إشكالية دلالة المفردات ودلالة النصوص

شريف هادي في الأربعاء ٣٠ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم الله الرحمن الرحيم "وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" إبراهيم4
مقدمة:
عندما أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمد عليه الصلاة والسلام أنزل عليه القرآن بلسان قومه (بلسان عربي مبين) ، فمن الحق أن نقرأ القرآن ونفهم مفرداته وفقا لفهم أهل الجزيرة لها وقت نزول القرآن ، مع الوضع في الاعتبار أن القرآن ذاته لم ينفي أن يكون به كلمات أعجمية وهي مدلولات لأشياء أو أشخاص ليس لها مثيل لدى عرب الجزيرة العربي&Eacة لذلك جاء قوله تعالى"ولو جعلناه قرانا اعجميا لقالوا لولا فصلت اياته ااعجمي وعربي قل هو للذين امنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في اذانهم وقر وهو عليهم عمى اولئك ينادون من مكان بعيد" فصلت44 ، ولذلك فإن القارئ للقرآن يجد كلمات مثل (طالوت ، يأجوج ، مأجوج ، ميكال وغيرها) كما أن الله سبحانه وتعالى إستخدم جمع أعجمي في كلمة (طاغوت) وهي جمع لكلمة (طاغية) وجمعها العربي (طواغيت) جمع تكسير ، وذلك بإقلاب تاء التأنيث الزائدة (و) حتى أن بعض علماء اللغة وقياسا على هذا الجمع ، جمعوا كلمة بقرة (بقروت) وشجرة (شجروت) إستئناسا بالقرآن الكريم.
ولكن يجب أن نشير إلي حقيقة أن اللغة أي لغة عند الاستخدام يظهر عجزها عن الإلمام بمعاني لكل المفردات الموجودة فتقوم بالاستعارة من اللغات الأخرى ، وشائع في كثير من اللغات كلمات تم تداولها بالاستعارة من لغات أخرى ، واللغة العربية ذاتها تدخل في تركيب أكثر من 35 % من اللغات الفارسية والتركية والأردية والبنغالية ، فلما يقول الحق (بلسان قومه) تعني ما يتداوله لسان قوم الرسول عليه السلام من كلمات بما شابها من كلمات أعجمية ، ولا يوجد أدنى تعارض بين هذا النص وقوله سبحانه وتعالى" بلسان عربي مبين" الشعراء 195 ، أو قوله سبحانه وتعالى" قرانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون" الزمر28 ، لأن الأصل في لسان القوم الذين أكرمهم الله بالقرآن أنه لسان عربي ، حتى ولو تداخلت فيه بعض الألفاظ الأعجمية لأن هذه الألفاظ يتم تداولها ونطقها بطريقة عربية وبلسان عربي فلو أعدت نطقها على مسامع أهلها الأصليين ما عرفوها وهذا هو عين ما يحدث مع اللغة العربية عندما ينطقها أصحاب اللغات الأخرى ، فمثلا في اللغة التركية كلمة (إدخال) هي نفسها في العربية ولكنها تنطق هكذا (إدهالات) فهل لو تليت على عربي سيفهمها بسهولة؟ ، وعلى كل فهي ألفاظ لتبين معاني لا توجد لها مفردات لغوية في اللغة العربية ، كما أن هذا القرآن بمفرداته لو نزل على الأعاجم فماذا سيكون؟ هل سيفهموه ، نعود للنص القرآني لنتدبر قوله تعالى" وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)[سورة الشعراء] ومن إعجاز هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى ساوى في عدم فهم القرآن بين الأعاجم الذين لا يعرفون لسان قوم الرسول (اللسان العربي) وبين المجرمين الذين ختم الله على قلوبهم واسماعهم وابصارهم ، فأصبحوا كالأعاجم في فهم مفردات القرآن.
وعليه فإن الأعاجم لن يفهموا القرآن على ما فيه من بعض المفردات التي في لغتهم والتي عربت (بضم العين وتشديد الراء) بالنص عليها في القرآن وسبب تعريبها أن القرآن جاء عربيا بما يفيد أن كل كلمة من كلماته حتى ولو كانت أعجمية تصبح عربية بمجرد ذكرها في القرآن ، كما أنها من الألفاظ المتداولة بين قوم الرسول عليه السلام ولها معنى تبينه وتدل عليه كمفردة.
