الملف المطمور: عندما ارتكبت فرنسا أول إبادة جماعية بالأسلحة الكيماوية في الأغواط

في الخميس ١٤ - مايو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 

عندما أخفينا كل الموتى لم يبق أحياء في المدينة إلا عساكر الحملة، كل البيوت كانت فارغة من أفقرها إلى أغناها، كانت كمدينة هجرت. وفي رحاب هذه المدينة السوداء الصامتة تحت أشعة الشمس، شيء يوحي أني داخل إلى مدينة ميتة وبموت عنيف.. كانت المجزرة رهيبة، المساكن والخيام والأزقة والطرقات مليئة بجثث الموتى أحصيت أكثر من 2300 قتيل بين رجال ونساء وأطفال. لقد كان لزامًا لفرنسا لهذا الهولوكوست لتثبت عظمتها للقبائل المحاربة في الصحراء. – من مذكرات ضباط فرنسيين

في شهر أغسطس 2013 ضربت الغوطة في سوريا بالسلاح الكيماوي فقتل 1429 وفي نوفمبر سنة 1852م قصفت فرنسا الأغواط في الجزائر بالأسلحة الكيماوية فقضت على ثلثي سكانها فورًا”، إنها أول إبادة جماعية بالأسلحة الكيماوية في تاريخ البشرية.

تاريخ الجزائر عمومًا مخضب بالدماء وحافل بكثير من المعاناة، حتى أنك ترى حتى اليوم آثار حرب التحرير المريرة ضد المستعمر، بادية على وجوه الجزائريين، فقد تركت تلك الحقبة المفجعة جروحًا عميقة في ذاكرة الشعب الجزائري.

تتعدد الأحداث الدامية التي قام بها المستعمر الفرنسي ضد جيوب المقاومة الجزائرية والسكان في تلك الفترة، غير أن عملية قصف منطقة الأغواط بالأسلحة الكيماوية، مأساة تستحق الوقوف عندها، لما طالها من نسيان وإهمال طوال عقود من الزمن.

أول استعمال للأسلحة الكيماوية في التاريخ

مدينة الأغواط بناها العرب سنة 850م، منذ ذلك الحين عرفت بكونها مركزًا تجاريًّا ومعبرًا للقوافل، وفي حقبة الاستعمار الفرنسي بالجزائر كلف الجنرال ريفي القائد ماري مونج بالقيام بدراسة طبوغرافية للمسافة الرابطة بين المدينة والأغواط ومحيطها، وكذا معرفة ثقافة المنطقة هناك تمهيدًا لاحتلالها، فهي موقع استراتيجي يسمح للمستعمر بملاحظة ومراقبة وتحديد تحركات السكان إلى مناطق تقع في عمق إفريقيا السوداء، كما أنها أقرب نقطة استراتيجية صحراوية إلى العاصمة الجزائر، وأيضًا هي مركز متقدم جيد لتموين الجيوش الاستعمارية في تحركاتها بين الشمال والجنوب.

حاول كل من الجنرال لادميرو وماري لونج دفع ساكنة الأغواط إلى الاستسلام وتسليم البلدة طواعية، بيد أن كل محاولات التفاوض مع القائد المقاوم أحمد التيجاني وخليفة الأمير عبد القادر في المنطقة أحمد بن سالم باءت بالفشل، وذلك خلال سنتي 1848 و1849م.

بعد تعذر استمالة شيوخ جماعات المدينة والتأكد من صلابة موقفهم، بدأ المستعمر الفرنسي يفكر في الخيار العسكري.

توجه الجنرال بيلسي من وهران إلى الأغواط، وقدم الجنرال دوليني إليها أيضًا، وكذا الجنرال بليسير الذي جاء من منطقة المدية، حيث كان في انتظارهم معسكر الجنرال بوسكران قرب مدينة الأغواط، فحاصروا البلدة من ثلاث جهات بقوات ضخمة عتادًا وعددًا.

