لقد كانت أول دولة اسلامية تحتكم للقرآن وحده مصدرا للتشريع هي دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ، فقد كان رسول الله عليه السلام لا يجيب على سؤال أو يفتي في موضوع يعرض عليه حتى يأتيه القرآن فيقول له رب العزة سبحانه وتعالى"يسيألونك ... قل..." وقد سألوه عن [الأهلة ، والإنفاق ، والشهر الحرام وإمكانية القتال فيه ، والخمر والميسر ، واليتامى ، والمحيض ، وما أحل لهم ، وعن الساعة ـ وألحوا في السؤال عنها حتى قال تعالى (يسالونك كانك حفي عنها قل انما علمها عند ml; الله ولكن اكثر الناس لا يعلمون) ـ وعن الأنفال ، والروح وذي القرنيين ، والجبال] ، كما أستفتوه في (النساء والكلالة) ، وقد آثار أهل الكتاب كثير من المسائل الغيبية (كقصة أهل الكهف ، وذي القرنيين) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتي فيما يسأل ولا يجيب حتى يأتيه القرآن بالإجابة على الأسئلة المطروحة ، وكان فهمه عليه السلام وفهم صحابته للقرآن سهل وميسر لأن الله سبحانه وتعالى أنزله بلسان القوم وبكلمات معروف مدلولها لديهم لقوله تعالى"وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم"ابراهيم4 ، ولقوله "فانما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون"الدخان58 ، ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بينهم فيما أنزل الله سبحانه وتعالى من أوامر قرآنية جائت مجملة ، في تنفيذ هذه الأوامر يتبعون رسول الله والذي يقوم بتنفيذ هذه الأوامر وتفصيلها أمامهم وهو في ذلك أيضا يتبع وحي السماء ، فيرى الصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم بتنفيذ الأومر الربانية في المناسك والعبادات ، فيتبعون الرسول في أداءها دون زيادة أو نقصان ، وكان بذلك أداء الرسول (منهاجا) لهم ولمن يأتي من بعدهم ، وعلى هذا المنوال أصبح الدين الإسلامي على عهد الرسول (شرعة ومنهاجا) المائدة48 ، وكان مجتمع الرسول هو مجتمع قرآني خالصا يطبق دين الله سبحانه وتعالى من مصدره وقت التنزيل وهو القرآن ، ومن فهم الرسول لأوامره ونواهيه وهو طريقة أداءه للعبادات.
ولم يقل أحدا أن النبي عليه السلام كان لا يتكلم بغير الوحي ، ولكن هذا الكلام الذي تكلمه بغير الوحي كان مرتبطا ببشريته وتسري عليه قواعد الصواب والخطأ ، كما أنه مرتبط بالخلفية التاريخية والإجتماعية وببيئة النبي عليه السلام ، فهو عليه السلام عندما حرم على نفسه شيء مرضاة لأزواجه جاءه التأنيب القرآني "يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبتغي مرضات ازواجك والله غفور رحيم" التحريم1 ، وعندما قال غدا أفعل جاءه التأنيب القرآني "ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا(23) الا ان يشاء الله واذكر ربك اذا نسيت وقل عسى ان يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا(24)[سورة الكهف]
وقد كان القرآن مرشدا له للصواب "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا" الكهف 28 ، وهاديا له من الضلال "ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم ان يضلوك وما يضلون الا انفسهم وما يضرونك من شيء وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما"النساء113.