ثم أن هناك قاعدة يجب أن نتيقن منها ونعمل بها عند الدخول على القرآن الكريم وهي أن قواعد اللغة العربية لا تحكم القرآن ولكن قواعد القرآن هي التي تحكم اللغة ، لأن هذه القواعد تم وضعها بعد نزول القرآن فكيف يحكم الأحدث على الأقدم؟ (ما لكم كيف تحكمون؟)
نستفيد من ذلك أن القرآن وإن كانت اللغة العربية ومفرداتها بما فيها من ألفاظ ذات أصول أعجمية هي أدوات معرفته إلا أنه أيضا يقضي على أدوات المعرفة وفقا لقواعدة ومصطلحاته ، كما أن لكل كلمة في القرآن الكريم وفقا لسياقها مدلول واحد وهو مدلول ثابت لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة.
فمثلا مدلول كلمة خمر عند أهل الجزيرة وقت نزول القرآن ، هو كل ما يسكر كثيرة ذلك لأنها تخمر العقل أي تغطية وتذهبه ، فلو إتسع مدلول الكلمة في أزمنة لاحقة أو أمكنة أخرى ليشمل مشروبات لا تسكر ، أو انحسر عن بعض ما يسكر من الأشربة ، فإن المسلم مخاطب بالتكليف وفقا لمدلول الكلمة ودلالتها عند أهل الجزيرة وقت نزول القرآن ، وإلا فإن القول بغير ذلك يؤدي إلي الخلط الشديد بين الأحكام الشرعية وفي مفهوم الحلال والحرام.
دلالة المفردات في القرآن الكريم
نستخلص من المقدمة أن دلالة المفردات في القرآن هي دلالة توقيفية ، تعود لفهم الرسول عليه السلام وقومه لها.
ومن رحمة رب العالمين أن جعل معنى مفردات القرآن عند قوم الرسول يمكن إستخلاصه من القرآن نفسه بمراجعة كافة الآيات التي وردت فيها المفردة المراد فهمها ، ويتم فهم المفردة وفقا لسياق النص القرآني ، فسنجد أن المفردة الواحدة سيكون لها معنى واحد كلي يمكن أن نطلق عليه (المعنى الجامع) يندرج تحت منه معاني تفصيلية كلها مشتقة من المعنى الواحد يمكن أن نطلق عليها (المعاني الجزئية).
وللتدليل نضرب مثالا بكلمة (شبه) في القرآن الكريم
أولا: الآيات التي إشتملت على الكلمة ومشتقاتها.
1. قال تعالى"...واتوا به متشابها ولهم فيها ازواج مطهرة وهم فيها خالدون" البقرة25/2
2. وقال تعالى"قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وانا ان شاء الله لمهتدون" البقرة70/2
3. وقال تعالى"وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله او تاتينا اية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الايات لقوم يوقنون"البقرة118/2
4. وقال تعالى"هو الذي انزل عليك الكتاب منه ايات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله الا الله والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب" آل عمران7/3
5. وقال تعالى"وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا" النساء157 /4
6. وقال تعالى"وهو الذي انزل من السماء ماء فاخرجنا به نبات كل شيء فاخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من اعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا الى ثمره اذا اثمر وينعه ان في ذلكم لايات لقوم يؤمنون"الأنعام99/6
7. وقال تعالى"وهو الذي انشا جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا اكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره اذا اثمر واتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين"الأنعام141/6
8. وقال تعالى"...قل هل يستوي الاعمى والبصير ام هل تستوي الظلمات والنور ام جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار" الرعد16/13
9. وقال تعالى"الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد" الزمر23/39
من سياق الآيات السابقة والتي ذكرت فيها كلمة (شبه) ومشتقاتها ، نفهم أن المعنى الجامع للكلمة هي التماثل بين أشياء من جنس واحد يؤدي حتما للاختلاط ، وعلى هدي من المعنى الجامع يمكن فهم المعاني الجزئية لكل آية على حدا في نفس إطار المعنى الكلي.
