لبنان.. النقمة والنعمة

سعد الدين ابراهيم في السبت ٣١ - مايو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لبنان من أجمل البلدان العربية طبيعة، وأكثرها تنوعاً من حيث المِلل والنحَل والأعراق. وقد نتج عن طبيعته الخلابة هذه وتنوعه البشري ذاك نعمته ونقمته في نفس الآن.

ورغم مساحته الصغيرة (التي لا تتجاوز ١٠.٥٠٠ كيلومتر مربع) فإنه يحتوي علي جبال شاهقة تغطي الثلوج قمتها، وسهول خصبة، وسواحل جميلة تتخللها خلجان صالحة لموانئ طبيعية صالحة لإرسال واستقبال السفن من كل الأنواع والأحجام.

فوجود الجبال الشاهقة جعل من لبنان ملجأ آمناً لكل الجماعات المضطهدة في منطقة الشرق الأوسط علي مر العصور، فإليها لجأ المسيحيون الموارنة بعد أن خسروا معركتهم اللاهوتية مع أغلبية مسيحيي الكنيسة الشرقية في بلاد الشام، منذ القرن الرابع الميلادي.

ثم لجأ إليها المسلمون الشيعة من أنصار علي بن أبي طالب بعد أن خسروا معركتهم العقائدية والسياسية والعسكرية مع أنصار معاوية، في نهاية القرن الهجري الأول (الثاني الميلادي).

وإليها لجأ الدروز، إحدي الفرق المنشقة من أنصار الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر، خلال القرن العاشر الميلادي. وإليها لجأ أرمان وأكراد بسبب اضطهاد الإمبراطورية العثمانية - ثم الكماليين الأتراك - لهم في الربع الأول من القرن العشرين. وأخيراً، لجأ إليها فلسطينيون بعد هزيمة ١٩٤٨.

وهكذا أصبح لبنان بلداً للأقليات المهزومة واللاجئة بحثاً عن الأمن والأمان، خلال التاريخ. ومع ذلك تتوتر العلاقات بين هذه الجماعات اللاجئة نفسها بين الحين والآخر. وأحياناً يتصاعد هذا التوتر وينفجر في صراع مسلح أو حرب أهلية.

ولكن الاختراق الأوروبي، وخاصة الفرنسي، وجد في المسيحيين الموارنة استعداداً أكثر للتفاعل والتعاون. ومن ذلك أخذهم بالممارسات التعليمية والصحية الحديثة. وأدي ذلك بدوره إلي زيادة أعداد الموارنة ووعيهم، مقارنة ببقية السكان، فبدأوا في تحدي سلطة أمرائهم الدروز.

ونشبت حربان أهليتان خلال القرن التاسع عشر، أدت كل منهما إلي تبديل موازين السلطة بين طوائف لبنان لصالح الموارنة، وعلي حساب الدروز، بينما ظلت الطوائف الأخري علي حالها.

ومع النصف الأول من القرن العشرين بدأت الطائفة السُنية تأخذ بنفس أسباب التقدم التي كان الموارنة قد أخذوا بها قبل قرن ونصف. لذلك بدأوا بدورهم يتحدون سلطة الموارنة. وظلت فرنسا، التي كانت القوة الخارجية الأكثر نفوذاً وتأثيراً، تحابي وتدعم الموارنة. وانعكس ذلك فيما يسمي الميثاق الوطني، الذي رتب اقتسام السلطة التنفيذية ـ علي أساس أن يكون رئيس الجمهورية «مسيحياً مارونياً»، ورئيس الوزراء «مسلماً سُنياً».

وفي السلطة التشريعية كانت القسمة هي ما يسمي معادلة خمسة أعضاء لكل المسيحيين مقابل أربعة أعضاء لكل المسلمين. ولإرضاء المسلمين الشيعة، رئي أن يكون رئيس البرلمان منهم. ونعم لبنان - طبقاً لهذه الصيغة - بحوالي ربع قرن من الاستقرار والحرية والازدهار.

وحينما كان أحد الأطراف يحاول التلاعب بهذه الصيغة، كان شبح الحرب الأهلية يؤدي بالفرقاء إلي العودة إلي الأصل، وهو اقتسام السلطة بين الطوائف الأربع الرئيسية: الموارنة، والسُنة، والدروز، والشيعة.

وقد تناوبت ثلاث منها علي المراكز الأكثر هيمنة ـ إلا الشيعة، الذين ظلوا حتي نشوب الحرب الأهلية الأخيرة (١٩٧٥-١٩٩٠) هم الأضعف شأناً، رغم أنهم مع ذلك الوقت كانوا قد أصبحوا الأكثر عدداً.

ومن مفارقات التاريخ اللبناني والعربي أن يلعب الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي دوراً حاسماً هذه المسيرة الشيعية. كذلك أسهم فيها بنفس الحسم قيام الثورة الإسلامية الإيرانية عام ١٩٧٩.