في صبيحة يوم 21 نوفمبر 1852، شنت القوات الاستعمارية الفرنسية بقوام قرابة 20 ألف جندي هجومًا كبيرًا لاحتلال الأغواط، فقابلت مقاومة شرسة من أهالي المنطقة، تكبدوا خلالها خسائر فادحة، منها مقتل الجنرال بوسكران على يد المقاومين.

بسبب الضربة القاسمة التي تلقاها المستعمر في الأيام الأولى للمعركة من قبل المقاومة في الأغواط، لجأ إلى استخدام الأسلحة الكيماوية ليفتح أبواب الجحيم على سكان البلدة الريفية، حيث ستكون فرنسا أول دولة في التاريخ البشري تستعمل الغازات السامة في الإبادة الجماعية.

«عام الخلية»

خلال أيام نهاية شهر نوفمبر حتى 2 ديسمبر 1852، قصفت القوات الفرنسية منطقة الأغواط بقذائف معبئة بالكلوروفورم، وهي مادة كيميائية سامة، تصبح قاتلة حينما يتم إعدادها بنسب مركزة، إذ تؤدي كل من استنشاقها إلى تهيج الرئة، وتُحدث التهابات حادة في أنسجتها؛ مما يسبب اندفاع كميات متزايدة من السوائل الجسمية التي ينقلها الدم إلى الرئتين لتحدث اختناقًا شديدًا يؤدي إلى موت الضحية.

هذا القصف الكيماوي الذي نفذه المستعمر في حق ساكنة الأغواط ومقاوميها، أدى في أيام معدودة إلى مقتل ثلثي أحياء المنطقة فورًا، نتيجة استنشاق الغازات السامة، يقدر عدد الضحايا بـ 3000 شهيد من مجموع 4800 نسمة من سكان الأغواط في تلك الفترة، لتسقط المدينة في يد المستعمر بعد أن أباد سكانها.

دخل جنود الاحتلال إلى المنطقة فوجدوها متناثرة بالجثث والموتى في كل مكان، وقضوا على كل مصاب أو في طور الاحتضار، حيث سجل العديد من المجندين الفرنسيين المشاركين في المجزرة في شهاداتهم، استغرابهم للطريقة غير المألوفة لهم التي قضي بها على ساكنة الأغواط، بسبب هذا السلاح الكيماوي الفتاك الجديد آنذاك.

“كانت محنة مروعة رهيبة، رأيت جنديًّا واقفًا أمام الباب يملأ بندقيته التي اصطبغت بالدم، وجنديين فرنسيين آخرين يجريان وهما يملآن قبعاتهم العسكرية بالحلي المنهوبة من جثث النساء المرمية، فتاتين مسكينتين مطروحتين أرضًا بلا حراك، واحدة منشورة على الأرض، والأخرى ملقاة على درج، رأسها يتدلى نحو أسفله عارية، ينزع عسكري من جسدها ما تحمله من مصوغات وحلي ذهبية وفضية، امرأة ثالثة كانت تحتضر، وبقبضة يدها زر بدلة عسكرية، لقد اقتطعته من بدلة قاتلها”، القائد العسكري إيجين فرومانتان يكتب في مذكراته.

 

 

 

 

لأول مرة في التاريخ ستستعمل كلمة هولوكوست، التي تعود أصولها إلى التراث اليهودي بمعنى التضحية بالقرابين طاعة للرب، بمفهوم الإبادة الجماعية، حيث ورد في كتاب مارسيلميليا “الأغواط بيوت محاطة بالجنائن”، مصطلح “الهولوكوست”، إشارة إلى تقرير عسكري كان مرسلًا من القائد العسكري الميداني بيليسي إلى الجنرال ريفي القائد العام للقوات الفرنسية في الجزائر آنذاك، يخبره أنه قد نفذ التعليمات الموجهة له بالإبادة مستخدمًا تعبير “هولوكوست”، بعد ذلك ستشتهر هذه الكلمة في إبادة النازيين لليهود عندما أحرقوهم في الأفران أحياء.