الخلاصة أن مجتمع رسول الله كان مجتمعا قرآنيا حقيقيا لا عبرة فيه لقال الرسول أو قال فلان ، ولكن الجميع كان ينتظر نزول القرآن ميسرا للذكر ومفهوما بلغة القوم ومتبوعا أوامره بأداء الرسول والذي كان وحيا ، وبعد الرسول جاء مجتمع الخلفاء الراشدين وهو مجتمع قريب عهدا بالرسول وبيدهم القرآن كاملا قد حضروا تنزيله وأدوا مناسكه وأوامره مع الرسول ولا خلاف بينهم في شيء من القرآن أو على طريقة أداء الرسول للمناسك والعبادات ، وقد امتنعوا عن جمع أقوال النبي ونهوا من قال لهم قال الرسول كذا أو فعل كذا واستمر مجتمعهم مجتمعا قرآنيا خالصا إلي أن حدثت الفتنة الكبرى ووقع القتال بين طائفتين من المسلمين إحداهما ولا شك باغية ومعتديه وتم إراقة دماء المسلمين بسيوف المسلمين ، وعندها احتاجت كل فرقة ان تثبت لأتباعها أنها وحدها على الحق خاصة وقد دخل في الإسلام أقوام وقبائل لا يعرفون الرسول ولم يجالسوه أو يسمعوا منهم ، فبدأت كل فرقة تقول (قال الرسول) وقد استنوا بذلك سنة سيئة عليهم وزرها فكل من أراد أن يحارب دين الله أو يهدمه ويحدث فيه ما ليس فيه كان أسهل ما عليه أن يقول (قال الرسول) ، وقد اختلفت الروايات أولا بإختلاف الفرق السياسية والعسكرية ، ثم أختلفت الفرق ثانيا بإختلاف الروايات فظهرت بينهم الاختلافات المذهبية والعقائدية ، وأنقسم المسلمين إلي فرقتين كبيرتين (سنة وشيعة) وكل فريق بما لديهم فرحون ، ولو بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرف من دينه إلا الشهادة ورسم المصحف ، ولو نصحهم لكذبوه متمسكين بما لديهم من ضلالات تحت مسمى (قال الرسول) والذي أستحدثوا له علوم كعلم الإسناد وعلم الجرح والتعديل وهكذا
وعبر صفحات التاريخ الاسلامي كان الأخذ بالقرآن وحده يظهر على استحياء بيان ركام هائل من الفكر السني والفكر الشيعي وما تكاد الدعوة للأخذ بالقرآن تظهر حتى تختفي وبسرعة والسبب جبروت الحكام وقسوتهم في مواجهتها ، وتضليل الفقهاء والخاصة للعامة بادعائهم أن من يقول بالأخذ بالقرآن وحده (كافر) حلال الدم والمال والعرض ، ثم أن القرآنيين أنفسهم وبسبب الضغوط التي وقعوا تحتها لم يضعوا لأنفسهم منهجا ثابتا لفهم القرآن ، أو كانوا غير مأهلين لذلك.
، وبعضهم دخل على القرآن بفكر مسبق فانحرفوا كالمعتزلة وذلك لأنهم لم يتخلصوا من أدران أزمانهم كما أنهم عاملوا مخالفيهم بنفس الطريقة التي عاملهم بها مخالفيهم وبنفس القسوة والشدة ، كما أنهم تعاملوا مع مفردات القرآن بمصطلحات أزمانهم وتأثروا بعلم الفلسفة والكلام حتى تم حسابهم على المتكلمة ، والعجيب أنه تم فهم موقفهم من كتاب الله سبحانه وتعالى على أنهم لا يقدسونه ولا يحترموه في الوقت الذي أظهر فيه مخالفيهم إحتراما أكثر لكتاب الله وتقديسا له ، وكل هذه الأسباب حكمت على دعوتهم بالفشل ، وحتى كتابات بعضهم ككتاب الأصول الخمسة وأدلتها للقاضي عبد الجبار ابن أحمد يصنف وبحق من كتب الكلام لا من فكر القرآن في شرح أصولهم الخمسة كالقول بالمنزلة بين المنزلتين أو القول بخلق القرآن وهكذا.
