هنا في هذا السجن منع حافظ الأسد وجود الله، نحن الله، نحن نحييكم ونحن نميتكم”، تلك جملة ترحيبية يلقيها عناصر النظام السوري على مسامع أي سجين جديد كان يلقي في سجن “تدمر” الصحراوي، هذا السجين لم يكن بعد قد استوعب الصدمة من عبارة كتبت على أبواب السجن “الداخل مفقود والخارج مولود.
يعد هذا السجن أحد أكبر سجون سوريا، وأسوأها حتى على المستوى العالمي، في سجن “تدمر” القتل غير المعهود على مسامع ومرائي البشر في خارجه، يمتلك فيه الحراس صلاحيات مطلقة، يقتلون أي معتقل برصاصة أو يعذبونه حتى الموت دون حتى إبداء أي أسباب، خصصت لضحاياه مقبرة في منطقة “وادي عويضة” تلقى فيها جثث السجناء فرادى أو مجموعات وذلك حسب ما قُدر للأرواح أن تزهق تحت التعذيب أو تحت حبل المشنقة.
سجن “لؤلؤة الصحراء” الذي يبعد نحو 200 كم شمال شرقي عن دمشق، ويقع في قلب بادية الشام، بشع جمال آثار تدمر الشهيرة، فجرائم الأسد الابن والأب حولت عاصمة مملكة تدمر لعاصمة المعتقلات والتعذيب على مدار خمسين عامًا.
قبل أيام سقطت هذه المدينة التي لها أهمية إستراتيجية كبيرة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فقربها من الحدود السورية العراقية شرقًا سهل هذه السيطرة، يقول أحد السجناء الذي خرجوا من السجن في تعقيب على الأحداث التي أدت إلى سيطرة “داعش” إن السجناء الذين يعيشون خارج الواقع مغيبون قسرًا عن كل ما يحصل في الخارج، لذا لا يستبعد أن يكونوا ظنوا أن ما يحصل من حولهم هو اجتياح إسرائيلي لسوريا!!
لماذا سجن تدمر من أسوأ السجون؟
رأيت قطعة من فروة رأس أحد السجناء ملتصقة بسقف الغرفة، رأيت آثار الطلقات على سقف وجدران المهجع”، تلك مشاهد خالدة في ذاكرة الأسير أسامة الحلاق أحد الذين سجنوا في “تدمر” بعد ثمانية شهور من ارتكاب مجزرة سجن تدمر عام 1980، أما سجين آخر كان مسجونًا في سجن أبو غريب في العراق، فبمجرد رؤيته لجدران تدمر تمنى “أن يعود إلى حيث كان.
يصنف سجن “تدمر” بأنه الأسوأ بين عشرة معتقلات على مستوى العالم، يتقدم على سجن (كارانديرو) البرازيلي، و(بيتالك) الروسي، و(كوانغ بانغ) التايلاندي، و(لاسابانيتا)، وتعتبر منظمة العفو الدولية سجن تدمر المركزي مرادفًا «للوحشية واليأس واللاإنسانية»، ويصف السجن موقع «كريمينال جاستيس ديغري هاب»، الذي أعد قائمة أسوأ السجون: “سجن تدمر في سوريا، سالت الكثير من الدماء وراء قضبانه، ولو أحرق فلن تطهر نيرانه روح الصحراء التي سلبت آلاف الأرواح ظلمًا”.
وكيف لا يكون هذا السجن الأسوأ، ويقبع في غرفة واحدة به لا تزيد مساحتها عن 12 مترًا طولًا و6 أمتار عرضًا، أكثر من 150 سجينًا، يقضون جل وقتهم تحت تعذيب تختلف فصوله، بينما يزيد عدد السجناء في الباحات السبع التي يتألف منها السجن على 20 ألف معتقل، في حين أنه يفترض أن لا يؤوي أكثر من 7 آلاف.
