ßÊÇÈ حدّ الردّة .. المزعوم
الفصل الثانى : حد الردة فى كتب التراث وتاريخ المسلمين

في الأحد ٢٤ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

أولاً: السيرة النبوية تنفى وجود الردة
بدأ تدوين المغازى أو السيرة النبوية قبل كتابة الأحاديث المنسوبة للنبى ، ولذلك كانت الحقائق التاريخية فى السيرة أقرب للصدق وأقرب للواقع القرآنى من أغلب الأحاديث. مع التأكيد على أن حقائق القرآن مطلقة لأنها الاهية، اما مايقوله التاريخ فى السيرة النبوية وغيرها فهى أخبار لا تخلو من الكذب وتحتاج الى جهد الباحثين لفحصها وتمحيصها ومعرفة الصحيح والكاذب منها. وجهد الباحثين فى الاختيار والتمحيص ليس الا جهدا بشريا قابلا للخطأ والصواب شأن الروايات التاريخية نفسها وكلها ان صحت فهى حقائق تاريخية بشرية. المهم ان تلك السيرة ليست جزءا من الدين الالهى لأن الدين الألهى لا يمكن أن يكون مؤلفه من البشر. ان الله تعالى هو مالك الدين وهو الذى جعل لهذا الدين يوما هو يوم الدين، وهو الذى ارسل الرسل بالكتاب الالهى الذى يعبر عن دينه والذى على أساسه سيحاسب البشر يوم الدين.
ويرتبط بالسيرة ما اصطلح على تسميته بأسباب النزول، وهى الروايات التى قالها علماء التفسير الأوائل فى سبب نزول بعض الآيات، وجدير بالذكر أن مجالس العلم الأولى فى عصر الخلفاء الراشدين دارت حول المغازى أو سيرة الرسول وأسباب النزول والتفسير أو التعليق على آيات القرآن الكريم، وكان أساتذة تلك المجالس العلمية من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وابن عمرو وزيد بن ثابت.
* ومن خلال البحث فى السيرة النبوية وأسباب النزول المرتبطة بالقرآن الكريم نتأكد من عدم وجود حد الردة المزعوم.
* إن سيرة ابن هشام هى أقدم كتب السيرة وأكثرها ثقة واحتراماً، والبحث فيها يثبت أن النبى- من خلال الروايات المنقولة عنه- لم يعرف حد الردة ولم يعامل المنافقين إلا بالتى هى أحسن.
- يذكر ابن هشام فى تأريخه لغزوة (أحد) أن جيش المسلمين اجتاز حديقة لأحد المنافقين وهو مربع بن فيظى وكان أعمى فقام يحثى التراب فى وجوه المسلمين ويقول للنبى: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى (أى بستانى)، وأخذ حفنة من تراب فى يدى وقال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم، فقال لهم النبى : لا تقتلوه..
- وحين قال عبد الله بن أبى بن أبى سلول زعيم المنافقين: أما والله إن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال عمر للنبى: مر به عباد بن بشر ليقتله، فقال له النبى: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟
- وعاش عبد الله بن أبى بن سلول زعيم المنافقين يمارس دوره فى الكيد للمسلمين كيف شاء حتى مات، ولما مات دعى النبى للصلاة عليه فاعترض عمر وأخذ يقول للنبى: يا رسول الله أتصلى على عدو الله عبد الله بن أبى بن سلول القائل كذا يوم كذا والذى فعل كذا يوم كذا، فتبسم النبى وقال: إنى قد خُيرت فاخترت، قد قيل لى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم. فلو أعلم أنى زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلى عليه النبى ومشى فى جنازته حتى قام على قبره، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾..فما صلى بعدها على منافق.
ويذكر ابن هشام أن بعض المنافقين استهزأ بالرسول حين خرج بالجيش لمواجهة الروم فى غزوة تبوك وتوقعوا أن يأسر الروم الرسول والمسلمين وعرف النبى بمقالتهم، فجاءوا إليه يعتذرون، ويقولون يا رسول الله كنا نخوض ونلعب، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾..
