أمن الدولة يا أمن الدولة.. فين الأمن وفين الدولة؟
25 يناير هو اليوم الذي يُوافق عيد الشرطة المصرية، كما أنّه اليوم الذي اختاره المتظاهرون للخروج إلى الشوارع والميادين، في انتفاضة عامة ضد النّظام. في هذا اليوم تحددت المطالب الرئيسية: رفع الحد الأدنى للأجور، إقالة وزير الداخلية حبيب العادلي، وحلّ جهاز أمن الدولة، قبل أن يتطور الأمر إلى “الشعب يريد إسقاط النظام”.
28 يناير أو جمعة الغضب، هو اليوم الذي شهد سقوط نحو ألف قتيل من المتظاهرين على يد قوّات الشرطة، وهو نفسه اليوم الذي شهد هجومًا واقتحامات لمقار الشرطة. وزير الداخلية الأسبق، منصور العيسوي، قال عن هذا اليوم: “الشرطة انتقلت إلى رحمة الله في 28 يناير”. وفي اعتصام ميدان التحرير علّق المتظاهرون لافتة تحمل المطالب الرئيسية لـ”الثورة المصرية”. من بين تلك المطالب، برز مطلب حلّ جهاز أمن الدولة.
في 15 مارس 2011 أصدر منصور العيسوي، وزير الداخلية آنذاك، قرارًا بحلّ جهاز أمن الدولة، بكافة إداراته وفروعه ومكاتبه في أنحاء الجمهورية، وأنشأت قطاعًا جديدًا تحت اسم الأمن الوطني تواجدت مقاره في نفس مقار جهاز أمن الدولة السابق.
إذًا، وفقًا لوزارة الداخلية، لم يعد هناك جهاز أمن الدولة بإداراته سيئة السمعة، خاصة تلك المتعلقة بمتابعة الأنشطة السياسية والدينية، لكن هل صدقت وزارة الداخلية حقًا في تصريحاتها؟ وهل انتهى الدور الذي كان أمن الدولة يلعبه في الأنظمة السابقة لثورة يناير؟
من مكتب الخدمة السرية إلى أمن الدولة.. تاريخ سيّء السمعة
يعود تاريخ جهاز أمن الدولة إلى عام 1913، حين كانت مصر خاضعة للاحتلال الإنجليزي، الذي سعى بكل حيلة إلى تقويض جهود المقاومة المصرية، لذلك أُنشئ قسم المخصوص، وكان يُعرف أيضًا بمكتب الخدمة السرية. يُعد أول جهاز للأمن السياسي في الشرق الأوسط وكان تابعًا في إدارته إلى المندوب السامي البريطاني، قبل معاهدة 1936 التي انتقلت إدارته على إثرها إلى السراي الملكي مباشرة، دون أي تدخل من قبل وزارة الداخلية، التي أسست بدورها قسم القلم السياسي، كأوّل جهاز شرطي منوط به متابعة النشاط السياسي في مصر، كما أسست الوزارة له إدارتين، إحداهما في القاهرة والأخرى في الإسكندرية.
وللقلم السياسي شهرة بتاريخه سيء السمعة، وتعاونه المباشر مع الإنجليز في إجهاض انتفاضة الجلاء التي نظمتها قوى المعارضة المصرية من 1946 وحتّى حريق القاهرة الكبير، وكانت من بين مطالب تلك التظاهرات الإفراج عن المعتقلين، ثمّ تطورت إلى المطالبة بإلغاء القلم السياسي تمامًا.
اقرأ أيضًا:الحرائق السياسية للقاهرة.. عندما تُصبح النيران نتاجًا سياسيًا للسلطة
لكنّ البعض يذهب بتاريخ أمن الدولة، أو البوليس السياسي، إلى أبعد من ذلك، تحديدًا مع الثورة العرابية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، عندما شمل جهاز الشرطة قسمًا خاصًا بتعقب أنصار أحمد عرابي، ثم استخدم نفس القسم على الحدود المصرية السودانية؛ لتتبع أحداث الثورة المهدية في السودان. سُميّ الجهاز في هذا الوقت، بـ”جهاز أمن الحدود”.
