ليس فى الإمكان أبدع مما كان
إن مما لا ريب فيه، ان الأمم القوية التى بلغت قمة العظمة والمجد، قد قامت بناؤها على أسس متينة من المثل العليا، التى ترعى هذه المبادئ وتتفاعل معها، لتستخلص منها المعانى الحية التى تحيا فيها وتعيش لها.
والأمة الاسلامية، كانت فى يوم من الأيام أمة قوية لها كيانها ولها خطرها، وذلك يوم أن كانت تتجاوب مع الاسلام الصحيح، الذى جا&Aacء بأعظم المعانى وأكثرها حيوية، ليجعل من أمته أمة قوية يحسب لوجودها ألف حساب.
ولكن الذى يدعو إلى الحسرة والأسف، أن هذه الأمة الاسلامية القوية، لم يكتب لها البقاء طويلا، فقد القت الشعوب مقاليد الأمور بأيدى حكامها، وأخذت تتقلص المعانى الاسلامية الحية لتخدم مصالح الحكام، كما أخذت قوى الشعوب تُمتص وتُستحلب لتثبت كراسى الحكام، وتذود عن كيانهم...
وهكذا أخذت الأمة الإسلامية تتفكك عراها، لتذوب فى مزيج من أهواء حكامها ومصالحهم، وتتلاشى قوى شعوبها لتتركز فى أيدى قادتها ليحكموها بايد من حديد، ويخلو لهم الطريق الى حكم الفرد المطلق، الذى لا يقيم للشعوب وزنا.
اننا، معاشر المسلمين، لا تجمعنا أمة، ولا تخلد حياتنا دولة. وذلك لإننا بعيدون عن مبادئ الاسلام ومعانيه الحية، التى أرادتنا حكوماتنا على أن نتنكبها فى سلوكنا حتى يظلوا بحكمهم فى مأمن منا، والحكومات ليست عقبة فى سبيل الشعوب التى تود الحياة الكريمة، ولكنها عقبة فى سبيل الشعوب المتخاذلة المُهينة، التى تنتحل أهون الأسباب، حتى لا تبذل كفاحا أو تباشر جهادا.
إن علة العلل فى تأخر المسلمين، كلمة يجب أن تظل الى الأبد ولا يمكن أن يتوقف الكلام عنها " لا إلــه إلا اللــه "، وفى انزواء الاسلام كدين يجب ان يظل الى الأبد رسالة الانسانية جمعاء، هو أن المسلمون أنفسهم لا يرغبون فى أن يفقهوا دينهم كما يجب أن يفقه، ومعظم علماء الدين لا يودون أن يخلصوا فى تفقيه المسلمين دينهم كما يجب أن يفقهوه.
ان المسلمين يصلون ويصومون وقد يزكون ويحجون، ويعتقدون ان حسبهم من الاسلام صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجهم، وقد يأتون الوان البر والخير، ويلزمون سبل الاستقامة معتقدين ان لهم بهذا وحده قصورا فى الجنة التى عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
والعلماء يخطبون ويكتبون ويسرفون، ولكن خطبهم وكتاباتهم لا تزيد على الوان مكررة، يمكن للمسلمين ان يستغنوا عنها، فهم منذ عشرات السنين يتحدثون عن ليلتى القدر والنصف من شعبان، وعن الاسراء والمعراج، والمسيح الدجال والمهدى المنتظر، ونزول عيسى عليه السلام إلى الأرض فى آخر الزمان.
ويتحدثون عن الجنة وما اعد اللــه فيها للمتقين من الحورالعين، ومما لذ وطاب من فاكهة وخمر لذة للشاربين، ويتحدثون عن النار وما أعد اللــه فيها للعاصين.
أما الحديث عن الاسلام كدين ودولة وقانون ونظام وتشريع وجهاد، وعن المسلمين كأمة حرة غير مستعبدة، وعزيزة غير ذليلة وكريمة غير مهينة، وعن الحكم الاسلامى كأساس للعدل والمساواة بين الناس، ينتصف للمحكوم من الحاكم قبل أنه ينتصف للحاكم من المحكوم، هذا كله هو من الحديث المُشكل فى نظرهم والمتعب بالنسبة لهم.