لذلك لم يصلنا أي تراث قرآني حقيقي غير القرآن نفسه ، كما لم تصلنا أي قواعد لفهم كتاب الله أو منهج بحثي في هذا الكتاب العظيم ، في الوقت الذي وصلنا زخم هائل من علوم الحديث ، وفي عصرنا الراهن بدأت الدعوة للأخذ بالقرآن وحده على عصر المجدد العظيم الشيخ محمد عبده ولكن كانت دراساته وأبحاثه نقدية أكثر منها بحثية ، وقد ظهرت حركة القرآنيين مؤخرا على يد الدكتور أحمد منصور واكبها الكثير من الدراسات القرآنية والمواقع على شبكة الإنترنت التي تعني وتهتم بالأخذ بالقرآن وحده مصدرا وحيدا للتشريع ، مشكورا أصحابها ، إلا أنهم لم يتفقوا فيما بينهم على منهج واحد وقواعد بحثية واحدة لتأصيل الفكر القرآني ، كما أن بعضهم أراد الدخول على القرآن بفكر مسبق رافضا كل التراث الإسلامي السابق على ما فيه من حق ، وتوصل بعضهم لنتائج غاية في الغرابة والشذوذ ، من أجل هذا فإن الفكر القرآني أحوج ما يكون لمنهج يتم من خلاله تأصيل الفكر القرآني بوضع قواعد وآليات بحث تكون من المسلمات عند دخول الباحث ، أي باحث ، على الفكر القرآني محاولا البحث فيه.
وقبل البدأ في وضع المنهج وجب أولا وضع تعريف لبعض المفردات وهي العقيدة ثم الهدف (الغاية) ، الوسيلة (السبيل).
العقيدة: مشتق من الأصل (عقد) وهو كل ما أبرمه الإنسان وقرره وقد يتعلق به حقا للغير ، على نحو قوله تعالى"...ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب اجله... الآية" البقرة 235 ، وقد تعلق هنا بحق كل من الزوجين قبل الآخر ، والعقيدة هي كل ما يؤمن به الانسان إيمانا كاملا ومستعد للتضحية في سبيله ولو بنفسه التي بين جوانحه ، وهو إيمان تسليم وانقياد ، وقد رسخ هذا الايمان في قلبه لدرجة أنشأت حقا لما يعتقد به على المعتقد نفسه ، والعقيدة هي من عمل القلوب ، ونصيب الجوارح منها ما يبديه الانسان من حب وتقديس لما يؤمن به وكذا ما يذب به الانسان عن عقيدته حال إجتراء الغير عليها ، ولما كان اصل العقيدة لغة من العقد وقد قال تعالى"يا ايها الذين امنوا اوفوا بالعقود... الآية" المائدة1 ، ولما كان العقد ما يرتب إلتزاما بين متعاقدين ، فإن العقيدة ترتب في نفس معتقدها إلتزاما بالاتباع ، كما تلقي في نفسه إيمانا بأن المتبع (بضم أوله وفتح ما قبل آخره) سيجازي المتبع (بضم أوله وكسر ما قبل آخره) بالجنة والنعيم في الآخرة ، كما أنه في معيته في الدنيا وأن كل ما يحدث له هو بتقدير الرب الذي يدين له.
وعلى هذا فإن عقيدة أهل القرآن لا تخرج عن عقائد كل المسلمين منذ أن خلق الله الخلق إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها ، تبدأ بايمان بالله وحده وباليوم الآخر وبوجوب العمل الصالح لقوله تعالى"ان الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من امن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" البقرة62.
وهذا الإيمان يتعدى الإيمان بالله واليوم الآخر ليشمل كتب رب العالمين وملائكته ورسله ، لقوله تعالى"قولوا امنا بالله وما انزل الينا وما انزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما اوتي موسى وعيسى وما اوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون" البقرة136 ، كما اننا نعتقد بأن هذا الإيمان هو الإيمان الذي يقبله الله سبحانه وتعالى من كل من يدعي الإسلام لقوله تعالى"امن الرسول بما انزل اليه من ربه والمؤمنون كل امن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير" البقرة 285.
