التضخم ببساطة هو الارتفاع في المستوى العام للأسعار، ويُعبر عن هذا الارتفاع بمعدل التضخم الذي يُختَزَل في رقم واحد، فعندما يخرج علينا اللواء أبو بكر الجندي رئيس «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء» قائلًا إن معدل التضخم في مصر في 2015 كان 10% مثلًا فمعنى ذلك أن أسعار جميع السلع والخدمات قد ارتفعت بمقدار 10% عن العام 2014.
كيف يُقاس معدل التضخم؟
الجهة المسئولة عن قياس معدل التضخم في مصر هي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إذ يقوم برصد أسعار السلع الغذائية والصناعية والخدمات من مصادر بيعها بالتجزئة ومصادر الخدمات للمستهلكين بشكل شهري من المناطق الحضرية والريفية، وذلك من خلال مكاتب الجهاز المركزي المنتشرة في أنحاء الجمهورية، ويُعدّ الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء هو الجهة الوحيدة المخول لها رسميًا جمع البيانات. وتترواح بيانات السلع والخدمات بين قطاعات مثل «الطعام والمشروبات – المشروبات الكحولية والدخان – الملابس الجاهزة – المسكن والمياه والكهرباء والغاز والوقود – الأثاث والتجهيزات والمعدات المنزلية والصيانة – الرعاية الصحية – النقل والمواصلات – الاتصالات السلكية واللاسلكية – الثقافة والترفيه – التعليم – المطاعم والفنادق».
وبعد مرحلة جمع البيانات يقومون بقياس متوسط التغير ومقارنته بوحدة المقارنة سواء كانت شهرية أو سنوية، ثم يتمخض عن هذه العمليات رقم واحد هو معدل التضخم أو مقدار الارتفاع في المستوى العام للأسعار.
ولكن هناك العديد من الانتقادات الموجهة لطريقة قياس معدل التضخم في مصر والذي يعده الكثيرون غير دقيق ولا يعبر عن الواقع الفعلي. فمعدل التضخم الحالي في مصر وفقًا لبيانات الجهاز المركزي هو 10.9% في شهر أبريل 2016. وهو ما يرفضه شرائح كبيرة من المواطنين لشعورهم بأن الرقم الفعلي لمعدل التضخم ربما يتجاوز ضعف الرقم الرسمي. ويستند من يؤيد رأي عدم دقة معدل التضخم الرسمي إلى العديد من الحجج منها أن هناك العديد من السلع والخدمات لا تدخل في حساب معدل التضخم لعدم وجود أرقام قياسية لها أو لصعوبة رصدها مثل الدروس الخصوصية أو حتى الارتفاع في أسعار المساكن. فهناك تباين كبير جدًا بين الإيجارات القديمة والإيجارات الجديدة، كما أن هناك العديد من الخدمات فيها ما هو مدعوم وآخر غير مدعوم كقطاعيْ التعليم والصحة، فالتعليم الخاص يُقدم بأسعار مرتفعة جدًّا، وكذلك الخدمات الطبية المقدمة من القطاع الخاص.
وبالطبع ليس في مصلحة الحكومة أن تعلن عن زيادة معدلات التضخم الرسمي، حتى لا تثير القلاقل الاجتماعية الداخلية أو تؤثر سلبيًا على نظرة الخارج للاقتصاد الكلي وبالتالي اهتزاز الثقة في الاقتصاد ونفور الاستثمارات المحلية والأجنبية عن الدولة.
كما أن قانون الإحصاء المصري الحالي الذي يعمل به الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لا يلزم أي جهة في الدولة بالتجاوب مع الجهاز وإجابة كل الاستمارات وإتاحة المعلومات، وبالتالي لا يوجد أي مسئولية قانونية من جراء الامتناع عن التعاون مع الجهاز، أو لمن يدلي ببيانات ومعلومات خاطئة. وهو ما يشكك في دقة بيانات الجهاز ومنها طريقة احتساب معدل التضخم.