الأصل فى الإسلام،
ان يكون دولة واحدة ذات بناء ومنهاج، فإذا قدر له أن يتخلف عن هذا الأصل خرج عن حقيقته التى أرادها اللــه له وأصبح مظهرا رمزيا، يسغل حيزا من الفراغ فى أذهان الناس لا فى كيانهم. والبناء يلزمه قوة التأسيس حتى يصمد أمام العواصف والزلازل وقوة السياج الذى يرد عنه كيد الأعداء ومؤامرات الحاقدين.
والمنهاج يلزمه الواقعية حتى يتجاوب مع العقول والمرونة حتى يكتب له الخلود، والوضوح حتى يستقر فى الأذهان والتركيز حتى يسهل معه التطبيق.
والاسلام فى منهاجه، هو مجموعة من الأصول فى العبادة والمعاملة والسياسة والإقتصاد، والقيم والأخلاق، وتتمثل هذه المجموعة الشاملة كلها داخل اطار من المعانى الحية التى تنهض بالدين والدولة معا.
.وجئنا نحن المسلمين نصنع من هذه الأصول فروعا لا تُحصى ولا تُعد، وجعلنا كل همنا فى هذه الفروع.. حتى طغت علىالأصول، وابتكرت عقولنا أوهاما وخرافات، الصقناها زورا بالإسلام، وسولت لنا نفوسنا أن نشعل حروبا من الجدل فى قضايا تافهة بإسم الاسلام بهتانا وظلما، وكان من الضرورى أن تختفى المعانى الحية فى الاسلام نفسه.
آفة الاسلام اليوم
إن آفة الاسلام اليوم مظهران:
اولهما- مظهر التزمت الذى اصيبت به عقليات أولئك الذين تصدوا لعرض الاسلام والدفاع عنه. وهؤلاء يضرون الاسلام أكثر مما ينفعونه، فإذا عرضوه وضعوه فى صورة هزيلة مهلهلة مفككة، لا تمت إلى حقيقته بصلة وإذا دافعوا عنه، فإنما يدافعون عنه بأسلوب متزمت يسوده ضيق الأفق وعقم المنطق. وهؤلاء أشبه بالمرضى بمركب النقص والاسلام لديهم أشبه بهواية... ليس إلا.
الاسلام فى نظرهم شهادتان يجب أن ينطق بهما، وصلاة وزكاة وصوم وحج يجب أن تؤدى جميعا، وحدود يجب أن تقام وقصاص يجب أن ينفذ... وكفى.
ولكن لا يهمهم فى قليل أو كثير، أن يقوم الحق والعدل فى أمة لا وجود فيها للحق ولا للعدل. ولا يهمهم أن يُحكم الشعب بسياط الديكتاتورية الفاجرة، أو أن ينزل مستواه المعيشى إلى مستوى أرقى منه مستوى الحيوانات الهائمة على وجودها فى البيداء.
هؤلاء، فوق هذا وذالك، كل نصيبهم من الجهاد ثرثرة دون منطق، وجعجعة دون طحن، والذى يدعو إلى الأسف، أنهم يعتبرون أنفسهم مجاهدين فى سبيل اللــه والدين، ولا يكادون يؤمنون بأنهم انما يجاهدون فى سبيل إشباع هوايتهم.
ثانيهما- هو مظهر التحلل من الاسلام، ويتزعم هذا المظهر شرذمة نالت قسطا من التعليم ، ويشايعها الحاقدون على الاسلام من غير أهله، والصحافة المأجورة التى تستوفى حظها من جهات إستعمارية مريبة، ويبارك نشاط هذه الشرذمة بعض الحكومات الديكتاتورية التى تخشى الاسلام لأنه لا يقر حكمها ولا يعترف بها.
وأتباع هذا المظهر ليس لهم هدف إلا عزل الاسلام عن الحياة فى بلاد المسلمين، واللئام منهم يتظاهرون بمخافهم من أن يثير ربط الاسلام بمصير الدولة، متاعب من جراء وجود أجانب وأقليات فى ديار الاسلام، وقد تُسبب هذا المتاعب تدخلا استعماريا سافرا لا تُحمد عقباه.
والشجعان من هؤلاء، يعلنون أن الاسلام من شأنه أن أن يكون عائقا فى سبيل نهوض الدولة وتقدمها، وما فيه من قيود كفيل بأن يقف بالدولة داخل حدود الانتكاس والتأخر، وهؤلاء وإخوانهم من أشياع مظهر التحلل من الاسلام بعتمدون كثيرا فى منطقهم على المظهر الأول ، مظهر التزمت، ويستلهمون الحجج التى تسندهم من مناورات المتزمتين وتعصبهم.
