غضب الجنازات نبيلٌ كما حزنها.
يجب أن تكون جنازة الشهيد المستشار هشام بركات، أمس، هى آخر جنازات الأولويات الخاطئة.
طبعًا كلنا مستعدون للشهادة، فضلاً عن أن أحدًا منّا لا يمكن أن يحول بينه وبين ساعته إن حانت بمشيئة الله وأمره، لكنها فعلاً الأولويات الخاطئة التى تمشى بنا إلى الجنازات.
لقد طلب الرئيس عبد الفتاح السيسى، حارًّا وحادًّا، فى تصريحات الجنازة، أن لا نتوقَّف عند الحاجات الصغيرة وأن نعرف أن هناك معركة كبيرة جدًّا ضد الإرهاب) ماتنشغلوش عنها.(
هذا مطلب غاية فى الأهمية والإلحاح.
لكن يا ريت الرئيس ينفّذه هو أولاً على جهده وسياسته.
هنا عنوان الاختلاف فى هذه الجنازة عن غيرها، وصف الرئيس النائب العام بأنه صوت الشعب، وأن المستهدف باغتياله هو اغتيال صوت الشعب، إذن الواجب على الرئيس الآن أن ينفض يده من تلك التفاصيل الكثيرة والحاجات الصغيرة التى ينشغل بها، من رصف طرق وبناء كبارٍ وتطهير ترع ومصارف وتسقيف بيوت أكثر فقرًا وتوزيع رؤوس ماشية ولمبات «ليد»، ويتفرَّغ للحرب الكبرى.
سيدى الرئيس: راجع نفسك.
أعرف أن الرئيس مهموم بشعبه، ويرى أن مواجهة الإرهاب تنجح عبر التنمية ومواجهة الفقر والبطالة.
هذا جميل جدًّا وخاطئ تمامًا.
تخلَّص أرجوك يا سيادة الرئيس من هذا المفهوم، لأنه يعطِّل الوطن ويعوّقه ويؤجّل معركتنا فى محاربة الإرهاب.
لا توجد أسباب اقتصادية للإرهاب، فالإرهاب موجود ومنتشر بين طبقات غنيَّة ثريَّة ومستورة وفقيرة على السواء، ولا يمكن أن تصدّق تلك المزاعم التى طِهقنا فى دحضها وتعريتها التى تربط الإرهاب بالفقر، فالثابت أن الإرهاب فى السعودية والكويت وفرنسا وألمانيا مثلاً وهى ليست أبدًا شعوبًا فقيرة، ومعظم قتلة الإرهاب فى سوريا والعراق سعوديون قادمون من البلد الأغنى فى الوطن العربى، ولا تنسَ أسامة بن لادن وأيمن الظواهرى، بل وكل الإخوان.
هل هم فقراء لجؤوا إلى الإرهاب نتيجة العوز؟
لا توجد أسباب اقتصادية للإرهاب (ولا سياسية أيضًا ولا أمنية كذلك، وتوقَّفوا عن التشخيص الخاطئ للظاهرة)، طبعًا مواجهة الفقر ضرورة حتمية، لكن ليست حربًا ضد الإرهاب، فضلاً عن أنها ليست الأولوية حين أحارب الإرهاب بالمناسبة.
إذا كان الرئيس السيسى يطالبنا بالانشغال بالقضية الكبرى وهى محاربة الإرهاب، فإننا ندعوه إلى تطبيق هذا فورًا على سياسته.
إنه رئيس محاربة الإرهاب، هذا ما نريد أن نراه معه ونعايشه مع سياسته من هنا ورايح.
وهذا يقتضى أن نعرف أن المواجهة الأمنية ليست وحدها الحل.
فضلاً عن أن المساءلة القضائية أيضًا ليست حلاًّ وليست بالقطع الحل.
لقد لاحظنا هذا الاهتمام الشديد من الرئيس فى تصريحات الجنازة بتغيير القوانين أو ربما البنية التشريعية للإجراءات القانونية للتعجيل بتطبيق العقوبات على الإرهابيين المدانين.
مرة أخرى هذه الأولويات الخاطئة تتصدَّر.
أفهم طبعًا أن الردع ضرورة لمواجهة الإرهابيين، لكن دعنا نذكركم جميعًا أن الموت لا يخيف الإرهابيين كما لا يخيفنا تمامًا، بل إنهم يذهبون بأقدامهم لتفجير أنفسهم.
ربما الأحكام القضائية العاجلة تروى ظمأ الضحايا، لكنها لا تردع الجناة، وكم من إعدام جرى منذ عصر الخوارج حتى الآن ولم يمنع من ظهور الفكر الإرهابى والإرهابيين وتنظيماتهم، فضلاً عن التخوُّف المشروع من انحراف التطبيق من غاية نبيلة وهى مواجهة الإرهاب إلى منزلق بغيض وهو انتهاك الحقوق.
لكن المطلوب على نحو حقيقى عاجل وجذرى هو تحويل دفّة الاهتمام الرئاسى.
لندع الحكومة يا سيادة الرئيس مشغولة بتطوير الطريق الصحراوى ورصف الطرق واستصلاح الأراضى، ولنترك لصندوق «تحيا مصر» مهمة التطوُّع والتبرُّع،تتابع وتسائل وتحاسب ولكن تنشغل فقط كرئاسة بالحرب العظمى.