عرفت هذه الفاجعة في الذاكرة الشعبية بالجزائر بـ”عام الخلية” كناية عن التصفية الجماعية المروعة التي شهدتها مدينة الأغواط في الفترة تلك.

ملف لا زال طي النسيان

في الحقيقة ليست فاجعة الأغواط وحدها التي تؤرخ استعمال فرنسا أسلحة كيماوية في حربها مع المقاومة الجزائرية، فقد قصفت قبل ذلك الجزائر العاصمة بطن من القذائف الكيماوية في شهر يوليو 1830م، وأيضًا استخدمت الأسلحة الكيماوية لضرب المقاومين المتحصنين في الجبال عام 1950م، كما أجرت فرنسا تجارب أسلحة كيميائية وبيولوجية في الصحراء الجزائرية، أضف إلى ذلك دراسات تنسب لمجلة الجيش الشعبي الجزائري أشارت إلى استعمال غاز النابالم في حرب التحرير ضد المقاومين، ولا زالت حتى اليوم تبعات تلك الأسلحة المحرمة تعاني منها المناطق التي قصفت بها، حيث سجل بها انتشار التشوهات الخلقية وازدياد حالات الإجهاض ومرضى السرطان.

شاهد هذا التقرير المصور النادر الذي يغطي هذا الملف

Video Player
 
00:00
 
00:00
 

لم تنل إبادة الأغواط حقها في الاهتمام والتوثيق بقدر مأساتها، بل إن الكثير لا يعلم بها، ولولا مجهودات بعض الباحثين الفرنسيين والمنظمات الحقوقية الفرنسية وقلة من النشطاء الجزائريين لكانت هذه الحادثة خارج التاريخ.

اليوم بعد أن اجتازت فرنسا ماضيها الاستعماري الأسود، أضحت أبرز المعارضين لحيازة واستخدام الأسلحة الكيماوية، المحرمة وفق فصول الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، بعد أن ذاقت هي نفسها من وبال هذا النوع من الأسلحة الفتاكة، على يد النازيين في الحربين العالميتين الأولى والثانية التي خلفت ملايين القتلى الأوروبيين.

لكن رغم ذلك فإن فرنسا لم تقدم حتى الآن للجزائر اعترافًا رسميًّا باقترافها في الأغواط إبادة جماعية، وهو الأمر الذي لا تنفك أن تطالب به بعض الشخصيات والجمعيات النشطة في هذا الصدد.

في الواقع لا يزال هذا الملف يحتاج إلى مزيد من الاهتمام الإعلامي والجهد العلمي لتوثيق مأساة الأغواط المنسية، ولا سيما أن هناك العديد من مذكرات جنرالات فرنسا تؤكد الجريمة، علاوة على تقرير مفصل يتكون من ستين صفحة يؤرخ للمجزرة الكيماوية تلك، لا زال محفوظًا حتى الآن بالأرشيف الوطني الفرنسي.

خلدت الذاكرة الشعبية الجزائرية “عام الخلية” ذاك بالعديد من الأمثال والقصائد، هذه واحدة منها:

قول يا قوال وحدث

واحكي عام الخلية

عام الخلية دزت من فوق أجدادي

فنيت نص السكان رجال ونسوان

يا مسلط أمحاينك على بلادي

ما رحمت ناس ما رحمت صبيان

قطعت الأشجار وقتلت الزهدي

ودبحت حتى لي راكد سقمان

الأغواط النور المعلوم نور البوادي

حرقت الشكاير بالنيران

بالغازات الكيماوية يا تمكادي

تلت رباع فناو من عز السكان

تاريخ مقاومة من قبلد بادي

..

اجمالي القراءات 2628