الإبداع هو عملية تقديم شيء جديد إلى حيز الوجود، فالإبداع يتَطلب الشغف والالتزام، وبذلك يجلب إلى إدراكنا الأفكار التي كانت مخبأة عنه سابقًا. *رولو مي – طبيب نفسي، ومؤلف أمريكي
فالإبداع هو عملية تحويل الأفكار الجديدة والمبتكرة إلى واقع ملموس، حيث يتميز بالقدرة على إدراك العَالم بطرقٍ جديدة، لإيجادِ أنماط خفية تُمكننا من ربط الظواهر المختلفة لإيجاد الحلول المبتكرة. فيعتمد الإبداع على عمليتين أساسيتين هما: التفكير، ثم الإنتاج. ولذلك فالإبداع يختلف عن الخيال، فالخيال هو امتلاك الأفكار فقط، دون العمل وفقًا لتنفيذها.
بينما الإبداع هو امتلاك الأفكار والعمل على تحويلها إلى مُنتج أو وشيء واقعي. لذا في هذا التقرير سوف نتعرف على الإبداع، والجانب المُظلم منه، والعلاقة التي تربط الحزن بالإبداع، وكيفية تحويل مشاعرنا السلبية إلى مزيد من الإبداع، وأخيرًا التَطرق إلى العديد من الوسائل والعادات التي قد تجعلنا أكثر إبداعًا.
المشاعر السلبية.. وعلاقتها بالإبداع
منذ آلاف السنين، ساد الاعتقاد بأن هناك ارتباطًا بين المشاعر السلبية، كالحزن والاكتئاب، وبين الإبداع. حيث أشار إليها أرسطو لأول مرة في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث اعتقد أن جميع من بَلغوا التميز في الشعر، والفلسفة، والفن، والسياسة، حتى سقراط وأفلاطون كانوا يعانون بعضًا من الحزن، والسوداوية. ووفقًا للباحث في جامعة هارفارد «شيلي كارسون» فإن جزءًا من العملية الإبداعية يتطلب النظر إلى أنفسنا أو مجتمعنا بدرجة من عدم الرضا.
فتشير العديد من الأدلة إلى أن الحالة المزاجية السيئة، كالحزن، والشك، والقلق، والمزيد من التفكير تعمل على تحفيز مناطق الدماغ المرتبطة بالتفكير التحليلي المجرد، وحل المُشكلات؛ مما يدفع الفرد نحو اكتشاف حلول جديدة لتلك المُشكلات. كذلك الغضب والإحباط يؤديان إلى استجابة مبتكرة؛ مما يعمل على توليد نوع من الطاقة يؤدي إلى أفكار وحلول جديدة لتعالج أسباب الغضب والإحباط. فالمُبدعون هم أولئك الأشخاص الذين ينظرون إلى الأمور من حولهم بعدم رضا.
الإبداعية.. وجانبها المُظلم
قامت الباحثة، والأستاذة في كلية كولومبيا لإدارة الأعمال «Modupe Akinola» بإحدى الدراسات في جامعة هارفارد بعنوان «الجانب المُظلم من الإبداع: الضعف البيولوجي، والمشاعر السلبية تؤدي إلى مزيد من الإبداع الفني». كانت التجربة بسيطة جدًّا، حيث سألت بعض الطُلاب لإلقاء كلمة قصيرة عن وظيفة أحلامهم في المستقبل، بعض الطلاب تم استقبال كلماتهم بردود أفعال سلبية كالاستهجان، والسخرية، والإيماءات الأفقية. بينما البعض الآخر تم استقبال كلماتهم بردود أفعال إيجابية كالابتسامات، والإيماءات رأسية الاتجاه.
وبعدما انتهى الطلاب من كلماتهم، أعطي كل منهم الغراء، والورق، والقماش الملون، وطُلِب منهم القيام بإنشاء كولاج (وهو فن بصري يعتمد على قص ولصق العديد من المواد معًا، لتكوين شكلٍ جديد) باستخدام المواد المتاحة، ثم تقييم الأعمال الإبداعية من فنانين محترفين. وكانت النتيجة أن المجموعة التي حصلت على ردود أفعال سلبية قامت بإنشاء الكولاج بشكل أفضل، من أولئك الذين حصلوا على ردود أفعال إيجابية.
كما قامت أكينولا بقياس مستوى هرمون الأندروستيرون لدى الطلاب، وهو هرمون داخلي المنشأ يُطلق عليه هرمون السعادة، نظرًا لأنه يُضعف تأثير هرمونات التوتر كالكورتيزول. ويعتبر الأندروستيرون هو الطور المبكر للهرمونات الجنسية. حيث يُنتج من قشرة الغدة الكظرية في الرجال، بينما في النساء يُنتج من المبيضين، وقشرة الغدة الكظرية أيضًا. ثم سألت الطلاب عن حالتهم المزاجية، حتى يتثنى للعلماء قياس مشاعرهم بشكل موضوعي. فوجدت أن هرمون الأندروستيرون أقل لدى أفراد المجموعة التي تعرضت لردود أفعال سلبية، بالمقارنة مع أولئك الذين تعرضوا لردود إيجابية.
