول إستثناءات من ذلك هي ضد العلم والتمدن والتحضر وحركة التاريخ في المجتمعات المتقدمة. وهناك فارق كبير بين الإلتزامِ بالمواعيد وإحترام الوقت بدافع الخوف وهو موجود في بعض الأحيان (في دول العالم الثالث) وبين أن يكون تقديسُ الوقتِ واحترامه والإلتزام بالأُطر الزمنية المحددة هو ديدنَ الذين يحترمون أنفسهم وينتمون للعصر ويسايرون قيم التقدم: ففي كل مجتمعاتِ العالم الثالث يذهب النوابُ للمجالسِ النيابيةِ (البرلمانات) متأخرين ويظلون في إجتماعاتهم في حالاتِ فوضى عارمةٍ ما بين متحدثٍ مع زميلٍ وآخر يُجري حواراً على الهاتف المحمول وثالث يكتب في أوراقٍ ورابع يُجري حواراً مع أحد المسئولين - ثم نجدهم جميعاً في الجلساتِ التي يحضرها رئيسُ الدولة في كل دولِ العالمِ الثالث : ملتزمين بالحضورِ في الموعدِ .. ملتزمين بآدابِ حضورِ الإجتماعاتِ العامة : وهم هنا لا يفعلون هذا من بابِ تقديسِ الوقتِ واحترامِ المواعيدِ وإجلالِ الأُطر الزمنية وإنما بدافعٍ آخر لا يخفى عن فطنةِ القارئ . وهذا الدافع لا يخلق التقدم المنشود، لأن التقدمَ والتنميةَ يصنعها (المؤمنون) لا (الخائفون).
ومما أساء لقيمةِ الوقت وحُرمتها وأهميتها وكونها واحدةً من أُسسِ الرقي وقيمِ التقدمِ وجود طبقة من الأثرياءِ الجددِ في عددٍ من دولِ العالمِ الثالث كانوا في معظمهم بسطاء التعليمِ والثقافةِ وتكونت ثرواتُهم بفعلِ وفضلِ علاقاتهم السياسية والعامة وليس لكونهم عبقريات إدارية أو إقتصادية أو علمية – ولما شاع نموذجُهم في عددٍ من المجتمعاتِ وصاروا في صدارةِ الواجهة الإجتماعية أصبحوا مصدراً جديداً لبثِ القيمِ السلبيةِ ومنها منهجهم في التعامل مع الوقت ، فهم أبعد ما يكونون عن فهمِ وإحترامِ قيمة الوقت كأساسٍ حضاريٍّ وقيمة من قيم التقدم ، إذ أنهم في حد ذاتهم طبقة طفيلية إنهمرت عليها الأموالُ دون ثقافةٍ ناهيك عما يعتري مصادر ثرواتهم من شكوكٍ تدعم إستحالةِ أن يكونوا قدوة أو نموذج يُحتذى: فكيف يمكن لنا أن نقول للشبابِ في مجتمعِنا أن يحتذوا بقياداتِ الحياةِ الإقتصادية التي نسميها "رجال الأعمال" وهم تجسيد حي لعشراتِ القيمِ السلبية بوجهٍ عامٍ ولقيمة إزدراء الوقت والمواعيد بوجهٍ خاصٍ ! … إن طبقةَ رجال الأعمال والأثرياء الجدد (معظمهم وليس كلهم) في عددٍ من دول العالم الثالث هم طبقة منقّحة من رجال المافيا – فكيف يتسنى لنا أن ننتظر أن يكونوا قدوةً تُتبع ومثالاً يُحتذى في إحترام الوقت أو في أية قيمةٍ إيجابيةٍ أخرى من قيم التقدم . ويحزنني لأبعدِ الحدود أن أكتب بقلمي أنني رأيتُ عن قربٍ عشرات من هؤلاء الذين يسمون بكبار رجال الأعمال فوجدتهم بالمقارنةِ بالشخصيات الإقتصادية العالمية الكبرى التي تعاملتُ معها خلطةً من أربعةِ عناصر: إنعدام الموهبةِ الإدارية … وفقرٍ ثقافيٍّ مذهلٍ … وإنتهازية سياسية بلا حدود … وبُعدٍ مطلق عن قيم ومبادئ كبار الرجال – ووجدتُ أن معظمهم قد كوّن مؤسساته وأعماله على أرضيةٍ من العلاقات وليس على أساسٍ من الكفاءة والعبقرية الإدارية والإستعمال الإقتصادي النموذجي لتكنولوجيا العصر أو القدرة على إدارة الخدمات – ومرةً أخرى يفرضُ السؤالُ نفسَه: كيف لمثل هؤلاء أن يكونوا قدوةً ، إلاِّ إذا كان رؤساءُ المافيا يصلحون لأن يكونوا قدوةً لأجيالٍ جديدةٍ من الشباب ؟!
ولا أجدُ من بين كل ما ذكرت في هذه الجزئية من هذا الفصل ما أرى فائدةَ تكرارِه أكثر من قولي: أنه لا يمكن وجود قائد إداري فعّال ومُنجز وعلى درجة عالية من الكفاءة إذا لم يكن تقديس الوقت مكون أساسي من مكوناته … ولا يعني ذلك أن تقديس الوقت هو العنصر الوحيد للكفاءة … فللكفاءة عناصر أُخرى عديدة (تقديس الوقت من أهمها) وإن كانت الكفاءة لا تنهض كاملةً بدون باقي العناصر والتي بدونها لا يوجد تقدم .. ولا يوجد كادر بشري من المديرين التنفيذيين القادرين على إنجاز المهمة التي تبدو للبعض مستحيلة بينما أعتقدُ أنا أنها سهلة وميسورة إلى أبعد الحدود ، وأعني بلوغ درجة من التقدم الإقتصادي والتعليمي تجعلنا على مقربةٍ من دول جنوب أوروبا وفي نفس الوقت تسيرُ بمحاذاة حياة ثقافية وإعلامية وسلام إجتماعي يكفلون لنا معاً المجتمع الذي ننشده: مصر المزدهرة والمستقرة والآمنة والتي يعودُ فيها المصريون لسجاياهم التي عُرفوا بها عبر التاريخ وكلها سجايا إنسانية نبيلة تقومُ على الخُلق السمح والمودة والترابط وإحترام الآخرين والبعد عن بؤرات العنف والتشاحن والصدام اليومي بين الأفراد والطبقات وسائر وحدات وكيانات المجتمع .
--------------------------------------------------------------------------------
ثانياً "ثقافة النظم" … لا "ثقافة الأشخاص"
كنتُ أُطالع منذ أيامٍ مقالاً لأحدِ الكتابِ المعروفين عندما أوقفتني كلماتُه عن سفير مصرَ بواحدةٍ من الدولِ الكبرى، إذ بعد أن كالَ له المديح (وأغلب الظن عن حقٍ) روى عن لسانِ شخصيةٍ مرموقة قوله في حقِ نفسِ السفير (لو كان الأمر بيدي لأبقيت على هذا الرجل سفيراً لمصرَ في ... دون إعتبارٍ للقواعدِ التي تطبقها وزارةُ الخارجية، لأنه خسارةٌ أن يترك كلَ هذه العلاقاتِ ويأتي بعده من يبني من جديد)… وإذا كان كاتبُ هذه السطور خلطةً من (رجلِ الإدارةِ) و(رجلِ الثقافةِ) فإن هذه العبارةَ (والتي كثيراً جداً ما كررها آخرون في حق آخرين) هي أكثرُ عبارةٍ تستنفر تفكيرَ الرجلين : رجل الإدارة ورجل الثقافة ؛ لا لأنها (خطأ) فربما تكون صحيحةً وسليمةً من زاويةِ الواقع الآني، ولكن لأنها تستدعي موضوعاً من أهمِ وأخطرِ المواضيع المتعلقة بالعقلِ المصري وظروفِ وملابساتِ تكوينه التاريخية والثقافية وتجربته مع الأيام والرجال. إن هذه العبارة (والتي نسمعها من كثيرين عن كثيرين من المتميزين في مواقعهم) تكشف بوضوحٍ تامٍ عن إيماننا المتأصل عبر التاريخ بدورِ الفردِ أكثر من إيمانِنا بفاعليةِ النظام (System) الذي يكون الفردُ مجردَ أداةٍ من أدواته؛ مع بقاءِ الغلبةِ والأهميةِ والفاعليةِ للنظامِ وليس للأفرادِ المتميزين في النظام.
وكإنسانٍ مصريٍّ تكوِّن خلال ربع القرن الأول من حياته في مُناخٍ مصريٍّ صرفٍ فإنني لم أفطن إلاَّ بعد سنواتٍ للفارق الشاسع في هذا المجالِ بيننا وبين مجتمعاتٍ أُخرى لعل أهمها المجتمعات الأوربية الشمالية حيث يوجد النقيض: الإهتمام الشديد بتكوين الفرد تكويناً ثرياً ومتميزاً مع بقاءِ الغلبة والإهتمام الأكبر والفاعلية الأعظم للنظام (The System) مما يجعل الإنسانَ في هذه المجتمعات يرى تداعياتِ وإنعكاساتِ ونتائجَ العبارةِ التي إقتطفتُها من مقالِ أحدِ كبارِ الكتابِ ... (دون أن يكون هدفي أَن أُناقش كاتبَ المقالِ في صحةِ أو عدمِ صحةِ ما كتبه، فالأمرُ يقتصر على أن ما كتبه قد جذبني للكتابةِ عن روحِ الملاحظةِ وليس عن الملاحظةِ في حدِ ذاتِها).