كما نؤمن ونعتقد جازمين أن الإيمان يستتبع العمل والاتباع والتسليم والانقياد لقوله تعالى"قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" آل عمران31 ، ولقوله تعالى"ربنا امنا بما انزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين" آل عمران53.
ومن مستلزمات الاتباع الاجابة على سؤال ماذا نتبع ، ولم يتركنا الله سبحانه وتعالى حيارى نبحث عما نتبع بين ثنايا علوم الرجال والجرح والتعديل والاسناد وغيرها من العلوم الدنيوية ولكنه أجاب لنا إجابة واضحة لا لبس فيها بقوله سبحانه وتعالى آمرا نبيه الكريم ورسوله المؤتمن"قل لا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول لكم اني ملك ان اتبع الا ما يوحى الي قل هل يستوي الاعمى والبصير افلا تتفكرون" الأنعام50 ، فالاتباع هنا يكون للوحي ، والوحي جاء مفصلا في كتاب الله سبحانه وتعالى القرآن نكتفي به دون عداه لقوله تعالى"اولم يكفهم انا انزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ان في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون" العنكبوت51.
الخلاصة: عقيدة المسلم الذي يؤمن بالقرآن وحده مصدرا للتشريع لا تختلف عن عقيدة المسلمين في كل زمان ومكان من إيمان بالله سبحانه وتعالى وملائكته ورسله وكتبه واليوم الاخر والقدر ، وهو إيمان اتباع وتسليم لكل ما جاء به الرسول الخاتم في القرآن وحده تنفيذا للأوامر الواضحة في القرآن بالاكتفاء به كتابا وحيدا كما نكتفي بالله سبحانه وتعالى ربا واحدا(وكفى بالله وكيلا وحسيبا ونصيرا وعليما وشهيدا)
الهـــدف (الغايـــة):
الهدف العام والغاية الكلية لكل من يؤمن برب يعبده هو أن يرضى عنه ربه ويدخله جنته ، ونحن المسلمون لنا نفس الهدف والغاية وهي رضى رب العالمين الله سبحانه وتعالى عنا فنفوز بالجنة التي وعدنا وذلك هو الفوز العظيم لقوله تعالى"وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله اكبر ذلك هو الفوز العظيم"التوبة72.
ولكن هذا الهدف الأسمى وتلك الغاية الكلية ، لا تتعارض أبدا من وجود غايات دنيوية مثل الأصلاح وإعمار الأرض والتعايش مع الغير والتنافس في الخير ووقف الصراعات والكره والبغض الذي يعتري كل طائفة ضد غيرها من الطوائف والنحل ، لقوله تعالى "...ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب"هود88 ، واستباق الخير والتكامل مع الغير لقوله تعالى"ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات اين ما تكونوا يات بكم الله جميعا ان الله على كل شيء قدير" البقرة148 ، ثم ترك الحكم على الناس لله يوم لا حكم إلا حكمه عملا بقوله تعالى"...فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون"المائدة48.
