3 تجارب لدول انتقلت من براثن التخلف والدكتاتورية إلى أنوار الرفاهة والديموقراطية

في الجمعة ٠٣ - يوليو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

هي دول كانت إلى عهد قريب قبل نصف قرن، أكثر تخلفا ودكتاتورية من أي واحدة من البلدان العربية الإسلامية آنذاك، لكنها استطاعت بإرادة صلبة وعمل كاد شق طريقها نحو الرفاهة والرقي، حيث لكل منها قصة مميزة تستحق أن تحكى.

1- كوريا الجنوبية

يعلمنا هذا البلد أن الإرادة والتخطيط هما وحدهما من يصنعان التغيير، فالكوريتين معا الشمالية والجنوبية لهما نفس التاريخ وتحتضنهما نفس الأرض ويتنفسان نفس الثقافة، بيد أن واحدة منهما لازالت ترزح تحت نير الدكتاتورية والتخلف، بينما الأخرى حققت معجزة نهر “هان”.


كوريا الجنوبية إلى اليمين والصين إلى اليسار أعلاه بينما كوريا الشمالية في الوسط تغرق في الظلام

في سنة 1910 دخلت كوريا في فترة استعمار دامت 36 سنة من قبل اليابان، وبعد هزيمة الأخيرة في الحرب العالمية الثانية على يد الحلفاء، حصلت كوريا مباشرة على استقلالها سنة 1945، لتصبح البلاد كمسرح للصراع بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، تم على إثر ذلك تقسيم كوريا إلى واحدة شمالية تابعة للاتحاد السوفياتي وأخرى جنوبية تابعة لأمريكا، وبحلول منتصف سنة 1949 انسحبت القوات الأمريكية والسوفياتية من البلاد الكورية، دون أن يعني ذلك انحلال رابط الولاء للحكومتين الشمالية والجنوبية مع المعسكرين.

في هذه الفترة كانت كوريا الجنوبية واحدة من أفقر دول العالم، حيث لم يتجاوز آنذاك المعدل الفردي السنوي 80 دولارا، كما كانت تعرف دمارا اقتصاديا وفوضى سياسية، ثم جاءت الحرب مع شقيقتها الشمالية بين 1950-153، لتقضي بشكل شبه كامل على كوريا الجنوبية، إذ خلفت هذه الحرب خسائر اقتصادية وبشرية هائلة، جعلت كوريا الجنوبية تعيش أسوأ مراحل تاريخيها، وتقتات على المساعدات الخارجية بشكل شبه كامل.

وسط هذه الأزمة الاقتصادية والسياسية الطاحنة، وصل الجنرال “بارك تشونغ هي” إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري سنة 1961، لتبدأ كوريا الجنوبية منذ تلك اللحظة مرحلة جديدة في تاريخها، أول ما قام به هذا الرئيس العسكري الجديد هو تأسيسه مؤسسة “مجلس التخطيط الاقتصادي”، التي تضم أطرا إدارية عالية التكوين قدم معظمها من جامعات غربية، وقد تكفل هذا المجلس ببعث كوريا الجنوبية من جديد إلى الحياة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، من خلال وضع الرؤى وتحديد الأهداف ورسم السياسات في مشكلات التنمية والفقر والقضاء والتعليم، مع سهر لجان المجلس المنتشرة في كل الوزارات على تطبيق الاستراتجيات المرسومة وتتبع سيرها.

علمت كوريا الجنوبية أنه ليس لديها خيار آخر لمواجهة تهديد الأعداء وشح الطبيعة سوى الاستثمار في رأس مالها البشري الذي سينجيها من براثن التخلف، فعكفت على تدريب مئات الآلاف من الطلاب في مدراس التعليم والتكوين المهني، مركزة على العلوم والتكنولوجيا، حيث سيصل حجم الطلاب في الشعب العلمية إلى %70 سنة 1980، كما أرسلت الكثير من بعثات الطلاب والموظفين إلى أمريكا وأوربا من أجل الدراسة والتكوين، بالإضافة إلى إنفاق ما يقارب ربع الميزانية العامة على التعليم في تلك الفترة.

وعلى المستوى الاقتصادي، عقدت الحكومة الكورية الجنوبية شراكة مع القطاع الخاص، تعطي الدولة بموجبها امتيازات للشركات الخاصة مثل الحماية من الإفلاس ومن الاضطرابات العمالية، مقابل تحقيق تنمية اقتصادية للبلد، كما ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية كوريا الجنوبية بشكل قوي، سواء تعلق الأمر بالمساعدات والقروض وفتح الأسواق المالية أو الحماية السياسية والأمنية، ما سرع وتيرة التنمية بشكل جنوني، حتى أن معدل النمو لكوريا الجنوبية تصدر دول العالم منذ السبعينات إلى حدود نهاية القرن العشرين.