ففي مجتمعِنا الذي يربط بين الإنجازِ والكفاءةِ وتحقيق النتائج من جهةٍ وبين (صدفةِ وجودِ شخصٍ ممتازٍ في موقعٍ معينٍ) من جهةٍ أُخرى يكون من العسيرِ على معظمِ الناسِ أن يدركوا النتائج الوخيمة لهذا الواقع: فإنتظارُ الصدفة أمرٌ لا يخضع لأيةِ قوانين معروفة وعقلانية... والإيمان بأن الشخصَ الممتاز يجب أن يبقى في موقعِه لأن التغييرَ سيأتي بمن يبدأ من جديدٍ هو تسليم بالمشكلة أكثر من أن يكون حلاً لها ... وصيغتنا في هذا الأمر هي التفسيرُ الواضح لإنقطاعِ تواصلِ البناءِ (والتوجهات والجهود) في حياتنا ...وصيغتنا في هذا الشأن تعمل ضد الحراك الاجتماعي الذي هو أساس تقدمِ الطبقةِ الوسطى والمجتمعات ... وصيغتُنا في هذا الشأن تحمل في طياتها جذورَ مشكلاتٍ كبرى إذ أننا لا نقبل فقط أن نتحمل الثمن المرتفع للتعامل مع قوانين الصدفةُ وإنما نقبل في نفس الوقت النتائج التي قد تكون "رائعةً" وقد تكون "مروعةً" حسبما تأتي به الصدفةُ ... وصيغتنا في هذا الشأن تتنافى مع حركةِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ والتي مع إيمانِها بالقدراتِ الخاصةِ والمواهبِ فإنها تؤمن بشكلٍ أَكبر وأوسع وأعمق بالنظمِ (وليس بالأشخاصِ).
أما أول نتائج هذا الربط بين الإنجاز و"صدفة وجود شخص ممتاز في موقعٍ معينٍ" فهو أننا نقبل أن نترك أعنةَ الحياةِ والمستقبل لقوانين الصدفةَ والتي لا تخضع لقواعدٍ معروفةٍ أو حتى عقلانية. وهكذا، نكون أبعدَ ما يمكن عن أُولئك الذين يساهمون في صنعِ وصياغةِ المستقبلِ وكأنهم تلاميذ الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي كان لا يؤمن بأن هناك شيئاً إسمه المستقبل وأَن المستقبلَ هو ما نصنعه الآن (سلباً أو إيجاباً أو تقاعساً) في مطبخِ الزمن الآني. فالمستقبلُ يبدأ من لحظتنا الراهنةِ أو بالتحديد مما نقوم به "الآن" لصياغة "معالم الزمن الآتي". وعليه، فإننا نكون أبعدَ ما يمكن عن التخطيطِ الذي يحاول أن يرسم ملامحَ الغدِ وتفاصيِله، فكيف نفعل ذلك ونحن نترك لقوانين الصدفةِ أن تأتي لنا ببعض المتميزين – أحياناً- في بعض المواقع. إن هذا القانون هو النقيض الكامل لفكرتي "النظام" (System ) و"التخطيط" (Planing).
كذلك فإن الولعَ بأن يبقى الأشخاصُ المتميزون في مواقعهم لأن عدم بقائهم سيأتي بمن يبدأ من "الصفر" هو سببُ واحدٍ من أكبرِ عيوبنا وهو خواء حياتنا (بدرجةٍ كبيرةٍ وليس بشكلٍ مطلقٍ) من التواصلِ الموضوعي في جهودِ وخطواتِ البناء والتنمية – فالحقيقةُ أن التقدمَ لا يتحقق إلاَّ إذا كنا نملك آلياتِ التواصلِ والاستمرار مع تبدل الأسماء والوجوه . بل أن إيماننا بضرورةِ بقاءِ المتميزين في مواقعِهم حتى لا يبدأ آخرون من الصفر هو إعترافٌ مؤلمٌ بواقع صعوبةِ التواصلِ بين أجيالٍ من الأفراد كما أن هذه السمة من سماتِ تفكيرنا هي مرجع خلو (أو شبه خلو) حياتنا ممن يشغلون مواقعاً عامة بارزة ويمدحون أسلافهم. وذلك نقيض الحال في معظمِ المؤسساتِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والتعليميةِ والإعلاميةِ في المجتمعاتِ ذات النصيب الوافر من التقدم. كذلك فإن القولَ بأن الخيرَ كل الخير في بقاءِ كل متميّزٍ في موقعِه هو مدخل لعالم يخلو من الحراكِ الإجتماعي والذي هو من أسس التفاعلِ الإيجابي وتقدم المجتمعات ومن لزومياتِ بناءِ طبقةٍ وسطى واسعة وقوية وصلبة تقود المجتمعَ. كذلك، فإن الإيمانَ بالأشخاصِ وليس بالنظام يجعلنا عرضةً لأمرٍ في غايةِ الخطورةِ : ف بينما تقود "ثقافةُ النظامِ" لاستئصالِ أو إستبعادِ العناصرِ الهدامةِ التي قد تصل لمواقعٍ متميزة فإن "ثقافةَ الأشخاصِ" قد تأتي بالمتميزين كما أنها قد تأتي بالذين تأتي كبارُ المشكلاتِ والأخطارِ والمضارِ مع مجيئهم ولا تكون هناك آليات فعّالة لإستبعادهم في الوقت المناسب (الوقت هنا عنصر أساسي للفاعلية).
ويُضاف لكل ذلك أن صيغتنا في الإفتتان بثقافةِ الأشخاصِ لا بثقافةِ النظامِ تحمل في طياتها تنافراً وتناقضاً كاملين مع معظمٍ معطياتِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ التي تحاول أن تأخذ من الأشخاص أعظم مزاياهم مع بقاء الغلبة لأُطر النظام وآلياته وتقنياته: فالنظام في هذه الثقافات هو أساس التقدم والنجاح وليس بعض الأفراد (وإن عظمت مواهبهم) في بعضِ المواقعِ .
نحن إذن أمام ثقافتين متباينتين إلى حدٍ بعيدٍ: "ثقافة الأشخاص" والتي يسهل التعرف على ملامحها في واقعنِا وتاريخنا منذ عشرات القرون ... و"ثقافة النظم" (Culture of Systems) وهي الثقافة التي نمت وتعاظمت أُسسُها ومعالمُها في دولِ الحضارةِ الغربيةِ ثم إنتقلت إلى العديدِ من المجتمعاتِ الأخرى التي لا تنتمي للحضارةِ الغربية مثل المجتمع الياباني والعديد من مجتمعاتِ جنوبِ شرق آسيا بل وعددٍ من مجتمعاتِ أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية. ومن غيرِ المفيدِ الحديث عن "الأفضل" و "الأسوأ" والإنطلاق من زوايا إتهامية ، فالذي حدث لدينا وأنتج "ثقافة الأشخاص" ضفيرةٌ من الظروفِ التاريخيةِ والثقافيةِ ما كان لها أن تنتج غير ما أنتجت . والهدف من هذا الحديث كله أن نتسأل : هل يمكن لمجتمعات "ثقافة الأشخاص" أن تتحول تدريجياً لمجتمعاتِ نظامٍ أو نظمٍ؟ والإجابة : نعم …بل : قطعاً نعم… فقد حدث ذلك في أكثرِ من حالةٍ… وكانت آلياتُ حدوثِ ذلك آلياتٍ تعمل على إحداث تحول على المدى القصير وتمثلت في كلمةٍ واحدةٍ هي "القدوة" التي حاولت (ونجحت) في تحقيق قدرٍ غيرِ قليلٍ من فرضِ ثقافةِ النظامِ، وأَما الإنجاز الأكبر فمرهونٌ بآليةٍ أخرى هي نظام التعليم الذي يضع نصب عينيه أنه وحده القادر على إنجازِ التحولِ الأكبرِ في هذا المجال عندما تُصمم برامج التعليم وهي تهدف لخفضِ الأبعادِ الشخصانيةِ في التفكيرِ وتعظيمِ الأبعادِ الموضوعيةِ التي هي أساس أي نظامٍ أو أيِّ نظمٍ .
وعندما يحدث ذلك فإن بقاءَ بعض المتميزين في مواقعهم لا يتحول إلى "شبه معركة حربية" يمارسون من خلالها معركةَ :أن يكونوا أو لا يكونوا" ، ولا يكون من أكبر مشاغلِ الكثير من المسئولين القضاء على من يصلحون للحلول محلهم وتبوأ مواقعهم؛ ولا تكون العلاقة بين (الخلف) و (السلف) على ما هي عليه في واقعنا : مترعة بالبغض والمشاحنة وعامرة بالنقدِ الذي يصل إلى عرضٍ مستمرٍ للمثالبِ (الخلف يعرض مثالب السلف والسلف يتندر بمثالب الخلف) بل ونصل إلى "مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ" يبحث فيه كلُ مسئولٍ عمن يصلح للحلول – ذات يوم- محله …فتدور عجلةُ الحراكِ الإجتماعي ويحدث ما يسميه البعضُ بدوران النخبِ وهي أمور تكون في حالة كمونٍ إستاتيكي كلي في ظلِ "ثقافةِ الأشخاص" …حيث تضمر فكرةُ التغييرِ وتصبح عند البعض مرادفاً للتدمير!
--------------------------------------------------------------------------------
ثالثاً الإتقــان
تحولت فكرةُ الإتقانِ إلى علمٍ قائمٍ بذاته هو (علم إدارة الجودة ) والذي إنضم خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ لمنظومةِ العلومِ الإجتماعيةِ بل وأصبحت هناك معاهدٌ لا تقوم بتدريس إلاَّ علم الجودة (Quality Management/ QM). ورغم أن هناك أدبيات كثيرة في علم الجودة أشهرها كتابات البروفيسور Deming الذي جرى العرف على إعتباره أب أو أحد آباء "علم إدارة الجودة" إلاَّ أنني لا أُريدُ في مقالٍ عامٍ كهذا أن أدخل في تفصيلاتِ وتفريعاتِ علمِ إدارةِ الجودةِ والمواضيع الأساسية لهذا العلم وهي الجودة أو الإتقان في مرحلة التخطيط ثم الجودة أو الإتقان في مرحلة التنفيذ ثم المراجعة بعين تنظر للجودة والإتقان، ولكنني أُريد أن أقول أن تواجدَ وتطبيقاتِ علومِ إدارةِ الجودةِ وتفشي ثقافة الإتقان ما هي إلاَّ إنعكاس لحقيقة أكبر وهي وجود حراك إجتماعي فعّال في المجتمع. فالإتقانُ ملمحٌ من ملامحِ المتميزين...والمتميزون هم الذين يفرزون مكوناتِ ثقافةِ الإتقانِ ومفرداتِ علومِ إدارةِ الجودةِ ...وإذا لم يكن المجتمعُ يسمح بحراكٍ إجتماعي يبرز المتميزين من أبناءِ وبناتِ المجتمع فإن ثقافةَ الإتقانِ لا توجد وتحل محلها ثقافةُ العشوائيةِ وتعم في المجتمع كلُ بدا ئلِ صور ومشاهد الإتقان.