ولم يتعرض لهم النبى ..
وهذه بعض الأمثلة مما ذكره النيسابورى فى كتابه (أسباب النزول)
- يقول: اجتمع نفر من المنافقين وأخذوا يسبون النبى وعندهم غلام من الأنصار اسمه عامر بن قيس فقالوا: لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن أشر من الحمير، فأتى عامر للنبى فأخبره فاستدعاهم وسألهم فحلفوا له أن عامراً كاذب، وحلف عامر أنهم كاذبون وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق من كذب الكاذب، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ﴾.
- ويقول أنه خرج بعض المنافقين مع الرسول إلى غزوة تبوك فكانوا إذا خلوا إلى بعضهم سبوا الرسول وطعنوا فى الدين، فنقل ما قاله حذيفة إلى الرسول فقال لهم النبى: ما هذا الذى بلغنى عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئاً.. فنزل قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾.
ويروى النيسابورى رواية أخرى لقوله تعالى عن المنافقين ﴿وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾ وهى أن بعضهم تآمر على قتل النبى ليلة العقبة وكان قائد النبى فى تلك الليلة عمار بن ياسر وسائقه حذيفة، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل فالتفت فإذا هو بقوم ملثمين فقال: إليكم يا أعداء الله، فأمسكوا وارجعوا، ومضى النبى حتى نزل منزله..
- ويروى النيسابورى روايات متعددة فى سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾. ومنها رواية تقول أنها نزلت فى معركة انهزم فيها المشركون وهرب منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين فلما غشيه بالسلاح قال الهارب: إنى مسلم إنى مسلم، فكذبه وقتله وأخذ متاعه فقال له النبى: قتلته بعد ما زعم أنه مسلم، فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً من القتل، فقال له الرسول: فهلا شققت عن قلبه فتنظر أصادق هو أم كاذب؟!!
ورواية أخرى تقول أن المسلمين لحقوا رجلاً فى غنيمة له فقال لهم: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فنزلت الآية .
* إذن هى حقيقة الاهية قرآنية مطلقة تؤكد أن النبى لم يعرف حد الردة ولم يتعامل به مع المنافقين الذين شهد الله تعالى على كفرهم وتآمرهم..
* وهى أيضاً حقيقة تاريخية فى سيرة النبى تؤكد أن النبى لم يعرف حد الردة ولم يتعامل به مع المنافقين الذين شهد الله تعالى على كفرهم وتآمرهم..
* وقد اضطر بعضهم للاعتراف بهذه الحقيقة ففى كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) يقول الشيخ الغزالى مستنكراً (متى أمر رسول الله بقتل المنافقين؟ ما وقع ذلك منه، بل لقد نهى عنه) .
* فإذا كان النبى قد نهى عن قتل المنافقين وهم قد ارتدوا عن الإسلام فماذا يقول علماء الأصول فى تراث المسلمين عن مدلول ذلك فى أصول التشريع؟ يقول الإمام الشاطبى فى كتابه (الموافقات) عن السنة النبوية فى المسألة السادسة تحت عنوان (فعل الرسول دليل على مطلق الأذن وتركه دليل على مطلق النهى): من أنواع الترك: منع النبى من قتل أهل النفاق وقال عليه السلام فى ذلك: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه..) . والحديث السابق رواه مسلم فى صحيحه.. والمستفاد من ذلك أنه طالما نهى النبى عن قتل أهل النفاق فذلك يعتبر دليلاً على مطلق النهى عن قتل المنافقين، وطالما شهد الله تعالى على أن المنافقين ارتدوا عن الإسلام، إذن فهو نهى عن قتل المرتد. وبالتالى دليل لنا على أن حد الردة يناقض التشريع الإسلامى بشهادة علماء الأصول فى التراث.. وسبق أن أثبتنا أنه يناقض تشريع القرآن.. ولكن المغرمين بحد الردة من الفقهاء حين يعوزهم الدليل من القرآن والأصول يحتجون بأن أبا بكر حارب المرتدين.