الخلاصة: تتمثل غايتنا في الغاية الكلية وهي رضى رب العالمين للفوز بالجنة ولا نختلف في ذلك عن أحد من العالمين ، ولنا غاية فرعية جزئية في الحياة الدنيا هي إصلاح حال المسلمين بالقرآن حتى يتمكنوا من مواكبة الأمم الأخرى في ركب الحضارة وقطار المدنية والحداثة الذي لا يتوقف لكي نثبت للجميع صلاحية الاسلام لكل زمان ومكان ، وإعلام المسلمين قولا وعملا أنه يجب عليهم التنافس مع الغير في الخيرات وترك الحكم على عقائدهم لله رب العالمين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
السبيــــــــل(الوسيـــــــلة):
السبيل هو الدرب أو الطريق أو الوسيلة التي يتخذها الإنسان للوصول إلي هدفه وغايته ، وفي ذلك يقول رب العالمين" قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين" يوسف 108
ووسيلتنا هي التي نستمدها من القرآن تنقسم قسمين (القسم الأول : الدعوة ، والقسم الثاني: على بصيرة)
ويجب أن نقرر حقيقة قرآنية أن الله سبحانه وتعالى جعل للغاية الكلية والهدف الأسمى سبيلين لا ثالث لهما ، سبيل الله وسبيل الطاغوت ، ودائما يحاول الشيطان أن يجعل أصحاب سبيل الطاغوت يعتدون على أصحاب سبيل الله ، ولكن كلمة الله هي العليا ويبقى كيد الشيطان ضعيفا ، ولنتدبر قوله تعالى" الذين امنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا اولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا " النساء76
أما الدعوة لله سبحانه وتعالى وحده بهدف الاصلاح فإنها سبيل المؤمنين ونهتدي في ذلك بهدي الله وحده لقوله سبحانه وتعالى" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" النساء11.
لذلك فإن دعوتنا سلمية ومن القرآن وحده تعتمد على إبراز الآتي:
1. الاختلاف الشديد والفساد في الطرق التي أتبعها القوم من أحاديث منسوبة للصحابة في مذهب أهل السنة أو منسوبة لآل البيت في مذهب التشيع ، وإظهار حجم الهوة السحيقة بين كلام البشر وكذبهم على الله فيما يسمى بالحديث القدسي وعلى رسوله فيما يسمى بأحاديث الرسول ، وبين كلام رب البشر في القرآن الذي جائنا محفوظا بتعهد رب العالمين ، ومن اعجاز القرآن أنه رغم اختلاف الفرقاء فلم يتفقوا إلا عليه وحده.
2. وكذلك ابراز العوار الموجود فيما يسمى علوم الحديث كعلم الاسناد والذي يعتمد على سلسلة لم يرى الراوي منها إلا من عاصره وسمع منه ، وكعلم الجرح والتعديل والقائم على تسبيق الجرح على التعديل وما علمنا من إنسان لم يجرح (بتشديد الراء) ، فهو علم قائم على مناقضة اساس وجوده ، قام على النفي في باب الاثبات والموضوع يطول شرحه.
3. وضع وابراز القوالب الفكرية التي يقوم عليها علم الأخذ بالقرآن مصدرا وحيدا للتشريع ، ووضع الأسس العلمية التي يجب أن ينتهجها الباحث القرآني عند التعرض للبحث في مسألة ما تختص بالقرآن (علم المنهج)
4. استخراج القوعد الأصولية التي يجب على الباحث ألا يتعداها أو يغفلها عند تصديه للبحث في كتاب الله ، وابرازها ووضع أسس التعامل معها والعمل بها.
5. الرد على الشبهات والأباطيل التي يثيرها الخصوم ، وكذلك الرد على أسألة السائلين وتوضيح ما يبهم على الغير فهمه ، والتنظير عن طريق الأخذ بالقرآن وحده مصدرا للتشريع.
6. ولما كان القرآن صالح لكل زمان ومكان فإنه يشمل كل السقوف المعرفية لكل البشر في كل الأزمنة والأمكنة مع إختلاف ثقافاتهم المعرفية ومستوياتهم العلمية وملكاتهم الإدراكية ، أو بمعنى آخر القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وهو حق يراد به حق ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولكن فهمنا نحن له هو عمل بشري يخضع لسقوف معرفتنا المتباينة ، ولا يعني ذلك أبدا أنه كما أطلق عليه البعض (حمال أوجه) ولكن يعني أنه صالح لكل المستويات الفكرية على أختلاف ما يصلهم من علوم نظرية وتطبيقية.
