ليس من قبيل المبالغة القول بأن مأساة اليسار المصري (خاصة أصحاب القومية العربية منه) هي المكون الأهم في مأساة الوطن المصري السياسية والثقافية، وما يترتب عليها من مآس اقتصادية واجتماعية، فرغم أن اليساريين المصريين يتمتعون منذ البداية بانقطاع صلتهم بالشارع والجماهير التي يتشدقون باسمها، إلا أنهم إلى جانب هذا أو رغماً عنه كادوا خلال النصف قرن الماضي أن ينفردوا بالساحة الثقافية والإعلامية، بحيث يمكن اعتبارهم القوة الضاربة للمثقفين المصريين، رغم أنها قوة ضاربة بالدفوف والأبواق والمزامير، ترتيلاً لشعارات جوفاء ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تكن يوماً جهداً خلاقاً لتأسيس مستقبل أفضل لشعب ينحدر باستمرار من سيئ إلى أسوأ.
قبل أن نقع في فخ التعميم يتحتم بداية أن نشير إلى أن نسبة ولو محدودة من أهل اليسار (الذين هم في الأغلب أصحاب فكر الاشتراكية العلمية) قد استفاقت قبل أو مع بدايات تسعينات القرن الماضي، بعد الانهيار المدوي للمعسكر الاشتراكي، الذي انتهى الأمر بدوله إلى الانتظار في طابور الالتحاق بحلف الناتو، وهو طابور أشد عذاباً وإلحاحاً من طوابير الخبز أمام الأفران في المدن المصرية، لكننا هنا بصدد مأساة مصر مع القطاع الأكبر من اليساريين (القومجيين والناصريين وبعض من الشيوعيين)، الذين بقوا أسرى شعارات جردها الزمن والتطبيقات العملية من أوهامها وادعاءاتها، فمنهم من استشعر الحاجة إلى تواصل مع شارع وجماهير دأبت على إدارة ظهرها لهم، فكان أن التحق بقافلة التأسلم المزدهرة والفتية، ليمنحوها ستاراً وواجهة هي في أمس الاحتياج إليها، ويستمدوا منها بالمقابل دماء حياة تُضخ في شرايينهم الجافة أو الميتة، ومنهم من آثر الانكفاء على نفسه ومقولاته يجترها، محاولاً التحايل على الحسرة بتمنية النفس بحلم عودة عجلة الزمن للدوران بعكس اتجاه عقارب الساعة، منتظراً لحظة "خراب شامل" تلم بالحضارة المعاصرة، يرث بعدها المهدي القومجي المنتظر الأرض اليباب، ليحيلها بعروبته "ذات الرسالة الخالدة" إلى فردوس أرضي.
في هذا الوضع المأساوي لليسار خسارة فادحة للوطن، ليس فقط بخسارة قطاع من صفوة موارده البشرية، وإنما بخسارة الدور المنوط باليسار في مرحلة حساسة من مصيره، يحتاج فيها إلى كل العلمانيين من بنيه، ليصدوا عنه طوفان التخلف الجارف، الذي يهدد الزرع والضرع وكل بنيان تم تشييده على مر الزمن في بر مصر المحروسة، لكن بؤساء اليسار من ناصريين وقومجية وجدوا أن بينهم وبين العلمانية هوة من كراهية الغرب العلماني المنتصر، فتركوا العاطفة تسوقهم للتحالف مع عدو العلمانية اللدود، المتمثل في التيارات الأصولية المتأسلمة، فكان أن طوحوا بسراويل علمانيتهم، ليخدموا كأغاوات لدى سيدهم الجديد صاحب العمامة والمسبحة والحزام الناسف.
في الفكر بمجالاته المتعددة نحتاج –كما في الجغرافيا- إلى يسار لكي يكون لدينا يمين، وليس هذا من قبيل التسامح الليبرالي، وإنما يعود لأساس فكر الليبرالية الجديدة، التي تحتوي ضمن مكوناتها وآلياتها فكرة الجدل Dialectic البناء، ليكون عماد قوة الدفع للتطور الإنساني، والضمانة لعدم التجمد أو تراكم الأخطاء حتى نقطة الانهيار، ذلك الجدل أو النفي Negation مختلف جوهرياً عن التناول الماركسي للجدل الهيجلي، الذي حوله إلى صراع دموي، يهدف فيه اليسار لتحطيم اليمين، وإقامة دكتاتورية البروليتاريا على أنقاضه، وهي النهاية التي لابد تعني نهاية الجدل، وسيادة شمولية أحادية صماء، حتى لو استمرت التنظيرات تلوك أحاديث عن استمرارية للجدل، تفتقد لمنطق وجودها في النهاية الطوباوية المنشودة.