وكما ذكرت في فصلٍ من فصول أحد كتبي تحت عنوان "التحول المصيري" فإن الحراك الإجتماعي الحر وتفاعلاته هما اللذان يجعلان أصحاب القدرات الأعلى من أبناءِ وبناتِ أي مجتمعٍ يشغلون المواقع القيادية في كل مجالاتِ الحياة في المجتمع وهو ما يفرز هرماً إجتماعياً صحيحاً وسليماً قد يطلق البعضُ عليه أنه الهرم الذي أنتجته الداروينية الإجتماعية بينما يغضب البعضُ (ولاسيما إذا كان هؤلاء ينتمون لعلماءِ الإجتماع الإشتراكيين) ويفضلون أن نقول (ولا مانع لدينا) أن هذا الهرم لا يبنى بالداروينية الإجتماعية وإنما يبنى بالحراكِ الإجتماعي الحر والفعال والذي يتيح الفرصة لكل متميّزٍ ومتميّزةٍ من أبناءِ وبنات المجتمع لتقدم الصفوف والمشاركة بفاعليةٍ في صنعِ الواقعِ والمستقبلِ: وهذه هي الخلفية الوحيدة التي تسمح بذيوعِ ثقافةِ الإتقان.
وعلى النقيض فإن المجتمعاتِ التي لا تسمح تركيبتُها بالحراكِ الإجتماعي الحر تفتح المجال على مصراعِيه أمام غير المتميزين وغير الموهوبين وأصحاب القاماتِ المتوسطة لكي يحتلوا مواقعاً عديدة على رؤوس الكثير من المؤسساتِ والتنظيماتِ والهيئاتِ في المجتمع وهو ما يوجه ضربةً قاضيةً لثقافةِ الإتقانِ ويشيع مناخاً ثقافياً مختلفاً تماماً أُسميه بثقافةِ القاماتِ المتوسطةِ وفيه يختفي الإتقانُ وتشن الحروب بلا هوادةٍ على المتميزين والمتميزات من أبناء وبنات المجتمع لأن أصحابَ القاماتِ المتوسطة هم المصدر الأول لهذا المناخ العام : فبدونه تتبدل قواعدُ اللعبة ويهبطون من مواقعِهم العالية إلى مواقعٍ أدنى تتناسب مع قدراتهم ومحدوديةِ مواهبهم.
وموضوعُ الثقافة التي ينشرها "متوسطو القامة" بل والمناخ العام الذي يخلقونه هو موضوع يستحق الكثيرَ من العناية من المفكرين والدارسين : لأن المثقفَ المستنير بوسعه أن يتصور كلَ ملامح الحياةِ والمجتمعِ والعلاقاتِ التي تنشأ عن سيادةِ وشيوعِ "متوسطي القامة" وما يخلقونه من آلياتٍ لبقائهم وبقاء نوعياتهم في مواقعٍ مؤثرةٍ وكذلك الدمار الذي يحدثونه في "القيم" و "المثل" و"الأخلاق العامة" وكذلك إنعكاسات شيوعهم على الحياةِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والتعليميةِ والإعلاميةِ، وما يجرون المجتمعَ إليه من "إنخفاضٍ مروعٍ" في "كلِ المستوياتِ".
ومن النقاط التي يجدر توضيحها عند الحديث عن "الإتقانِ" و"إدارةِ الجودةِ" أن الإتقان ليس أمراً مرتبطاً بالتقدمِ التكنولوجي وإنما هو فكرةٌ في رؤوسِ بعض الناسِ. ويذكر كاتبُ هذه السطور أنه عندما كان يحاضر ذات يومٍ بمعهد جوران (Juran) لإدارةِ الجودةِ بالولايات المتحدة الأمريكية أنه أسهب في شرح فكرته أن "الإتقانَ" فكرةٌ في رؤوس المتميزين وليس ثمرة التكنولوجيا (فالتكنولوجيا نفسها ثمرة أُخرى من ثمارِ تفكير المتميزين)...أَذكر أنني عندما أسهبت في شرحِ هذه الفكرة وتطرقتُ للحديثِ عن "الإتقان" في مصرَ القديمةِ وكيف أن بناءَ هرمِ خوفو بالذات يُعد مثالاً بلا نظير لكون الإتقان "فكرة في الرؤوس" قبل أن يكون أي شئ آخر، إن عميد المعهد الذي كنت أُحاضرُ به علّق على هذه الجزئية بقوله أَنني لست بحاجةٍ لمزيدٍ من الأدلةِ على صحةِ هذا الزعم لأن شعار معهد جوران نفسه ليس إلاَّ عاملاً فرعونياً ينقش على جدار !! ويعني ذلك أن أكبرَ معهدٍ في العالمِ لعلومِ إدارةِ الجودةِ لم يربط بين الإتقان وبين التقدم التكنولوجي إذ أنه وجد أن العاملَ المصري القديم كان تشخيصاً لفكرةِ الإتقانِ ...وتحفل مصر القديمة بأدلةٍ كثيرةٍ على أن الإتقان "فكرةٌ" قبل أن ي كون أي شئٍ آخر : فإذا قمنا بمقارنةٍ بسيطةٍ بين درجات الإتقان في هرمِ الملك خوفو ودرجات الإتقان في الهرمين الذين بناهما والدُ الملك خوفو وهو الملك سنفرو لأدركنا كيف يمكن أن تحدث طفرةٌ هائلةٌ في مستوياتِ ومعدلاتِ الإتقان خلال سنواتٍ قليلةٍ وهو ما لا يمكن أن يكون له تفسير إلاَّ وجود كادرٍ بشريٍّ يجسد بدرجةٍ أعلى دقائق فكرةِ الإتقانِ .
ولا أكاد أتصور وجود خلاف حول ما شهدته حياتُنا المعاصرة من تدهورٍ مذهلٍ في مستوياتِ ودرجاتِ الإتقانِ في مصرَ خلال نصف القرن الأخير وهو أمر لا يفسر إلاَّ بإنقلابِ الهرمِ المجتمعي وتلاشي التميّز وما أدى إليه ذلك من شيوع ثقافةِ متوسطي القامة والذين لا يمكن أن يكون الإتقان وشيوع روحه هدفاً لهم إذ أن فاقدَ الشيء لا يُعطيه . إن شيوع قّيم وثقافة ومستويات "متوسطى القامة" يجعلنا نكاد نرى كلمات الفقرة الأخيرة من المزمور 12 تتجسد كل لحظة أمام عيوننا :
(الأَشرار يتمشون في كلِ ناحيةٍ عند إرتفاع "الأرذال" بين الناس) .
--------------------------------------------------------------------------------
رابعاً غـرس قيمة التعدديـة
إذا كانت "الديمقراطية" هي أعظم إنجازاتِ الجنسِ البشري منذ بدايةِ مسيرةِ تمدنه وحتى هذه اللحظة فإن "التعددية" هي أحدُ منابع الديمقراطية . فلما كان الإنسانُ قد أصبح على يقينٍ من أن "التعددية" في المذاهب والآراءِ ووجهاتِ النظرِ والذوقِ هي من أهم معالم "الإنسانية" فقد كان من الطبيعي أن تقوم النظم السياسية على أساسِ إحتواءِ وإحترامِ التوجهات المختلفة مع عدم السماح لأيٍّ منها (ولو كان يحظى بأغلبيةٍ قويةٍ أو حتى مطلقةٍ) من إستئصال حق الآخرين في الإختلافِ ورؤيةِ الأمورِ بشكلٍ مختلفٍ والإعتقاد في برامج وأفكار ونظم ونظرياتٍ أخرى.
بل إن الإنسانيةَ تحولت مع تطورِ مسيرةِ تمدنها من "التسليم بأن التعددية من معالمِ الإنسانيةِ الأساسيةِ" إلى "الإعتقادِ بأن التعدديةَ من مصادر ثراءِ الإنسانيةِ" .. وأن التعددية هي من أهم منابعِ الإبداعِ والإبتكارِ والتجديدِ والتجويدِ .
ورغم ذلك الإيمان بالتعددية على سطح الحياةِ المعاصرةِ فإن الغوص تحت جلدِ معظمِ البشرِ في هذا العصر يثبتُ أننا لا نزال في مرحلةٍ بدائيةٍ للغاية من تمثل قيمةِ الإيمانِ بمعنى ومزايا التعددية – وينطبق ذلك على أكثر المجتمعات تقدماً (وفي طليعتها المجتمع الأمريكي) كما ينطبق على كثير من الدول الأقل تقدماً بما في ذلك دول العالم الثالث . فلا يزال هناك زخمٌ من نقص الفهمِ وسوءِ الظنِ المتبادلِ بين الحضاراتِ المختلفةِ يجعل فوائدَ وعوائدَ التعددية أقل بكثيرٍ من أن يمكن أن يكون كما يؤدي كل ذلك في غيرِ كثيرٍ من الأحيان إلى محاولةِ البعضِ "تنميط العالم" وهو هدف مستحيل من جهةٍ ويعارض التعددية من جهةٍ أخرى ويبذر بذور الصراعِ والصدامِ الذين يمكن للإنسانية أن تعيش وتنمو وتزدهر بشكلٍ أفضل بدونهما .
ومن الأدلةِ الواضحةِ على التراثِ المهولِ من سوءِ الفهمِ وسوءِ الظنِ والأفكارِ المشوهةِ بشكلٍ متبادلٍ بين الحضاراتِ فكرة الحضارةِ الغربيةِ على معظم الحضارات الشرقية والتي تقوم في بعضِ الأحيانِ على تصوراتٍ وهميةٍ لا أساس لها من الصحةِ وكذلك فهم أبناء الحضارات القديمة للحضارة الغربية وهو فهم مشوب بتشوهات هائلة ويركز على المثالب ويتجاهل المناقب رغم تمتع معظم البشر في العالم بالعديد من إنجازات الحضارة الغربية .