شيد هذا السجن عام 1966 وتشرف عليه الشرطة العسكرية والمخابرات السورية، خصص تحديدًا لاحتجاز المعارضين، وكما يشير مؤلف رواية “القوقعة” فيه يلتقي بالحمر (أي الشيوعيين واليساريين)، والخضر (أي الإسلاميين بكل تياراتهم الفكرية والسياسية). جميعهم سجناء النظام، ومع هذا يغلب في أوساط الشعب السوري أنه سجن الإسلاميين لأن السلطات خصصته غالبًا لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومن ارتبط بها أو ربما لمجردة شبهة التدين.
أين يدفن ضحايا سجن «تدمر»؟
تشرف على سجن تدمر الذي بني من قبل قوات الانتداب الفرنسي الشرطة السورية العسكرية، هذه الشرطة ارتكبت الكثير من المجازر في عهد حكم حافظ الأسد بالسجن، من أشهرها مجزرة سجن تدمر عام 1980، وفي بداية تسلم بشار الأسد الحكم، أعلن عن إغلاق سجن تدمر رسميًّا، كمحاولة لتلميع صورته، ثم أعيد افتتاحه عام 2011 لاستيعاب عدد أكبر من السجناء بعد اندلاع الثورة السورية.
ما بين عام 1980 و1996 كان النظام السوري يدفن الجثث في منطقة قريبة من سجن تدمر العسكري تعرف هذه المنطقة بـ”وادي عويضة”، وبعد أن يتم الإعدام أو الموت تحت التعذيب تأتي سيارة شاحنة كبيرة ترمي داخلها الجثث، ثم يقوم جنديان من جيش الأسد بالإمساك بالجثة، واحد من الكتفين والآخر من الرجلين ويلوحان بها ثم يرميان بها في تلك الشاحنة، يقول أحد السجناء في شهادته: “كنا نحصي عدد الجثث من صوت الارتطام”.
في هذا المكان الذي ربما ستكشف عدد الجماجم فيه يومًا ما عن عدد الضحايا، دفن ما يزيد على 20 ألف سجين ممن قضوا نحبهم تحت التعذيب، أو أعدموا في باحات السجن في عهد الأسد الأب، أحد السجناء قال إنه شهد وحده إعدام 200 شخص في يوم واحد، أما عن عدد ما دفن في عهد الأسد الابن فلم يحصَ بعد!!
ما هي أبرز مجازر سجن تدمر؟
مجزرة سجن «تدمر» عام 1980:
هل لك أن تتخيل كيف استنفرت عشر طائرات مروحية عسكرية تقطع 200 كم عند الثالثة فجرًا وهي تحمل 200 جندي سوري، اختير منهم 80 ووزعوا إلى سبع مجموعات مدججة بالأسلحة والقنابل والمتفجرات لإبادة ما بين 1000- 2000 معتقل مكبلين في أكثر السجون تشديدًا أمنيًّا على مستوى العالم.
حدث ذلك في السابع والعشرين من يونيو عام 1980 ردًّا على مجرد محاولة فاشلة لاغتيال حافظ الأسد، اتخذ إثرها قرارًا بقتل كل السجناء في تدمر، في ذاك الوقت طوق السجن وأخرج منه الحرس، ثم فتحت النيران على المعتقلين وألقيت عدة قنابل، واستخدمت بعض قاذفات اللهب مع إطلاق النار الكثيف في باحات ثلاث لسجن، بينما تعالت أصوات المعتقلين بهتافات: الله أكبر.
لقد استغرقت المجزرة نصف ساعة، يقول أحد المشاركين في المجزرة ويدعي عيسى إبراهيم فياض أنه طلب من جنود سرايا الدفاع في حدود الساعة الثالثة فجرًا الاجتماع بلباس الميدان الكامل في سينما اللواء 40 حيث كان الرائد معين ناصيف بانتظارهم، وألقى فيهم خطبة قال فيها: “هدول الإخوان المسلمين ما عم يفرقوا بين مسلم علوي ومسلم سني ومسيحي وعم يقتلوا في الشعب وامبارح حاولوا اغتيال الرئيس. لذلك اليوم راح تقوموا بهجوم على أكبر وكر لهم وهو سجن تدمر. قال: مين ما بدو يقاتل؟ ما حدا رفع إيده، الأمر العسكري”.
