أوسلو في الأول من يوليو 2008
السنوات الأخيرة قبل العد التنازلي لأم الدنيا، وقد فشلت كل المحاولات للاطاحة بطاغية مصر .. حسني مبارك، ولم تعد هناك بارقة أمل في مظاهرة أو انتفاضة عمّالية أو ثورة طلابية أو دعوة للعصيان المدني ، فقبضة الأمن لا تعادلها أو تنافسها قبضة أخرى تمسك بخناق أي شعب في العالم.
مِصْرُنا تحولت إلى معتقل كبير يستطيع رجال الرئيس فيه الوصول إلى فراش المواطن، وأحلامه، ويتابعون بريده الالكتروني، ويمنعونه من السفر، أو يضعونه في المترقب وصولهم.
يستطيعون أيضا أن يتحكموا في مأكله ومشربه وعمله، وأن يتم الايحاء لرب العمل بطرده، وأن يقوم ضباط أو عساكر أو مخبرون بتعليمه آداب العبودية وقواعد الطاعة في تخشيبة أو مكتب المأمور أو يعلقون أطرافه في السقف أو يدخلون العصا في موضع العفة منه.
مئات الآلاف يقرأون مقالات مفزعة عن المشهد المصري فضلا عن الملايين الذين يعرفون تفاصيله كما يعرفون أبناءهم، وكل مصري من الثمانين مليونا، باستثناء قلة منتفعة أو غبية أو جاهلة أو ساذجة ، يستطيع أن يقص عليك ما يزلزل الأرض غضبا ويجعل الشيطان يحتفل بانتصاره على أبناء آدم في وادي النيل العظيم.
وبالرغم من ذلك فالأمور تجري كأن المصريين وقّعوا عقدا مع القدر أن يطيعوا، ويسمعوا ولو صنع لهم الطاغية زنزانة لكل مواطن.
حتى ثورة الخبز..غضب الجياع انتهت إلى قبضة الأمن، والرجل يُعِدّ ابنه كأنه أقسم أن لا تترك أسرة مبارك مصر للمصريين قبل أن تجتث حضارتها وتاريخها وخيراتها وطيبة أبنائها، وتنهي هذه الأسرة الباغية إلى غير رجعة أحلام المصريين في زمن جميل.
وسقط المصريون في المصيدة، وتفرقوا شيعا وأحزابا وطوائف وجماعات يخاصم بعضها بعضا أكثر من كراهيتهم لعدو الشعب وهو على مبعدة كيلومترات معدودة ، أو في ثكنته العسكرية الأمنية بشرم الشيخ استعدادا لهروب قد لا يأتي أبدا إذا استمر الوضع ساكنا وهادئا وبليدا.
خصوم الشعب المصري ليسوا فقط أسرة مبارك وزبانية الحكم وضباط التعذيب وبلطجية العنف ولصوص الوطن، لكن الخصوم الحقيقيين هم الذين يتحكمون في صناعة الكلمة والصورة والخبر والتعليق، ويحصلون على أجورهم من بيع دماء أبناء الشعب وكتابة التقارير والتغزل في أعتى وأشرس وأعفن أنظمة الحكم الارهابية في قاهرة المعز.
ولكن ماذا عن الفضائيات؟
خطوط حمراء كثيرة كأن لونها القاني من سفك دماء الشعب ، واتفاقات سرية مع أجهزة الأمن والقمع والقهر في أحط صور التعاون بين الإعلام والزنزانة، وباستثناء ثلاث أو أقل من الفضائيات فإن استقلالية القرار على الهواء لصالح المظلومين غير وارد اطلاقا، وليس أمام المصريين إلا فضائية مصرية معارضة في عاصمة أوروبية ، لا تكون لها هوية أخرى غير حقوق الانسان وتحرير مصر من الطاغية ورفض كل صور التحزب والطائفية والفتنة والتفرقة بين المسلمين والأقباط .
فضائية مصرية تنشر وثائق وشواهد وقرائن عما يحدث في مصر من نهب وسلب واستحمار واستنعاج واستئفار وسُخرة وعبودية وهبر وتهريب وفساد.