وإذا كان البعضُ اليوم في الغربِ بوجهٍ عامٍ وفي الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بوجهٍ خاصٍ يميلُ إلى أن العلاقة بين الحضارات ستكون في المستقبل صراعاً وصداماً ولا سيما العلاقة بين الحضارة الغربية والإسلام ، فإن أدبيات هذا الإتجاه تدلُ على فقرٍ معرفيٍّ مذهلٍ : فكتاب (صدام الحضارات) لصموئيل هنتنجتون وغيره من الكتابات المماثلة لإشخاصٍ مثل بول كنيدي وفوكا ياما هي خلطة من الكتابات الصحفية/ السياسية أكثر من كونها كتابات رصينة تقوم على معرفةٍ واسعةٍ بالحضاراتِ ودون أن تتوفر لدى أصحابها الرؤية التي تسمح لهم بان يروا آلية صنع سيناريو الحوار وعدم الإقتصار على سيناريو الصدام – ولا يعني ذلك أن سيناريو الصدام مستبعدٌ وإنما يعني أن سيناريو الحوار ممكنٌ إذا كانت الرؤيةُ في هذا الإتجاه وبُذلت الجهود الفكرية والثقافية لتدعيمه .
إن عالمَ اليومِ الذي يرفع شعارات مثل (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) و(الحريات العامة) و(التعددية) ينبغي أن يدرك أن نبلَ هذه القيم لا ينفي أن تعاملَ الإنسانِ معها على أرض الواقع لا يزال في مرحلةٍ أُولى وهو ما يجعل الممارسات العملية تتسمُ أحياناً بنقيض تلك القيم وينطبق ذلك بوضوحٍ على قيمة التعددية إذ ترفعُ الحضارة الغربية لواءَ قيمةِ التعدديةِ بيدٍ ويرفع بعضُ أبناءِها لواءَ تنميطِ العالمِ بيدٍ أخرى ، وهي حالة إرتباك تعكسُ كون البشرية في مرحلةٍ أولى من مراحل نمو بعض هذه القيم .
فالتعدديةُ إذا كانت تعني (والأرجح أنها بالفعل كذلك) أن تعددَ المشارب والمذاهب والثقافات والأذواق والآراء وأساليب الحياة هي معلمٌ أساسيٌّ من معالمِ الحياةِ البشريةِ على الأرض بل ومن مصادر ثراء هذه الحياة فإن النتيجة يجب أن تكون (الخلاف في ظل الوحدة) والخلاف هنا ينطبق على ما ذكرته من مشارب ومذاهب وتوجهات أما الوحدة فتعني (الإنسانية) .. كما أن ذلك لا يمكن إلاِّ وأن يعني توسيع ثقافة إحترام الغيرية (Otherness) على أن يحدث ذلك بين كل الأطراف وبشكلٍ متكافئ في وقتٍ واحدٍ – وإحترام الغيرية يتناقض بداهةً مع أي محاولة لتنميط العالم . وجديرٌ بالتنويه هنا أن تنميط العالم ليس توجهاً عاماً للحضارة الغربية إذ لا تشارك فيه أوروبا الغربية وإنما هو توجه أمريكي في المقام الأول وليس له من مرجعٍ إلاِّ الفقر الأمريكي المذهل ثقافياً .
--------------------------------------------------------------------------------
خامساً نقـد الذات والتجويـد المستمر
آمنتُ منذ سنواتٍ طويلة وفي مرحلةٍ كان الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" وأعماله الفكرية العظيمة مركز إهتماماتي الفكرية أن عبارة هذا الفيلسوف الشهيرة : (إن النقدَ هو أهمُ أداةِ بناءٍ طوّرها العقلُ الإنساني) . إن هذه العبارة هي من أحجارِ الزاويةِ لنجاح وإزدهار أي مناخٍ تعليميٍّ وثقافيٍّ . ويقابل عبارة كانط في أدبياتنا الشرقية مقولة عمر بن الخطاب (رحم اللهُ من أهدى إلينا عيوبنا) بمعنى أنه يطلب الجزاء الطيب من الله لمن يفتح عيونَنا على عيوبنِا ووسيلة ذلك (النقد).
بعد أن ترسخ في تفكيري أن الجو الثقافي العام الذي يحفل بالعقل الناقد هو الجو الثقافي الذي يسمح بالتطورِ والتقدمِ والإزدهارِ – بعد أن ترسّخ ذلك الإعتقاد في بنية تفكيري ، جاءت تجربةُ عشرين سنةٍ من العملِ بمؤسسةٍ إقتصاديةٍ من أكبر عشر مؤسسات في العالم لتحول هذا "الإعتقاد الفكري" لواقعٍ معاش في كل لحظةٍ . فهذه المؤسسة التي تشبه كبريات المؤسسات الإقتصادية العالمية ولا سيما التي يرجع تاريخها لأكثر من قرنٍ ، هي مؤسسات لها ثقافتها الداخلية الخاصة . وقد أذهلني في كل يومٍ من أيام السنوات العشرين المذكورة أن أرى في كل لحظةٍ ومناقشةٍ وإجتماعٍ وحلقةِ عملٍ تشخيصاً كاملاً لأن (النقد هو أحد أكبر أدوات البناء) : فنقد الأفكار .. ونقد الخطط .. ونقد البرامج .. ونقد المشروعات قبل وأثناء وبعد تنفيذها هي عمليات لا تتوقف من أَجل (تقليل السلبيات) و(تعظيم الإيجابيات) . والتناول النقدي لكل شئٍّ ليس حقاً من حقوق "الكبار" أو "الرؤساء" فقط وإنما هو حق لكلِ ذي عقلٍ ، فمن مجموع العقول الناقدة يتشكل النجاحُ والتميّزُ .
ولا شك عندي أن "النقدَ" الذي هو بمثابةِ آلةٍ لا تتوقف عن البحثِ عن السلبياتِ وتقليلها ورصد الإيجابيات وتعظيمها يحتاج لمُناخٍ عامٍ يُعلّم أبناءَ وبناتِ المجتمع "النقد الموضوعي" أي الذي يهدف للتجويدِ المستمرِ وهو يختلف في روحِه ونسيجه ومنطلقاته وأهدافه عن النقد في بعض الثقافات التي تغلب عليها "الشخصانيةُ" وتقل فيها "الموضوعيةُ" ، إذ يكون "النقد" في هذه البيئات أداة هجوم وإنتقام وإنتقاص وتجريح . والمعوّل هنا على المناخ الثقافي والتعليمي العام وكيفية تقديمه للنقد – منذ الصغر – كأداةٍ عقليةٍ موضوعيةٍ تهدف لمصلحةٍ عامةٍ لا لمصلحةٍ شخصيةٍ .
وغيرُ مستغربٍ أن يكون المُناخ الثقافي العام الذي رسّخ قبولَ وإحترام "التعددية" أكثر إستعداداً لإفراز النقد الموضوعي كأداةِ تعاملٍ عقليٍّ مع كلِ الأشياءِ على خلاف "مجتمعاتِ الرأيِ الواحدِ" و"النموذج الواحد للحق والصواب" فإنها غالباً ما تفتقر لروح النقد البناءةِ والمتسمةِ بالموضوعيةِ أي توجيه النقد "للمواضيع" وليس "للأشخاص" .. وبهدف "التجويد" لا "كسب الحروب الشخصية بين الأفراد" . كذلك ليس بمستغرب أن تكون البيئاتُ الثقافية التي سميتها في فصلٍ سابقٍ بثقافاتِ النظمِ (لا الأشخاص) أكثر قابلية أيضاً لأفراز عملياتِ نقدٍ موضوعيةٍ تهدف للتحسينِ والتجويدِ .
وليس بجديدٍ أن أَقول أَن هناك علاقة وثيقة بين "ثقافاتِ النقدِ البناء" و"ثقافةِ الحراك الإجتماعي" : ففي المجتمعاتِ التي ينشط فيها هذا الحراكُ وينشط فيها تبادلُ المواقع بوجهٍ عامٍ وبين النخبِ بوجهٍ خاصٍ توجد مساحة أفسح لبذرِ ثقافةِ النقدِ البناء على خلاف المجتمعات المغلقة حيث يصعب على الإنسان أن يفرق بين "الموضوعي" و"الذاتي" لأنه مشغولٌ بالذاتي إنشغالاً يدخل تحت باب "أكون-أو-لا-أكون" ؛ وهو ما يجعل الموضوعية في النقدِ كالحلمِ المستحيلِ .
كذلك فإنني أربطُ بشدةٍ بين "قيم المتوسطين" والتي أشرت إليها من قبل فيما كتبته عن "الإتقان" وبين صعوبةِ إنتشارِ ثقافةِ النقدِ البناء : فالمتوسطون لا يستطيعون البقاء في ظلِ مناخٍ عامٍ يقوم على النقدِ البناءِ ، لأن إكتشاف حقيقة قدراتهم ومُكنهم ومواهبهم ستكون أول نتائج شيوع ثقافة النقد البناء – حيث ستعم معايير لا يقبلونها في التقييم .
وخلاصةُ القول هنا ، أن "النقدَ البناء" وإشاعة مناخ ثقافي عام يرحب بالنقد ويشجع عليه ويرسّخ (من خلال القدوةِ والتعليمِ) الدورَ الفعّال للعقليةِ الناقدةِ وما يعود على المجتمع ككلٍ من عظيمِ الفوائدِ من وجودها هو من أهم قيم التقدم – وككل قيم التقدم فإن ذيوعها يكون دائماً في حاجهٍ ماسةٍ للقدوةِ والمثل (في البداية) ولبرامجٍ تعليميةٍ تغرسها في العقول (لعموم ذيوعها مكانياً وزمانياً) .
