-
في مقالنا السابق (خذوهم.. فغلوهم.. وفي الجحيم ألقوهم)، هنا في إيلاف، قلنا يوم الاثنين الماضي، إن العدالة قادمة، وإن كانت تأتي بطيئة، وتتأخر بعض الوقت، حتى ليحسب المجرمون، أنها لن تطالهم، وهم كاذبون وواهمون.
ولم تمضِ 24 ساعة، حتى سمعنا خبر اعتقال مجرم الحرب الصربي السابق رادوفان كرادجيتش، بعد مطاردة استمرت 13 عاماً. وتمَّ اعتقاله وهو على متن حافلة في العاصمة الصربية حيث كان يحمل أوراقا وبطاقة هوية مزيفة. وقال كبير المدّعين في المحكمة الجنائية الدولية، إن كارادجيتش سينقل إلى لاهاي في الوقت المناسب لمحاكمته. ووصف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الحدث بـ "اللحظة التاريخية"، لضحايا الجرائم التي نُفذت لدي تولي كارادجيتش مسؤولياته.
فالعدالة قادمة، وإن كانت بطيئة، وتتأخر بعض الوقت، حتى ليحسب المجرمون، أنها لن تطالهم، وهم كاذبون وواهمون.
-2-
وخلال هذا الأسبوع، استجار عمر حسن البشير، الذي لا يقل إجراماً عن رادوفان كرادجيتش بالجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية، فهرع العرب والأفارقة، لنجدة زول السودان الأول. بل إن البشير يعتبر أكثر إجراماً من رادوفان كرادجيتش الذي كان ضالعاً في مجزرة سريبرينيتشا (شرق البوسنة) التي قتل فيها نحو ثمانية آلاف شخص في تموز/يوليو 1995، في أسوأ مجزرة في أوروبا، منذ الحرب العالمية الثانية. كذلك فإن كرادجيتش، ملاحق أيضا لدوره في حصار ساراييفو الذي استمر 43 شهراً، وقُتل خلاله نحو عشرة آلاف مدني من المسلمين والكرواتيين.
فالبشير، ومعه عناصر ميليشيا الجنجاويد (كلمة "جنجاويد" مكونة من ثلاثة مقاطع: "جن" بمعنى رجل، و"جاو" أو "جي" بمعنى مدفع رشاش من نوع "جيم 3" المنتشر في دارفور بكثرة، و"ويد" معناها الحصان. ومعنى الكلمة الكامل: "الرجل الذي يركب جواداً ويحمل مدفعاً رشاشا"ً) الإرهابية، قتلت في دارفور، أكثر ممن قتلهم رادوفان كرادجيتش من المسلمين والكروات، ولهذا استيقظ الضمير العالمي، وتحركت الأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية التابعة لها، وقررت ملاحقة البشير وعصابته، لجرهم إلى لاهاي، حيث سيحاكم رادوفان كرادجيتش، علماً بأن الدارفوريين الذين تمَّ قتلهم من قبل البشير (كرادجيتش السودان) هم من مواطني السودان، وهم من سلالة شعب مملكة إسلامية مستقلة، ذات حكومة فيدرالية، تعاقب على حكمها سلاطين، كان آخرهم السلطان علي دينار. ودارفور ضُمت إلى السودان بقرار بريطاني، من حاكم السودان البريطاني (الجنرال لي استاك) عام 1917، عقاباً لسلطان دارفور، الذي أيّد تركيا ودول المحور، ضد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
واستجارة البشير بالجامعة العربية، ومنظمة الوحدة الأفريقية، التي يُشكِّل الحكام الديكتاتوريون غالبية أعضاء كلٍ منها، هي كالمستجير من الرمضاء بالنار.
فمعظم أعضاء الجامعة العربية هم من الحكام الديكتاتوريين، الذين تنتظرهم المحكمة الجنائية الدولية، في لاهاي، ومعظم أعضاء منظمة الوحدة الأفريقية هم أيضاً من أعتى الديكتاتوريين التي شهدتهم القارة السوداء من وزن القذافي وفوق.
وهؤلاء، سوف تحرقهم نار العدالة الدولية، قبل أن يحرقهم قش شعوبهم غير القابل للاشتعال للأسف.