استخدم الإنجليز مكتب الخدمة السرية خلال الحرب العالمية الأولى لضمان استقرار الوضع الأمني داخل مصر، لذلك يُشار إليه باعتباره السبب في نفي الكثير من المواطنين خارج البلاد خلال تلك الفترة، درءًا لأي قلاقل سياسية. لاحقًا وبعد ثورة 1919 توسّع المكتب، وشمل عدّة إدارات، عُيّن فيها لأوّل مرة مصريون، قبل أن تنتقل إدارة المكتب كاملة إلى السراي الملكي، تلك الإدارات جميعها ضلعت في مراقبة النشاط السياسي وتعقّب السياسيين وأنشطتهم، بخاصة السريّة منها والموجهة ضد الإنجليز.
وبالجملة، فقد توسّع البوليس السياسي في مواجة الأنشطة السياسية غير الرسمية، وجنّد لذلك جيشًا من المخبرين، وتطوّر الأمر إلى تجنيد من كانوا خصومًا سياسيين، بل إن بعض الأبحاث –التي لم نتبين صحتها- تفيد باستخدام البوليس السياسي لرموز فكرية وثقافية، بينها على سبيل المثال طه حسين!
عرف الجهاز دروسًا كثيرة لأوّل مرة في تاريخ أجهزة الأمن السياسي، منها استخدام التعقّب بغير رجال البوليس المُخبرين، الذين أصبحوا معروفين، وأنشئت فرقة من أفرادٍ بعيدين كلّ البعد عن الشك؛ للقيام بأعمال التعقب بأساليب عجيبة- ميلاد حنّا زكي.
وخلال الفترة السابقة لحركة الضباط في الثالث والعشرين من يوليو 1952، تضخّمت أجهزة البوليس السياسي، وتعقّد دورها، داخل الجامعات، وبين الأحزاب والحركات السياسية العلنية والسريّة، لذا فإن إداراتها تعددت لمزيد من التخصص فيما بينها، فأنشأ مكتب خاص بمكافحة الشيوعية والحراك العمّالي، وآخر لمجابهة جماعة الإخوان المُسلمين. ومع إضراب أفراد الشرطة في أكتوبر 1947، بدأت تتشكل إدارات سرّية لمراقبة أفراد الشرطة أنفسهم. كما وصلت مكاتب البوليس السياسي إلى جميع محافظات الجمهورية.
أيضًا خلال تلك الفترة، أنشأ البوليس السياسي فرعًا خاصًا بمراقبة النشاط الصهيوني، لكن وبحسب المؤرخ عبدالوهاب بكر (مؤلف كتاب البوليس المصري)، فقد تورّط البوليس السياسي في جرائم تخص تلك القضية، سواءً جرائم فساد مالي، أو تلك التي يمكن تسميتها بجرائم الخيانة الوطنية، وذلك بسبب إفراجه عمّن كان يُلقي القبض عليهم بتهمة الانضمام للحركة الصهيونية، مُقابل رشوة مالية!
بالإضافة إلى ذلك، بدأت تبرز كلمة تعذيب ملازمة للبوليس السياسي، على ألسنة المصريين، فضلًا عن اعتماده أساليب الاغتيالات السياسية، وظّل الحال كما هو عليه حتى تحرك الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، والذي لم يُغيّر كثيرًا في مهمة البوليس السياسي ونمط أدائه لها.
على الرغم من التغييرات الجذرية العميقة التي قامت بها ثورة 23 يوليو في معظم الحياة المصرية، إلا أنه –وهو الأمر المذهل- ظلّ كثيرًا من آليات عمل البوليس السياسي مستمرة، ومارسها الجهاز النظير الذي أقامته حكومة الثورة في أغسطس 1952، تحت اسم المباحث العامة – عبدالوهاب خضر.