رغم هذا التقدم الاقتصادي في تلك الفترة فلا زالت كوريا الجنوبية تحت الدكتاتورية العسكرية وتعرف اضطهادا كبيرا لحقوق الإنسان خصوصا فئة العمال، لكن في سنة 1987 تم إسقاط الحكم العسكري على إثر احتجاجات قوية، ونصبت حكومة ديموقراطية، ومنذ ذلك الحين تشهد كوريا الجنوبية نموا وتقدما متسارعا على مختلف المجالات، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفنيا.

اليوم أصبحت جمهورية نهر “هان” قوة اقتصادية عالمية ودولة ديموقراطية بامتياز، بعدما كانت قبل عقود فقط دولة معدومة بائسة أكثر من أي دولة عربية آنذاك، لقد صارت بالفعل معجزة يضرب بها المثل في تحقيق التقدم والرقي.

وصل الانتاج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية إلى 1.304 تريليون دولار في سنة 2014، كما يفوق متوسط الدخل السنوي للفرد 30 ألف دولار بعدما كان في حدود 80 دولار في الستينات! ويعد الآن الاقتصاد الكوري ضمن 15 الاقتصادات الكبرى في العالم، كما تعتبر كوريا الجنوبية من بين 12 دولة في العالم الأكثر تقدما حسب تقارير الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وبفضل شركاتها العملاقة العابرة للقارات أصبحت دولة نهر “هان” قوة تجارية وصناعية وتكنولوجيا ضاربة.

 

أما على مستوى العلمي، فقد أصبح التعليم في كوريا الجنوبية ظاهرة ثقافية متجذرة في المجتمع الكوري يتحمل الجميع، حكومة ومؤسسات وأسرا، مسؤولية الرفع من جودته باستمرار، باعتباره المحرك الأساسي للطفرة الكورية الجنوبية، حتى أصبحت بعض جامعات سيول من بين 100 جامعة الأفضل في العالم، بالإضافة إلى احتضانها العديد من المؤسسات البحثية المرموقة، ناهيك عن أن كوريا الجنوبية هي رابع دولة عالميا الأكثر طلبا لبراءات الاختراع في السنة الماضية.

 

كما أضحت كوريا الجنوبية الآن ضمن الدول المصنفة في العالم ديموقراطيا، فهي تنفتح على تعددية سياسية حقيقية ولديها احترام كبير للحريات العامة والحقوق النقابية العمالية، مثلما تتوفر على قضاء نزيه، حتى أن رئيسة كوريا الجنوبية “بارك كونهيه” تقدمت باعتذار رسمي متلفز للشعب في أبريل من العام الماضي، لمجرد ثبوت شكوك بفبركة وكالة الاستخبارات الوطنية أدلة كاذبة تتهم عدوتها اللدودة كوريا الشمالية بالتجسس عليها، وهو الأمر الذي رفضه الشعب.

 

2- سنغافورة

قد يبدو للبعض أن تخلف البلدان العربية يعود إلى التباينات المذهبية والعرقية العربية، غير أن قصة سنغافورة تنسف هذا المبرر، هذه الدولة التي تتكون من مئات الأديان والأعراق واللغات استطاعت أن تحقق في حوالي 40 سنة دولة اقتصاد واستقرار بجدارة.

 

لم تحصل سنغافورة على استقلالها من الاستعمار البريطاني الذي استعادها بدوره من الاحتلال الياباني إلا في سنة 1965، حيث شكلت أول حكومة للجمهورية، لتجد دولة سنغافورة نفسها بدون تاريخ وبدون هوية وطنية وما يعنيه ذلك فعليا، وتواجه الفقر والأمية وقلة الموارد مع غياب البنيات التحتية والمؤسسات والجيش الذي سيحميها من بيئة معادية تحيط بها آنذاك، وفوق كل ذلك مشكلة توفيق نسيجها الاجتماعي الذي يحفل بالتناقضات.

في ظل هذا الوضع توجهت سنغافورة نحو نخبتها السياسية الجديرة بالثقة وعقدت عليها أمل بناء الدولة، فبرز “لي كوان يو” كأول رئيس وزراء لسنغافورة، والذي يعده الكثير الآن مهندس النهضة السنغافورية، قام بمعية فريق من النخبة السياسية بشق طريق التنمية والتقدم، من خلال الاعتماد على الثروة البشرية أساسا والاستثمار فيها، وتفضيل ذوي الكفاءات، وهو المبدأ الذي لا زال راسخا حتى الآن في سنغافورة، يقول “لي هيسين لونغ” رئيس وزراء سنغافورة وهو يشرح نهضة بلاده “أعتقد أننا ركزنا بشكل كبير على الحفاظ على نزاهة نظامنا فنحن نتعامل بصرامة مع الفساد كما نركز بشكل كبير أيضا على الأكفاء في تشغيل النظام مما يجعل القيادة فاعلة وقادرة على الإبداع، والترقيات من نصيب الأفضل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب”.