بقي أن نعرف الفرق بين السبيل (الوسيلة) والمنهج ، فالوسيلة كما سبق التعريف هي الطريق الذي نسلكه للوصول للغاية أما المنهج فهو الأسلوب الذي يمكن من خلاله أو بواسطته السير في طريق الوسيلة للوصول للغاية ، وبمعنى آخر لو أن الوسيلة هي الطريق فالمنهج هو البعير الذي نمتطيه عند سيرنا في الطريق ، لأن المنهج هو الأداء وكيفيته.
المنهج:
بالبحث في آيات القرآن الكريم عن المنهج لم نجد غير قوله تعالى "وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" المائدة48 ، ولما كانت الآية في سياق الحديث عن الكتب الثلاثة (التوراة) [انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون] 44، الأنجيل [وقفينا على اثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة واتيناه الانجيل]46 ، (القرآن)[ وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه]48 ، وبهذا وجدنا أنفسنا أمام ثلاث كتب (التوراة ، الأنجيل القرآن) وثلاث رسل (النبيون وعلى رأسهم موسى ، ثم عيسى ، ثم محمد عليهم جميعا السلام) وبذلك تكون الآيات الثلاث من سورة المائدة ، شارحة لمعنى قوله تعالى (شرعة ومنهاجا) لأن الشرعة هي النص ويندرج تحت منها التوراة والتي قال عنها الله أن فيها حكم الله ويحكم بها النبيون ، والأنجيل والذي قال عنه الله فيه هدى ونور ، والقرآن والذي جعله الله مهيمنا على ما عداه من الكتب.
أما المنهاج فهو عمل (النبيون ومنهم موسى) ثم (عيسى) ثم (محمد) عليهم جميعا السلام ، ولما أن المنهاج أرتبط بالنص ، فإن عمل الأنبياء والرسل ينصب على مدى فهمهم للنص (الأمر بالأداء أو الامتناع) ، فيصبح المنهاج هنا هو طريقة فهم النبي للنص وليس النص ذاته ، تأكيدا للحقيقة أن النبي يمتنع عليه التشريع بإنشاء النص ويقف فقط عند باب أداء النص وفقا لرغبة ومشيئة منشئ النص وهو رب العالمين.
ومن باب أن الشيئ بالشيئ يذكر ، فمن خلال فهمنا لمعنى (الشرعة والمنهاج) اللذين يمثلان (النص والأداء) يمتنع علينا السؤال المكرر دائما لمخالفي الفكر القرآني ، لو تركنا الأحاديث فكيف نصلي ونؤدي مناسكنا ، لأنه يكون مفهوم من النص القرآني أن كيفية الأداء هي عمل النبيون والرسل عليهم السلام لأنها تندرج تحت معنى المنهاج.
ولكن لم نجد في القرآن لفظ (منهج) وإن كان المنهج والمنهاج من الأصل (نهج) بمعنى سلك أو بدع طريقة وأسلوب في الأداء ، فمع إشتراك اللفظين في الأصل ومع الاتفاق على أن المنهاج من إختصاص النبيون والرسل ، فإن المنهج يكون من مقتضيات فهم أتباعهم للنصوص التي بلغوها وكيفية أداءهم للأوامر المنوط بهم وباممهم تنفيذها والتقييد بها.
بمعنى آخر لو تدبرنا نصوص (الشرعة) وعندنا هو القرآن بدون التقييد بمنهج للتدبر ، فسنصل لنتائج غاية في الغرابة والشذوذ على خلاف مقصود رب العالمين صاحب النص سبحانه وتعالى ، وما توصلنا إليه هو المستفاد من قوله (هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة) يوسف 108 ، وتصبح هذه الآية خير معين لنا لنعرف الفرق الجوهري بين الوسيلة والمنهج ، ولنعرف أيضا تلازمهما وعدم إنفصالهما ، فهما صنوان لا ينفصمان ، فالوسيلة هي الدعوة ، والمنهج على بصيرة.