اليسار الذي نفتقده هو الموقع الجديد الذي انتقلت إليه قوى اليسار في أوروبا، في حين بقى الجزء الأعظم من قوى اليسار في بلادنا عاجزاً عن تلك النقلة.. هو يسار عضوي ومنتم للمرحلة الحالية من الحضارة الإنسانية الليبرالية، والتي تتجلى في جانبها الاقتصادي في شكل رأسمالية معاصرة، تختلف جذرياً عما يصر الحرس اليساري القديم على مناصبته العداء، فالليبرالية أو الرأسمالية الجديدة ليست كما يتصورها أصحاب الفكر الشمولي عقيدة إيمانية صماء وشيطانية، إنما هي منظومة متكاملة، تقف فيها قوى توظيف المليارات كرأسمال جنباً إلى جنب مع قوى النقابات العمالية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني، وتوفر الليبرالية ساحة مثالية لحدوث عملية الجدل البناء والخلاق بين كل تلك المكونات، من خلال سعي كل الأطراف لتحقيق مصالحها، وهو جدل يتم على أساس فكرة الشراكة Partnership وليست فكرة العداءHostility التي تميز الجدل الماركسي ذا النظرة الداروينية المغلوطة والعوراء للحياة كقصة صراع بين الناب والمخلب، أو تصادم دائم بين وحوش وفرائس، فتحقيق البشر لمصالحهم يتم على طيف واسع من العلاقات، أهم مكوناته الاعتماد المتبادل Mutual dependence والتعاون cooperation ثم التنافس Competition، وأخيراً الصراع الذي تدلنا مسيرة الإنسانية على اتجاهه نحو التضاؤل متجهاً نحو نقطة الصفر، لحساب نمو أنواع العلاقات الأخرى، بعد أن كان في الماضي أداة التحولات الحضارية الكبرى في تاريخ الحضارة الإنسانية.
الموقع الذي نحتاج يساراً جديداً لكي يشغله هو موقع المعارض الشريك Partner، وليس المعارض المعادي والمتربص، والذي يسعى لاستئصال مقابله من الوجود، حتى يستطيع أن يقيم مكانه البناء الطوباوي الذي يتخيله، هكذا لن يحذو اليساري المنشود حذو مفكر مثل د. سمير أمين، الذي يهدر إمكانياته الفكرية في تلفيق ظواهر وملاحظات وأرقام منتقاة تعسفياً، لينظم منها تصورات تفتقد لأبسط قواعد المنطق والحياد العلمي، لتدله على النتائج الدوجماطيقية المفترضة لديه مسبقاً، ليخرج علينا بين الحين والآخر مبشراً بما يطلق عليه "الخراب الشامل" الذي أحدثته الليبرالية، وإن كان من حقه علينا أن نتركه ينتظر تحقق نبوءته السوداء، وننصرف نحن لتدبير أمورنا، وفقاً لقراءة صحيحة وأمينة وموضوعية للواقع الذي نحياه، وليس ذلك الواقع المتوهم الذي لا وجود له إلا في عقول تعجز أن إدراك حقائق عصرها، وتصر على رؤيته وحشره في قوالب ومفاهيم منتهية الصلاحية.
اليسار العضوي أو الشريك الذي تفتقده مصر يمثل القوى الضرورية لموازنة ساحة الليبرالية المفتوحة، إلى جانب (وليس في مواجهة) القوى التي تسعى لتراكم رأس المال والأرباح، لتدخل معها في جدل بناء، يحقق الطموحات المشروعة والممكنة للجميع، ولا يسعى لإحباط وتدمير فئة لحساب الأخرى.. فإذا كان الانفتاح المنسوب للسادات يستحق توصيف "السداح مداح" الذي أطلق عليه، فذلك لأنه قد أطلقت فيه (ولو جزئياً) حرية العمل لقوى رأس المال، في غياب تنظيمات تقوم بدور المعارض الشريك، واكتفاء قوى اليسار بفعاليات التنديد والشجب الحنجوري ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي حين أن القوى الرأسمالية برغم ما يوضع في طريقها من معوقات، تزداد مع الوقت قوة وتنظيماً (نتمنى لها التوفيق فيه)، فإن الجانب الآخر والجوهري (الذي يمكننا أن نطلق عليه تسمية يسار) غائب تماماً من حيث التنظيم والفاعلية، ومازال اليساريون يعتبرون أنفسهم معارضين من خارج الحلبة، ويقفون على أرضية العداء والرفض التام لكل ما يجري، منتظرين تحقق نبوءة "الخراب الشامل"، الذي ما أن يحدث حتى يظهر "عبد الناصر الجديد" ليملأ الأرض عدلاً أو نكسات!!
اليسار الذي نقصده عبارة عن تكتل من القوى التي تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية، وجمعيات حماية المستهلك والنقابات العمالية والمهنية، كذا جماعات المحافظة على البيئة ومنظمات حقوق الإنسان، ويضم بالطبع الأحزاب السياسية المعارضة، التي تتأسس معارضتها على أسس موضوعية، تقوم على مراقبة النتائج المتحققة نتيجة سياسات الحكم، ومقارنتها بالأهداف المرجوة، لتستخلص منها مناحي الخلل سواء في السياسات أو في تطبيقاتها، مقترحة لخطوات تصحيحية موضوعية، في حين لا نمتلك الآن إلا معارضة التشنيع والتهييج، التي لا جدوى منها غير تسول الشهرة والبطولة من شعب مغلوب على أمره من اليمين واليسار.
من الفطنة أن ينتبه اليسار والناصريون منه على وجه الخصوص للنتائج المتوقعة لتحالفهم مع الأصولية المتأسلمة، فمصير كل من حاول ركوب ذلك الحصان أن تدهسه سنابكه في ذات لحظة الانتصار إن لم يكن قبلها، ومن الموضوعية والأمانة والشجاعة أن يقر اليسار بفشل منظومته الفكرية المستقلة وبعبثية دعوة الوحدة العربية، التي حاولوا مناطحة الليبرالية والعولمة بها، وليس من هذه الصفات اختصار أسباب هذا الفشل في أخطاء التطبيق مع تبرئة النظرية، فالفشل جلي وفادح ومدو لكيلهما، لكن رايات "العدالة الاجتماعية" التي هي العنوان الرئيسي لليسار لن تسقط، إذا تواجد لدينا يسار جديد ومختلف يحمل رسالتها، ويدخل بها في جدل مع باقي مكونات منظومتنا الحضارية المعاصرة.