23 يوليو.. البوليس السياسي لا يفنى ولا يتغيّر!
أدرك الضباط الأحرار أهمية إلغاء البوليس السياسي بأقسامه وإداراته بالنسبة لفئات الشعب المختلفة، تحديدًا جمال عبدالناصر هو من أدرك أهمية ذلك، إذ تولى منصب وزير الداخلية في الفصل الأوّل من حركة الضباط (18 يونيو إلى 5 أكتوبر 1953)، إلا أن عبدالناصر كان مدركًا أيضًا لدور البوليس السياسي الفعّال في حماية النّظام؛ لذا استبدل به إدارة جديدة أسماها المباحث العامة. كل الأدلة والقرائن تؤكد أنها لم تختلف كثيرًا عن قسم المخصوص أو إدارات القلم السياسي، بل ربّما توسّعت في اعتماد التعذيب كمنهجية في استجواب الخصوم السياسيين.
عقب ذلك أسندت وزارة الداخلية إلى زكريا محيي الدين، وكان عبدالناصر لا يزال وقتها نائبًا لرئيس الجمهورية محمد نجيب، ثمّ بعد توليه الرئاسة في 1956، أوكل عبدالناصر إلى زكريا محيي الدين مهمة إنشاء جهاز المخابرات العامة داخل وزارة الداخلية، والذي اعتمد في تأسيسيه على الخبرة التراكمية لإدارة المباحث العامة (البوليس السياسي سابقًا).
ربما لا يعرف البعض أن جهاز المخابرات العامة، خرج من رحم جهاز الأمن السياسي التابع لوزارة الداخلية، والذي أعيد تنظيمه وهيكلته تحت مسمى “إدارة المباحث العامة”، عقب قيام حركة الضباط عام 1952 – خيري منصور.
في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، أعيد تسمية الجهاز، وبات يعرف بـ”مباحث أمن الدولة” دون أن يمسه تغيير في بنيته التنظيمية، أو المهمة المنوط به أداؤها، وإن كان قد حصل على مزيدٍ من الصلاحيات، وتوسعت سلطاته داخل الدولة، لدرجة تدخله في اختيار الدبلوماسيين وكبار موظفي الدولة، بناءً على سلوكهم السياسي، ومدى رضا الجهاز عنهم.
قانون الطوارئ.. عصا سليمان لأمن الدولة
منذ أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قانون الطوارئ في 1958، وظل العمل به حتى خلع الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، ثمّ بُعيد انقلاب الثالث من يوليو 2013، عادت الحكومة إلى استخدام قانون الطوارئ، فضلًا عن إصدار قانون مكافحة الإرهاب في عهد عبدالفتاح السيسي.
خلال الفترة منذ إصدار قانون الطوارئ لأول مرة، وحتى أحداث ثورة يناير، اعتمد جهاز أمن الدولة على قانون الطوارئ لتجذير سلطاته، وتأسيس تضخمه على أساس يبدو مبررًا قانونيًا. الطوارئ أتاحت لأمن الدولة إبراز ممارساتها على السطح، عبر تنفيذ اعتقالات واسعة وعشوائية بناءً على الاشتباه فقط، كما أنّه أصّل للاختفاءات القسرية، وهي إحدى أبرز ملامح جهاز أمن الدولة، والتي توشح حقيقة السلطة التي استطاع تملكها على مر سنوات وعقود داخل الدولة المصرية.
تضخّم أمن الدولة لم يقتصر على قطاعات بعينها، بل وصلت أذرعه إلى كافة أنحاء الجمهورية، عبر جيش كامل من المخبرين والمرشدين الأمنيين، بل إن سلطات أمن الدولة وصلت إلى حد اختيار المُعينين في المناصب العليا داخل شركات القطاع العام. كما أن بعض التقارير تذهب إلى تجسس أمن الدولة على أجهزة الدولة نفسها، بل تجسسه على الأجهزة المخابراتية الأخرى. لاحقًا أثبتت الوثائق المُسربة من أمن الدولة ما ذهبت إليه تلك التقارير.