فقوله (على بصيرة) لا تعني العلم المجرد ولكنها تشير إلي العلم المرتبط بأسلوب فهم ومنهج تطبيق وإلا لما تحققت القدوة في نسبة السبيل لنفسه (عليه السلام) ومن اتبعه
وأوضح مثال يمكن لنا ضربه لتوضيح مدى الشذوذ في النتائج لو فقدنا البصيرة في الدعوة وفهم النصوص ، هي ما يمكن أن يعتري فهم الأغبياء لقوله تعالى" ومن كان في هذه اعمى فهو في الاخرة اعمى واضل سبيلا"الاسراء72 ، بأن يحمل أحدهم لفظ العمى على معناه الحسي بدون تدبر لقوله تعالى " فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" الحج46 ، فيفهم لفظ العمى بمعناه الظني على أنه عمى القلوب وليس عمى الأبصار ، فوضع المنهج هنا والتقييد به لازم لجلاء عمى القلوب والتي قد ترى النصوص وتحفظها ولكن تعمى عن فهم مقاصدها فتضل وتتوقف قلوبهم عن التعقل وآذانهم عن السمع.
منهج أهل القرآن في تدبر آيات الله:
أولا: الدخول على القرآن بدون أي فكرة مسبقة تريد اثباتها بالقرآن ، وإلا فإن ذلك يعد اتباع للهوى المنهي عنه والمورد للمهالك ، لقوله سبحانه وتعالى " افرايت من اتخذ الهه هواه واضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله افلا تذكرون" الجاثية23 ، فمن دخل على القرآن بفكرة مسبقة يريد أن يثبتها فقد اتخذ الهه هواه وليس الهه الله سبحانه وتعالى لأنه لو كان النص القرآني يثبت عكس ما توصل إليه بفكره فسيحاول بشتى الطرق لي عنق الآيات واقتطاعها من سياقها ليثبت صحة فكرته المسبقة ، فلا يكون الهه الله صحب النص ، ولكنه سيتبع هواه ويحاول اثبات صحته من النص فيكون الهه هواه ، وهو بذلك يكون ضلاله عن علم بمعنى وجود حجم من التراكم المعرفي لديه ولكنه غير مرتبط بمنهج فكر واسلوب فهم ، فتحلله من المنهج ختم على سمعه وقلبه ووضع الغشاوة على بصره.
ثانيا: عدم اقتطاع الدليل والنص من سياقه ، كمن يقول لا أصلي لقوله (لا تقربوا الصلاة) مقتطعا النص من سياقه (وانتم سكارى) ، ذلك لأن آيات القرآن لا تفهم كجزر منعزلة ولكن تدبره يكون بالكلية إجمالا لا إفرادا لقوله تعالى" افلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء82 ، والشاهد في هذه الآية على وجوب تدبر القرآن كاملا قوله (لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) لكونه من عند الله سبحانه وتعالى فعند تدبرهم لآياته لن يجدوا فيه إختلافا فيحمل الأمر بالتدبر على الإجمال.
فتكون خير وسيلة لتدبر آيات القرآن وضعها في السياق لفهم أحكامها ومقاصدها لأن كل حكم في القرآن يأتي مرتبطا بمقصده ، كما أنه عند تدبر أمر قرآني يتم البحث في كل القرآن عن جميع الآيات التي تحكم الحالة التي نحن بصدد تدبرها ووضع كل آية في سياقها ، والنظر في محموع الآيات حتى نصل للفهم الصحيح.
ثالثا: التقييد بلغة القرآن فلغة القرآن هي أداة معرفته ، بمعنى فهم مفردات القرآن وفقا لمدلولها وقت نزول القرآن وعند أهل الجزيرة العربية وفهم أهل مكة لمدلول الكلمة وقت النزول هو المعنى المقصود لقوله تعالى" وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" ابراهيم4 ، فلو أن للكلمة المذكورة في كتاب الله أكثر من معنى عبر العصور المختلفة وجب علينا التقييد بمعناها في عصر رسول الله ، ولو كان لها أكثر من مدلول بإختلاف مكان ذكرها وجب التقييد بمدلولها عند أهل مكة والذين أنزل الله سبحانه وتعالىالقرآن فيهم لقوله تعالى" وكذلك اوحينا اليك قرانا عربيا لتنذر ام القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير" الشورى7.