حرب تحرير العقل المصرى.
ماذا نفعل؟
أول ما نفعله أن نضع خططًا فورية قصيرة الأجل وطويلة المدى، وأن نعيّن حولنا مجلسًا من المفكرين والباحثين والخبراء لصناعة الأفكار.
الرئيس يستعين بخبراء فى التعليم والعلوم والصحة والاقتصاد فى مجالس استشارية، بينما لا تجد حوله مفكرًا واحدًا ولا مجلسًا يخص الإرهاب، فهو يعالجه بالطريقة الأمنية وكأنه يخص مجلس الدفاع الوطنى فقط، فضلاً عن تكليفه لمؤسسة الأزهر الفاشلة والمخترقة بشيخها الذى يمثِّل هو نفسه عبئًا مذهلاً على قضية التجديد الدينى فى مصر، فما الذى نتوقّعه إذن؟
يبقى أن أول ما يفعله الرئيس هو أن يضع اهتماماته الخاصة بالمشروعات الكبرى جانبًا، نعم جانبًا، فالمشروع الأكبر هو الحرب على الإرهاب.
وأولى خطواته، الاستثمار فى الأمن.
فالحقيقة المفجعة أن جهاز الأمن يعانى فقرًا تكنولوجيًّا وضعفًا فى الإمكانيات وهشاشة فى التدريب والتأهيل وقلَّة فى العدد والكوادر وانحدارًا فى الخدمات وعجزًا فى المبانى وإهدارًا لمعظم ميزانيته فى الأجور «المتفاوتة»، وليس فى الإمكانيات والقدرات والتكنولوجيا والتدريب والتأهيل، لا يمكن مع وضع كهذا إدارة حرب كفؤة ضد الإرهاب (بل وحتى استعادة الأمن اليومى العادى للمواطن)، بل الإنجازات التى تمت حتى الآن، وهى مهمة فعلاً وكبيرة، إنجازات الذكاء المصرى فى التعامل بأقل الإمكانيات، إضافة إلى الشجاعة والحماسة، أما المواجهة التكنولوجية والمعلوماتية والعلمية فليست على مستوى الطاقة المطلوبة.
وبينما ننشغل جدًّا فى بنية أساسية لا أظن أنها ضرورة عاجلة، نغفل عن البنية الأساسية للأمن التى نحتاجها بقوة، لسرعة الإنجاز ولتعظيمه، فضلاً عن أن تحقيق الأمن يستدعى فورًا الاستقرار، والاستقرار الأمنى باب الاستثمار والسياحة دون شك.
الحرب الحقيقة التى يجب أن يتفرَّغ لها الرئيس هى حرب تجديد الخطاب الدينى بدلاً من أن تتحوَّل عنده إلى كلمات طيبة ومؤثّرة فى احتفالات دينية عابرة، ثم تسليم المهمة إلى شيخ أزهر ثبت بالوثائق أنه ينسّق مع ملك دولة عربية وليس مع رئيسه المصرى مثلاً فى اتخاذ قراراته، وأنه مشغول بقضايا الفتنة المذهبية التى تهتم بها السعودية بوهابيتها عن الإسلام الوسطى بالمفهوم المصرى، وللمفتى الذى ينقل ويسرق فقرات من كتب سيد قطب فى مقالاته، مستشهدًا بها لهداية العوام من المسلمين، ولوزير الأوقاف الذى يقف على وزارة مخترقة ومتسيّبة ومهلهلة ومنخورة بالفساد، ثم يسلّم الرئيس نفسه إلى الأحزاب الدينية التى تقتل القتيل وتمشى فى جنازته، فهى الأحزاب التى ترى:
أن مصر لا تطبق الشريعة.
أن قضاء مصر لا يحكم بما أنزل الله.
أن القانون الوضعى مخالف للشرع.
أن اللجوء إلى المحاكم كفر.
كيف بالله عليك تريد أن تحارب الإرهاب يا ريس وأنت تشمل مروجيه وبائعى أفكاره بمحبتك ورعايتك ودعمك بل وثقتك؟!
كل يوم يمر على مصر يولد فيها إرهابى جديد مستعد ليفجِّر نفسه فينا ويقتل منّا ما شاء له جنونه.
تعديل القوانين لن يفعل شيئًا أمام موجات الهوس الدينى.
لن يواجهه إلا حرب العقول فى التعليم والإعلام والثقافة والجامع وشبكات التواصل الاجتماعى، إلى جانب المهارة والكفاءة واليقظة والإمكانيات المتطورة والعقول المؤهلة والشرطة المتدربة، حتى لا يتكرر عار الاغتيال السهل المجانى للنائب العام.
سيدى الرئيس، قلت إن دم النائب العام فى رقبتنا كلنا وليس فى رقبتك وحدك.
لكننا لسنا صناع قرار، نحن أصحاب رأى وقُلناه، أما القرار فهو قرارك، ولهذا فإن دم النائب العام فى رقبتك، لأنك رئيسنا الذى يتحمَّل كامل المسؤولية.
سيدى الرئيس، تفرَّغ لمعركتك، وَدَع البنية الأساسية والقرارات الاقتصادية لحكومة كفؤة ذكية، ولرئيس حكومة لا ينتظر طول الوقت تعليماتك، ويعتبر أن أحلامك أوامر!
سيدى الرئيس: الوقت يمر!