ليس بالملايين يخلد المبدعون

خالد منتصر في الإثنين ٢٣ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

تحول حوار فيلم "ليلة البيبى دول" من حوار سينمائى إلى حوار مسرحى فإختل الإيقاع، وإستعان الفيلم بعلامات إرشادية وكتالوجات تعليمية فإنطمست معالم الخريطة الإبداعية تحت ركام اللافتات، وغرق الجمهور فى محيط الفلاش باك من داخل الفلاشباك من رحم الفلاشباك حتى أصيب بالعته الهستيرى والألزهايمر الفنى والشلل الرعاش السينمائى!!، حدث كل هذا فسقط الفيلم برغم النية الحسنة لتكريم الأب من الأبناء والإمكانيات الهائلة وكتيبة الأبطال الموهوبة والخدع السينمائية المتقنة وأسماء الخواجات التى تحتل التيتر!، كان لابد من أن أجد تفسيراً لخروج رواد السينما من الصالة التى أشاهد فيها الفيلم وعدم إحتمالهم وإنتظارهم على أحر من الجمر الإفراج بعد إنقضاء ثلاثة أرباع المدة وفتح أبواب السجن السينمائى، البداية أحاديث جانبية بين المتفرجين، ثم إنتهت إلى هجرة جماعية من السينما تشابه الهجرة غير الشرعية لشباب مصر المطحون ولكن بلا قوارب، ذلك برغم أنهم سيضحون ويتركون التكييف المنعش إلى قيظ وهجير الشارع المخلوط بالرطوبة اللزجة، إلا أن طاقتهم على الإحتمال كانت قد نفذت، وترمومتر إحتمالهم كسر الرقم القياسى حتى إنفجر زئبقه!، خرج الجمهور تتناثر منه عبارات مثل "حسبى الله ونعم الوكيل".عوضى على الله فى تمن التذكرة".."ربنا يهد المفترى".......الخ!!، لاأستطيع إتهام الجمهور كله بالتخلف، وأطلب منه التركيز وكأنه فى إمتحان ثانوية عامه وألقى اللوم عليه لأنه لم يستطع أن يفهم بعقله القاصر معانى الفيلم اللولبية،أما أنا فقد كافحت حتى النهاية وظللت أقاوم مشاعر الملل، وركبنى العناد ودفعنى الفضول لكى أعرف " لازم أعرف إيه آخر الفيلم ده،ماهو يانا ياهو فى الليله الكحلى دى؟، ولازم ولابد أعرف سبب هذا الملل الذى يصل إلى حد الإنفجار غيظاً وكمداً حتى فى وجود الإيركونديشن.

[قصة الفيلم الأساسية وتيمته الرئيسية لطيفة وجذابة ويظهر من خلال تفاصيلها وأحداثها قدرات سيناريست محترف هو الأستاذ الكبير المرحوم عبد الحى أديب، ولكن يظل نجاح هذا السيناريو المحبوك مرتبطاً بالإخلاص لهذه الحبكة فقط، ولايمتد لمناقشة كافة مشاكل الشرق الأوسط والعالم والكون!، التيمة الأساسية حسام (محمود عبد العزيز) زوج يحضر إلى مصر مرافقاً لوفد أمريكى، الزوج أمامه 24 ساعة فقط لممارسة لقاء حميم مع زوجته سميحه (سولاف فواخرجى) ليصبح أباً بعد إصلاح العيب الذى حرمه من الإنجاب فى مستشفيات أمريكا، اللقاء جهز له الزوج ببيبى دول مثير ومغرى هدية لزوجته المشتاقة لتظبيط الهورمونات على حد وصفها!، المفارقات التى حدثت لتدبير هذا اللقاء تكفى لصناعة فيلم كوميدى خفيف جيد جداً، ولكن طموح صناع الفيلم لصناعة فيلم ملحمى مزق الفيلم، حاول المنتج والمخرج صناعة فيلم "سترتش " من قماشة محدودة فتمزق القماش، وكانت النتيجة ملل مربع مضروباً فى زهق مكعب، وبرغم أن حكاية إيجاد مكان لإتمام لقاء جنسى بين زوج وزوجته تكررت كثيراً فى الأفلام المصرية، إلا أنها فى هذا الفيلم كانت لها زوايا جديدة فى التناول الكوميدى الجذاب، فالزوجة تنازلت عن الشقة، ومساعد الزوج تنازل عن حجرة الزوج فى الأوتيل لواحد من الوفد الأمريكى إنقاذاً للموقف، فلم يجدا إلا شقة صاحبة الزوجة التى يحضر زوجها فجأة من السفر، فينطلقا إلى حجرة فى المستشفى...الخ، وهكذا تتصاعد الأحداث والمفارقات الكوميدية، ولكن مط الفيلم إلى سترتش، ومحاولة إلباسه ثوباً فلسفياً سياسياً أكبر من حجمه وطاقته، جعل المسألة وكأن طفلاً قزماً إرتدى ثياب لاعب كرة سلة، ولا أدرى سبب خجل صناع الفيلم من الإحتفاظ بهذه التيمة الأساسية وتحميله مالايحتمل، وعبد الحى أديب نفسه لم يخجل إطلاقاً من محاولاته الكوميدية الخفيفة فلما يخجل أبناؤه من تكريمه بعمل كوميدى خفيف؟، السيناريست الراحل لم يدعى يوماً أنه مناضل سياسى أو منظر ثورى من طائفة جيفارا وتروتسكى!، وأعتقد أن الفيلم قد تم اللعب فى نصه الأصلى بالإضافة والتعديل.