تعالوا بنا إلى حرب الردة..

ثانياً: بين حرب الردة وحد الردة:
الشائع أن أبا بكر حارب المرتدين لأنهم منعوا الزكاة..... وذلك تبسيط مخل بالموضوع.. إن تقديم الصدقات فى عهد النبى كان يتم طواعية، والله تعالى منع الرسول من أخذ صدقات المنافقين لأنهم لا يستحقون شرف التطوع فقال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَىَ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.
وبعضهم عاهد الله إن رزقه ليتصدقن وليكونن من الصالحين فلما رزقه الله أعرض وبخل، فقال عنه رب العزة: ﴿وَمِنْهُمْ مّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ. فَلَمّآ آتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىَ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾.
ويروى النيسابورى فى أسباب نزول هذه الآية أن ثعلبة قال للنبى: ادع الله أن يرزقنى مالاً، فقال له: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه، فقال ثعلبة: والذى بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقنى لأوتين كل ذى حق حقه، فدعا له النبى، وكثرت أغنام ثعلبة حتى ضاقت بها المدينة فخرج بها عن المدينة وانشغل بها عن الصلاة، ورفض أن يعطى الصدقة المفروضة، ونزلت فيه الآيات، فعاد للنبى يعرض عليه صدقاته فرفضها النبى ثم رفضها أبو بكر ثم عمر إلى أن مات فى خلافة عثمان .
وعاش أبو بكر حياته مع النبى وعايش تعامل النبى عليه السلام مع المنافقين وكيف كان يرفض صدقاتهم تنفيذاً لأم الله تعالى..ولذلك فلا تتصور أن يكون نهوضه لحرب المرتدين لمجرد أنهم منعوا الزكاة. لأن الأمر كان أعقد من ذلك بكثير..
* يقول ابن كثير فى تاريخه أنه بعد وفاة النبى عليه السلام ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب واشتد النفاق فى المدينة، وكان خطر الأعراب حول المدينة هائلاً، وانضمت إلى مسيلمة الكذاب قبائل حنيفة واليمامة، وانضم إلى طليحة الأسدى قبائل أسد وطئ وآخرون فادعى النبوة مثل مسيلمة، ونفذ أبو بكر وصية الرسول عند الموت بإرسال حملة أسامة بن زيد فأصبحت المدينة بلا جيش قوى يحميها، فتشجع الأعراب المحيطون بالمدينة وبدءوا يتجمعون حولها مما جعل أبو بكر يكون مجموعات حراسة حول المدينة يقودهم على والزبير وطلحة وسعد ابن أبى وقاص وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف..
وفى ذلك الوقت العصيب جاءت وفود القبائل التى رفعت راية العصيان تفاوض أبا بكر على أن لا تؤدى الزكاة، ورفض أبو بكر، وقد أشار الصحابة ومنهم عمر على أبى بكر بأن يصالحهم على ذلك إلى أن تتحسن أحوال المسلمين فرفض أبو بكر وقال: والله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه. والواضح أن أبا بكر قد فهم الأمر على حقيقته، وأنه ليس مجرد منع الزكاة بل هى ثورة وتهديد للدولة الجديدة ورغبة فى القضاء عليه، ولذلك فإن أبا بكر أدرك أن أولئك المتفاوضين إنما هم طلائع جيش قادم على الأبواب، فأخبر أهل المدينة بأن أولئك المتفاوضين حين يرجعون إلى أقوامهم سيخبرونهم بقلة الجيش فى المدينة..
وهكذا جعل أبو بكر يقوى الحراسة على المدينة تحسباً للهجوم القادم، وألزم أهل المدينة بالاستعداد الحربى فى الداخل، وأمرهم بالحضور فى المسجد على أهبة التحرك، أى أعلن الطوارئ القصوى، وبعد رجوع وفد التفاوض بثلاثة أيام وصلت للمدينة طلائع جيش المرتدين، بينما بقى قلب الجيش عند (ذى حسى) وأرسلت قوة الحراسة على المدينة تخبر بالهجوم القادم فأمرهم أبو بكر بأن يلزموا أماكنهم. وخرج سريعاً بأهل المدينة المجتمعين فى المسجد، واشترك الجميع فى مواجهة الهجوم حتى هزموهم وطاردوهم إلى حيث قبع قلب الجيش فى (ذى حسى) وفوجئ المسلمون بالكمين ولكن استطاعوا الانتصار..
وقبلها أغارت قبائل الأعراب على المدينة ومعها عناصر من المرتدين من قبائل عبس وذبيان وكنانة ومرة، وقد صدهم المسلمون، ولكن خطرهم كان لا يزال قائماً بسبب قربهم من المدينة، وبعد انتصار المسلمين على الجيش الأول للمرتدين بعثوا حملة إلى أولئك الأعراب ولكنهم استطاعوا هزيمة المسلمين فى بداية الأمر، فبات أبو بكر يعبئ المسلمين ثم هاجم الأعراب آخر الليل وهزمهم وطاردهم إلى (ذى القصة) وكان ذلك أول الفتح وبعدها تمكن المسلمون فى كل قبيلة من الهجوم على المرتدين فى داخل القبيلة وأخضعوهم. ثم رجع أسامة بن زيد بالجيش منصوراً فقوى به المسلمون فى المدينة، وقد استخلفه أبو بكر على المدينة وخرج بالجيش إلى بقايا المرتدين فى (ذى حسى) و(ذى القصة) فهزمهم.. وبعدها أرسل أحد عشر جيشاً لمطاردة المرتدين فى كل أنحاء شبه الجزيرة العربية..!!
* والسؤال هنا: أين ذلك كله من حد الردة..؟
إن حرب الردة هى حركة مسلحة استهدفت القضاء السياسى على الدولة الإسلامية، وقد واجهها أبو بكر بنفس السلاح ليدافع عن الدولة الناشئة، وبعد إخمادها دخل أبو بكر بالعرب إلى عصر جديد بالفتوحات فى العراق والشام.
وما يفعله أبو بكر ليس مصدراً للتشريع، ولذلك خالفه عمر وبعض الصحابة فى اجتهاده السياسى، ونرى أنه أصاب فى موقفه السياسى والحربى، واستطاع أن ينقذ الإسلام والمسلمين من تلك الهجمة القبلية المتخلفة..
ولكن لا شأن لحرب الردة بحد الردة..
إن حد الردة يتحدث عن شخص مسالم لا يرفع سلاحاً، دخل فى الإسلام، أو عاش مسلماً ثم أراد أن يخرج منه، دون أن يحارب المسلمين.. فالفرق شاسع بين حرب الردة وحد الردة.. وإذا كانت حرب الردة قد وقعت فى خلافة أبى بكر فإن حد الردة اخترعوه فيما بعد، وأبو بكر فى دفاعه عن وجهة نظره، لم يقل "من بدل دينه فاقتلوه" لأن حديث الردة لم يكن قد اخترع فى ذلك الوقت.تعالوا بنا الى نشأة حد الردة المزعوم..

ثالثاً: نشأة حد الردة:
بين الأوزاعى وعكرمة:
- يقوم حد الردة المزعوم على مجرد حديثين روى أحدهما عكرمة مولى ابن عباس والآخر أعلنه الأوزاعى بدون سند وبدون رواة فى موقف عصيب.. ثم ما لبث أن رواه مسلم فى "صحيحه" بعد أن منحه السند والعنعنة..
- ونبدأ بالأوزاعى ودوره فى اختراع حديث الردة القائل "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
- لقد عاش الأوزاعى فى الدولة الأموية وناصرها وخدمها ثم أدرك الدولة العباسية ومالأها وخدمها أيضاً.. ووجدت فيه الدولتان الأموية والعباسية خير من يمثل فقيه السلطة الذى يفتى لها بما تريد، لذلك عاش مكرماً فى عهد الأمويين، فما جاء أعداؤهم العباسيون يفتكون بالأمويين وعملائهم ظهر لهم الأوزاعى يعرض خدماته، فعفوا عنه لأنهم فى حاجة ماسة له.. فتمتع بالنعيم العباسى بعد أن تمتع بالنعيم الأموى..
إن الأمويين فى بداية الأمر لم يحتاجوا إلى فقهاء السلطة، فمعاوية لم يحتج فتوى حين قتل حجر بن عدى الكندى بسبب كلمة قالها، ولم يحتج معاوية لاتهام حجر بالردة أو إلى مبرر يتمسح بالشرع كى يقتله، وبزيد بن معاوية لم يحتج إلى فتوى حين قتل الحسين وآله فى كربلاء، ولم يحتج إلى فتوى تبيح غزو المدينة وانتهاك حرمتها، ولم يحتج إلى فتوى تبيح له حصار مكة وانتهاك حرمة الكعبة وضربها المجانيق..
إلا أن تلك الفظائع التى حدثت فى سنوات متتالية تركت أثراً هائلاً لدى المسلمين استغله بنجاح أعداء الأمويين من الشيعة والخوارج والموالى.. ولم يعد مجدياً أمام الجهاز الدعائى الأموى تبرير مقتل آل البيت وانتهاك حرمة مكة والمدينة بمجرد القصص والروايات، وكان القصص من المهام الرسمية فى الدولة الأموية ويمثل جهاز الإعلام فى عصرنا..
وكانت الطريقة الوحيدة هى التمسح بالمشيئة الإلهية، وذلك ما يفعله الظالم والعاصى فى تبرير ظلمه وعصيانه.. وهكذا بدأت الدعاية الأموية تتخذ مجرى جديداً يقول أن الله شاء أن يموت الحسين وآله قتلى فى كربلاء، وأن مشيئة الله اقتضت أن تنتهك حرمة البيت الحرام والمدينة. وإن الاعتراض على ذلك اعتراض على مشيئة الرحمن وخروج على الإسلام ويستحق القتل..
وبذلك بدأ القول بالجبرية ليبرر مظالم الأمويين السابقة واللاحقة.
وبدأ حسن البصرى فى مقاومته تلك الدعوى بطريقة لينة خوفاً من الحجاج. إلا أن الحسن البصرى تشجع حين ظهر معبد بن خالد الجهنى وقال معلناً مقالته المشهورة "لا قدر والأمر أنف" ليرد على دعاوى الأمويين بأن ظلمهم يسير بقدر الله ومشيئته فقال معبد الجهنى أنه لا دخل لقدر الله فى تلك المعاصى وأن أمور الأمويين تجرى بالإكراه والاستبداد والظلم رغم أنوف المسلمين أى "لا قدر والأمر أنف".
وانتقل معبد الجهنى إلى البصرة وقابل الحسن البصرى وقال له: يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المؤمنين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجرى أعمالنا على قدر الله، ورد عليه الحسن البصرى: "كذب أعداء الله" وقد شارك معبد فى ثورة ابن الاشعث على الحجاج الثقفى وأسره الحجاج ومات تحت التعذيب بعد سنة 80 هـ.
وسمى مذهب معبد الجهنى بالقدرية التى تعنى مذهب الإرادة الحرة ومسئولية الإنسان عن أعماله، واشتق اسم القدرية من قول معبد "لا قدر والأمر أنف".
وحمل راية القدرية بعد الجهنى غيلان الدمشقى الذى انضم إلى الثائرين على الخليفة هشام بن عبد الملك، وأسره الأمويين وسجنوه . وكان غيلان الدمشقى من الفصحاء فاجتذب الكثيرين من الأتباع، لذا خشى هشام من قتله بدون محاكم فسلط عليه الأوزاعى فقيه الأمويين فى دمشق ودارت مناقشة أو محاكمة أفتى بعدها الأوزاعى لهشام بأن يقتل غيلان وصاحبه المسجون معه، وحتى ذلك الوقت لم يذكر الأوزاعى حديث الردة فأمر هشام بإخراجهما من السجن وقطع أيديهما وأرجلهما ثم قطع لسان غيلان فمات .