لكن كيف تجعلنا السلبية أكثر إبداعًا؟
الطبيعة المتشابكة بين العاطفة والإدراك تجعلنا أكثر انتباهًا، وتركيزًا على التفاصيل. فوفقًا لِعَاِلم النفس الاجتماعي في جامعة ساوث ويلز بأستراليا «Joe Forgas» فإن الغضب والحزن يقومان بتعزيز إستراتيجيات معالجة المعلومات الأكثر ملائمة للتعامل مع المواقف التي تتطلب المزيد من التركيز، والتفكير، والقدرة على معالجة البيانات وأخذ القرار. كما اكتشف خلال العقد الماضي، الذي قضاه في البحث عن فوائد العواطف السلبية والحزن، والاكتئاب، أن أولئك الأشخاص الذين يتعرضون للحزن والمشاعر السلبية أكثر دقة في التعامل مع الشائعات، ثم التأكد من صحتها، ودقة ما يصل إليهم من معلومات. وكذلك هم أقل خطأً في إجراء العمليات الحسابية.
كيف نتغلب على تلك المشاعر السلبية؟
المشاعر السلبية، مثل الحزن، والاكتئاب قد تصل إلى حدٍّ مدمر إن لم يتم التعامل معها بشكلٍ صحيح، ليس للقضاء على تلك المشاعر تمامًا، ولكن للحد منها. فعلينا تَقبل الحزن، أو الغضب، أو الإحباط، ولكن لا نترك تلك المشاعر لتتحكم في حياتنا وعواطفنا، ولتحجيم المشاعر السلبية وعلاجها بطريقة سليمة يجب:
-
تحديد المشاعر السلبية، والاعتراف بها: فالخطوة الأولى والحاسمة في التغلب على المشاعر السلبية، هي الاعتراف بها، والتوصل إلى المسبب الرئيسي لها، ومن ثم البحث عن حل للمشكلة، للتخلص من الطاقة السلبية الناتجة عنها.
-
ربط العواطف السلبية بالمُشكلات.. لا بالأشخاص: يجب استخدام الإبداع في توجيه الحزن، والقلق، والإحباط، والاكتئاب بعيدًا عن الآخرين، وربطهم بالمُشكلات والأزمات التي أدت إلى تلك الحالة السلبية، لا بالأشخاص، وذلك لتجنب الصراعات غير الضرورية مع من حولنا.
-
لا للحكم على النفس: إن كُنت تتميز بالإبداعية فلن يكون حُكمك تجاه نفسك، فالإبداع يدفعك إلى العمل بشكل أفضل دون الإفراط في تحليل أفكارك وتقييمها، لذا فأشغل نفسك بالعمل المستمر، لا بالحكم على ما تَعمل.
-
انظر في نقاط قوتك.. وقدراتك: حدد نقاط قوتك بشكلٍ واضح، وحدد نقاط ضعفك، ثابر في العمل على تعزيز قدراتك، واستخدم قدراتك الإبداعية في التغلب على المُشكلات والعثرات التي تواجهك. ومن ثم استخدم قدراتك بشكلٍ مثمرٍ وفعال.
إذًا.. كيف تُصبح مبدعًا؟
هناك العديد من الطرق التي يمكنها توجيه الغضب، والحزن، والإحباط، والاكتئاب إلى شيء مُبتكر، فقط لا بد من توافر الشغف والاستمتاع بما تقوم به، قد يكون ذلك عن طريق: السخرية، أو التأمل، أو الكتابة، أو الرقص، أو الرسم والتصوير، والتصميم، أو الطهي، أو اللعب على الآلات الموسيقية. فالكتابة تمكننا من التخلص من المشاعر السلبية التي تدور برأسنا على الورق. بينما يعمل الرقص والموسيقى على فتح المجال لقدراتك الإبداعية، وإفراز المزيد من الإندروفين لتُصبح أكثر سعادة.
كذلك السُخرية، تعمل على تعزيز القدرات الإبداعية عند مواجهة المشكلات المختلفة، وكذلك تحسين القدرة على التفكير المجرد، ومن ثم الوصول إلى حلول فعالة، واتخاذ محاور مختلفة أكثر إبداعًا في التغلب على العثرات. ذلك بناءً على دراسةٍ أجرتها جامعتا هارفارد وكولومبيا لإثبات مدى ارتباط السُخرية بالإبداع.
قسَّم العلماء عينة عشوائية من البشر إلى ثلاث مجموعات: إحداها عبرت عن نفسها بسخرية، والثانية عبرت بصورةٍ جادةٍ، أما المجموعة الثالثة فتبنت الاتجاه المحايد. ثم قاموا بتوجيههم للقيام بالعديد من المهام التي تتطلب الإبداع في أدائها. فأوضحت النتائج أن المجموعة التي عبرت عن نفسها بسخرية، كانت أكثر إبداعًا من المجموعتين الأخريين. وكانت لديها القدرة على التفكير المجرد، واتخاذ حلول فعالة في مواجهة المشكلات.