كانت سنغافورة في تلك الفترة، لها علاقة متوترة مع الدول المجاورة لها، أندونيسيا وماليزيا وملايو، التي طردتها من اتحادها، ما حذا بها إلى الانفتاح على أسواق أخرى عالمية لتنشيط اقتصادها، من أجل ذلك الغرض أنشأت هيئة حكومية تدعى “مجلس التنمية الاقتصادي”، المؤسسة التي ستتكفل بمهمة رسم السياسات الاقتصادية وجلب الاستثمارات الخارجية، فأقرت سنغافورة آنذاك حزمة من الحوافز الاستثمارية، منها إلغاء جميع الرسوم، فأصبحت مركز جذب للاستثمارات وتنقل رؤوس الأموال بحرية، وهو ما ساعد سنغافورة كثيرا في تحريك عجلة تنميتها الاقتصادية.

بالموازاة مع ذلك، قامت القيادة السنغافورية بوضع مناهج تعليمية حديثة تتماشى مع التوجهات العالمية، وتلبي حاجات سوق العمل، مقتبسة من الدول الأوروبية وأمريكا الرائدة في هذا المجال، ورسمت سياسات تربوية حققت نجاحا باهرا، بإنتاجها كفاءات عالية التكوين، مركزة في ذلك على بناء المعلم وقدراته القيادية.

عرفت سنغافورة نظاما برلمانيا ديموقراطيا منذ استقلالها، وإن كان يصفه البعض بالصرامة في بداياته، تتركز فيه السلطة التنفيذية في يد رئيس الوزراء، بينما الرئيس لديه سلطة رمزية، وقد عزمت سنغافورة على محاربة كل أشكال الفساد بصرامة منذ بداية عهدها، مستعينة في ذلك بنظام قضائي عادل، ما جعلها تتبوأ اليوم المراتب المتصدرة في تقارير منظمة الشفافية الدولية (ترانسبرانسي) كأقل دول العالم فسادا بعد الدول الاسكندنافية، مثلما غرست ثقافة التعايش والتآلف في أنظمتها الاجتماعية والتربوية واعتماد معيار الكفاءة وحده للتفضيل، الأمر الذي خلق مجتمعا منسجما رغم أنه غير متجانس.

 

هذه الجزيرة الصغيرة في جنوب شرقي آسيا التي لا يتعدى سكانها 5.5 ملايين نسمة، ولا تتجاوز مساحتها 140 كلمتر مربع، هي الآن في الواقع رابع أهم مركز مالي في العالم، وخامس أغنى دول العالم من حيث احتياطات العملة الصعبة، كما أنها تصنف من الدول الأكثر استقرارا، ما يجعلها مشتلا لرؤوس الأموال والاستثمارات والمراكز التجارية الكبرى في العالم، علاوة على وصول معدل الدخل الفردي للمواطن السنغافوري إلى مستويات قياسية تصل إلى 60 ألف دولار !

3- البرازيل

السامبا بلاد الجمال والطبيعة، والمرح والكرة، والقهوة والكاكاو، ذات الـ 300 مليون نسمة، هناك تنصهر كل أعراق حضارات العالم، الأوروبية والأسيوية والإفريقية والعربية في بلد واحد، ورغم كل هذه الثروات الطبيعية والبشرية التي تزخر بها البرازيل فقد غيبت تحت الحكم الدكتاتوري لمدة طويلة، ولم تستفق من سباتها إلا قبل ثلاثة عقود من الآن.

 

لم تتخلص البرازيل من الدكتاتورية العسكرية التي دامت مائتي عام بعد الاستقلال من الاستعمار البرتغالي إلا في سنة 1985، ورثت من العهد الدكتاتوري تركة مثخنة بالتخلف والفقر وعنف العصابات، لتشرع منذ ذلك الحين في مسار جديد في تاريخها.

قامت البرازيل بخصخصة مؤسساتها العمومية لشركات دولية دائنة لها، لتجعلها شريكا في النهوض بمجموعة من القطاعات العمومية، كما وضعت في سنة 1695 خطة نوعية تعرف بـ”بلانو ريال”، التي من خلالها ثبتت الأ">

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

     

    استطاعت بلاد السامبا خلال عقدين من الزمن فقط، الانتقال من دولة ترزح تحت وطأة التضخُّم والفقر والدين، إلى دولة ذات اقتصاد متطوِّر وصاعد، بحيث أضحت خامس اقتصاد في العالم، كما صارت لاعبا مهما لا يمكن القفز عليه في الساحة الدولية السياسية والاقتصادية.

    يقول الكاتب لاري روهتير في كتابه “صعود البرازيل: بلاد تشهد تحولا” إن “وصول البرازيل لمصاف الدول الكبرى المتقدمة هي مسألة وقت فقط ريثما تتغلب على مشكلات الفوارق الاجتماعية والفساد، وأعتقد أنها تسير اليوم في المسار الصحيح”، وهي القضايا التي تحدث بين الفينة والأخرى احتجاجات واسعة، كان آخرها اشتعال مظاهرات صاخبة منتصف الشهر الماضي بعد كشف فضيحة الفساد لشركة بتروبلاس البترولية.

    اجمالي القراءات 3414