قضيت عدة أيام، الشهر الماضي (يونيو 2008) في إندونيسيا، التي بسكانها الذين يتجاوزون 235 مليوناً، تعتبر ثالث أكبر بلدان آسيا حجماً، بعد الصين والهند.
ورغم ثراء الطبيعة، ووفرة الأمطار والأنهار، والبترول والأراضي الزراعية الخصبة، فإن إندونيسيا لا تزال تُصنف ضمن بلدان العالم الثالث محدودة الدخل، حيث لم يتجاوز الدخل الفردي ألفًا ومائتي دولار سنوياً، في مطلع القرن الحادي والعشرين، أي أقل قليلاً من نظيره في مصر. ويعزى تخلف إندونيسيا لنفس أسباب تخلف مصر ـ قرون طويلة من النهب الاستعماري، تلتها عقود عديدة من الاستبداد والفساد.
فقد خضعت إندونيسيا للاستعمار الهولندي، أكثر من ثلاثمائة عام. وفي ذلك فقد كان شأنها مثل شأن شبه القارة الهندية، التي خضعت بدورها، خلال نفس هذه القرون ـ من منتصف السابع عشر إلى منتصف القرن العشرين للاستعمار البريطاني، وبنفس الطريقة تقريباً.
وفي حالة كل هذه المستعمرات كانت الوسيلة المثلى لإبقاء السيطرة الأوروبية هي ممارسة قاعدة "فرّق تسد". ففي الهند، مثلاً، كانت وسيلة التفرقة هي إذكاء التنافس، والصراع بين الطوائف الدينية المتعددة ـ خاصة الهندوس والمسلمين والسيخ. وفي حالة إندونيسيا كانت الوسيلة هي التشتت الجغرافي لجزرها، والمنافسة بين السلاطين المحليين لكل جزيرة.
ولكن مع مطلع القرن العشرين، بدأ سكان هذه المستعمرات يدركون أواصر وحدتهم الوطنية، ويدركون جوهر الأساليب الاستعمارية لإبقائهم منقسمين، متخلفين، ضعفاء ـ وبدأت تظهر حركات إصلاحية تحاول النهوض بأهل البلاد، خاصة في المجال التربوي. ومن ذلك أن إندونيسيا شهدت ميلاد "الحركة المحمدية"، عام 1906 على أيدي بعض أبناء إندونيسيا النابهين الذين كانوا قد درسوا في الأزهر الشريف بالقاهرة، أو في معاهد أوروبية.
وكان لمن يدرسون في الأزهر، رواق خاص بهم، هو "رواق جاوة"- أكبر الجزر ـ حيث لم يكن اسم "إندونيسيا"، وهو تسمية أوروبية، يعني شرق الهند، قد شاع بعد. ولم تثر الحركة المحمدية شكوك السلطات الهولندية المحتلة في بداية الأمر، حيث كانت أهدافها المعلنة هي التربية الرشيدة، وتنقية الدين من الخرافات والخزعبلات الوثنية، التي كانت منتشرة في الجزر الصغيرة، البعيدة عن المركز في جاوة وسومطرة.
وظلت الجمعية المحمدية بعيدة عن السياسة في عقودها الثلاثة الأولى، وهي الفترة التي شيدت فيها آلاف المدارس، للمرحلة الأولى، ثم المرحلتين الوسيطة والثانوية، ثم أول جامعة أهلية، قبيل الحرب العالمية الثانية.
ولأن هذه الشبكة الكثيفة من المدارس تبنت لغة واحدة، هي "الباحاثية"، كلغة محلية، إلى جانب تعليم لغات أوروبية، مثل الهولندية والإنجليزية، فقد خلق ذلك وعياً مشتركاً بين الأجيال الصاعدة من السكان، وهو ما يمهد عادة لنشأة الشعور الوطني، ثم إلى حركات التحرر، التي تطالب بجلاء المحتلين الأجانب والاستقلال.
ومع انفجار الحرب العالمية الثانية، كانت حركة تحرير إندونيسيا قد شبت عن الطوق، وانخرطت في نضال سلمي من أجل الاستقلال في البداية. ولكن سلطات الاحتلال الهولندية استخدمت العنف لإخمادها، وألقت القبض على زعمائها، ووضعت بعضهم في السجون أو نفتهم إلى جزر نائية، أو إلى هولندا نفسها.
وكان من شأن ذلك تحويل النضال السلمي إلى حركة مقاومة مسلحة، ممتدة من عام 1940 إلى 1945، اضطرت بعدها هولندا أن تتفاوض، ثم تعترف باستقلال إندونيسيا عام 1646، والشاهد أن معظم الكوادر المدنية والعسكرية التي انخرطت، ثم قادت هذا النضال السلمي ثم المسلح كانوا من خريجي مدارس وكليات "الجمعية المحمدية"، التي تأسست قبل أربعين عاماً قبل الاستقلال (1906).