لماذا ترتفع أسعار السلع والخدمات إذن؟
إلى هنا تنتهي مهمة «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» بإعلانه معدل التضخم، وتبدأ مهمة «البنك المركزي المصري» بحفاظه على استقرار الأسعار، ولكن قبلها نود استعراض بعض أسباب التضخم أو لمَ ترتفع أسعار السلع والخدمات؟
تُعدُّ معدلات التضخم الرسمية، التي تتأرجح بين 11% و12% في مصر؛ معدلات عالية نسبيًا بالمقارنة بما ينبغي أن يكون عليه المعدل المثالي للتضخم الذي اتفق الكثير من الاقتصاديين عليه، وهو أنه لا ينبغي أن يقل عن 2% أو يزيد عن 3% تقريبًا، وإلا عُد خللًا يستوجب البحث في أسبابه ومواجهته.
فقد يعود ارتفاع السلع والخدمات إلى زيادة في الطلب النقدي مقابل ثبات في عرض السلع والخدمات، على سبيل المثال؛ حينما يزيد الطلب على إيجارات المساكن مع ثبات في عدد الشقق التي يمكن استئجارها، يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار هذه الإيجارات. وقد يرجع هذا الثبات في عرض السلع والخدمات إلى عدم قدرة الأسواق على تلبية الطلب المتزايد على هذه السلعة، وهي في مثالنا السابق عدد الشقق، وذلك ربما بسبب عدم وجود أراضٍ لبناء مساكن جديدة أو حظر البناء من قِبل الحكومة مثلًا.
وقد يعود سبب التضخم إلى الزيادة التي حدثت في التكاليف التشغيلية لإنتاج السلعة أو الخدمة، على سبيل المثال؛ كأن تزداد الأجور في مصنع ينتج البلاستيك، وبالتالي يضطر صاحب المصنع حتى لا تقل أرباحه إلى رفع سعر منتجات البلاستيك التي يضخها في الأسواق وذلك من أجل تعويض الزيادة التي حدثت في الأجور.
وقد ينشأ التضخم بسبب حروب أو حصار اقتصادي على دولة ما كالذي حدث في إيران حينما فرضت الولايات المتحدة والدول الغربية والأمم المتحدة حصارًا اقتصاديًا في العام 1995، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل جنوني لتقترب من 60% حينذاك.
وقد يعود سبب التضخم إلى اتخاذ الحكومات بعض السياسات الاقتصادية غير المسئولة تؤدي إلى تدهور قيمة العملة وبالتالي انخفاض قوتها الشرائية، فما كان يمكن شراؤه بـ10 وحدات من هذه العملة أصبح بـ20 وحدة منها. أما المثال الصارخ على هذا الأمر فهو فنزويلا حيث وصلت معدلات التضخم بها في 2015 إلى 275% وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي. وذلك بسبب تراجع إيراداتها الدولارية بسبب انخفاض أسعار النفط، مما حدا بالحكومة الفنزويلية إلى طباعة المزيد من البوليفار الفنزويلي من أجل الوفاء بالتزاماتها المحلية مع صعوبة الجهاز الإنتاجي في تلبية الطلب المحلي على السلع والخدمات.
كذلك يعُد من الأمثلة الشهيرة لارتفاع معدل التضخم بسبب تدهور قيمة العملة هو المارك الألماني بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا بين عامي 1921 و1923 إذ طبعت ألمانيا كميات مهولة من المارك الألماني مما أدى إلى انهياره تمامًا، ومن الطريف في هذا الأمر أن ثمن الجريدة في العام 1921 كان حوالي ثلث مارك ألماني، وبحلول العام 1923 ارتفع ثمن الجريدة ليصل إلى 70 مليون مارك.
لذا تعد وظيفة محافظ البنك المركزي، وهو المخول له سلطة التحكم في كمية النقد المتداول داخل الأسواق وسلطة طباعة العملة المحلية؛ تعد من أخطر الوظائف داخل الدولة، فبإمكان محافظ البنك المركزي إما أن يرفع من قيمة الجنيه المصري أو يقضي عليه بين عشية وضحاها.