وتؤكد منظمة هيومن رايتس ووتش أن وحدات كوماندوس من سرايا الدفاع تحت قيادة رفعت الأسد، قتلت ما يقدر بنحو 1000 سجين أعزل، غالبيتهم من الإسلاميين، انتقامًا من محاولة اغتيال فاشلة ضد حافظ الأسد مؤكدة أنه لم يتم الإعلان عن أسماء الذين قتلوا إطلاقًا، ويقول ميشال سورا، وهو خبير سوري اختطف وقُتل في لبنان سنة 1985، في كتابه “الدولة الهمجية” إن تحليلًا أجرته الأجهزة الأمنية كشف أن عدد الضحايا بلغ 1181 ضحية.
مجزرة تدمر النسائية
هذه المجزرة فريدة بين المجازر التي ارتكبها نظام الأسد الأب، ففي يوم 19- 12- 1980 سيقت مئة وعشرون امرأة كنت قد أودعن كرهائن من أمهات الملاحقين وأخواتهم في سجن تدمر الصحراوي، وكانت قبل ذلك قد حفرت لهن (بلدوزرات) نظام أسد أخدودًا كبيرًا، وما أن اقتربن من هذا الأخدود حتى أطلقت عليهم قوات الأسد النيران وهن على حافة الأخدود، فوقعن فيه مضرجات بدمائهن. وقيل أن جنود الأسد أهالوا عليهن التراب. وبعضهن يعلو أنينهن. إذ لم يفارقن الحياة بعد.
ماذا كتب عن سجن «تدمر»
ألفت عن سجن تدمر عشرات الكتب، معظمها كتب عن تجربة مؤلمة معاشية لمعتقلين سابقين قضوا حياتهم في هذا السجن. فمن أهم ما ألف عن سجن “تدمر”:
كتاب «تدمر شاهد ومشهود»
يعد أول كتاب يتناول سجن تدمر، أصدره المعتقل الأردني سليم حماد الذي اعتقلته المخابرات السورية في التسعينيات عندما كان يدرس في إحدى الجامعات السورية، اتهم حماد بالانتماء للإخوان المسلمين، وقضى (11) عامًا قبل أن يطلق سراحه.
يقول حماد في كتابه: “وجدنا أنفسنا في باحة إسمنتية تحيطها المهاجع التي أمرونا أن نصطف على جدرانها مُسْلِمين للوحوش رجال السَرِيةَ كلهم ظهورنا بالاختيار! ولم يلبث الزبانية أن بدأوا يسحبون الواحد منا تلو الآخر، فيعرونه من ثيابه إلا الشورت، وفي الوقت الذي تولى قسم من الشرطة الإخوة المتجهين إلى الجدار بالضرب والجلد والركلات، يعلو الصياح وترتفع أصوات الاستغاثة، ولا مغيث”.
ويضيف: “يقوم الجلادون ولزيادة الاحتياط وتحقيق مزيد من الإتقان، بربط الرجلين بجنزير من الحديد، تعدم أي فرصة لهما للتحرك قيد أنملة، ويبدأ الضرب من غير رحمة، ومن غير عد. فإشارة الانتهاء لدى الوحوش أولئك أن تنفتح البطن وتسيل منها الدماء، فإذا تم ذلك فكوا القيد عن الرجلين، وأخرجوا المعتقل من الدولاب، وأمروه أن يفتح كفيه ليتلقى هدية أخرى… وتنهال على الراحات سياط من الجلد العريض”.
كتاب «عائد من جهنم»
يعد هذا كتاب التوثيقي الذي صدر عام 2012 من أهم ما صدر عن سجن تدمر، كتبه اللبناني علي أبو دهن الذي قضى (13) عامًا في السجن، منذ اعتقاله في مدينة السويداء عام 1987.