رابعا: القواعد والنصوص القرآنية عامة مجردة ، وهي عامة غير متقيدة بأشخاص حتى ولو كان الحديث القرآني عن أشخاص بذواتهم فإن الحكم ينصرف إلي كل المكلفين بالنص القرآني ، ومجردة من حوادثها وأسباب نزولها تتعداها إلي كل حادثة وسبب يشترك في علة النزول لقوله تعالى" الر كتاب احكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" هود1 ، فالإحكام للنصوص والتفصيل للأحداث والأشخاص ، فالتفصيل لا يقييد الإحكام أو يخصصه والإحكام لا يفرغ التخصيص من محتواه أو يعدمه.
فالأحكام المستفادة من نصوص القرآن قابلة للتنفيذ على أي من الحالات التي تندرج تحت هذا الحكم ، وكذلك تنسلخ على كل من الأشخاص الذين يشملهم هذا الحكم ، فالقرآن مبرأ من أسبابه ، كما يقول فقهاء القوانيين المدنية على منظوماتهم القانونية ووقائعهم الجنائية أولى به القرآن الكريم كتاب الله المنزل الممتدة صلاحيته لتشمل كل زمان ومكان.
خامسا: شمولية القرآن لجميع الأسقف المعرفية ، بيد أنه وجب علينا الاتفاق أولا على أن القرآن كتاب هداية وإصلاح ، وليس كتاب في العلوم أو الفزياء أو الحساب أو الفلك ، وإن شملت آياته الحديث المجمل أو المفصل في كل هذه العلوم ، إلا أنه ليس كتاب تطبيقي للعلوم المذكورة أو غيرها ، وغن جاز البحث في آيات القرآن مستظلا بظلالها في أي من العلوم إلا أنه لا يمكن أن نعقد المقارنات بينه وبينها أو نأخذ بعض ما نعتبره حقائق علمية ونستدل عليه بالقرآن لأن جميع العلوم التطبيقية ونظرياتها قابلة للنقض والتعديل إلا أن كتاب الله يعلوا ولا يعلى عليه ويحكم ولا يحكم عليه ، فيجب أن يحذر الباحث من ذلك أيما حذر ، حتى أن من يصل لنتائج قرآنية وفقا لسقفه المعرفي فلا يجب عليه أن يعتبرها من المسلمات وإن كانت ضمن أسباب تثبيت إيمانه فلا بأس على ألا يلزم بها من ليس له نفس السقف المعرفي للباحث ، ويكتفى منه للجميع بقواعده الكلية وأخلاقه وآدابه والواضح من أحكامه والساطع من مقاصده.
الخلاصة:
إحتياج الباحث لمنهج عند الخوض في غمار التأصيل القرآني أو التنظير عنه ورد الشبهات وحل المسائل والحالات ، منهج ذو قواعد واضحة ودلالات ثابته ثم يعمل كل منا عقله وموروثاته ومكتسباته وثقافته للوصول للحق القرآني دون محاولة التجرء على الله أو كتابه ، لن تتحد النتائج ولكنها ستختلف بإختلاف أشخاص الباحثين إلا أنه عند الإلتزام بالقواعد البحثية لن نضل أو نصل للشذوذ الذي يصله البعض الذين لا يتبعون منهجا ولا يتخذون سبيلا غير أهواءهم وميولهم الشخصية.
هذا ما وفقني الله سبحانه وتعالى إلي نظمه وكتابته ، ففيما أصبت فيه فمن فضل الله علي وتوفيقه وما أخطأت فيه فمن جهلي وتقصيري ، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وهو سبحانه وتعالى من وراء القصد وهو يهدي السبيل
شريف هادي