--------------------------------------------------------------------------------
سادساً الإيمان بعالميـة المعـرفة
(اطلبـوا العلـم ولو في الصـين)
حتى بالنسبة للذين يرفضون بعض جوانب ظاهرة العولمة فإن واقعَ الحياةِ في عالمنا المعاصر يؤكد ان العلم بكل معانيه ليست له حدود. فإنفتاح القنوات بين كل الجهات المتصلة بالعلم والبحث العلمي أصبح حقيقةً لا يمكن أن تنكر وإذا كنا نتكلم عن العلم بمعنى العلوم التطبيقية فلا يكاد يوجد معارضٌ واحدٌ للقول بعالمية المعرفة إزاء البحث العلمي في كل دوائر العلوم التطبيقية وفي مجالاتِ تطبيقاتها (التكنولوجيا). وكان العاملُ الأكثر حسماً في الوصول بعالمية المعرفة في مجالات البحث العلمي في العلوم التطبيقية لهذه الدرجة الرحبة تلك الصلة الوثيقة في المجتمعات المتقدمة بين البحث العلمي والحياة بوجهٍ عامٍ والحياة الإقتصادية بوجهٍ خاصٍ وهو ما جعل دائرة "البحث والتنمية" Research and Development تتسع حتى تصبح أوسع من دائرة البحث العلمي Scientific Research بمعناه القديم والذي يكون فيه البحث العلمي منبتَ الصلةِ بشكلٍ ما بالتوظيفات الحياتية للعلم وهي الغاية الرئيسية لما يعرف الآن بالبحث والتنمية (R & D) . فنظراً لأن المجتمعات المتقدمة قد أخرجت (بدرجةٍ كبيرةٍ) من الجدران المغلق للجامعات ومراكز البحث وجعلت العديد من مجالاته تدور وجوداً وعدم اً مع التوظيف الحياتي/الإقتصادي/ الإجتماعي للعلم فقد أصبحت عالمية المعرفة في دنيا العلوم التطبيقية هي الحقيقة الكبرى . وهكذا أصبحنا نجد أن ميزانيات البحث العلمي المندرج تحت تسمية "Research and Development" (R & D) من جهة تفوق ميزانيات البحث العلمي المجرد بكثير ومن جهة ثانية فإنها تنفق ليس عن طريق الدول وإنما المؤسسات الإقتصادية. وهكذا أصبح كل من يعمل في أي مجالٍ من مجالاتِ الصناعة أو التجارة أو الخدمات يبحث عن احدث تكنولوجيا العصر لتوظيفها في عملية تطوير وتوسيع أنشطته وتعظيم العوائد منها وهو ما يضاعف من إتساع معنى "عالمية المعرفة".
ولعلي لا أكون مبالغاً إذ أقول أن النهضةَ اليابانية في طورِها الذي أعقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت من أكبر أصحاب الفضل على مفهومِ عالميةِ المعرفة إذ سعت اليابان إلى العلم والتكنولوجيا في كل موضع في الأرض لتحصل عليه وتهضمه وتوظفه بأشكالٍ مذهلةٍ – وهو ما كان عصب التقدمِ الياباني في السنوات التي تلت 1945. وفي مجالِ العلوم الإجتماعية فإن الأمرَ يبدو مختلفاً بعض الشيء إذ تدخل الإعتبارات الحضارية والثقافية في النظرة للعلوم الإجتماعية – ورغم صحة ذلك بشكلٍ نسبي إلاَّ أن دوائراً جديدةً نمت داخل عوالم العلوم الإجتماعية حققت ما حققته العلوم التطبيقية في عالمية المعرفة: فعلومُ الإدارةِ الحديثةِ وعلوُم الموارد البشرية والتسويق والكثير من الأفكار الإقتصادية تمكنت أن تعبر الحدود وتحقق لهذه الفروع من العلوم الإجتماعية قدراً هائلاً من "عالمية المعرفة" نظراً لإتسامها بقدر كبير من عدم الصبغة الثقافية "Culture Free" ولعظيم مردوداتها الحياتية – ولا ينفي ذلك أن بعض فروع العلوم الإجتماعية قد ظلت "بين بين" لشدة إتصالها بالأبعاد الثقافية والحضارية وإن كان ذلك لا ينفي ان تغلغلاً غير يسير للبعد العالمي في هذه العلوم قد تحقق. ومقاومة "عالمية المعرفة" قد تبدو للبعض لاسيما في الواقع العربي سمة طبيعية من سمات المجتمعات القديمة – ولكن من الأرجح أنها ليست كذلك: فالصين مجتمع قديم ولكن الواقع يؤكد أن الجاليات الصينية في جنوب شرق آسيا كانت هي طليعة الطفرات التي قامت على قيم من أهمها عالمية المعرفة… واليابان مجتمع قديم ولكنه المجتمع الرائد في عدد من قيم التقدم وفي مقدمتها عالمية المعرفة … وكذلك الهند التي رغم كونها مجتمعاً قديماً وذاخراً بالمشكلات الإجتماعية فقد كانت المؤسسات العلمية فيها نموذج نادراً للمؤسسات العلمية التي لم تتدهور في العالم الثالث وكانت جسورُ البحوث العلمية والتكنولوجية ممتدة بينها وبين العالم وهو ما أدى إلى الكثير من الإنجازات لعل أهمها الإنجاز الهندي في صناعة السلاح ثم التألق الهندي الفذ في عالم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات. وتفسيري الخاص أن المجتمعات العربية بقت بعيدة إلى حد بعيد عن مزايا عالمية المعرفة بسبب التدهور الكبير في مؤسساتها التعليمية ومراكز البحث العلمي كنتيجة لخضوع هذه المؤسسات والمراكز للحياة السياسية في هذه المجتمعات وهو ما جعل هذه المؤسسات والمراكز منبتة الصلة بحركة العلوم في العالم كما است أصلت روح الإبداع منها وحولتها إلى كيانات راكدة تفرز تعليماً لا علاقة له بالعصر والحياة ومنبت الصلة بحركة البحث العلمي في كل مجالات العلوم التطبيقية والإجتماعية وكانت الترجمة النهائية لذلك هو الغياب العربي المطلق في دوائر الإنجازات العلمية والبحوث المتألقة في كل مجالات العلوم التطبيقية ودوائر بحوث العلوم الإجتماعية على السواء.
--------------------------------------------------------------------------------
سابعاً قيـم العمـل الحـديث
(أو قيـم التقـدم الإداري)
كما أن القيم الست السابقة هي من "قيم التقدم" بوجهٍ عامٍ ، أي من القيم التي ينبغي أن تغرس في المناخ الثقافي والتعليمي العام حتى تكون البيئة مهيأة لحركة المجتمع إلى التقدم المنشود ، فإن ذات القيم الست هي أيضاً من ركائز قيم العمل الحديث أو من قيم التقدم الإداري . وعليه ، فإن القيم الخمس التي أُسلط بعض الضوء عليها في هذه الجزئية تحت عنوان "قيم العمل الحديث" يجب أن تسبقها "القيم الست الأخرى" بحيث يكونون معاً "قيم العمل الحديث" الإحدى عشر .
عمل الفريق :
خلال سنوات عديدة من العمل في بيئة دولية بكل ما تعنيه الكلمة من معان حيث يعمل معاً آلاف الأشخاص الذين ينتمون لدول عديدة ولثقافات بالغة التباين تكشف أمام عيني بوضوح ضعفنا الشديد (كمصريين) فيما يتعلق بالعمل الجماعي أو عمل الفريق. فبينما تسهل هذه العملية بشكل هائل عند معظم الأفراد القادمين من آسيا (ولاسيما من خلفية يابانية أو صينية) وبينما يسهل ذلك أيضاً على شعوبٍ أخرى كالأوروبيين وغيرهم، فإن تجربة العمل اليومي لسنواتٍ عديدة في هذه البيئة متعددة الجنسيات كانت تجسد أمام ناظري الصعوبة البالغة لدى معظم المصريين للانخراط في عمل جماعي وكأعضاءٍ في فريق عمل. فمنذ اللحظات الأولى، تظهر على السطح "صدامات الأنا" بشكل بارز للغاية ...كما تظهر على السطح رغبة كل فرد في أن يتأكد من أنه في حالات النجاح سيكون صاحب هذا النجاح أما في حالات الفشل فإن غيره سيتحمل التبعة!.. كذلك كانت الأمور تدل بوضوحٍ أن أحداً لا يقبل أن يكون عمله (أو تكون مساهمته) مجرد أمر مكمل لأداء الآخرين. وفي مئات الحالات، كانت الأمور تصل إلى حالة من التأزم يطلب فيها البعضُ إما خروجهم من الفريق أو خروج شخص أو أشخاص آخرين وإلاَّ !! فإن الفشل النهائي مؤكدٌ (!!). و كان عدم حدوث ذلك من أفراد ينتمون لخلفيات أخري مثل البريطانيين والآسيويين والألمان وغيرهم عاملاً يزيد من ظهور ملامح الصورة : وهي صعوبة انخراط معظم المصريين في عمل جماعي وصعوبة أن يقبل أحدُ أن "الشكر" على الإنجاز (في حالة النجاح) سيكون من نصيب (فريق عمل) وليس (شخصاً محدداً)! (هو المتحدث في كل حالة).
ولما كانت علومُ الإدارةِ الحديثةِ تقوم على مجموعةٍ أساسيةٍ من الركائز من أهمها (العمل الجماعي) أو (عمل الفريق) ... فإن تطبيق تقنيات علوم الإدارة الحديثة على أعدادٍ كبيرةٍ من المصريين يبقى أمراً صعباً بإستثناءِ حالات وجودهم بالخارج إذ لا يكون أمامهم إلا (الاستسلام المطلق) لمفردات نظم العمل في تلك البيئات الخارجية وإلاَّ لفقدوا عملهم على الفور. وفي هذه الحالات، فإن بعضهم ينجح ويتألق وتعاوده "جرثومةُ الفردية" التي عرفها لمدد طويلة... فينسب نجاحه لنفسه فقط ، متناسياً أنه لم ينجح بتلك الكيفية إلا في تلك "البيئات الصحية" التي فرضت عليه قيم العمل الحديث وتمكنت من استخراج أفضل ما فيه من مكنٍ وقدرات. ولا تزال كلمة أستاذ يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ترن في أذني عندما قال لي (في أواخر 1999): (أن أحمد زويل بكل المعايير عقل علمي فذ ، ولكن على كل إنسان أن يتذكّر أن هناك 17 إنساناً في نفس المعهد الذي فيه أحمد زويل قد حصلوا على جائزة نوبل في مجالات علمية – وهو ما يعني أن "معجزة النظام" لا تماثل فقط بل وتتفوق على "معجزة الفرد" – وان كانتا مطلوبتين في نفس الوقت وإلاَّ ما تحققت النتيجة). كذلك فإن أحمد زويل نفسه لم يكف عن الحديث عن "فريق العمل" الذي بدونه ما كان له أن يبلغ ما بلغ، كما أنه كان يضيف دائماً (وهو رأي بالغ القيمة) أن "بيئة العمل والبحث العلمي في معهده" هي صاحبة فضل لا ينكر وراء حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1999. ولكننا أبناء (ثقافة الأشخاص) لذلك فإننا ننسى كل جوانب القصة ونركز على "الفرد" لإننا منذ أكثر من خمسين قرناً نفهم (ونقدس) الفراعين في كل مجال ولا نولي أي اهتمامٍ بالنظمِ التي هي المنتج الأول للنجاح والتقدم والإنجازات العظمى ولا توجد آليات لعلاج هذا العيب الكبير في مكوناتنا إلا ما ذكرته في أكثر من فصل من فصول كتبي: "القدوة" (كأداة تطوير على المدى القصير) و "التعليم العصري" (كأداة تطوير على المدى المتوسط والطويل).