فضائية مصرية تُحدث المصريين عن كرامتهم، وعن حقوقهم في السكن اللائق والعمل والحياة الحرة الكريمة ولقمة العيش ، وتحذرهم من خصوصهم في السلطة وفي الصحافة وفي القنوات التلفزيونية المصرية التي تضربنا على أقفيتنا مع( صباح الخير يا مصر) وتعيد صفعنا على نفس القفا مع (البيت بيتك).
فضائية مصرية معارضة يعلم العرب بعدها، وأشقاؤنا في الخليج الذين يدعمون بالمال عدو المصريين الأول وابنه وسارقي اللقمة من أفواه هذا الشعب الطيب، أن اطالة عمر هذا النظام البائس المتوحش والنتن هي جريمة في حق مصر والمصريين.
فضائية مصرية معارضة تستقطب وجوها سمراء طيبة وجميلة لوّحتها شمس دافئة من أسوان إلى الاسكندرية، ولا تعرف في ضيوفها إن كانوا مسلمين أو أقباطا أو ناصريين أو يساريين أو يمينيين أو وفديين أو إخوانا مسلمين أو سلفيين أو مستقلين.
فضئاية مصرية ليس فيها خطوط حمراء، ولا علاقة لها بالأمن، ولا تتلقى التوجيهات من صاحب رأس المال وهو جالس في مكتب أمن الدولة يُملي عليه الباشا ما يرغب فيه الرجل الكبير.
فضائية مصرية تعيد الروح للمصريين، وتحرّض على الانتفاضة، وتشرح للناس ثقافة العصيان المدني، ويشاهدها جنرالات وقادة الجيش المصري العظيم فيكتشفون أن دعمهم للطاغية اعلان حرب ضد أهلهم وأبنائهم ونسائهم وأجيال تأتي من بعدها يبحثون عن العبور الحقيقي فلا يعثرون عليه.
فضائية مصرية معارضة يبكي فيها المصريون على أحوالهم، ويصرخ المتوجعون من شدة الألم، ويلعن الغاضبون طاغيتهم، ويتحرر أبناء الوطن من الخوف، ويخجل المنافقون من زيفهم، وربما تتحرك ضمائر ضباط الأمن لصالح المصريين بعيدا عن بطش اليد والضرب بالحذاء.
فضائية مصرية معارضة تنهي حالة التناغم والتوافق والمساومة بين الفضائيات الأخرى وأجهزة القمع التي تعز من تشاء وتذل من تشاء، والتي تعتمد أيضا على أصحاب ضمائر ميتة وأقلامٍ حيّةٍ كأنها حَيّةٌ تسعىَ بنابها وسُمّها.
فضائية مصرية معارضة يأتيها الأشقاء والأصدقاء معتذرين ، من كل دول العالم، أنهم لم يكونوا على علم مسبق بجحيم المصريين تحت قبضة مبارك، وأنَّ كل حر لا يقف مع تحرير مصر من هذه الأسرة المتسلطة والارهابية هو في حالة عداء ضد الشعب المصري.
فضائية مصرية معارضة تحتضن حتى الخائفين والذين صمتوا ردحا طويلا من الزمن، وبعد وقت قصير من انطلاقها ربما تنهمر دموع كل ذي ضمير إنساني، كان قد اشترك في تأييد مبارك أو دعمه أو الدفاع عنه أو ايجاد مبررات لطغيانه وجبروته ودراكيوليته.
فضائية مصرية معارضة لن تستغرق وقتا طويلا بعد بثها حتى يتهاوى النظام الهش الكرتوني الديكتاتوري ، ويحتفل المصريون بأسّمىَ وأجمل وأطهر أعيادهم .. يوم تنتهي كلمة مبارك من فضاء مصر، ويبقى تاريخه الأسود شاهدا على حقبة مظلمة تحالف فيها جبروته مع صمتنا، ودفعت أم الحضارات الثمن غاليا.
فضائية مصرية معارضة تستعد لاعلان البيان الأول الذي طال انتظارنا له، وانتظاره لنا كثيراً .. كثيرا.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج