عُلماء في جنيف يقتربون من فتح أسرار الذاكرة البشرية
تمكّـن فريق من الباحثين في جامعة جنيف من الاقتراب خُـطوة نحو فهم عملية التَعلّـم والتَذكـّر لدى الإنسان، من خِلال دراسة شرائح من عقول فئران صغيرة السن.
وكان العلماء يعرفون منذ سنوات أنه بوسع عملية التَعَلُّـم أن تُقيم روابط بين خلايا الدِّماغ، إلا أنهم كانوا عاجزين عن فهم الطبيعة الدّقيقة للدارات الكهربائية هناك.
وقد اكتشف فريق من الباحثين، بقيادة دومينيك مولّـر، الأستاذ في قسم عِـلم الأعصاب في جامعة جنيف، أن دِماغ الإنسان يقوم بإرسال المعلومات من خلال شبكة تتكيّـف مع التجارب الذّاتية للشخص.
ويقوم الدِّماغ بِبِناء مَـسارات جديدة، حسب الحاجة، كما يقوم بالقَضاء على المسارات الأقل إستخداماً في هذه العملية. ويُمكن لهذه العملية أن تُعطِـي تَفسيراً عن سبب تفوّق أحد الطلاّب في امتحانه وقت أدائه، إلا أنه قد يَنسى الموادّ التي امتحن بها بعد ذلك، إذا لم يستخدمها – حسب قاعدة "استخدم المعلومة أو افقدها".
وفي مقابلة مع سويس إنفو، قال البروفيسور مولـَّر: "إن عملية التَعَلّم، ولاسيما خلال فَترة النموّ، تؤثر بصورة جِدية على الطريقة التي يُنَظّـم بها الدماغ نفسَه من الناحية الفيزيائية"، مُضيفا أن "هذا التنظيم يساعد في بناء شبكة تسمَـح للدِّماغ بالقيام بدورهِ على النّـحو الأمثَل".
بناء الجسور
وقد قَضّى البروفيسور مولـّر وفريقه ثلاث سنوات لِفهْـم الطبيعة الفيزيائية للذّاكرة والتعَلُّم، وذلك من خِلال دراسة شرائِـح من أنسِـجَـة مأخوذة من أدمغة فئران صغيرة السن. وتمّ الحِـفاظ على هذه الأنسجة على قَـيْـد الحياة في بيئة خاصة، لمدة شهر.
وعلى مستوى الخلية، يتصرّف الدِّماغ البشري ودِماغ الفِـئران بصورة مُـتشابهه، حيث ترتبِـط الخلايا العصبيّـة بعضها البعض في كليهما عبر جسور مِـجهرية تُـسمّـى "نقاط الاشتباك العصبي" أو "Synapses"
ويمكن أن يكون لخلِـية الدِّماغ الواحدة 10,000 جسر من هذه الجسور. وقد وجد الباحثون أنّ العامل الذي يُـساعد على تحديد كيفية التَعَلّـم، هو معرفة أي من هذه الجسور تُستَخْدَمْ وكيف يتم إستِخْدامُها.
ولمُحاكاة عَمَلية التَعَلُّـم، قام الباحثون بتحفِـيز الخلايا العصبية للفئران بواسطة صدَمات كهربائية وحمّامات كيميائية، لإنتاج رَشقات عصبية قصيرة وقوية بين نقاط الاشتباك العصبي، التي تظهر في المخّ حينما نتعلّـم. وقاموا باستخدام الأصباغ لمُراقبة كيفية ارتباط الخلايا العصبية الواحدة بالأخرى.
والمثير للدهشة أن الباحثين وجَـدوا أن الخلايا العصبية ربطت نِـقاط الاشتباك العصبي بصورة انتقائية وليس على مسار مُعَيّن.
وقد لُـوحظ أن نِـقاط الاشتباك العصبي التي ساعدت الخلايا العصبية على توصيل المعلومات بقت على قيد الحياة، أما تلك التي لم تقدِّم الكثير، فقد استبدُلت أو أهْـمِلَت.
والأمر الأكثر غرابة هو أنّ الخلايا العصبية قامت بخَـلق جُـسور جديدة حسب الحاجة، وكثيرا ما كانت هذه الجسور بجانب نِـقاط الاشتباك العصبي، التي كانت مُنتِجة أصلاً.
وقال البروفيسور مولّـر: "إن التّـنشيط الذي قُمنا به يُعادل فترة ثانيتين من تَعَلّـم شيئ ما"، وأضاف: "حتى ذلك أثار إعادةً للتّـنظيم في الدارات الكهربائية للدِّماغ، وهكذا نرى بأنه يُمكن أن يكون لحدَثٍ صغير عواقِـب مُثيرة جداً".
تمهيد الطريق لمعالجة المشاكل العقلية
هذا يعني أن العقول الأصغر عُمراً تملك قُدرة أكثر على إعادة تنظيم نفسها، كما أنها تتكيّـف بسهولة أكثر من العقول الكبيرة في السِـنّ. ويُطلق العُلماء على هذه القابلية عبارة "المطاوعة الدماغية".
وقال أنتوني هولمآت، وهو خبير في عِـلم أحياء الجزيئات العصبية: "إن هذه الدراسة تُعطينا شيئا نعمل عليه. وقد ساعد هذا البحث في تضييق المكوِّنات الفيزيائية (المادية) للذاكرة".
وفي حين تبقى هناك ثَـغرات في فهم كيفية تأثير مؤثرات خارجية - مثل رائحة فطيرة خرجت لتوِّها من الفُـرن أو سماع صوت الجدّة - في حفر ممرّات عصبية في أذهاننا، فإن هذه الدراسة تقّرب العلماء من فهْـم واستيعاب كيفية عمل الدِّماغ.
وعلى الصعيد العملي، فإن العمل الجاري في جنيف يُمَهّد الطريق حول الكيفية التي تُمكِّـن العلماء من مُـعالجة سِلسِلة من المشاكل العقلية، بما فيها مرض إنفصام الشَخصية.
كما يُمكن أن تساعِـد هذه المعلومات الأطباء على التّـخفيف يوماً ما من أوجه القُـصور العقلية الناجِـمة عن السكتات الدماغية أو مرض التوحُّـد.
وفي الختام، أضاف البروفيسور مولـّر: "هذا بالطبع لا يزال بعيداً في المستقبل (...) إن خطّ البحث المهِـم الآن، هو إيجاد الآلية التي يُمكِـن أن تساعد على إقامة الرّوابط وتجاوُز هذه العيوب