أما "القدوة" فهي ليست مجرد كلمة عامة مُبهمة ومجردة وإنما هي ترجمة كلية لمديرٍ عصريٍّ تكّون وفق معطيات وثقافة علوم الإدارة الحديثة والتي تجعل كل رئيسِ عملٍ في موقعه مسئولاً عن إدارة العمل بشكلٍ "يجمّع" العاملين في مجموعات أو فرق عمل تربط بينها روابط التآلف والتكامل في مقابل رؤساء عملٍ آخرين يعملون على تعظيمِ الفردية والتشرذم وخلق ولاءات فردية مباشرة بين كل إنسان في التنظيم ورئيس العمل . إن المدير العصري الذي تكّون وتدّرب وفق روح وثقافة ومعطيات وتقنيات علوم الإدارة الحديثة تكون من أهم مهامه خلق هذه الروح أي روح الفريق بينما ينخرط معظم رؤساء العمل لدينا في خلق روحٍ مغايرة يكون العاملون فيها جزراً مستقلة ومنعزلة عن بعضهم ويكون إتصالهم الوحيد برئيس العمل فيما يمثل له بصفةٍ شخصيةٍ مصدرَ قوة وعزوة ويُعظم من مكانته الخاصة على حسابِ إهدارٍ كلي لروح العمل الجماعي وثقافة الفريق .
وتستمد هذه الثقافة السلبية منابعها من فقر وضعف التعليم الإداري الحديث لدينا وكون معظم القيادات (مجرد رؤساء في العمل) وليسوا (مديرين تنفيذيين عصريين) ، كما تستمد وقودها من ثقافةِ القريةِ المصرية حيث كان "العمدةُ" لعقودٍ طويلةٍ يعمل بنفس الطريقة وهي إيجاد قنوات إتصال بين الآخرين وبينه فقط مع إعتبار أي نمط آخر بمثابة مخالفة للولاء اللازم وإضعاف لهيمنته الوحيدة . إن علوم الإدارة الحديثة قد وصلت بنا إلى (مدير تنفيذي عصري) يصعب على كثير من الناس في واقعنا أن يتفهموا ما الذي يقومُ به إذ أنه في الحقيقة لا يبدو على السطح وكأنه يقوم بالكثير من الأعمال وإن كان بمثابة المايسترو لفريقٍ تتوافر فيه صفتان هامتان : الكفاءة العالية لكل فرد على حدة .. والعمل المشترك كفريقٍ واحد .
ومن خلال تجربتي الخاصة فقد كنت لقرابة عشر سنوات مسئولاً عن أعمال ومشروعات بمليارات الدولارات وكان وقتي أبعد ما يكون عن الإزدحام بالمواعيد والإجتماعات وكان مكتبي خالياً من الأوراق رغم مسئوليتي عن حجم أعمالٍ يومي بأكثر من مائة مليون دولار بينما كنت أرقبُ مسئولين في مواقعٍ أخرى يديرون أعمالاً ومشروعات بكم لا يبلغ واحد في المائة من هذا الحجم والقيمة وكنت أجدهم غارقين في الإجتماعات والأوراق والملفات وكنت ولا أزال أقول أنهم منشغلون بالقيام بأعمال غيرهم .. وأنهم مع نسفهم لثقافة العمل الجماعي والفريق من جهة وعدم إيمانهم بالتفويض من جهة ثانية فقد أصبح من المُحتم أن يجلسوا ثلاثة أرباع النهار كل يوم وسط جبالٍ من الملفات والأوراق .. ومع ذلك فإن نتائجهم النهائية هي في بعض الأحوال "متواضعة" وفي معظمها "مخجلة" .
إن زرعَ وبثَ ونشرَ روح وثقافة العمل الجماعي وأسلوب عمل الفريق يبدأ من تكوين كادرٍ بشريٍّ من المديرين التنفيذيين العصريين الذين يفهمون فكرةَ (الرئيس في العمل) حسب مفهومها العصري الحديث وليس حسب مفهومها الفرعوني أو القرون أوسطي حيث يكون الرئيس في العمل هو (كل شئ) ويكون مساعدوه ومساعدو مساعديه (محض لا شئ) . وبدون هذه الثورة الإدارية في هذا المجال فإن كل محاولات تطوير بيئة العمل لدينا في إتجاه العمل الجماعي وروح الفريق سوف تفشل لأن الذين على رؤوس التنظيمات الإدارية لا يريدون لها إلاِّ أن تفشل لتبقى الحبال (كل الحبال) في أيديهم ويكونوا هم فقط (آباء النجاح) أما الباقون فمجرد تروسٍ صغيرةٍ معاونةٍ . وكما أن القدوة عن طريق كادرٍ بشريٍّ متميّزٍ من المديرين التنفيذيين العصريين هو أمرٌ لازمٌ فإن ثورة تعليمية تبثُ في الأجيال الجديدة تقديس العمل الجماعي وتؤسس المسألة التعليمية برمتها على أسلوب فرق العمل هو الأمر اللازم الثاني لإنتقالنا من ثقافة العمل الفرعوني الفردي إلى دنيا العملِ الحديثةِ القائمةِ على عملِ الفريق وتعظيمِ الفوائدِ من تفاعلِ العقولِ والخبراتِ والقدراتِ .
منذ أكثر من عقدين من الزمان ذهبتُ لأولِ مرة لدراسة أحدث تقنيات علوم الإدارة الحديثة بأكبر معهد متخصص (The International Management Institute of Geneva University) في هذا المجال في أُوروبا ومن اليوم الأول أنتابتني فكرةُ أن هذا المكان لا يمكن أن يكون ممتازاً كما يُشاع عنه لأنه كان على نقيض طرق وأساليب التعليم التي عشت معها في مرحلتي الشهادة الجامعية الأولى والماجستير في واحدةٍ من الجامعاتِ المصرية : فقد كنتُ أنا الآتي من بيئة الدراسة الأكاديمية المصرية أتوقع أن يكون الأستاذ (جهة إرسال) .. وأن يكون الدارسون (جهة إستقبال) لاسيما وأن مصاريف هذا البرنامج الدراسي كانت بمئات الآلاف من الدولارات. إلاِّ أنني وجدت النقيض من اللحظة الأولى: فلم يكون الأساتذة (مرسلين) .. ولم يكون الدارسون (مستقبلين) .. وإنما كانت كل جلسات الدراسة تبدأ بتسليط الضوء على مجموعة من المفاهيم والمواضيع والإشكاليات ثم يتم تقسيم الدارسين إلى مجموعات عملٍ تذهب كل مجموعة منها إلى غرفة مستقلة ويكون أمامها قدر من الوقت لدراسة الإشكاليات المطروحة وإستعمال المكتبة وتكوين ورقة تمثل مجموعة الدارسين معاً يشتركون على قدم المساواة في إعدادها ثم يختارون أ حدهم لتقديمها وعرضها نيابةً عنهم.
وكان إنطباعي الأول مزيجاً من الدهشة : فكيف تُنفق مئات الألوف من الدولارات على تعليم بسيط وهزلي مثل هذا !! .. إلاِّ أن الأسابيع والشهور التالية جعلتني أرى أن هذا الأسلوب في التعليم هو الذي يُفرز النماذج البشرية التي تقود العالم في كل المجالات لأنه الأسلوب الذي يُفرز (المبدعين) و(المؤمنين) و(المتعاونين) على نقيض الأسلوب الذي يُفرز ا|لإنسان الذي يُجيد التلقي والتبعية ويكبت في نفسه قدرات الخلق والإبداع كما يحفز في شخصه عوامل الفردية الهدامة لكي يكون الفائز بتقديرات النجاح بينما يترك عار التأخر لزملائه . هذه البيئة العلمية هي التي تُفرز أفضل عناصر البيئة العملية .. فما العمل إلاِّ إستمرار لمراحل التعليم الأولى : إذ أن وحدات العمل هي الجهة التي تتلقى المنتج النهائي للمؤسسة التعليمية (الإنسان) بعد أن تمت صياغته وتشكيله إما بشكل إيجابي أو بشكل سلبي .
وهكذا يتضح أن العمل الجماعي أو عمل الفريق هو ظاهرةٌ ترتبط بنسيج ثقافةِ المجتمع من جهةٍ (فقد لاحظ علماءُ الإدارةِ الحديثة بوجهٍ عامٍ وعلماء إدارة الجودة بوجهٍ خاصٍ أن الشعوب الصينية واليابانية لديها إستعداد كبير جداً للعمل الجماعي - ولكنها صفة مُكتسبة (من تراكمات بناء الثقافة العامة لمجتمعاتهم) وليست صفة طبيعية . كذلك يمكن النظر للعمل الجماعي أو عمل الفريق من وجهة نظر أساليب الإدارة المُتبعة في المؤسسات الحكومية والمؤسسات الإقتصادية أيٍّ كانت طبيعتها . وثالثاً فإن هناك زاوية أخرى لتناول موضوع العمل الجماعي أو عمل الفريق وهو فلسفة التعليم وتقنياتها . ومن ناحية رابعة فإن "القدوة" التي تمثلها القيادات التنفيذية في المجتمع هي عامل حاسم من عوامل بقاء الأمور على ما هي عليه أو تطورها تجاه ثقافة العمل الجماعي .. وخامساً وأخيراً فإن هناك صلة بين موضوع العمل الجماعي ودرجة نمو الديمقراطية في المجتمع ، فكلما زاد الهامش الديمقراطي كان بوسع الذين يريدون تأصيل العمل الجماعي كمعّلم من معالم المجتمع أن يحققوا ذلك لأن المجتمعات غير الديمقراطية تكون مجالات العمل فيها مغلقة من أعلى بمعنى أن الحركة في كل التنظيمات من أسفل إلى أع لى إما أن تكون بطيئة أو شبه معدومة وهو ما يفرضُ مُناخاً معارضاً للمناخ الأمثل للعمل الجماعي – وهكذا نكون أمام حالة جديدة من المشكلات التي ليس لها سبب واحد وليس لها علاج واحد وكأننا بذلك نردد مع الفيلسوف الأمريكي/ الألماني هيربرت ماركوز ما كتبه وأعلنه مراراً منذ ثلاثين سنة عندما قال : أن نظرية السبب الواحد قد سقطت نهائياً في مجالات الفكر الإنساني برمتها .