1. فيكون المعنى الجزئي في الآية الأولى (2/25) تماثل أشكال الفاكهة في الجنة مع مثيلاتها في الأرض.
2. ويكون المعنى الجزئي في الآية الثانية 2/70 تماثل وتشابه البقر حتى أختلط على بني إسرائيل أي البقر يقصد رب العالمين ذبحها ، والتماثل هنا حسي يمكن معاينته بالنظر بإعتباره أحد الحواس الخمس للإنسان ، هذا مع الوضع في الإعتبار أن ذلك هو المعنى الذي قصده بنو إسرائيل لا الذي قصده رب العزة لأن الله أمرهم بذبح (بقرة) أتت على العموم والإنكار ، ولكنهم أرادوا تعريفها لينطبق الأمر على بقرة واحدة وإلا يكون موسى عليه السلام قد إتخذهم هزوا.
3. ويكون المعنى الجزئي في الآية الثالثة (2/118) هو التماثل ، وهوتماثل معنوي غير حسي كما في الآية السابقة ، لأنه جاء وصفا للقلوب ولا يعلم ما في القلوب غير الله.
4. ويكون المعنى الجزئي في الآية الرابعة (3/7) يكون متشابهات بمعنى متماثلات تعطي معاني كثيرة متماثلة يمكن إستخلاصها من فهم الآية مجردة دون ردها لسياقها وللآيات المحكمات ، وإتباع ما تشابه منه أي ما تماثل منه من معاني غريبة ونتائج شاذة ، إبتغاء تأويله عن المعنى الذي يمثل مقصود رب العالمين وإبتغاء الفتنة وما تحدثه من بلبلة في عقول أتباع الدين.
5. ويكون المعنى الجزئي في الآية الخامسة (4/157) شبه لهم أي تهيأ لهم في عقولهم وتماثل لهم أنهم صلبوا المسيح عليه السلام وقتلوه ولكنهم لم يفعلوا بإذن الله.
6. ويكون المعنى الجزئي في الآية السادسة (6/99) والسابعة (6/141) متماثل في الشكل الخارجي للثمر وكذلك غير متماثل.
7. ويكون المعنى الجزئي في الآية الثامنة (13/16) تشابه الخلق عليهم أي تماثل أمامهم فأختلط في زهنهم من خلق هذا ومن خلق ذاك فلم يعرفوا لأنفسهم رب إله متفرد بالخلق ومتفرد مستحق للعبادة ، ولكن سبحان الله عما يشركون وسبحانه وتعالى القائل " ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل" الأنعام102.
8. ويكون المعنى الجزئي في الآية التاسعة (39/23) ، كتابا متشابها بمعنى متماثلا في عظمة آياته وروعتها يمكن أن تميز آياته عن كلام الخلق.
وهكذا يمكن فهم جميع مفردات القرآن بهذه الطريقة ، وكل مفردة في القرآن لها معنى توقيفي لا توفيقي ، ولها دلالة واحدة على سبيل الحصر ويستخرج معانيها الجزئية من دلالاتها الكلية ، فماذا الحال بالنسبة للنصوص في القرآن؟
دلالة النصوص في القرآن الكريم:
نرى بتوفيق الله أن دلالة النصوص تختلف عن دلالة المفردات في أنها توفيقية وفقا لفهم كل قوم على حدا ، مردود إلي سقوفهم المعرفية.
قال تعالى" يا ايها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والارض لا اله الا هو فانى تؤفكون"فاطر3 ، وقال تعالى" ...وارسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا" النساء79 ، وقال تعالى" وما ارسلناك الا رحمة للعالمين" الأنبياء107 ، وقال تعالى" وما ارسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن اكثر الناس لا يعلمون" سبأ28.
وجميع آيات القرآن تؤكد على عالمية القرآن ، وعلى صلاحيته وسريانه فوق الزمان والمكان ، فلا يلزمه فهم قوم ولا يحده مكان ولا يحدد نطاقه زمان.