من ذلك أن مقاومة فلسطينية انطلقت ضد إسرائيل من جنوب لبنان، بعد هزيمة العرب الكبري عام ١٩٦٧، وكانت إسرائيل بدورها ترد علي هجمات المقاومة بالإغارة علي جنوب لبنان، حيث يتركز الشيعة. ورغم التعاطف المبدئي لهؤلاء الشيعة تجاه المقاومة الفلسطينية، فإن الإغارات الإسرائيلية المتكررة خلقت توتراً مكتوماً بين شيعة لبنان والمقاومة الفلسطينية.

ثم تطورت أو تدهورت الأمور حتي وصلت إلي اجتياح إسرائيلي لكل لبنان في صيف ١٩٨٢، واحتلال بيروت، وإجبار المقاومة الفلسطينية علي مغادرة كل الأراضي اللبنانية، إلي تونس واليمن، وغيرهما من بلدان عربية لا تجاور إسرائيل بالمرة. ومع خروج الفلسطينيين أصبح المسلمون الشيعة في جنوب لبنان وجهاً لوجه مع احتلال إسرائيلي مُستغل ومُهين، فبدأوا يقاومون هذا الاحتلال بأنفسهم.

وتطورت حركاتهم الاحتجاجية السلمية ضد أوضاعهم في لبنان، التي حملت في البداية أسماء مثل «حركة المحرومين»، التي أسسها أحد رجال الدين الشيعة، وهو الإمام موسي الصدر، الذي اختفي في ليبيا فيما بعد، ثم إلي «حركة أمل» التي قادها المحامي الشيعي نبيه بري، إلي حركة مقاومة مسلحة، حملت اسم «حزب الله»،

قادها في البداية أحد رجال الدين الشيعة وهو السيد حسين فضل الله، ثم السيد حسن نصر الله. وقد نجحت حركة المقاومة المسلحة هذه في إجبار قوات الاحتلال الإسرائيلي علي الجلاء من آخر معاقلها في جنوب لبنان، عام ٢٠٠٠، بعد احتلال استمر ثمانية عشر عاماً. وكان هذا الجلاء دون قيد أو شرط.

في صيف عام ٢٠٠٦ حدثت مواجهة واسعة النطاق بين إسرائيل وحزب الله، استمرت ستة أسابيع، واستخدمت فيها إسرائيل كل قوتها العسكرية الرهيبة ـ جواً وبراً وبحراً. ودمرت معظم البنية الأساسية، ليس في جنوب لبنان فقط، حيث تتمركز قوات حزب الله، ولكن في كل لبنان، حتي طرابلس في أقصي الشمال. ومع ذلك صمد حزب الله،

ولم يستسلم أو يفرج عن جنديين إسرائيليين كان قد أسرهما. ولم تتوقف هذه الحرب إلا بتدخل من مجلس الأمن الدولي، وإرسال قوات من الأمم المتحدة لحراسة الحدود اللبنانية الإسرائيلية. وتضاعفت شعبية حزب الله وزعيمه السيد حسن نصر الله داخل وخارج لبنان في العالمين العربي والإسلامي.

بدأ حزب الله يتجه إلي الداخل اللبناني، لتسوية حسابات تاريخية ومعاصرة للطائفة الشيعية تجاه طوائف لبنان الأخري.

وضمن ذلك، رفض السيد حسن نصر الله نزع سلاح الحزب. بل بدأ الحزب يطالب بإسقاط الحكومة اللبنانية المنتخبة ديمقراطياً، بدعوي أنها حكومة عميلة للغرب عموماً، وللولايات المتحدة خصوصاً. ولتصعيد ضغوطه دعا أنصاره إلي اعتصام سلمي في الميادين الكبري في العاصمة بيروت، في ديسمبر ٢٠٠٦، ثم ضغط علي النواب والوزراء الشيعة لمقاطعة الحكومة والبرلمان.

واستمر السجال بين الفريقين ـ الموالين للحكومة والمعارضين لها، حوالي ستة عشر شهراً، ثم انفجر في الشهر الأخير إلي اشتباكات مسلحة، سقط فيها ثمانون قتيلاً.. وأصبح شبح الحرب الأهلية يخيم علي لبنان من جديد.

وهنا تدخلت دولة قطر بوساطة ناجحة بين الفريقين، حقق فيها الشيعة بعض مطالبهم وحقق الفرقاء الآخرون بعض مطالبهم، وفي مقدمتها انتخاب اللواء ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفض الاعتصام من ميادين بيروت. وتعرف هذه الصيغة في اللغة السياسية اللبنانية بتعبير «لا غالب ولا مغلوب»، وابتهج الشعب اللبناني بكل طوائفه.

والسلام عليكم ورحمة الله

اجمالي القراءات 12497