الإهتمام الفائق بالموارد البشرية :
إذا كانت "الإدارة" هي عصب النجاح في كل مؤسسات المجتمعات المتقدمة، فإن "التوظيف الأمثل للبشر" هو الأَداة التي تكون وراء "نجاح" أو "فشل" الإدارة. وقد تشعبت "علوم الموارد البشرية" وصارت تغطي مواضيعاً عديدة مثل (إختيار العاملين) و(التدريب) و(تقييم الأداء) و(الموارد البشرية والتنظيم) و(إكتشاف القدرات القيادية) وعشرات المجالات الفرعية لواحدٍ من أهم مجالات الإدارة الحديثة وهو مجال الموارد البشرية.
وتقوم علوم الموارد البشرية الحديثة على ركائز أساسية مثل الإيمان بأن كل إنسان في العالم توجد مسافة واسعة بين "أدائه الآني" و"قدراته غير المكتشفة"، وأن من أهم مهام الإدارة إكتشاف تلك "المسافة" والعمل على تنميتها عن طريق الموائمة بين الإنسان وأنسب المجالات له من جهةٍ وعن طريق التدريب المستمر من جهةٍ أخرى.
كذلك تقوم علومُ الموارد البشرية الحديثة على الإعتقاد بأَن أي فردٍ من الناس هو في النهاية واحد من أفراد مجموعة من مجموعتين أساسيتين هما "مجموعة المتخصصين" (The Specialists) و"مجموعة العموميين" (The Generalists) – مع التسليم بأهمية كل منهما وضرورة تواجد أفراد ينتمون للمجموعتين لوجود تنظيماتٍ ناجحةٍ ومزدهرةٍ وفعّالةٍ ومتطورةٍ.
كذلك تقوم علوُم الموارد البشرية الحديثة على الإعتقاد بأن هناك تفرقة أساسية بين "القدرة" (Potential) و "الأداء" (Performance) – وبينما يمكن الرقي بمستويات ومعدلات "الأداء" ، فإن أقصى ما يمكن عمله مع "القدرة" هو إكتشاف وجودها أو عدم وجودها. ويكون من أهم مهام الإدارة العليا في المؤسسات العصرية إكتشاف أصحاب القدرات العالية في زمن مبكر لتوجيههم للمناصب القيادية وإعداد برامج التدريب المطلوبة لصقل امكاناتهم وإضفاء ثراء الحرفية (Professionalism) عليها .
ومن مجالات علوم الموارد البشرية المهمة موضوع التحفيز أو التحميس (Motivation) بجوانبه المادية والأدبية المختلفة.
ويختلف دور "الرئيس" أو "القائد في العمل" في المؤسسات الحديثة عن دوره في البيروقراطيات التقليدية – ففي هذه الأخيرة يقوم الرئيس في العمل بتركيز أكبر قدر من السلطة المركزية في يده ويقوم عبر السنين بتحويل العاملين معه إلى جيش من "الأتباع" (Followers) بينما يكون دوره في المؤسسات التي تعمل بتقنيات علوم الإدارة الحديثة قائماً على التفويض والقيام بأقل قدر من العمل المباشر والتركيز على التفكير الإستراتيجي وكذلك العمل بأسلوب "المايسترو" أكثر من أسلوب "القائد العسكري".
وإذا كانت البيروقراطيات التقليدية تخلق أتباعاً ( Followers) فان الإدارة الحديثة تهدف لخلق كيان من الموارد البشرية ويكون أفراده بمثابة "مؤمنين حقيقيين" (Believers ) برسالة وأهداف مؤسستهم كما أن كل منهم يتولد لديه شعور بأن عمله ليس مجرد أداء واجب وإنما هو "أمر يملكه" ويملك آفاق نجاحه عندما ينجح، ويسمى هذا الشعور بملكية الإنسان للعائد الأدبي لنجاحه في العمل في مصطلحات علوم الإدارة الحديثة Ownership وغير خاف أنها "استعارة مكنية" ذات دلالة واضحة للغاية.
وبإختصار شديد، فان "الإدارة الحديثة" لا تنظر للموارد البشرية كآلات وإنما تنظر إليهم بصفتهم "العامل الأكبر" للنجاح أو الفشل وانهم كما يصنعون النجاح ( أو نقيضه) فإن من حقهم التمتع بمزايا وصيت هذا النجاح. وعن طريق هذه النظرة للبشر، لا يكون هناك إعتقاد أن للتقدم والنجاح والإزدهار سبل آخرى أهم من "البشر". فالمجتمع الفقير المتخلف يكون كذلك لأنه لم يخلق مناخاً مثالياً لأبنائه - للعمل والعطاء ، والعكس صحيح تماماً. فليس ثراء الأمم منوط بثروات طبيعية وأموال مكدسة من الماضي – وإنما ثراء الأمم بثراء مواردها البشرية، وثراء الموارد البشرية "عملية" تتم بالتخطيط والتنفيذ الدقيق لنظم تكتشف أفضل ما في الناس من قدراتٍ وتطورهم وترتقي بمكنهم وتعمل على تحفيزهم.
التفويض :
تحاول كل قيم علوم الإدارة الحديثة أن توظف الإنسان (كل إنسان) بأفضل شكل متصور لذلك فإنها توجه إهتماماً كبيراً للتدريب ومحاولة إكتشاف القدرات الكامنة في كل إنسان والتحفيز Motivation وذلك إيماناً منها بأن الثراء الحقيقي هو في جعل كل إنسان قادراً على إخراج أفضل ما لديه من قدرات ومواهب وكذلك إيماناً بأن تلاقح الأفكار هو أمر بالغ الإثراء للعمل والحياة وكل ذلك يهدمه بالكلية النموذج المركزي في الإدارة والذي عاشت معه عقوداً طويلة مؤسسات العمل في كثير من المجتمعات ويميل البعض لأن تكون هذه المؤسسات قد أستوردته بشكل ما من المؤسسات العسكرية . لذلك أصبح التفويض Delegation هو عصب من أهم أعصاب الإدارة العصرية الناجحة، فالتفويض هو الذي يعكس كل القيم التي ذكرتها آنفاً والتي تؤدي إلى تحول مجموعات العمل من جيوش من الأتباع Followers إلى فرقٍ من المؤمنين Believers - والإبداع يكون مع الثقافةِ الثانية ويتعذر مع الأولى.
وفي النظمِ الإداريةِ الحديثةِ حيث يقوم رؤساءُ العمل بتفويض سلطاتهم للآخرين يختلف دور رئيس العمل كليةً إذ يصبح بمثابة"مايسترو" لا "عازف على كل الآلات" . ويصل التفويض في المؤسسات العصرية إلى درجةٍ يبدو معها رئيس العمل وكأن لا عمل له، وهو إستنتاج خاطئ لأن له عمل هام هو قيادة التفكير الإستراتيجي وليس القيام بأعمالٍ يستطيع الآخرون القيام بها وفي أغلبِ الأحوالِ بشكلٍ أفضل.
ولا أعتقد أنني أبالغ إذ أقول أننا إذا إفترضنا توفر كل قيم الإدارة الحديثة دون التفويض فإن المعبد سينهار لا محالة إذ أن التفويض هو الذي يترجم معظم قيم الإدارة الحديثة.
ولكن الواقع يؤكد أيضاً أن التفويض صنو التدريبِ : فتفويضٌ بدون تدريب لا مآل له إلاَّ الإخفاق.
جلوس علم التسويق على مقعد القيادة :
تختلف الدول التي أحرزت تقدماً هائلاً في المجال الإقتصادي (عن طريق إنتاج "مُنتجٍ" أو تقديم "خدمةٍ" .. ثم في مراحل تالية عن طريق "تكنولوجيا المعلومات") عن الدول التي أنفقت المليارات على "ترسانات صناعية" لم يكن لها من مآل إلاِّ الفشل في أن الأولى كانت تمارس أنشطتها وعقلها مركز على نهاية العملية أي "التسويق" أَما الآخرون الذين أخفقوا فقد كانوا يمارسون أنشطتهم وهم مشغولون ومنشغلون ببداية العملية أي "الإنتاج" . ويمكن تلخيص الفارق بين إقتصاديات دول ما كان يعرف بأوروبا الشرقية (قبل سقوط الكتلة الشرقية في أواخر ثمانينات القرن الماضي) ودول أوروبا الغربية (وكذلك اليابان ودول جنوب شرق آسيا) في كون الأولى "مُسيّرة إنتاجياً" (Production Driven) بينما كانت الثانية "مُسيّرة تسويقياً" (Marketing Driven) ولا يشك أي عالم من علماءِ الإدارة الحديثة في أن مآل كل الذين يُسّيرون إنتاجياً (لا تسويقياً) هو الفشل والإفلاس وأن مآل الذين يسّيرون تسويقياً هو النجاح والنمو والتوسع .
وإذا كانت "الإدارةُ" هي سر نجاح (أو فشل) المجتمعات بوجهٍ عامٍ والإقتصاد بوجهٍ خاصٍ فإن "التسويق" هو "مخُ الإدارة" بمعنى أن الإدارة الناجحة هي التي تكون من الناحية الإستراتيجية ومن ناحيةِ القدراتِ والمُكنِ "مُسيّرة تسويقياً" .