[المباشرة لاتصنع فناً، فمن الممكن أن تكتب كلاماً مباشراً فى جرنال ولكن لايمكن أن تدسه فى فيلم وإلا تحول إلى خطبة منبرية أو منشور سياسى، ومما زاد الطين بلة أن هذه المباشرة تسللت إلى الفيلم فى صورة حوارات كليشيهات طويلة تنفع لخشبة مسرح ولكن لايمكن أن تنفع أمام كاميرا سينما، والفرق بين الحوار المسرحى والسينمائى كبير جداً، فالكاميرا تمل سريعاً، ومتفرج السينما لايحتمل مثل هذه الديالوجات والمونولوجات الطويلة التى لامبرر لها إلا نقل رأى سياسى المفروض أن ينتقل إلينا ويتسرب بطريقة فنية عبر أحداث وليس عبر خطب ومنشورات، فمثلاً الحوار بين جميل راتب المستثمر الأمريكى ومدير سجن أبو غريب السابق وبين محمود عبد العزيز الذى يتحدث عن حرب العراق وكراهية الأمريكيين، هذا الحوار الطويل الذى لايتسق مع إيقاع زوج متسربع مشتاق للقاء زوجته لدرجة أنه حاول أن يمارس الجنس معها فى مستشفى، فهل يعقل أن يتحدث بهذا الإيقاع وكأنه يناقش رسالة دكتوراه؟!، ونفس الروقان فى الإيقاع والمنبرية فى الطرح ظهرت فى حواره الطويل أثناء المؤتمر الصحفى مع ليلى علوى اليهودية الأمريكية التى هربت أمها من جحيم الهولوكوست، وهو الحوار الذى لاينسجم مع طبيعة تلك الشخصية كما قدمها الفيلم فى البداية، وهناك حوارات مسرحية كثيرة أفسدت إيقاع الفيلم مثل حوار نور الشريف (الإرهابى عوضين الأسيوطى) مع الجنرال بيتر (جميل راتب) فى العراق وفى مصر حين إقتحم عليه حجرته فى الفندق وظل يعطيه محاضرة فى حقوق الإنسان وحرب العراق ومفهوم السلام وهو يحمل سكينة ومسدس للإنتقام منه بعد أن فقد رجولته فى سجن أبو غريب، وأيضاً حوار عوضين مع شكرى سائق التاكسى (جمال سليمان)....إلى آخر هذه الحوارات التى أحسسنا معها أننا بداخل مسرح الغرفة، والمشكلة ليست فى مسرحة الفيلم السينمائى فقط، ولكن المشكلة فى أننا كنا أمام أفكار ألبسها صناع الفيلم لأشخاص وليس العكس، فأحسسنا أننا أمام دمى أو عرائس ماريونيت ولسنا أمام أشخاص من لحم ودم، أو أمام حياة حقيقية قريبة منا ومن مشاعرنا، ولهذا خاصم الفيلم الصدق، وشعرنا كمتفرجين أننا أمام جريدة سينمائية أو مسرحية مدرسية لحفل ختام السنة الدراسية أشرف عليها موجه المسرح بوزارة المعارف، ولسنا أمام فيلم سينمائى عظيم أو المفروض أن يكون عظيماً من واقع المصاريف والأبطال والدعاية.

[الهجوم على بوش يستطيعه الآن أى طفل فى أى بقعه فى العالم، فليس إنجازاً أو إستشهاداً أو كيمياء أو معجزة أن يظل أبطال الفيلم يحملون بوش المسئولية، إنها مثل النكتة المستهلكة التى لن تضحك أحداً، والنكتة الأكثر كوميدية منها هى الترويج لمسألة أن الفيلم قد حورب فى مهرجان كان بسبب هذه النقطة بالذات!!، إنها بروباجندا لاتنطلى على طفل ساذج فى عصر يخرج فيه مخرج أمريكى يمرمط كرامة بوش فى الأرض ويكافأ بجائزة!!، إذن لايمكن أن أراهن على أن هذا النقد لبوش وأمريكا هو الذى سيجذب إلى فيلمى الجمهور، فالمهم أولاً أن أصنع فيلماً بالمقاييس الفنية صح ثم بعد ذلك أضمنه ماأريد من أفكار بشرط ألا تكون مقحمة على هذا النسيج، فبوش لن يعيش لكن الفيلم المفروض أن يعيش وأن يكون أكثر خلوداً من بوش!.

