تقع مدينة (بالتيمور) في الشمال الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية في منتصف ولاية (ميريلاند) وهي أكبر مدن الولاية, وترتيبها السادس والعشرون من حيث عدد السكان في الولايات المتحدة.
المدينة التي أنشئت في عام ١٧٢٩ تشتهر باهتمامها بالعلوم والتكنولوجيا, فهي تحتصن عددًا من الجامعات المرموقة كجامعة (جون هوبكنز) وجامعة (ميريلاند). كما أنها ميناء هام يطل على المحيط الأطلنطي.
يقطن المدينة أكثر من ٦٢٠ ألف نسمة, يمثل السود ٦٣٪ منهم بينما يمثل البيض ٢٩٪ من عدد السكان.
(بالتيمور) تصدرت فجأة عناوين الأخبار بعدما اشتعلت أعمال العنف في أرجائها مساء يوم الاثنين ٢٧ أبريل مما دعا حاكم ولاية (مريلاند) وعمدة (بالتيمور) لإعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجول للسيطرة على أعمال العنف والشغب.
لكن لم تكن تلك هي أول مرة تندلع فيها أعمال العنف في (بالتيمور). ففي ٦ أبريل عام ١٩٦٨ اشتعلت المدينة بعد اغتيال المناضل الحقوقي الأسود (مارتن لوثر كنج) ولم تستطع شرطة المدينة ومعها الآلاف من قوات شرطة الولاية والحرس الوطني السيطرة عليها حتى اضطر الرئيس الأمريكي وقتها (لندون جونسون) للتدخل لضبط الأمن. سقط في أحداث الشغب التي امتدت من ٧ أبريل إلى ١٤ أبريل ستة قتلى, وأصيب ٧٠٠ ودمرت مئات المحلات التجارية.
1- ما الذي أشعل (بالتيمور) هذه المرة؟
في يوم ١٢ أبريل أوقف عدد من ضباط الشرطة شابًا أسود في الخامسة والعشرين يدعى (فريدي جراي) بتهمة حيازة مطواة واحتجزوه داخل سيارة شرطة لمدة نصف ساعة قبل أن يطلقوا سراحه. كان (جراي) يعاني من إصابات بالغة خاصة في عموده الفقري وتم نقله سريعًا إلى المستشفى. السلطات تقول أن الإصابات نتجت عن أنه كان مقيد اليدين والقدمين وأنه من المحتمل أن يكون قد تعرض للارتطام داخل سيارة الشرطة نتيجة لعدم ربطه لحزام الأمان. السلطات قامت بعدها بمعاقبة ستة من ضباط الشرطة بالإيقاف – مدفوع الراتب – لعدم ربطهم حزام الأمان الخاص بـ(فريدي) عند احتجازه في سيارة الشرطة.
في يوم ١٩ أبريل توفي الشاب الأسود (فريدي جراي) بعد معاناته من الإصابات التي تعرض لها قبل أسبوع. السلطات أعلنت أنها تحتاج المزيد من الوقت للتحقيق في الواقعة قبل اتخاذ أي إجراءات أخرى تجاه الضباط المسئولين كالفصل من الخدمة.
بدأ المئات يوميًا في التظاهر بشكل سلمي للمطالبة بسرعة التحقيق في ملابسات القبض على (فريدي جراي) والإصابات التي توفي على إثرها ومعاقبة المسئولين عن وفاة الشاب الأسود.
شيعت جنازة (فريدي جراي) يوم الاثنين ٢٧ أبريل, بعدها بساعات اندلعت الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الشرطة في أنحاء المدينة وخاصة في الجزء الشمالي الغربي منها. الاشتباكات بدأت قرب مول مونداومين في الجزء الشمالي من ضاحية غرب (بالتيمور) وامتدت بعدها تجاه وسط المدينة ثم إلى شرق مدينة (بالتيمور).
بنهاية يوم الاثنين كانت هناك خمس عشرة حالة إصابة مؤكدة في صفوف الشرطة بجانب احتراق سيارة شرطة والعديد من المحلات التجارية.
في مساء نفس اليوم قام (لاري هوجان) حاكم ولاية مريلاند بإعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجول من الساعة العاشرة مساءً وحتى الخامسة فجرًا بداية من يوم الثلاثاء ٢٨ أبريل وحتى الاثنين ٤ مايو على أمل أن يحد ذلك من العنف ويقلل من الاشتباكات بين الطرفين وكلف إدارة شرطة الولاية بتولي إدارة الأمن في المدينة, كما انتشرت وحدات الحرس الوطني لتمنع عمليات النهب والسرقة.
(ستيفاني رولنجز- بلايك) عمدة بالتيمور أعلنت أن السلطات ستسرع من وتيرة التحقيقات في قضية (فريدي جراي).
(لوريتا لينش) النائب العام الجديد أعلنت أن وزارة العدل الأمريكية ستجري هي الأخرى تحقيقًا منفصلًا في قضية (جراي).
السلطات في مدينة (بالتيمور) اتهمت العناصر المخربة بإشعال الأزمة بعد ما قالت أنهم قاموا بالاندساس وسط المتظاهرين السلميين ليشعلوا العنف ضد الشرطة. على الجانب الآخر ألقى المتظاهرون باللوم على وحشية الشرطة في التعامل مع السود وعلى الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيش فيها السود مما أدى لاشتعال الأزمة بين الجانبين.
يقول (نيك موسبي) عضو مجلس مدينة (بالتيمور) أن الأمر أكبر من حادثة (فريدي جراي) وحدها, المظاهرات نتيجة لتهميش الأمريكيين السود عبر عقود وحرمانهم من حقوقهم في التعليم وفرص العمل المساوية لغيرهم من الأمريكيين في (بالتيمور).
الدراسات تشير إلى أن معدل البطالة في (ساندتاون- وينشستر/ هارلم بارك) وهي المنطقة التي كان يعيش فيها (جراي) أعلى من خمسين بالمائة في الشريحة العمرية من ١٦ إلى ٦٤ عامًا.
2- ماذا عن سجل سوابق شرطة بالتيمور؟
تمتلك شرطة بالتيمور سجلًا سيئًا حافلًا بالانتهاكات والاتهامات باستخدام القوة المفرطة والعنف. في الأعوام الأربعة الأخيرة وحدها اضطرت إدارة شرطة (بالتيمور) لدفع أكثر من ٥ ملايين دولار لتسوية قضايا ضد انتهاكات قامت بها الشرطة, كما أنفقت ما يقرب من ٦ ملايين دولار أخرى على أمور متعلقة بتلك القضايا. منذ عام ٢٠١١ اضطرت إدارة شرطة بالتيمور لتسوية أكثر من ٢٠ قضية سنويًا بسبب انتهاكات قام بها ضباط شرطة مدينة (بالتيمور).
معظم تلك القضايا لم يعلم عنها أحد لأن أحد بنود التسوية يُلزِم الضحايا بعدم التحدث عما تعرضوا له سواء في وسائل الإعلام أو حتى على منصات التواصل الاجتماعي تحت داعي حماية سمعة جهاز الشرطة.
في شهر أبريل الجاري وحده دفعت إدارة الشرطة ٢٥٥ ألف دولار لتسوية قضيتين. التسوية الأولى لصالح أقارب رجل توفي بعدما أطلق عليه أحد ضباط الشرطة الرصاص في ٢٠١٢, والثانية لرجل تعرض للضرب على يد أحد الضباط في ٢٠١١. الملاحظ أن الضحيتين من السود بالرغم من محاولات (أنطوني باتس) رئيس شرطة (بالتيمور) – وهو أمريكي أسود – إصلاح جهار شرطة (بالتيمور) المشهور بانتهاكاته العنصرية ضد السود.
في سبتمبر ٢٠١٤ نشرت جريدة (بالتيمور صن) تقريرًا مطولًا عن وحشية الشرطة والمبالغ التي تنفقها في التسويات القضائية لصالح ضحايا عنف ضباط الشرطة. في إحدى الحالات تعرضت جدة في السابعة والثمانين من عمرها لكسر في الكتف بعدما دفعها ضابط الشرطة الذي كان يحقق مع حفيدها أرضًا. فبينما كانت تحاول الجدة إسعاف حفيدها الذي أصيب نتيجة إطلاق ضابط الشرطة الرصاص عليه دفعها الضابط قبل أن يقوم بوضع ركبته في ظهرها ويقيد ذراعيها خلف ظهرها بينما يطلق السباب العنصري ضد السود. ظلت الجدة تعاني من الإصابات التي ألمت بها عدة سنوات بعد الحادث, وحصلت على عرض لتسوية قضية رفعتها على الشرطة في ٢٠١٢ بعد خمس سنوات من الحادث مقابل ٩٥ ألف دولار.
3- هل تذكرنا أحداث بالتيمور بأحداث فيرجسون منذ بضعة أشهر؟
في صيف ٢٠١٤ اندلعت أعمال العنف في مدينة (فرجسون) وهي مدينة صغيرة بولاية (ميسوري) بعد مقتل شاب أمريكي أسود في الثمانية عشرة من عمره, برصاص ضابط شرطة أبيض.
هناك أوجه اختلاف كثيرة بين (بالتيمور) و(فرجسون) ولكن وجه الشبه الرئيسي بين المدينتين هو أنه بينما يمثل السود أغلبية السكان فإن نسبتهم في جهازي الشرطة في المدينتين لا تتناسب مع نسبتهم من إجمالي عدد السكان. في حالة (بالتيمور) فإن الأمريكيين البيض يمثلون ٢٨٪ فقط من عدد سكان المدينة بينما ترتفع نسبتهم في جهاز الشرطة لـ٤٦٪ وهو ما يتشابه مع النسب نفسها في (فرجسون) حيث يمثل البيض نسبة ٢٩٪ من السكان وترتفع نسبتهم إلى ٩٤٪ من رجال الشرطة في المدينة.
مشكلة التمثيل غير العادل تعاني منها العديد من المدن الأمريكية حيث لا تتناسب ديموغرافية أجهزة الشرطة ونسب البيض والسود فيها. قد يكون من المقبول نوعًا أن مدينة مثل (سان بول) في ولاية (مينيسوتا) أغلبية سكانها من البيض بنسبة ٥٧٪ تكون نسبة البيض في جهاز الشرطة ٧٧٪ من قوة الجهاز. لكن من غير المعقول أن يتكرر الأمر نفسه حتى في المدن التي لا يمثل البيض أغلبية سكانها فيحظون بالتمثيل الأكبر في أجهزة الشرطة, فمثلا في مدينة (سان خوسيه) في ولاية كاليفورنيا يمثل البيض ٣٠٪ فقط من عدد السكان بينما يمثلون ٦٣٪ من جهاز الشرطة فيها, ترتفع نسبة السكان البيض في (ساني فيل) بكاليفورنيا إلى ٣٧٪ فترتفع معها نسبة الضباط البيض في قوة الشرطة إلى ٧٣٪ هناك حالات يمثل فيها البيض ١٠٠٪ من قوة الشرطة بينما يمثلون ٩٪ فقط من عدد السكان مثل بلدة (مونتيبيللو) بولاية كاليفورنيا.
4- لماذا ازدادت ردود أفعال الأمريكيين السود حدة؟
شهدت المدن الأمريكية في السنوات الثلاث الأخيرة العديد من حالات القتل العنصري حيث يفقد أمريكيون سود حياتهم على يد أمريكيين بيض أكثرهم من ضباط الشرطة المسئولين في الحالات الطبيعية عن حماية المواطنين. في معظم تلك الحالات كان الضحية أعزلَ ولم يكن الضابط القاتل يمتلك حجة قوية تبرر جريمة القتل.