لقد كان قانون الطوارئ السلاح الأبرز في يد هذا الجهاز، ومع الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي مرّت بها مصر على مدار العقود الماضية، تحديدًا بُعيد نكسة 67 ثمّ حرب 73 ثم اتفاقية السلام مع إسرائيل، فاغتيال السادات، ثمّ ما عرف بالحرب على الإرهاب في فترة الثمانينيات والتسعينيات؛ كلّ ذلك صنع من هذا الجهاز القوّة الأولى داخل الدولة المصرية، التي لجأ إليها كل رئيس لاستتباب الأمر بين يديه.
أصل قوّة أمن الدولة يعود إلى قانون الطوارئ، الذي منح سلطات واسعة للأمن، ومع استمرار العمل به تضخّم جهاز أمن الدولة، وأصبحت له اليد العليا والسلطة الحقيقية التي تتحكم في جميع المؤسسات، وعادة ما تصدر تصريحات من ضباط الجهاز للمقبوض عليهم تؤكد هذا المعنى، من بينها أنّهم فوق الدستور وفوق القانون – عبدالوهاب خِضر.
الوثائق المُسرّبة: أمن الدولة في كل شيء، وهو كلّ شيء!
في مارس 2011، بدأت جموع من المتظاهرين المصريين بالتوجه إلى مقار أمن الدولة، بدأ الأمر بدخان حرائق صعدت من داخل أبنية أمن الدولة، انتشرت الصور والأخبار التي فسّرت الأمر بحرق وثائق داخل المبنى، على الفور اتجه المتظاهرون لحصار مقار أمن الدولة، وما لبثوا أن اقتحموه لتحرير ما تبقى من الوثائق دون حرق أو فرم.
ذلك التحرك من المُتظاهرين كان بُعيد الثورة مباشرة، وكانت البلاد تحت تأثير الصدى الثوري، لذا لم تستطع حتى القوات المسلحة المنتشرة آنذاك في شوارع مصر وميادينها، منع الاقتحامات، وإن طالبت لاحقًا بإعادة الوثائق المسربة، تحت ذريعة “المسؤولية الوطنية”.
تلك الاقتحامات كشفت عن عدّة أمور، أولها توجّه الغضب الشعبي تجاه أجهزة الشرطة المصرية وعلى رأسها جهاز أمن الدولة، خصوصًا أنها جاءت كحلقة في سلسلة –غير مترابطة زمنيًا مباشرة- اقتحامات أقسام الشرطة، ثمّ الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين، أيضًا من الأمور التي كشفت عنها الاقتحامات متمثلةً في الوثائق المُسرّبة؛ تواجد أمن الدولة في كل شيء داخل حدود القُطر المصري، وربما تجاوزه إلى جمع المعلومات ومراقبة المصريين في الخارج.
ويُشار إلى أنه لم يصدر قانون مختص يُنظّم عمل أمن الدولة أو يحدد اختصاصاته، إذ كان خاضعًا لقانون هيئة الشرطة المُنظّم للعمل بوزارة الداخلية؛ لذا فإن أحدًا لم يستطع الوقوف على أي نص قانوني يمكنه من مراقبة تجاوزات أمن الدولة المدعومة بقانون الطوارئ، لكن التجاوزات تخطّت مرحلة النصوص القانونية، إلى النماذج العملية، التي أثبتتها الوثائق المسربة، والتي أثبتت تورط الجهاز ليس فقط في التعذيب الممنهج، ولكن أيضًا فيما يمكن تسميته بجرائم الأمن القومي.