معاناة الكاتب بدأت في السويداء مع كابوس “فرع التحقيق” الذي سماه أبو دهن “فرع المسلخ”، حيث أجبر على توقيع اعترافات تحت التعذيب الشديد وبتأثير “الكرسي الألماني” والصعق بالكهرباء، في هذا الكتاب يصف أبو دهن الزنزانة التي اعتقل فيها وفيها آثار للرصاص والدماء و”المهجع” ذاته كان ساحة مجزرة بحق “الإخوان المسلمين” في سوريا عام 1980.
ويذكر أبو دهن وسائل التعذيب التي يتبعها النظام السوري ابتداء من “الكرسي الألماني” أي الكرسي المعدني الذي له أجزاء قابلة للحركة يشد عليها وثاق الضحية من اليدين والقدمين يتجه مسند الكرسي الخلفي إلى الوراء فيسبب توسعًا كبيرًا في العمود الفقري وضغطًا مؤلمًا على عنق الضحية وأطرافها إضافة إلى “الشبح” بربط المعتقل من يديه إلى ظهره، وهو واقف على كرسي، ومن ثم سحب الكرسي من تحته ليظل واقفًا على رأس إصبعه الكبير، الوسيلة الأخرى المسماة “الدولاب” والتي اختبرها الكثير من المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية أي ربط اليدين بالرجلين بحيث يصبح المعذّب مثل دولاب سيارة لتبدأ عملية الضرب المبرح على مختلف أعضاء الجسم.
كتاب «من تدمر إلى هارفارد.. رحلة سجين عديم الرأي»
ألف هذا الكتاب الدكتور البراء سراج الذي قضى 12 عامًا في السجون السورية، في هذا الكتاب يعتبر سراج نفسه محظوظًا، فقد شاهد عشرات عمليات الإعدام في عدد من السجون السورية، وكان يتوقع مع كل دفعة تساق إلى الإعدام أن يحل دوره هو الآخر، ويصف السراج معاناته تحت التعذيب، في الغرف المظلمة والزنازين الرطبة الضيقة، والضرب اليومي والعقوبات المريرة، وقوافل الرجال الذين يقودونهم إلى ساحة الإعدام.
يقول في كتابه: “كنت أسمع أبوابًا تفتح بهدوء، وصوت حفيف أقدام السجناء، ثم صوت أحذية الجنود الثقيلة، كان هناك نحو 30 شرطيًّا، وبعد قليل ينزل الضباط لتنفيذ أحكام الإعدام يوضع السجناء في غرفة عند زاوية الباحة السادسة، ثم يسحبون كمجموعات إلى المشانق، ثم صوت جندي “الباحة جاهزة سيدي، يرفع السجين ويوضع الحبل حول عنقه ثم نسمع العبارات نفسها التي يرددها المحكومون بالإعدام “أخوكم في الله فلان الفلاني، الله أكبر ولله الحمد”، ثم ينتهي كل شيء.
رواية (القوقعة)
تعد “القوقعة” من أجمل وأهم ما كتب في مدونة أدب السجون السورية، كتبها الروائي السوري مصطفى خليفة، وهو مسيحي اعتقلته مخابرات نظام الأسد بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين.
خليفة الذي قضى عشرة أعوام في السجن دون أن يعرف التهمة الموجّهة إليه يتحدث في “القوقعة” عن يوميّات شاب أُلقي القبض عليه لدى وصوله إلى المطار عائدًا إلى وطنه سوريا من فرنسا بعد الانتهاء من دراسة الإخراج السينمائي.
ويسرد مصطفى يوميّاته كما عايشها. من يومه الأول في التحقيق، حتى آخر لحظة خرج منها من السجن، يدخل مصطفى كما يقول النقاد إلى قعر المجتمع، من ثقب جدار الزنزانة، التي يتلصّص من خلالها على ساحة السجن الصحراوي. “هناك، يلتقي بالأبرياء، المقاتلين، المناضلين والمجرمين. يلتقي بأطفال، شباب، رجال وعجزة. يلتقي بمثقّفين، خرّيجي جامعات، أطبّاء وغيرهم”، كما يقول أحد الكتاب.