أولا :
* كان خصما عنيدا لا يهدأ ولا يمل و لا يقتنع ولا يكل، ولم يقنع بالجدال في المسجد فجاءني في البيت وعلى غير موعد, كنت وقتها اقرأ وأكتب وجهاز التسجيل يعلو بأغنية لفيروز عن شادي الذي ضاع، وفوجئت به زائرا ورحبت به على مضض, ورأيت على وجهه كراهية لصوت فيروز فأغلقت المسجل وتأهبت لقضاء جلسة جدال لا أكسب منها إلا ضياع الوقت والمجهود.
وكالعادة لم يقتنع. وكان يجلس معي في حجرة المكتبة فقمت أعطيه الكتب التي يقدسها واستخرج له منها الأدلة وأضعها أمام عينيه فانهارت كل دفاعاته إلا الخط الأخير منها والذي اعرفه جيدا, وهو تحويل الهجوم إلى شخصي كما يفعل الآخرون حين تعوزهم الحجة, وقدرت أنه لن يفعل فهو ضيفي وفي بيتي, ولكنه فعلها, إذ سكت ثم قال: كيف يؤخذ منك العلم وقد زرتك على غفلة فوجدتك تستمع إلى فيروز مع أن الاستماع للغناء مما يضيع العدالة ويذهب بالمروءة..!!
قلت له: ومن قال لك أن الاستماع إلى فيروز أو إلى غيرها من المطربات حرام ؟ وأذهله السؤال وسكت فأعطاني فرصة لأسترسل وكان يستمع إلي مدهوشا..
قلت له: إن المحرمات في كتاب الله استثناءات فالقاعدة هي الإباحة أما الحرام فهو استثناء من القاعدة, وليس هناك تحريم إلا بأية قرآنية لأن الله تعالى هو وحده صاحب الشرع " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ؟ الشورى : 21 " . ومن أشد المحرمات أن نحرم حلالا أحله الله فذلك اعتداء على حق الله تعالى في التشريع يقول تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . المائدة : 87 " .
وقلت له إن تفصيلات المحرمات جاءت في الوصايا العشر في قوله تعالى .. قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . المائدة : 151 : 153 " وجاء موجزها في قوله تعالى " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . الأعراف : 33 " وفي الآية الكريمة جعل الله تعالى من الحرام أن نتقول عليه تعالى أو أن نشرع ما لم يأذن به .
وقلت أن من أفتى بتحريم غناء المرأة احتج بأنه من الفواحش الظاهرة أو الباطنة أو أن صوتها عورة لأنه يحث على ارتكاب الفاحشة, وهذا ليس صحيحا على إطلاقه، فقد يكون هناك غناء فاحش يخالف الآداب والذوق ولكن الدولة تتدخل بمصادرته ومنعه, وذلك لا ينطبق على المصنفات الفنية المتداولة في حماية الدولة ورعايتها.
وقلت له: وحتى الغناء الفاحش المرذول ليس من الكبائر ولكنه مجرد( لمم )أي ما يلم به الإنسان في هفواته ولا يصل إلى مرتبة الفواحش الكبيرة, وهذا ( اللمم ) من الصغائر التي يغفرها الله تعالى للتائب, ومن منا لا يخلوا من هذا اللمم ؟ يقول تعالى عن صفات المحسنين " الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ . النجم : 32 " وقلت له :انك إذا قرأت تفسير ( اللمم ) في كتب التفسير وجدت الغناء الفاحش بل ومشاهدة الأفلام البرنو هينة بالنسبة لمعنى ( اللمم) عندهم .
* وأفاق صاحبي ليعود لنبرة الهجوم قائلا: أو ليس من الأفضل لك أن تسمع الابتهالات والأغاني الدينية وما فيها من دعاء وذكر لله ؟
وقلت له: لازلت تحتاج لفهم دينك حق الفهم.. أن الغناء خارج نطاق الدين هو من المباح مادام لم يكن من الفواحش، أما إذا دخلنا في العبادات من ذكر الله تعالى والدعاء فهنا ينبغي أن نلتزم بالتشريع الذي أوجبه الله تعالى علينا، ولا نؤدي تلك العبادات تبعا لأهوائنا ورغباتنا .