[قائمة الأبطال والأحداث الفرعية طويلة، ولكنها للأسف قائمة أدوار بلابصمات وأدوار فرعية بلا علامات، فلوسأل المشاهد نفسه سؤالاً ماذا يضير الفيلم إذا ألغى دور غاده عبد الرازق وعلا غانم ومحمود الجندى..؟، فبرغم جودة تمثيلهم ماهى الإضافة التى أضافوها؟،غاده عبد الرازق اليهودية المصرية بنت الفجالة التى كانت تربطها علاقة حب بعوضين الأسيوطى وتقابله صدفة فى العراق ويتواعدا على الزواج ثم تموت فى فلسطين تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية وهى تحمى مساكن الفلسطينيين!!، يامحاسن الصدف!، ماكل هذه الشذرات المتناثرة من كل صوب وحدب وجمعها كلها فى زنبيل درامى واحد لايصلح إلا للبيع فى سوق الباله، محمود الجندى السائق العراقى الذى بزغ فجأة فى فلاش باك مفتعل لمجرد أن يحدثنا حديثاً مسرحياً طويلاً فى منطقة جليد مع نور الشريف عن الفتنة الطائفية وصدام حسين والتقريب بين السنة والشيعه....إلى آخر هذا الحوار الذى يصلح لفيلم تسجيلى أو مداخلة تليفونية فى البيت بيتك!، أما علا غانم فحدث ولا حرج، رقصت رقصة المذبوح فى بغداد دقيقة ونصف وإختفت، الإحساس الذى وصلنى بعد مشاهدة هؤلاء الأبطال فى أدوار هامشية، أننا فى صوان وسرادق عزاء تكلف الملايين و لابد أن يمتلئ بأكبر عدد من الناس والمشاهير وذوى النفوذ للحصول على أفضل شو!!.

[المدهش أن مشهد الهولوكوست وتعذيب اليهود أفضل فنياً من مشاهد تعذيب الفلسطينيين ومشاهد سجن أبو غريب!
التنفيذ السينمائى لمشاهد الهولوكوست الصامتة وهروب أم ليلى علوى وقتل زوجها وتجهم وصرامة القائد الالمانى تمت بحرفية عالية وفهم كامل لدور الصورة فى نقل الإحساس السينمائى، أما مشاهد التعذيب فمنقولة فوتو كوبى من بعض الصور الصحفية وأعتقد أن هذا هو سبب خفوت وضبابية تأثيرها على المشاهد، ففى مشاهد الهولوكوست أطلق عادل أديب لخياله العنان فأبدع فى رسم الكادر السينمائى، أما فى مشاهد سجن أبو غريب فقد كان كل همه أن يتطابق كادره مع الصورة الصحفية التى ينقل عنها و"يشفها"، فضاع الإبداع تحت ضغط التقليد وفضول التنفيذ الحرفى، لدرجة أن مشهد قطع العضو الذكرى لعوضين الأسيوطى فى سجن أبو غريب بعد إخصائه أضحك من كانوا يشاهدون الفيلم معى فى الصالة!!، وهذا شئ أدهشنى أنا شخصياً، وأعتقد أن هذا مرجعه إلى أن المبالغة فى الأشياء يفقدها معناها ويطفئ بريقها، فليس من الضرورى لكى أوصل معنى فقد الرجولة والكرامة أن أدخل فى سلسلة مشاهد تعرية عوضين ألأسيوطى ثم تصويره بين ركام عرايا ثم إنتهاكه جنسياً مع زنجى أسود من الخلف ثم إخصائه ثم قطع عضوه التناسلى........الخ، بعد أن تحدث كل
هذه المصائب لابد أن المشاهد سيصرخ " والله ياسيدى فهمنا خلاص إنه فقد رجولته، ناقص أحلف لك على المصحف إنى فهمت..كفايه بقى!!"، الخيط الفاصل بين المبالغة الكوميدية والواقعية الصادمة خيط رفيع جداً، ولابد للمخرج ألا يستجيب لشهوة المبالغة وإستدرار دموع المشاهد وإستفزازه وإلا إنقلب الأمر من قمة التراجيديا لقمة الكوميديا.

[بطل الفيلم هو ياسر عبد الرحمن بموسيقاه التصويرية المعبرة، وأحمد مكى بتلقائيته وإختراعه لبعض لزمات شخصية سائق التاكسى الغلبان بإقتدار وخروجه الذكى من عباءة السيت كوم وتامر وشوقيه، وكما كان دور سائق التاكسى وش السعد على محمد هنيدى فى فيلم "بخيت وعديله"، سيصبح هذا الدور بداية الإنطلاق والتألق لهذا الفنان الشاب المختلف المميز.
ليس بالنوايا الحسنة تصنع الأفلام، وليس بإرتداء قبعة الخواجة يروج الفن، وليس بالملايين يخلد المبدعون.

اجمالي القراءات 11506