وهنا نتوقف مع الأوزاعى ونشأته فى ظل الدولة الأموية وخدمته لها ثم لأعدائها العباسيين فيما بعد.
ولد عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعى فى بعلبك سنة 115 ونشأ بالبقاع فى حجر أمه وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب أى تعلم بنفسه، وقد كان شديد الطموح، وقد أدرك أن طريقه للوصول للجاه تأتى عن طريق الشهرة بين الناس والتزلف لبنى أمية، وإذا كان صعباً على الفقيه فى العراق أن يحظى بحب الناس مع حب بنى أمية، حيث تسود الكراهية للأمويين، فإن الوضع فى الشام مختلف، إذ أن أهل الشام هواهم مع الأمويين، لذلك كان سهلاً على الأوزاعى أن يحصل على الحظوة الشعبية والحظوة الأموية معاً.
وكان من السهل على الأوزاعى أن يستميل إليه أفئدة الناس بادعاء الزهد وسبك الكرامات- قبل ظهور التصوف بقرن من الزمان، وكان الرأى العام يحتفل بالزهاد ويحضر مجالسهم، وكان الأمويين فى نفس الوقت يحتاجون إلى وجود شيخ شعبى يقدم لهم إلى جانب الفتوى الملائمة المسوغ الشرعى لحكمهم الظالم، واستغل الأوزاعى تشوق المجتمع لقصص الزهاد والصالحين فأسرف فى تأليف الكرامات والوحى لنفسه فيقول "رأيت رب العزة فى المنام فقال أنت الذى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت بفضلك يا رب، ثم قلت: يا رب أمتنى على الإسلام، فقال: وعلى السنة" فهنا وحى كاذب يدعيه الأوزاعى لنفسه ويقبله منه عصره، وقد سبق به الأوزاعى ما قاله الصوفية بعده بقرن من الزمان، وهو فى ذلك المنام الذى ادعاه يجعل رب العزة يزكيه ويمدحه. وقد أشاعوا أن بعض الناس رأى مناماً يقال فيه "أن الأوزاعى خير من يمشى على الأرض" وتنتهى الأسطورة بادعاء أن من رأى هذا المنام لابد أن يموت، حتى لا يوجد الدليل على تلك الرؤيا أو تلك الدعوى أو ذلك المزعم.
وكان واضحاً أن الأوزاعى يقوم بهمة القصص. تلك المهنة التى ابتدعها الأمويين وجعلوا لها ديواناً رسمياً يبثون من خلاله دعايتهم وبياناتهم السياسية والدينية، وفى إحدى تلك المجالس حكى الأوزاعى عن نفسه قال "أردت بيت المقدس، فرافقت يهودياً فلما صرنا إلى طبرية، نزل فاستخرج ضفدعاً فوضع فى عنقه خيطاً فصار الضفدع خنزيراً، فقال أبيعه إلى هؤلاء النصارى، فذهب فباعه واشترى طعاماً فأكلناه ثم ركبنا، فما سرنا، غير بعيد حتى جاء القوم يطلبوننا، فقال لى: أحسبه صار فى أيديهم ضفدعاً، فحانت منى التفاته إليه فإذا بدنه فى ناحية ورأسه فى ناحية، فوقفت وجاء القوم فلما نظروا إليه فزعوا ورجعوا عنه فقال لى الرأس: أرجعوا؟ قلت نعم. فالتأم الرأس إلى البدن وركب وركبنا فقلت له لا أرافقك أبداً أذهب عنى".
وتلك الأسطورة لو قالها شخص عادى لاستحق السخرية من الناس ولكن حين يقولها شيخ يحظى بتصديق الناس له واعتقادهم فى دينه فلابد أن يصدقوه..- وقد استطاع الأوزاعى أن يقنع الناس بتقواه فوصفوه بأنه كان من شدة الخشوع كأنه أعمى وقالوا "أنه كان يعظ الناس فلا يبقى أحد فى مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه وما رأيناه يبكى فى مجلسه قط، وكان إذا اختلى بكى حتى يرحمه الناس" فكيف يبكى فى خلوة وكيف يرحمه الناس وهم لا يرون بكاءه..