حادثة (مايكل براون) قد تكون أشهر تلك الحوادث بعدما احتلت مظاهرات وأعمال العنف التي جرت في مدينة (فرجسون) مشهد الصدارة لوقت طويل من عام ٢٠١٤. (براون) شاب في الثمانية عشرة من عمره قُتِل في ٩ أغسطس ٢٠١٤ على يد (دارين ويلسون) لتندلع بعدها أعمال العنف في مدينة (فرجسون) لوقت طويل. في النهاية بُرّئ (ويلسون) من جريمة القتل العمد.
في ٢٢ نوفمبر ٢٠١٤ أطلق ضابطا شرطة مدينة (كليفلاند) بولاية (أوهايو) النار على الطفل (تامر رايس) – ١٢ عامًا – ليردياه قتيلًا بعدما شكّا أنه يحمل مسدسًا.
في ١٧ يوليو ٢٠١٤ قام ضابط شرطة مدينة (نيويورك) (دانيال بانتاليو) بخنق (إيريك جارنر) وهو أمريكي أسود في الأربعينات من عمره لمدة ١٥ ثانية مما تسبب في قتله. اجتاحت المظاهرات عدة مدن أمريكية بعد قرار عدم إدانة (بانتاليو) ومعاقبته فقط بإحالته للأعمال المكتبية.
يشعر الأمريكيون السود بالتفرقة وعدم المساواة بينهم وبين البيض في فرص العمل والتعليم وهو ما ينمي شعورهم بالغضب تجاه السلطات خاصة أجهزة الشرطة, وبينما ظن البعض أن الأجهزة الحكومية ستتعلم من درس (فرجسون) وتعيه جيدًا, فإن ذلك لا يبدو واضحًا حتى الآن بعد تكرر حالات قتل أمريكيين سود من قبل ضباط الشرطة الذين لا يحاسبون في أغلب الأحيان على تلك الجرائم. كما لم تحاول الحكومة الأمريكية حل جذور تلك المشكلات بتقديم حلول حقيقية للأحياء الفقيرة التي يقطنها السود في معظم المدن الأمريكية.
يقول (جاستن بولسون) أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة كارلتون أنه من الملاحظ أنه في معظم المدن التي اجتاحتها المظاهرات وأعمال العنف فإن المؤسسات التي من دورها أن تعمل لتسهيل حياة المواطنين والحفاظ على أمنهم هي التي تحيل حياتهم جحيمًا.
في ٢٠٠٨ اصطف معظم الأمريكيين السود خلف (باراك أوباما) كأول رئيس أمريكي أسود ظانين أنه خطوة للأمام في معركتهم من أجل المساواة, المعركة التي كان (مارتن لوثر كنج) أبرز وجوهها. (لوثر كنج) قال في خطبة في عام ١٩٦٨ أنه من غير الأخلاقي أن ندين أعمال العنف بدون أن ندين الأسباب التي أدت لإشعال أعمال العنف نفسها. هذه الأسباب هي التي تجعل الأشخاص يشعرون بأنه ليس أمامهم بديل غير الثورة العنيفة”.
في عام ١٩٦٧ وبعد العديد من حوادث العنف على أساس عنصري بين البيض والسود قام الرئيس الأمريكي (ليندون جونسون) بتعيين لجنة سميت لجنة (كيرنر) لبحث أسباب العنف وكيفية معالجتها. جاء في تقرير اللجنة “إن أمتنا تتجه ناحية الانقسام لمجتمعين منفصلين, أحدهما أبيض والآخر أسود. منفصلان وغير متساويين. إن التمييز العنصري والفقر صنعا جيتو عنصريًا مدمرًا مجتمعيًا لا يعلم عنه الأمريكيون البيض شيئًا ولا يشعرون به”.
تبدو الكثير من الأمور متشابهة بين ما أعمال العنف ومعارك الأمريكيين السود ضد التمييز العنصري في الستينات وبين ما يحدث اليوم. كان (مارتن لوثر كينج) يقول “إن أعمال الشغب هي لغة غير المسموعين” لا أظن أن رأيه كان سيتغير كثيرًا لو امتد به العمر حتى يومنا هذا.
لمزيد من صور الاحتجاجات يمكنك الاطلاع على: بالصور، بالتيمور الأمريكية تشتعل بالاحتجاجات ضد الشرطة