لذلك وجب علينا القول أن ربط فهم القرآن بأشخاص معينيين حتى ولو كان شخص الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج به من نطاق العمومية (كافة للناس) إلي نطاق التخصيص ، ذلك لأن حدود علم البشر حتى ولو كان الرسول عليه الصلاة والسلام مرتبطة ببيئته وبخلفيته التاريخية وبنطاق مشاهداته وإدراك حواسه ، إلا أن يكون الله رب العالمين قد أطلعه على بعض غيبه فأتسع نطاق علمه ليشمل ما أطلعه الله عليه ، وآيات القرآن تحمل هذا المعنى بما لا يدع مجال لشك أن الرسول عليه السلام بشر ولا يعلم الغيب.
قال تعالى" قالت لهم رسلهم ان نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا ان ناتيكم بسلطان الا باذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون" إبراهيم11 ، وقال تعالى" او يكون لك بيت من زخرف او ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا" الإسراء93 ، وقال تعالى" قل انما انا بشر مثلكم يوحى الي انما الهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا" الكهف110 ، وقال تعالى" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد افان مت فهم الخالدون" الأنبياء34، وقال تعالى" قل انما انا بشر مثلكم يوحى الي انما الهكم اله واحد فاستقيموا اليه واستغفروه وويل للمشركين"فصلت 6 ،
فبما أنه صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه فإنه لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه ، ولكن يبقى حدود علمه مرتبط بزمانه ومكانه ، فلو قضت كلماته (الحديث) على القرآن فيكون قضاء الأدنى على الأعلى ، لأن صاحب القرآن وحده هو الذي يعلم الغيب ، لقوله تعالى" وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين" الأنعام 59 ، فلا نطاق لحدود علمه فلا يمكن أن يكون هناك نطاق أو حدود لكتابه سبحانه وتعالى لأن من مقتضيات صلاحية القرآن لكل زمان ومكان صدوره من عالم الغيب والشهادة الرحمن فلا يطلع على غيبه أحدا ، أما رسول الله فقد قال تعالى عنه" قل لا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول لكم اني ملك ان اتبع الا ما يوحى الي قل هل يستوي الاعمى والبصير افلا تتفكرون" الأنعام50 ، والآيات كثيرة في هذا المضمار نكتفي منها بما سقناه تدليلا وإثباتا على عدم صحة ربط فهم آيات القرآن بشخص معين حتى ولو كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامه وما يطلق عليه (أحاديثه) فلو كان هذا هو حال القرآن مع الرسول عليه السلام فماذا عن فقهاء العصر العباسي والعصور الوسطى؟ ، قطعا لا يمكن ربط فهم آيات القرآن بفهمهم وإلا بذلك نكون ظلمنا القرآن ظلما عظيما لربطنا إياه بفهم بشر زائل لا يعرف عن الغيب شيئا ، فنقضي من حيث لا ندري أو ندري على صلاحيته عبر الزمان والمكان
ونأتي هنا لدلالة النصوص ، فإنه وإن كانت دلالة المفردات توقيفية مرتبطة بمعنى الكلمة عند قوم الرسول عليه السلام ، فإن دلالة النصوص توفيقية ، يفهمها كل منا وفقا لسقفه المعرفي ، والقرآن نفسه لا يحده سقف معرفي ، والأدلة على ذلك من القرآن كثيرة نكتفي منها بالآتي:
المثال الأول:
قال تعالى"... وانزلنا الحديد فيه باس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز"الحديد25 ، فهم السلف قوله تعالى (أنزلنا الحديد فيه بأس) ، جعلنا الحديد رادعا كما في تفسير ابن كثير ، وساق الحديث الكاذب بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، فكلمة (أنزلنا) لم تسترعي إنتباههم وجعلوا لها مرادفا (جعلنا) وفقا لفهمهم لمعنى النزول في العصور الوسطى ، ثم لأن عصورهم عصور عدوان وقتل وحروب فقد إخترعوا من الأحاديث ما يعين على فهمهم للآية بهذه الطريقة ، والسؤال : هل نحكم على القرآن بفهم أهله؟ وهل يكون هذا الفهم قاضيا على القرآن؟ طبعا حاشا لله ثم حاشا لله ، ولكن هذا هو فهمهم الصالح لزمانهم بل لعقولهم المريضة ، أما الآن وبعد أن رزقنا الله سبحانه وتعالى العلم ، عرفنا أن كل طاقة العالم على الكرة الأرضية غير كافية لعمل ذرة واحدة من خام الحديد ، وأن الحديد خلقه الله سبحانه وتعالى على نجوم خنس ، تماثل طاقتها طاقة الشمس ملايين المرات ثم نزل إلي الآرض من السماء في سورة غازية ، وجعله الله لبني الإنسان لا يستغنى عنه في صناعة كل ما يحتاجة من أول الإبرة إلي السفن التي تسير في البحر و الطائرات وغيرها ففيه بأس ومنافع أي قوة ومنعه للإنسان إذا إستخدمه فيما ينفعه وهو كثير وكذلك ضرر ووهن له إذا إستخدمه إستخداما سيئا وهو أيضا كثير ، هذا فهمنا للآية الآن تغيير عن فهم السلف لها ، وقد يأتي وقتا آخر ليفهمها خيرنا على خلاف فهمنا لها ، وكل لفهم لزمنه صحيح ويبقى القرآن شامخا فوق كل المفاهيم مستوعبا لها كلها شرط ألا نطغى ونعتبر أن فهمنا للقرآن هو الفهم وفهم غيرنا هرطقة وكفر وندلل على ذلك بأحاديث نخترعها ، وإلا نكون قد جردنا القرآن من عموميته وصلاحيته وربطناه بزمن واحد فقط ومكان واحد فقط وهذا عظيم ظلم وأي ظلم.
المثال الثاني:
قال تعالى" يا ايها الذين امنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وايديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وارجلكم الى الكعبين وان كنتم جنبا فاطهروا وان كنتم مرضى او على سفر او جاء احد منكم من الغائط او لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون" المائدة6 ، وهنا يمكن فهم قوله تعالى (فأغسلوا وجوهكم) ، على أن تجويف الفم وداخل الآنف والأذن من الوجه فيجب غسلها ، ويمكن فهم المعنى على الظاهر فلا يتم غسلها ، ولكن الخطر كل الخطر أن نجعل أحاديث تكمل شكل الوضوء وننسبها لرسول الله ونقول أن الوضوء به سنن وفرائض ، وأن المضمضة والاستنشاق وغسل الأذن من السنن ، فهذا إلزام الغير بما لا يجب أن يلتزم به وتعدي على حدود الله وليترك كل منا لفهمه الخاص الذي تحتمله دلالة النص ، على أن ينسب كل منا فهمه لنفسه لا لرسول الله عليه السلام.
الخلاصة:
وننتهي من هذه الدراسة أن دلالة الكلمات هي دلالة حصرية كمفردات للقرآن الكريم ، وهي توقيفية على فهم أهل الرسول في زمانه ومكانه لها ، ويمكن إستخلاصها من سياق آيات القرآن الكريم ، وأن لكل كلمة دلالة كلية (معنى جامع) ودلالات جزئية (معنى جزئي) وأن إرتباط الدلالة الجزئية بالدلالة الجزئية هو إرتباط الفرع بالأصل.
أما نصوص القرآن فدلالاتها توفيقية يفهمها كل قوم وفقا لخلفياتهم التاريخية وسقوفهم المعرفية دون أن يلزم قوم قوما آخرين بفهمهم ويدللون على ذلك بأحاديث يخترعوها وينسبوها للرسول عليه السلام ، وحتى لو قالها الرسول عليه السلام فإن صلاحيتها ترتبط ببشريته كما جاء في القرآن فلا تصلح لأزمان أخرى ويبقى القرآن وحده صالح لكل زمان ومكان
وبالله سبحانه وتعالى التوفيق
شريف هادي

اجمالي القراءات 22429