والاسلام يقف اليوم جامدا لا يقوى على الحركة، فهو ببين أشياع يسيئون اليه، وبين أعداء يتآمرون عليه، وكلما قيض اللــه له من يأخذ به الى المكان اللائق به، بطش به اشد بطشة، ونكل به أفظع تنكيل وسيق إلى الفناء بتهمة المناهضة واثارة الفتن وتهديد أمن الدولة وسلامتها..
والنفوذ الصليبى بالمرصاد دائما، لكل حركة إسلامية جادة لا هازلة، عاملة لا عابثة، فهو لا يعجز أن يتخذ من الحكومات أداة البطش والفتك، كما لا يعجز أن يغدق من الأموال الطائلة على الأقلام المأجورة لتقوم بحملتها على الحركة لتشويهها من رسالتها.
والفكرة الاسلامية لا شك ضائعة بين هذين التيارين، تيار التزمت الدينى الذى يقيم العراقيل فى طريقها، وتيار التحلل الدينى الذى يطاردها ويناصبها العداء كلما حاولت الحركة. وهذه الفكرة الاسلامية الحية مضطهدة فى معظم بلاد المسلمين، إن لم يكن كلها، وحكومات هذه البلاد تتعقب نشاطها وحركاتها لأنها خطر على كيانها، كحكومات لا تفكر فى أن تكون حكومة ديمقراطية نظيفة، ومجرد العمل على بعث الفكرة الاسلامية أو مجردالتفكير فى بعثها يعتبر دعوة الى الرجعية فى نظر مدعى التقدمية والتحضر. كما يعتبر جريمة وطنية فى نظر بعض الحكومات التى لا ترغب فى الاسلام. إلا إذا استعمل مخدرا للشعوب المغلوبة على أمرها وخادما أمينا لمصالحها التى تشبع أهواءها ورغباتها.
والعجيب ان البقعة العربية، بقعة إسلامية لحما ودما، ولكن حكوماتها وساستها تتعصب للقومية العربية برغم أن هذه الحكومات قد وافقت على أن تصدر دساتير بلادها " بأ ن الاسلام هو دين الدولة الرسمى " والواقع ان هذه العبارة التى نصت عليها هذه الدساتير ليست الا رمزية يتلهى بها السذج من الشعوب المسلمة.
فالاسلام لا يمكن ان يقر الربا والميسر والبغاء والخمر وما إلى ذلك من المنكرات التى يأباها الاسلام. والاسلام لا يمكن أن يقر الحكم الديكتاتورى، ولا النظام الإرهابى ولا استبداد الحاكم بالمحكوم، ولا ترف طبقة ضئيلة على حساب شعب جائع محروم بأسره.
إن شعوب المسلمين ليست فى المكانة اللائقة بها اليوم، ومعظمها تخضع أنظمتها للسيطرة الصليبية أو السيطرة الغربية او السيطرة الصهيونية. والطريق إلى نهضة هذه الشعوب وتحريرها، هو أن تفهم دينها جيداوتدرك المعانى الحية التى تأخذ بأيديها الى حيث العزة التى أرادها اللــه لها، وهذه المعانى هى التى تتركز فى ثلاثة: عقيدة سليمة مستمدة من عبادة اللــه وحده والثقة فى قدرته، ونفوس حرة تؤمن بأن لها كيانا يجب أن يُحترم، ونهضة شاملة تقوم على الأخذ بأسباب الحضارة والرقى والتقدم.
إن تحرير العقل هو المعنى الأول من المعانى الحية فى الاسلام، وذلك ليخلص لعبادة اللــه وحده ويحافظ على كيان الاسلام حتى يكتب له المجد، ولكنا تناسينا هذا المعنى وخلقنا جوا من الجدل بين أشياع التوسل بالأنبياء والأولياء وبين منكريه وبين مثبتى الكرامة للأولياء وبين منكريها، وأحدثنا فى الاسلام مذاهب واستطعنا أن نمزق بأيدينا شمل الوحدة الاسلامية الى فرق وشيع، ليتفرغ بعضها الى جدل ونضال بعض..وكفى.