أما السبب الرئيس للتضخم في مصر فهو نتيجة تداخل عاملين وتكاملهما
الأول: انخفاض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي. كيف؟ حينما يزداد عجز الميزان التجاري ليصل إلى 22% في 2015 وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وبالتالي ارتفاع قيمة الواردات التي يتم تسوية عملياتها بالدولار عن قيمة الصادرات، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار في مقابل عرض الجنيه المصري فيرتفع سعر الدولار وينخفض سعر الجنيه. ونتيجة لذلك ترتفع أسعار الواردات لأن المستورد سوف يضطر إلى دفع المزيد من الجنيه المصري حتى يتم مبادلته بالدولار من أجل إتمام عملية الاستيراد، وبالطبع يقوم بتحميل هذه الزيادة على المستهلك.
في هذه الحالة ينبغي على البنك المركزي التدخل لإحداث توازن بين الدولار والجنيه، وذلك من خلال طرح الدولار في الأسواق مقابل شراء الجنيه. ويعتمد البنك المركزي في هذا الطرح على ما يمتلكه من دولارات تم تحصيلها إما من المصادر الدولارية المعروفة مثل إيرادات قناة السويس والسياحة وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، وإما من خلال المنح والودائع من الخارج. فعندما تقل إيرادات هذه المصادر يعجز البنك المركزي عن التدخل لإحداث مثل هذا التوازن، ومن ثم لا يمكنه السيطرة على ارتفاع معدلات التضخم.
الثاني: نتيجة انخفاض القوة الشرائية للجنيه المصري وذلك في حالة طباعة المزيد من العملة دون زيادة في الناتج المحلي. يلجأ البنك المركزي إلى هذه الحيلة لسد العجز في الموازنة العامة حتى يُمكن وزارة المالية من دفع الرواتب والأجور وتسديد ديونها المحلية. وهو ما يسمى في علم الاقتصاد بـ«التمويل التضخمي» لعجز الموازنة.
عندما يطبع البنك المركزي المزيد من الجنيه المصري فإن ذلك يؤدي إلى زيادة حجم المعروض النقدي من الجنيه دون زيادة حقيقية تقابلها في الإنتاج، وبالتالي تقل قيمته وتنخفض قوته الشرائية. على سبيل المثال؛ كيلو اللحم كان يمكن شراؤه بـ70 جنيهًا، عندما تذهب حاملًا الـ70 جنيهًا تفاجأ بأن سعره قد ارتفع إلى 90 جنيهًا، وبالتالي انخفضت قدرة الـ70 جنيهًا على شراء كيلو اللحم، وأصبحت في حاجة لإضافة 20 جنيهًا أخرى حتى تستطيع الشراء.
تأثيـر معدل التضخم على المواطن المصري
من أبرز نتائج ارتفاع معدل التضخم هو تدهور الأحوال المعيشية للأفراد بسبب تآكل الدخول وبخاصة أصحاب الدخول الثابتة كالمتقاعدين على المعاش، ما لم تَزِدْ هذه الدخول لتتناسب مع معدلات التضخم. على سبيل المثال؛ دخل شهري مقداره 2000 جنيه في عام 2005 كان يوفر حياة كريمة لصاحبه آنذاك، أصبح هذا الدخل في 2016 ربما لا يكفي لتلبية متطلبات الحياة الأساسية.
كما أن ارتفاع معدلات التضخم ينهش في الثروات المالية التي يتم ادخارها، على سبيل المثال؛ الشخص الذي قام بإيداع مبلغ من المال قدره 10 آلاف جنيه في البنك بفائدة 7% مثلًا وكان معدل التضخم هو 12% فإنه في الواقع قد فقد من قيمة هذا المبلغ 5% أي 50 جنيهًا.
ويؤدي ارتفاع معدلات التضخم إلى إهدار حقوق العاملين لدى رب العمل، فعندما يحدث اتفاق بين العامل ورب العمل على دخل معين وبزيادة سنوية معينة، فلا يمكننا تقييم هذه الزيادة دون معرفة معدل التضخم. على سبيل المثال؛ حينما يكون هناك عقد عمل لمدة ثلاث سنوات بزيادة قدرها 10% سنويًا، فإذا ارتفعت معدلات التضخم في السنة الأولى إلى 12% وفي الثانية إلى 13% وفي الثالثة إلى 14% فإنه يؤدي إلى إجحاف حق العامل لأن حالته الاقتصادية قد ازدادت سوءًا عن ذي قبل.