. ومثلا فإن ( ذكر الله ) تعالى من الفرائض التي شرع الله تعالى كيفيتها فقال " وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ . الأعراف: 205 " أي يكون ذكر الله تعالى بالتضرع وبالخشية وبصوت خفيض وبين الإنسان ونفسه، ولكننا نحول ذلك إلى مهرجان رقص وأغان، والله تعالى يقول في صفات المؤمنين حقا "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ " الأنفال 2 ) لا رقصت قلوبهم !!
. وحين ندعو الله تعالى فينبغي أن يكون ذلك تضرعا وخفية وإلا كان سخرية بالله تعالى واعتداء على جلاله في النفوس يقول تعالى " ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " .. " وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ : الأعراف : 55 , 56 . " فكيف ندعو الله في تضرع وخوف وطمع إذا كنا نغني ونرقص ونهلل ؟ . إن نبي الله زكريا حين دعا ربه أن يهبه ولدا نادى ربه بصوت خفي لم يسمعه إلا السميع العليم فرحمه ربه واستجاب له ونبهنا ربنا على أن نتذكر طريقة الدعاء المستجاب بالنداء الخفى المتضرع للرحمن فقال : " ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا . " مريم 2 ـ ) . لم يجعلها زكريا أغنية ولم يحشد خلفه الكورال , ولو فعل لكان ذلك استهزاء بالله تعالى وهزلا في موضع الخشوع ولا يمكن لأنبياء الله تعالى أن يفعلوا ذلك ..
* وقلت له: تخيل نفسك في مأزق رهيب جعلك تلجأ لله تعالى طالبا الفرج والدموع في عينيك ، هل يكون لديك متسع للغناء والرقص , إن حالتك هذه حين المصيبة هي ما ينبغي أن يكون عليه من يدعو الله تعالى في خوف وتضرع ..
* وقلت له : تخيل أن ابنك جاءك يطلب شيئا فأحضر معه طبلة ومزمارا ومجموعة من أصدقائه وجعل مطلبه في أغنية اخذ يغنيها ومعه أصدقاؤه : ألن تعتبر ذلك سخرية بك وإهانة لك ؟ إذا كان هذا ما ترفضه لنفسك فكيف تفرضه على ربك ؟ ..
* وقلت له إننا حولنا فرائض الإسلام من قراءة للقرآن والدعاء وذكر الله تعالى إلى لهو ولعب وغناء ثم التفتنا للغناء الدنيوي المباح فجعلناه فواحش وعورة .. أي قلبنا الموازين ..
* ثم قلت له: أليس من الأفضل لك أن تجلس أمامي مجلس التلميذ من أستاذه لتستفيد بدلا من سوء الأدب والهجوم ؟.
* وتركني خارجا ولم يعد ...
أو كما قالت فيروز: وضاع شادي .. ! !
ثانيا :
بناء على حادثة حقيقية كتبت هذا المقال ونشرته فى جريدة الأحرار فى سلسلة ( قال الراوي ) بتاريخ: 2 / 12 / 1991 ، وموجزه أن الغناء العادى حلال ، وحتى ما كان منه مبتذلا نابيا فاحشا فهو من اللمم والصغائر. أما الحرام فهو الغناء الدينى الذى تتحول به العبادات الى لهو ولعب.
وبعد مرور حوالى 17 عاما جاءتنى رسالة على البريد الاليكترونى وهى تدعو لتحريم الغناء العادى وإحلال الغناء الدينى محله. الموقع الذى ارسل الرسالة اسمه ( الطريق الى الجنة ) اى إنه أخذ تفويضا من الله تعالى بأن يحتكر معرفة الطريق الى الجنة، وأن يدعو اليها .. وبالتالى فان غيره لا يملك هذا الحق ..أى إنها نبوة أو رسالة سماوية جديدة جاءت لنا بخريطة الطريق الى الجنة التى لم تكن مع خاتم النبيين عليهم السلام ..
هل عرفتم لماذا نتأخر بينما يتقدم الجميع ؟
هل عرفتم لماذا ضاع شادى ؟؟