ورغم البداية الديمقراطية لإندونيسيا، فإنها سرعان ما سقطت في قبضة الديكتاتورية العسكرية، لما يقرب من خمسة عقود، في ظل أحمد سوكارنو، لعشرين عاماً في البداية، ثم لثلاثين عاماً في ظل الجنرال سوهارتو. ولكن منذ أحد عشر عاماً نمت حركة شعبية مناهضة لاستبداد وفساد نظام سوهارتو، إلى أن توجت بإجباره على التخلي عن السلطة. وأخذت البلاد بالنظام التعددي، وشهدت منافسة حزبية حقيقية، في ثلاثة انتخابات رئاسية إلى تاريخه.
والمثير في التجربة الإندونيسية، هو أنها في ظل حكومات ديمقراطية منتخبة، أصبحت من الثقة في نفسها بحيث تتوصل إلى تسويات سلمية مع جيرانها حول بعض المنازعات الإقليمية، التي كان العسكر يستغلونها للبقاء في السلطة، على طريقة الديكتاتوريات العسكرية العربية، التي رفعت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة من أجل فلسطين"، دون أن تحرر شبراً واحداً من فلسطين طيلة ستين عاماً (1948-2008).
ومن المثير أيضاً في التجربة الإندونيسية أنها في بلد ذي أغلبية مسلمة، شعرت بنفس الثقة في انتخاب امرأة كرئيسة للبلاد، في ثاني انتخابات رئاسية. أي أن التجربة الإندونيسية حسمت سؤالين ترددا كثيراً في الدوائر الغربية الإعلامية والأكاديمية.
أحدهما حول الاتساق بين الديمقراطية والإسلام. والثاني، هو إمكانية انتخاب امرأة لأعلى منصب سياسي في البلاد. وقد فعل الشعب الإندونيسي هذا وذاك، بلا سفسطة أو جدل بيزنطي عقيم، من ذلك النوع الذي لا يزال يشغل "المتنطعين" باسم الإسلام في العالم العربي، الذي بسبب سفسطة حول الدين والسياسة من ناحية، و"صوت المعركة" التي لا تحدث أبداً من ناحية أخرى، أصبح عالمنا العربي هو الربع الإسلامي الوحيد، الذي لايزال خالياً من الديمقراطية!
إن الجمعية المحمدية التي كانت الرائدة في النهضة الإندونيسية قبل مائة عام، اختارت في بداية مئويتها الثانية أن تواجه دعوة الخوف من "صدام الحضارات"، التي أطلقها عالم السياسة الأمريكي صاموئيل هانتجتون قبل 15 عاماً، بدعوة الأمل من أجل "حوار وتعاون الحضارات". واختارت لمبادرتها هذه اسم المنتدى العالمي للسلام (WPF World Peace Form)، الذي عقد مؤتمره الأول في الذكرى المئوية لتأسيس الجمعية المحمدية (1906-2006) بحضور مائة منظمة مدنية من كل أنحاء العالم.
وبسبب نجاح المبادرة في مؤتمرها الأول، أقبلت 500 منظمة مدنية للمشاركة في مؤتمر هذا العام ـ منها المؤسسة العربية للديمقراطية، ومركزها بالعاصمة القطرية في الدوحة، ومركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية بالقاهرة.
وقد حرص الرئيس الإندونيسي "سوسيلو بامبانج يودهونو" على افتتاح المؤتمر الثاني للمنتدي العالمي للسلام. بكلمة في صميم موضوع المؤتمر، وهي أن الديمقراطية هي الوسيلة المثلى لتحقيق السلم الأهلي والإقليمي والعالمي. ونوّه، وهو الجنرال السابق، بأنه بعد أربعين سنة كعسكري أصبح يؤمن، ومن واقع التجربة الحياتية "أن الحرب ليست الحل لأي مشكلة". وأن البلدان الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض.
كذلك نوّه الرئيس سوسيلو بامبانج يودهونو بأن إندونيسيا واعية بالمسؤولية المعنوية الهائلة التي تقع علي كاهلها لكي تثبت لشعبها أولا،ً وللعالم ثانياً، أن الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ في بلد مسلم فقط، ولكن أيضاً يمكن أن تستمر ويمكن أن تزدهر.
وعند هذه النقطة أفاض الرئيس الإندونيسي بأن التعددية الحزبية السياسية لابد أن تحترم التعددية الاجتماعية ـ العرقية ـ الدينية. وأنه وحكومته مصممون على جعل ذلك حقيقة ناصعة. فهل يسمع حكّام الربع العربي الخالي؟ أم هم مصممون علي أن يصموا آذانهم إلى آخر رمق في حياتهم؟