على سبيل المثال، كشفت الوثائق وقوف أمن الدولة وراء قضية اختطاف وفاء قسطنطين، المواطنة المسيحية التي أشهرت إسلامها، قبل أن يُسلّمها نظام مبارك إلى الكنيسة القبطية، على إثر احتجاجات للمسيحين الذين زعموا إجبارها على الإسلام، يذكر أن قضية اختفاء وفاء قسطنطنين دفعت تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، إلى اقتحام كنيسة في بغداد وقتل 50 مسيحيًا فيها، متوعدًا آنذاك بتنفيذ هجمات أخرى من هذا القبيل حال لم يُطلق سراحها! وبالجملة فقد تضمنت الوثائق المسربة، والتي نشرتها عدة صفحات ومواقع إخبارية؛ إدانات لأمن الدولة بوضعه تدابير وخطط للوقعية الطائفية، بغرض تمكين النظام الحاكم الذي يعمل على حلّها بسرعة، ليُروّج له حلا وحيدا لعدم وقوع حرب طائفية!
أمور أخرى كانت معلومة لدى الجميع، لكنّ الوثائق أكّدتها، من بينها مثلًا تدخل أمن الدولة في نتائج الانتخابات البرلمانية، وإشرافه مباشرة على عقد التحالفات، واختيار من يكسب ومن يخسر! فضلًا عن معلومات تفصيلية لشخصيات عامة سياسية وإعلامية ودينية، بل شخصيات بارزة داخل مؤسسات الدولة، كما أظهرت الوثائق تحكم أمن الدولة في البرامج التلفزيونية الأكثر شهرة، من خلال موافقته أو رفضه للضيوف المزمع استضافتهم، وكذا من خلال أخذ الموافقة منه على مضامين الحلقات المعروضة!
اللافت في الوثائق المسرّبة، كان مُذكرة صادرة من الجهاز بعنوان “بشأن الرؤية التحليلية لحالة الفوضى التي شهدتها البلاد خلال الفترة المؤخرة” هذه الوثيقة تضمنت رؤية الجهاز لأحداث ثورة يناير وأسبابها ومن يقف وراءها. الوثيقة أظهرت تخبّط الجهاز في تعامله مع قضية الثورة التي بدت مُفاجئة بالنسبة له، للدرجة التي اتهم فيها موقع جوجل بالوقوف وراء الثورة! وفي نهاية التقرير يضع الجهاز خطة لمعالجة ما آلت إليه الأحداث، تقوم أساسًا على أن يكرس الإعلام لاتهام جماعة الإخوان المسلمين بقيادة مخطط يستهدف مصر، مع التأكيد على حسن نوايا “الشباب” المتظاهرين، وذلك لتجنب مزيد من الاحتقان، بحسب نص المذكّرة.
تفاجؤ أمن الدولة بأحداث الثورة، الذي وضحته هذه المذكّرة، وتخبطه في التعامل معها، وإعطاؤه رؤية تحليلية غير دقيقة بالمرة، كما كشفت الأحداث، يعود بنا إلى دور البوليس السياسي خلال التظاهرات التي سبقت حريق القاهرة في خمسينيات القرن الماضي، إذ سجّل الجهاز أيضًا فشله في توقع الأحداث ومن ثمّ التعامل معها. إذًا فبماذا كان الجهاز يهتم على مر مراحله المختلفة؟!
الأمن الوطني.. الزي الجديد للحزب الحاكم لمصر
عقب أحداث الثورة، وبعيد اقتحامات مقار أمن الدولة، أصدر وزير الداخلية منصور العيسوي قرارًا بإلغاء جهاز أمن الدولة، الذي استبدل به لاحقًا إدارة سُمّيت بالأمن الوطني، في الحقيقة بعد يوم واحد من إصدار قرار حلّ الجهاز، شهد المواطنون العساكر يرفعون لافتات مقار أمن الدولة، لسيتبدلوا بها لافتات “الأمن الوطني”. نفس المقرّات ونفس الأشخاص، فماذا تغيّر إذًا؟!