وتستلزم هذه القيمة من قيم التقدم الإداري توفر زميلات لها من نفس مجموعة القيم فالتسويق الناجح مهمة مستحيلة لمن يكونون محليون وغير منفتحين على العالم ولا يحوّلون قيمة أُخرى من قيم التقدم هي الإيمان بعالمية المعرفةِ إلى واقعٍ يعيشونه ، فكيف ينجح في التسويق على نطاقٍ واسعٍ من لا يعرف الكثير عن الآخرين : عن منافسيه وعن أسواق الدنيا ومتطلبات تلك الأسواق وعلاقة ذلك بثقافات هؤلاء الآخرين الذين نذهب إليهم بمنتجاتنا أو خدماتنا ؟ .. وكيف يكون عندنا نموذج واحد لكل شئٍ من الأشياءِ (وهذا نقيض التعددية") وننجح في التسويق الذي يقوم على الهدف الأسمى لعلم إدارة الجودة وهو (التلاقي مع توقعات ورغبات متلقي المنتج أو الخدمة) ؟
الإيمان المطلق بفاعلية الإدارة :
ما أكثر العبارات الصحيحة التي يكررها الناسُ دون أن يكونوا مدركين للمعنى والجوهر الحقيقيين لما يرددونه . ومن أشهر هذه العبارات في واقعنا أن مشكلةَ المشكلاتِ في حياتنا هي "الإدارة ". فرغم أن ذلك صحيحٌ بنسبةِ مائة في المائة إلا أن أبسطَ حوارٍ تفصيلي مع معظم مرددي هذه العبارة يوضح أن العبارة السليمة تعني في تفاصيلها أشياء أخرى عند مردديها .
والحقيقة أن العبارة كما أسلفت صائبةٌ تماماً : فمشكلةُ المشكلاتِ في حياتنا بوجهٍ عام وفي حياتنا الإقتصادية بوجه خاص أن أساليبَ وتقنياتِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ وعلومِ التسويقِ العصريةِ غائبةٌ بشكلٍ كبيرٍ: غائبة في الإدارات الحكومية … وغائبةٌ في القطاع العام … وغائبةٌ في القطاع الخاص … وغائبةٌ في كل المجالاتِ الخدمية .
ولا شك عندي أن دولَ الكتلة الشرقية بقيادةِ الإتحاد السوفييتي ومن وراءه فيلق أتباعه قد إنهار في أواخرِ ثمانينات القرن العشرين بسببٍ محددٍ هو غياب الإدارة الفعّالة في كلِ مرافقِ العالم الإشتراكي وبالتحديد في المؤسساتِ الإقتصاديةِ التي أدى غيابُ الإدارة الفعّالة فيها إلى حالةِ إفلاسٍ أخذت المعبد بكل أركانه وعواميده وسقطت سقوطاً مدوياً منذ قرابةِ عشرِ سنوات .
وفي المقابل فإن العالمَ الغربي المتقدم ومعه تجارب آسيا المتألقة قد بلغت ما بلغت من آفاقِ التقدم والإزدهار الإقتصادي وما نتج عن ذلك من وجودِ طبقةٍ وسطى قوية وراسخة – لا شك أن مرجع ذلك إنما هو في المقام الأول لتوفر نظم إدارة وتسويق عصرية فعالة قادرة على خلقِ النجاح والثروة . و من الجدير بالذكر هنا أن الإدارةَ العصرية الفعّالة ليست فقط قادرة على تحقيق التقدم والإزدهار الإقتصاديين وما ينتج عنهما من نتائج إجتماعية إيجابية وإنما هي أيضاً قادرة على التعامل مع الأزمات والكبوات ، فبالإدارة فقط تجاوزت دول جنوب شرق آسيا كبوتها الإقتصادية في فترةٍ زمنيةٍ قياسية ومن قبلها تجاوزت المكسيك أزمتها في وقتٍ كان البعضُ لدينا يردد آيات التفاخر بأننا نسير بخطواتٍ محسوبة على خلاف المكسيك ودول جنوب شرق آسيا – وقد أثبتت تجربة المكسيك ودول جنوب شرق آسيا أن الذي سار في طريقٍ معينةٍ بمنهج علمي واضح يستطيع إن تعرض للأزمات أن يعود ليسير في نفسِ الطريق لأنه وإن كان قد عاد للوراء بعضَ الشيء إلا أنه لم يفقد المنهج .
ولكن ما معنى النجاح ؟
لابد ابتداءً من لفت الانتباه إلى أن اللغة العربية تترجم مصطلحين إنجليزيين هما Management و Administration بكلمةٍ واحـدةٍ هـي (الإدارة). من هنا ينبع سـوءُ الفهم. فبينما تعني كلمـة Administration مجموعة القواعد التي تحكم سير العمل مثل لوائح ومواعيد العمل ودرجة الإنتظام وغيره من سيل الخدمات الإدارية التي تحيط بالعمل فإن كلمة Management تعني شيئاً مختلفاً كليةً إذ أن معناها الحقيقي هو تحقيق النتائج المرجوة والتي هي بالتحديد في شكل عائدٍ إقتصاديٍّ محددٍ مع عملية نمو موازية عن طريق أدوات علوم التسويق العصرية .
وبالتالي فإننا إذا نظرنا إلى كلِ المؤسساتِ الإقتصاديةِ التي أنشئت في دول التخطيط المركزي (الإقتصاد الموجه) وأثار إعجابنا حجم المنشآت والآلات والمعدات وعدد العاملين كنا كمن ينظر إلى المسألةِ في أفضلِ الأحوالِ من زاوية الـ Administration لأن كل ذلك لا معنى له من منظورِ علومِ الإدارةِ الحديثة Management ما لم نسمع معلومة محددة وهي أن تلك المنشآت والمعدات والآلات تحقق سنوياً عائداً لا يقل عن عوائدِ المصارف على الإيداعات .
ومن المهم للغاية أن نعرف أن أي مشروعٍ لا يحقق عائداً على الإستثمار يفوق عوائد إيداعات المصارف سوف يصل حتماً إلى مرحلة الإفلاس ويصبح عاجزاً عن أداء مهمته الإقتصادية ومهامه الأخرى وفي مقدمتها القدرة على التشغيل وخلق فرص عمل جديدة.
وإذا كان البعضُ يفتخر بحجم المنشآت الإقتصادية التي تمت في ظروفٍ معينةٍ ولم تتمكن (بسبب غياب الإدارة الفعّالة) من تحقيق عوائد إقتصادية تفوق عوائد إيداعات المصارف فإننا نقول له أن موقفك هذا غريبٌ وعجيبٌ لأنك تفتخر بالإنفاق وكان الأجدر بك ان تفتخر بالنتائج والعوائد والتي كانت في معظمِ الأحوالِ متواضعةً بشكلٍ كبيرٍ هو الذي أدى لفشل التجربة برمتها.
وبديهي أن المجتمعاتِ التي تخلط بين مفهوم الإدارة بمعناه هذا الذي وضحناه وبين الضبط والربط والإنتظام هي في حاجة لأن تعلم أن الضبط والربط والإنتظام رغم أهميتها لا تخلق ثروةً إقتصاديةً إذ أن السبيلَ الوحيد لخلقِ الثروةِ الإقتصادية هو العمل وفق أساليب وتقنيات علوم الإدارة والتسويق الحديثة.
إن المدير العصري مثله مثل الطبيب والمهندس والمعماري إنسانٌ يتكون وفق معطيات الإستعداد الشخصي مع زخم من التعلم والتدريب وبذلك فإن مجردَ الترقية لوظيفةٍ عليا لا يعني أننا بصدد مديرٍ تنفيذي عصريٍّ قادرٍ على قيادةِ العملِ والتخطيطِ لتحقيق الأهداف المنشودة على مستوى الربحيةِ والنمو مع ما يوازي ذلك من إهتمامٍ فائقٍ بتنميةِ أهم عناصر النجاح وأعني الموارد البشرية.
ومن الملاحظ أن غيابَ الإدارة العصرية الفعالة في واقعنا لا يقتصر على الإداراتِ الحكوميةِ التي تسوم المواطنين شتى صنوف العذاب عند تعاملهم معها وإنما تغيب الإدارةُ الفعّالة أيضاً عن الوحدات الإقتصادية المسماة بالقطاع العام والأفدح إنها تغيب بنفس القدر عن الدكاكين الإقتصادية التي يسميها البعض بالقطاع الخاص بينما هي أبعد ما تكون عن روح ونظم وآليات المؤسسات الإقتصادية الخاصة التي تعمل وفق آليات علوم الإدارة والموارد البشرية والتسويق الحديثة (فمعلومٌ لكلِ خبراءِ الإدارةِ العصريةِ والموارد البشرية وتقنيات التسويق الحديثة أن السواد الأعظم من المؤسساتِ الإقتصادية الخاصة في مصر اليوم تعتمد إعتماداً شبهَ كلي على العلاقات العامة وليس على الإدارة بمعناها العلمي الحديث – فهذه المؤسسات وجدت أن المناخ العام المحيط بها يعملُ بآليات العلاقات العامة فوفرت على نفسها مشقة الطريق الصعبة والمتمثلة في بناءِ تنظيمٍ مؤسسيٍ عصريٍ يضم عناصر بشرية قادرة وفعّالة – فهذه الطريق الصعبة هي من جهةٍ مكلفة ومن جهةٍ أخرى لا تستطيع العقول البسيطة إستيعاب جدواها لا سيما في ظل الأضواء الباهرة لثقافة العلاقات العامة في مجتمعٍ يقدسُ ما تعكسه تلك العل اقات العامة من معانِ القوةِ وأبهةِ السلطة وأبهةِ القرب من السلطة) .
وما لم نخلق المناخ العام الذي يسمح بنهضةٍ إداريةٍ عصريةٍ في الإداراتِ الحكوميةِ ووحداتِ القطاع العام والمؤسسات الإقتصادية الإنتاجية والخدمية الخاصة فسوف يبقى إنتظارُنا طويلاً لمجيء الإستثمارات العالمية المباشرة والتي يصعب تصور وجودها بدون مناخٍ عامٍ يسمح لها بالعمل وفق آليات وتقنيات علوم الإدارة والموارد البشرية والتسويق الحديثة وليس وفق معطيات كانت هي السبب الأول والأخير وراء الأوضاع الإقتصادية المتدهورة في واقعنا والتي لم نبدأ في التعامل الجاد معها إلا منذ عشر سنوات ولكنه تعامل لا يزال يحتاج لمزيدٍ من الجرأة في إستئصال جذور العديد من المشكلات والتي تجعل من توفر الإدارة العصرية في سائر جوانب حياتنا أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
وهكذا يتضح أن ترديد مقولة (أن المشكلة هي الإدارة) إنما هو مثال واضح لعبارة صحيحة لا تنطلق بالضرورة من فهم سليم لمعانيها ومراميها.