وتحرير النفس، هو المعنى الثانى من المعانى الحية فى الاسلام، وذلك لتخلص النفس للــه وحده، ولتبرط حياتها بالعزة والكرامة. ولكنا نحن المسلمين، تناسينا هذا المعنى ورضينا لأنفسنا أن تُصبغ بالعبودية للطغاة والجبابرة من ذوى الجاه والسلطان، وأن نعيش فى ديارنا كالرقيق أو كالرعايا الضائعين...
وإنهاض البشرية، هو المعنى الثالث من المعانى الحية فى الاسلام، وقد وجه الاسلام انظارنا الى العلم، وانه وسيلة كبرى الى انهاض البشرية، ونحن المسلمين، تجاهلنا هذا المعنى تجاهلا تاما، وتخلفنا عن ركب الحضارة والنهضة، فأصبحنا عالة فى حاجاتنا على الدول الكبرى، وحسبنا ان نُحيى الموالد وأن نقيم دولة للطرق الصوفية ونتنافس فى تقديس أضرحة الأولياء والصالحين، وندع بعد ذلك غيرنا يصنع القنابل الذرية والهيدروجينية والصواريخ الموجهة ويحاول غزو ما بعد القمر.
ولكن متى تستطيع هذه الشعوب المسلمة أن تحقق ذلك؟
والإجابة... هى أن الشعوب المسلمة عليها أن تدرك حقائق ثلاثة:
أولا- أن تدرك أن هناك معوقات لأيةُ نهضة اسلامية، وعقبات تتصدى لأيةُ حركة تنشد الاسلام الصحيح، وهذه العقبات وتلك المعوقات، كان يمثلها الاستعمار من قبل، الاستعمار السافر الذى تحول الى نفوذ خفى لكن آثاره لا يجهلها حتى البسطاء من الناس. أما اليوم فانما يمثل هذه العقبات وتلك المعوقات الأنظمة الحاكمة التى أصبحت أخلص عميل وأهونه فى نفس الوقت للتسليط الأجنبى، وهذه الأنظمة تؤدى دورين:1- واجب الولاء للتسلط الأجنبى المشئوم لأنه - فى زعمها- الضامن لها البقاء على كراسيها أطول مدة ممكنة. 2- واجب الولاء لمصالحها ومطامعها وأهوائها وشهواتها، لأنها متأكدة أن قيام الاسلام الصحيح الذى رضيه اللــه لعباده دينا، لا يسمح بوجود أنظمة ارهابية تغتال الشعوب وأقواتها. ولا تمنح هذه الشعوب سوى الشعارات الزائفة والأمانى الكاذبة.
ثانيا- أن تدرك الشعوب المسلمة أن نهضتها لكى تقوم، يجب أن تقوم على أساس مجتمع اسلامى واع، وهذا المجتمع الاسلامى الواعى، لا يتوفر إلا عندما يصبح الاسلام نظام حياة: عقيدة وشريعة، وأخلاقا وسلوكا، وأن تدرك كذلك ان الاسلام المعاصر الذى تعايشه ويعايشها، ليس هو الاسلام الذى رضيه اللــه لعباده دينا، وإنما هو قشور الاسلام الذى ترضاه الأنظمة المستبدة فى ديار المسلمين، وتقبله الشعوب المسلمة المغلوبة على أمرها المجردة من الوعى، التى لا تعى قيمة نفسها، وفلسفتها العرجاء تقوم على أساس من الأفكار السلبية مثال " دع الملك للمالك" و " ليس فى الإمكان أبدع مما كان"
ثالثا- أن تدرك الشعوب المسلمة، وتتعمق فى الإدراك آية من كتاب اللــه عز وجل:
" ....إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ " الرعد 11
وهذا التغيير لا يتحقق إلا بالجهاد والتضحيات وإجتياز أقسى الامتحانات فى النفس والأهل والمال...
" الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ " التوبة 20
فليحاول المسلمون ان يفقهوا دينهم، وليحاول علماء الدين ان يخلصوا فى تفقيه المسلمين دينهم، وبعئذ لن يكون إلا الرفعة لهذا الاسلام الضائع... وهؤلاء المسلمين المغلوبين على أمرهم والغرباء فى ديارهم...
وباللــه التوفيق لما يحبه ويرضاه...