في الحقيقة لا يوجد ما يثبت إلغاء الجهاز بإداراته وأقسامه، بل على العكس ثمّة أدلة وقرائن تؤكد أن الأمن الوطني ما هو إلا محاولة مكررة ومعتادة لإخفاء تاريخ الجهاز السيء عبر تغيير اسمه مع الإبقاء على لبّ الجهاز بمهامه وآليات تنفيذه لها، واستطاع جهاز أمن الدولة بزيه الجديد أن يتوارى عن الأنظار خلال المرحلة اللاحقة لثورة يناير، إلا أنه استمر في أداء عمله السرّي.
(أمن الدولة لا يزال هو الجهاز الحاكم في مصر) محمد حسنين هيكل (2014).
(1)
في أكتوبر 2013، نشرت وكالة رويترز تحقيقًا معتمدًا على مصادر من داخل وزارة الداخلية، يفيد بوضع جهاز أمن الدولة خطة لإسقاط جماعة الإخوان المسلمين، اعتمدت على الاجتماع ببعض الشباب النشطاء، وحثّهم على التظاهر ضد الإخوان، بحسب التحقيق أيضًا، فإن أفرادًا تابعين للجهاز، وغيره من أجهزة الداخلية، ساهموا بشكل كبير من نشر استمارات تمرّد، بل وقعوها بأنفسهم، فضلًا عن مشاركتهم في الاحتجاجات ضد محمد مرسي، جاء التحقيق بعنوان “القوّة الحقيقية لثورة الدولة المصرية”.
(لم يستعد جهاز أمن الدولة السيطرة التي فقدها قبل عامين ونصف فحسب، بل وحظي بتأييد واسع من الرأي العام لقيامه بحملة على الإخوان المسلمين من أشدّ الحملات التي تعرضوا لها منذ سنوات) رويترز.
(2)
عقب قراءة عبد الفتاح السيسي لبيان الثالث من يوليو الذي عزل الجيش بموجبه الرئيس محمد مرسي، انتشرت قوّات الأمن في محافظات ومراكز وقرى الجمهورية، لتلقي القبض على أفراد من جماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم من كوادر أحزاب وحركات التحالف المؤيد لشرعية مرسي، تلك السرعة في تنفيذ عمليات الاعتقال، والتي تطوّرت حتى اعتقال نحو 50 ألف مواطن مصري؛ تنمّ عن جاهزية معلوماتية، تحتاج بالضرورة إلى وجود جهاز مثل أمن الدولة المتشعب والمتضخم، وصاحب الكم الأكبر من المعلومات عن كل شيء في مصر!
(3)
رغم كونه أُنشئ جهازا بديلا مُقابلا لجهاز أمن الدولة سيء السمعة كما سبق وذكرنا، إلا أن الأمن الوطني لم يصدر إلى الآن، أي قرار رسمي بإنشائه أو تحديد اختصاصاته وصلاحياته! نعم، إن كان هذا الأمر يُذكّرك بالطريقة التي كان يعمل بها أمن الدولة سابقًا دون قانون ينظمه، فهذا صحيح تمامًا.
ويزيد من صحّة هذا الزعم من قبلنا، أنه في يوليو 2013 (أي بُعيد الانقلاب مباشرةً) أعلن وزير الداخلية السابق، محمد إبراهيم، عن عودة إدارات متابعة الأنشطة السياسية والدينية، داخل قطاع الأمن الوطني، جاء ذلك متزامنًا مع التفويض الذي أعطاه الرئيس المؤقت عدلي منصور، إلى رئيس الوزراء آنذاك، حازم الببلاوي، بفرض حالة الطوارئ في البلاد.
شرعت وزارة الداخلية بعد الإطاحة بنظام الإخوان، إلى إعادة تقوية عدد من أجهزتها، لتعود إلى وضعها السابق، بما في ذلك قطاع الأمن الوطني- شريف محيي الدين.