فليبيا – مثلاً - يحكمها ديكتاتور مهرج منذ أربعين عاماً تقريباً، ولا بادرة واحدة، لخلعه وإيقاد النار في عرشه. كذلك الحال مع معظم الزعامات الأفريقية المزعومة.
ولا منقذ لهذه الشعوب التعيسة والجائعة والمتخلفة، غير ضمير العالم الحر، ومحكمته العادلة.
-3-
لقد حاولت الأمم المتحدة أن تُبعد البشير وميليشيا الجنجاويد عن دائرة الاتهام والمحاكمة، حين اقترحت، في عهد كوفي عنان، إرسال قوة سلام دولية تابعة للأمم المتحدة إلى دارفور، ووصل مبعوث أمريكا الخاص للسودان أندرو ناتسيوس، في مسعى لإقناع الحكومة بقبول قوة دولية مختلطة، للمساعدة في تهدئة العنف والمجازر بدارفور، ولكن البشير عصى واستكبر كفرعون مصر وفرعون العراق، وقال أنا ربكم الأعلى، ورفض قوة السلام الدولية. وظهر واضحاً أن قوة السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة، سوف تكشف العناصر الحكومية المسئولة عن الإرهاب في دارفور، مما اضطر المتحدث باسم الأمين العام للأم المتحدة (كوفي عنان) وقتها، ستيفان دوجاريك إلى القول في بيانه "إن عنان يشعر بقلق عميق من تدهور الوضع في دارفور وعواقبه على المنطقة. " وأكد دوجاريك وقتها، أن أكثر من ثمانين ألف شخص قد اضطروا إلى الفرار من منازلهم، بينهم 50 ألفاً في دارفور. وأفاد المتحدث أن مئات المدنيين بينهم نساء وأطفال ومسنون، قد قتلوا. وقال "ثمة معلومات مقلقة جداً عن عمليات اغتصاب جماعي، وانتهاكات أخرى، تتنافى مع حقوق الإنسان".
وكان هذا الكلام ليس كلام شارون، أو باراك، أو نتنياهو، أو بوش، ولكنه كان كلام متحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك.
-4-
ورغم هذا، وضع البشير في أذنه اليمنى طيناً، وفي اليسرى عجيناً، و (طنّش) العالم كله، وحمل عصا المارشالية، وقال بعنجهية زعيم القبيلة، طز في الأمم المتحدة، وطز في المحكمة الجنائية الدولية، وليركبوا أعلى ما في خيلهم. إلى أن قرعت القارعة، ووقعت الواقعة، بعد أن فاض الكيل العالمي، وجاء عمّك القاضي الأرجنتيني (النصراني) العادل مورينو أوكامبو، الذي قبض بالأمس على رادوفان كرادجيتش، قاتل المسلمين في البوسنة، وسيقبض غداً على البشير قاتل أهله وعشيرته في دارفور من المسلمين وغيرهم، وأصدر قراره – كمدعٍ عام - باسم المحكمة الجنائية الدولية، بالقبض على البشير الجاني، الهارب من العدالة.
ويظل البشير ذكياًً في استجارته بالجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية، وإلقاء الرعب والخوف في نفوس حكام الجامعة والمنظمة، ولسان حاله يقول لهم:
أغيثوني، لكي لا يجرفكم طوفان العدالة غداً، وأكون عبرةً لمن اعتبر.
فأحجار دومينو الديكتاتورية بدأت تتساقط، الواحد تلو الآخر.
فبالأمس سقط صدام حسين، حجر دومينو الديكتاتورية العراقية. واليوم، سقط رادوفان كرادجيتش حجر دومينو الإجرام والديكتاتورية الصربية. وغداً سيسقط حجر دومينو الديكتاتورية السودانية. وبعد غد حجر من ليبيا، وبعد مائة عام حجر آخر من سوريا، وآخر من اليمن، وخامس من هنا، وسادس من هناك.
والحبل على الجرار.
ونكرر ما قلناه اليوم وبالأمس:
إن العدالة قادمة، وإن كانت تأتي بطيئة، وتتأخر بعض الوقت، حتى ليحسب المجرمون، أنها لن تطالهم، وهم عنها غافلون.
السلام عليكم.