الطغيان
الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا (2)

محمود دويكات في الأربعاء ٠٢ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

                                            (2) الطغيان

هذا المقال من سلسلة تبحث في اعتلال طرق التفكير عند الكثير من المسلمين.. و هي محاولة بسيطة لرد هؤلاء الى صحيح و قويم دينهم فيعقلوه و يغدوا بذلك عناصر بناءة بدلا من ان يبقوا عناصر هدامة مخربة تدعو الى نفي أبناء وطنهم بحجة انهم ينتمون الى دين أخر.

ما هو الطغيان
الطغيان هو الزيادة ، و ذلك واضح في كثير من أيات الله ، كقوله (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)حاقة/11 ، و الطغيان يكون كمّـا ً كما يكون نوعا . و الطغيان الكمي هو الاكثار من الشيء بذاته مقارنة بالاشياء الاخرى المجاورة. و النوعي هو تضخيم أثر الشيء حتى و إن قل بالكمية.
فقوله تعالى (اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) بقرة/15 تنحو منحى الزيادة الكمية في الكفر ، أي أن الكفر في عقولهم و قلوبهم يتكاثر و يتزايد الى أن يطغى على أي شعور آخر عندهم. و طغيان فرعون أيضا هو من قبيل الزيادة الهائلة في مقدار الظلم الذي كان يوقعه على بنى اسرائيل و غيرهم من ساكني مصر تلك الايام.
أما الطغيان النوعي فهو ، كما أشرنا ، تضخيم شيء أو أشياء (عادة فكرية) بحيث تغدو تلك الاشياء هي المصيطرة على باقي الافكار. و من مثل ذلك أن الخوف (حتى و إن قلت مبرراته المنطقية) قد يطغى على تفكير بعض البشر فيصبح غير قادر على اتخاذ حكم أو قرار صائب. و من مثل أيضا طغيان الحب أوالهوى . و من القرءان نقرأ قول الحق (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) ق/27. ما أطغيته أي لم اجعل فكره يحور و يميل نحو الكفر بل كان هو أصلا في ضلال بعيد.

الطغيان الفكري
بناء على ما سبق من تعريفات ، نقول أن البعض ممن يعتبرون أنفسهم مسلمين و يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، البعض (الكثير) منهم يقع ضحية الطغيان في أفكاره التي يتبناها (بغض النظر عن البيئة التي استقى منها أفكاره تلك ).. و الطغيان في الافكار ببساطة هو ترجيح و تقوية و تضخيم فكرة ما على حساب باقي الافكار الاخرى ، بحيث تصبح تلك الفكرة هي السمة الابرز في كافة أفكار ذلك الرجل (الطاغي) . و باللغة العامة يطلق مرادف التعصب/ التشدد (رغم الاختلاف في الاسس بين هذه و تلك إذ أن التعصب لا يحدث إلا بعد حدوث الطغيان – فلا يتعصب شخص لشيء ليس ذات قيمة عنده – سنعطي أمثلة توضح هذه الفكرة).

نقرأ قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)هود/112 – إذ أن هذه الاية محيرة في لماذا و كيف جمعت ما بين الاستقامة و الطغيان !! و الجواب (في ظل التعريفات السابقة) على ذلك بسيط : إذ أن البعض عند تبنيه لافكار (مستقيمة) فإنها يتبناها بطغيان هائل. فقوله لا تطغوا يعود على الاستقامة – أي لا تطغوا في الاستقامة – (وهذا مرادف للهجة العامية = ماتزوّدوهاش اكتير ) – مما يوحي أن الطغيان قد يحدث حتى في الامور الحقة في هذا الدين كطريقة حياة.
كيف يحدث الطغيان الفكري

حسنا ، لنعطي امثلة توضح الكلام الفرنسي الذي كنا (انا و غيري) دائما نردده في تعليقاتنا . فمثلا: قول الله تعالى (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) مجادلة/22 هذه الاية ببساطة تدعو الى رفض مودة كل من يحاد (يحارب ) الله و رسوله . هذه الاية قد ترسخ في ذهن بعض الناس (أسميهم مناطحين مرة أخرى) و بالتالي مع قرءاة مزيد من الايات التي تفصل الناس الى مسلمين و كافرين .. يبدأ وقع تلك الاية على الذهن بالتضخم و معناها بالانحراف .. و شيئا ً فشيئاَ .. و بمنطق غبي جداجداجدا (هو مغلوطة منطقية أيضا) مفاده أن كل الكافرين يحاربون الله و رسوله .. نجد اولئك المناطحين يجعل تلك الاية كأنها تقول: عليكم رفض المودة و التضييق على كل شخص غير مسلم. هذا التغيير الجذري في معنى الاية (عن طريق المنطق الغبي – الموجود عند الكثيرين - في التعميم أيضا) إنما ادى الى طغيان واضح و فاضح في معنى الاية ... فإن قام ذلك المناطح برفع تلك الاية الى مصف كأنها تعادل القرءان كله لاهميتها و بدأ يجاهد في تطبيقها (مستخدما مرة اخرى أروع و أقذع ما يمكن لسانه أن يوحي اليه) عندها نقول انه وقع في التعصب و التشدد لتلك الفكرة التي طغت على دماغه.. 

حل المشكلة 
إذا نلخص ما قلنا: أن الطغيان الفكري إنما يعني أن نأخذ فكرة من بين أفكار متعددة و نطلقها و نضخمها و نتخيل لها أثرا أكبر مقارنة مع باقي الافكار ..متناسين الكثير من الادلة الاخرى و التي من شأنها تخفيف وزن تلك الفكرة.
فإذا عرفنا تلك المشكلة- فما هو الحل؟ - الحل من قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)بقرة/143. فقوله وسطا قد يعني توسط زماني أو وظيفي و قد يعني أيضا توسط فكري – أي عدم طغيان فكرة واحدة على حساب أفكار أخرى (مكافئة).
و لكن يبقى السؤال التطبيقي: كيف نفعل ذلك ؟ - الجواب مرة أخرى من كتاب الله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)زمر/18 . فالله يدعونا الى اتباع "أحسن" القول المنزل الينا. و أحسن القول هو ما يتناسب مع المقام و يدخل العقل (لذا وصف الله اولئك الذين يتبعون أحسن القول أنهم هم اولوا الالباب) – لماذا؟ لأن الكثير من (المناطحين المحترمين جدا!!) قد يميلون في الطغيان الفكري لحد بلوغ الطغيان الفعلي (و هو الظلم) – فمثلا تجد بعض هؤلاء المناطحين يريد أن ينفي جزء من مواطني بلده (بنسائهم و أطفالهم و عواجيزهم و مقعديهم..الخ) لماذا؟ لأن فكرة أن بعض هؤلاء المراد نفيهم يسببون ضررا لبلد ذلك المناطح قد طغت على عقله (المسكين تماما كحال فرعون مصر القديم) الى درجة بات لا يقـدّر فيها أن هذا الامر الذي يدعو اليه لا يدخل دماغ (لا الان و لا ابدا) - (لا دماغ بشر و لا دماغ حمير) .
الله طلب منا اتباع كلامه المنزل ، لقوله (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)أعراف/3. و في نفس الوقت أمرنا الله ان لا نطغى في اتباع بعض الامور على حساب أخرى ، بل نكون حكيمين باختيار الاحسن الذي يتلاءم مع العقل و الواقع ، لقوله تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)زمر/55.

و الله من وراء القصد

اجمالي القراءات 17943