كما يعد التضخم ربحًا للمدينين وخسارة للدائنين، فإذا قام أحدهم باستلاف مبلغ من المال وليكن خمسة آلاف جنيه على أن يرده إلى صاحبه بعد عام مثلًا، وكان معدل التضخم 10%، فإن الدائن صاحب المبلغ يكون قد فقد من قيمة هذا المبلغ بعد العام حوالي 10% من هذه القيمة أي 500 جنيه، وبالتالي أصحبت قيمتهم الحقيقية بعد العام هي 4500 جنيه.
ويعد ارتفاع معدلات التضخم من أكثر الأسباب الطاردة للاستثمارات سواء المحلية أو الأجنبية، وذلك لصعوبة تقدير التكاليف التشغيلية ومن ثم تحديد مقدار الأرباح، كما يخشى المستثمرون منعهم من قِبل الحكومة من إخراج أرباحهم بالدولار بسبب احتياج الحكومة إلى العملة الصعبة.
يؤدي ارتفاع معدلات التضخم إجمالًا إلى إتلاف وإفساد الحياة الاقتصادية والاجتماعية وحدوث تشوهات داخل البنيان الاقتصادي والاجتماعي للدولة.
علاج ارتفاع الأسعار في مصر
يبدأ العلاج من معرفة السبب، ثم إجراء إصلاحات حقيقية لمعالجة ومواجهة هذا السبب أو الأسباب. مثلما قلنا من قبل فإن السبب الرئيسي لارتفاع معدلات التضخم في مصر هو انخفاض القوة الشرائية للجنيه المصري مع عجز الجهاز الإنتاجي عن تلبية الطلب المحلي بأسعار مناسبة وبجودة لائقة، وبالتالي ينبغي الآتي:
-
إصلاح الاختلالات في المصادر الدولارية الشهيرة كقناة السويس من خلال إسباغ قيمة مضافة على خدمة المرور من القناة، كإنشاء مراكز خدمات لوجستية على ضفتي القناة. كذلك معالجة الخلل في قطاع السياحة الذي لا يخفى على أحد ما ينتابه من مشاكل. تهيئة المناخ لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة من خلال العمل على إجراء إصلاحات في قوانين الاستثمار والسياسة الضريبية وزيادة مستوى الشفافية.
-
تخفيض العجز في الموازنة العامة من خلال إجراء إصلاحات جذرية في المنظومة الضريبية لزيادة الإيرادات، من خلال العمل على سن تشريعات جديدة تواكب التطور الضريبي الحاصل في باقي الدول لمنع التهرب الضريبي، وكذلك العمل على إدماج أنشطة «اقتصاد الظل» المشروعة داخل الاقتصاد الرسمي للدولة والذي يقدره البعض بنسبة قد تجاوزت الـ60% من حجم الاقتصاد الكلي.
كما يمكن تخفيض العجز في الموازنة العامة من خلال عمل إصلاحات هيكلية جريئة في بند الأجور والمرتبات والحوافز مثل وضع حد أقصى للأجور التي تستنزف أكثر من ربع النفقات العامة.
كذلك يجب تقليل حجم الاستدانة سواء المحلية أو الخارجية إلا في نطاق دفع النمو الاقتصادي للبلاد وضخ استثمارات جديدة، وبمعدل فائدة منخفض. إذ تسيطر خدمة الدين على ثلث النفقات العامة تقريبًا.
-
توسيع القاعدة الإنتاجية من خلال تشجيع الصادرات ومنح تسهيلات حقيقية لإقامة مشروعات، وتقليل حجم العجز في الميزان التجاري. كما ينبغي وضع خطة شاملة وتنفيذها من أجل النهوض بالقطاع الزراعي المتردي في مصر والعمل على حل جميع مشاكله. إذ يساهم هذا القطاع بـ14% من الناتج المحلي الإجمالي رغم كثرة المعوقات والمشاكل التي يرزح فيها.