اقرأ أيضًا:توحش الشرطة المصرية: كيف قتل النّظام نفسه بيد الداخلية؟
(4)
تقرير أمن الدولة عن أحداث الثورة، الذي سبق وأشرنا إليه، تم إدراجه ضمن أوراق قضية مُحاكمة القرن، بموجب طلب من هيئة دفاع حسن عبدالرحمن آخر رئيس لجهاز أمن الدولة، والذي كان يُحاكم على ذمة هذه القضية بصحبة مبارك ونجليه. كان التقرير واحدًا من أدلة البراءة التي اعتمدت عليها المحكمة في حكمها، كما اعتمدت عليه أيضًا المحكمة في قضية “اقتحام السجون” المُحاكم فيها محمد مرسي و131 شخصًا بينهم قيادات من الإخوان المسلمين!
اللافت في الأمر، هو اعتماد منظومة القضاء المصري على وثيقة صادرة من جهاز تم حله وإلغاء إداراته، عقب اعترافات علنية مسجلة من قبل قيادات الداخلية، بأن الجهاز ارتكب انتهاكات أوجبت حلّه! واللافت أكثر، الاعتماد على شهادة حسن عبدالرحمن في نفس القضية، رغم كونه يُحاكم على ذمة قضايا أخرى، ورغم الخصومة السياسية الواضحة بينه وما يمثله وبين جماعة الإخوان المسلمين. هذه الخصومة بادية في التقرير المذكور كمثال.
(5)
ذهب البعض إلى اعتبار تسريبات الشخصيات العامة السياسية، التي أذاعها الإعلامي عبدالرحيم علي عبر برنامجه التلفزيوني الصندوق الأسود؛ دليلًا على استمرار جهاز الأمن الوطني في التنصت والتجسس على المواطنين.
الجهاز (الأمن الوطني) بيتنصت على الحياة الشخصية، وينتهك الحقوق والحريات المنصوص عليها بالدستور، والتسريبات التي انتشرت مؤخرًا أبرز دليل على أن نشاطه لم يتغير، واللي حصل عملية تجميل لجهاز لسه فيه الروح- أحمد فوزي، الأمين العام للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي.
(6)
في 5 مارس 2015، عُيّن اللواء مجدي عبدالغفّار وزيرًا للداخلية، خلفًا لمحمد إبراهيم، الذي لم يتوقع أحد أن تتم إقالته على الأقل قريبًا، بسبب دوره البارز والفعّال في انقلاب 3 يوليو. لكنّ بعض المراقبين أرجعوا إقالة إبراهيم إلى أنها خطوة من قبل السيسي للتخلص من غريمه الذي كاد يناصفه الحُكم، بعد أن ناصفه –تقريبًا- الشهرة والتعاطف بين الأوساط الشعبية، في المُقابل يذهب آخرون إلى أن إقالة إبراهيم وتعيين عبدالغفّار تحديدًا، هو جزء من تحرك الأمن الوطني لاستعادته فعاليته، إذ أنّ مجدي عبدالغفار شغل آخر ما شغل قبل الوزارة، منصب مدير قطاع الأمن الوطني، أما محمد إبراهيم فجاء من قطاع الأمن العام.
وقد اعتادت وزارة الداخلية على أن يرأسها شخص له خلفية في أمن الدولة، من أبرز هؤلاء على سبيل المثال، حبيب العادلي آخر وزير داخلية في عهد مُبارك، وربما أقواهم على الإطلاق، والجدير بالذكر أنه عقب تعيين مجدي عبدالغفّار وزيرًا للداخلية، قام بتنفيذ حركة تنقلات وتغييرات داخل الوزارة شملت نحو 20 منصبًا قياديًا بالوزارة، فيما جاءت أغلب ترقيات هذه المناصب لضباط في الأمن الوطني.