والمستفاد من ذلك أن هناك من يشيع تلك الأخبار عن الأوزاعى حتى يعتقد الناس فى خشوعه وخوفه من الله. وكانت زوجته من ضمن فريق الدعاية، فقد دخلت امرأة عليها فرأت الحصير الذى يصلى عليه الأوزعى مبلولاً فقالت المرأة لعل الصبى تبول هنا؟ فقالت لها زوجة الأوزاعى: هذا أثر دموع الشيخ فى سجوده وهكذا يصبح كل يوم!!
ولذلك كان الأوزاعى فى الشام معظماً مكرماً كما يقول المؤرخ الشامى ابن كثير وكان أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد أمر الوالى العباسى عبد الله بن على بعد القضاء على الأمويين بأن يقتل الأوزاعى باعتباره من عملائهم فقال له أصحابه دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك..
وقد حكى ابن كثير قصة ذلك اللقاء بين الأوزاعى والقائد العباسى عبد الله بن على عم الخليفة السفاح والجبار الذى أباد بنى أمية بالشام، يقول ابن كثير عن الأوزاعى "كان له فى بيت المال على الخلفاء إقطاع ـ اى ارضا زراعية أقطعوها له أى أعطوها له ـ صار له من بنى أمية وقد وصل إليه من خلفاء بنى أمية وأقاربهم وبنى العباس نحو السبعين ألف دينار".
أى استفاد من الدولتين أعطوه الإقطاعيات والزراعية والأموال.
ويقول ابن كثير "ولما دخل عبد الله بن على- عم السفاح أول خليفة عباسى- الذى أجلى بنى أمية عن الشام وأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم على يده دمشق فطلب الأوزاعى فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه".
أى أن القائد العباسى بعد أن أقام مذابح للأمويين وبعد أن نبش قبور الموتى من الخلفاء السابقين منهم، وبعد أن نكل بأعوان الأمويين استدعى الأوزاعى، فاختفى الأوزاعى ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه وقد أعد ما سيقوله فى ذلك اللقاء العصيب لينجو برقبته من جبار بنى العباس وعم الخليفة السفاح نفسه.
وينقل ابن كثير رواية الأوزاعى نفسه عن ذلك اللقاء "قال الأوزاعى دخلت عليه وهو على سريره وفى يده خيرزانه والمسودة- أى القادة العباسيون وكانوا يلبسون السواد- عن يمينه وشماله معهم السيوف مصلته والعمد الحديد- أى الأعمدة الحديدية- فسلمت عليه، فلم يرد، ونكت بتلك الخيرزانة التى فى يده، ثم قال: يا أوزاعى ما ترى فيما صنعناه من إزالة أيدى الظلمة عن العباد والبلاد، أجهاداً ورباطاً هو؟ فقلت: يا أيها الأمير سمعت يحيى بن سعيد الأنصارى يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمى يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". قال الأوزاعى فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم ثم قال: يا أوزاعى ما تقول فى دماء بنى أمية؟ فقلت: قال رسول الله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق للجماعة" قال الأوزاعى: فنكت بها أشد من ذلك ثم قال: ما تقول فى أموالهم فقلت: إن كانت فى أيديهم حرام فهى حرام عليك أيضاً وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعى، قال: فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ثم قال: ألا نوليك القضاء؟ فقلت: أن أسلافك لم يكونوا يشقون على ذلك وإنى أحب أن يتم ما ابتدأونى به من إحسان، فقال: كأنك تحب الانصراف؟ فقلت: إن ورائى حرماً محتاجون إلى القيام عليهم وسترهن وقلوبهن مشغولة بسببى . قال الأوزاعى وانتظرت رأسى أن يسقط بين يدى، فأمرى بالانصراف فلما خرجت إذ برسوله من ورائى وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير استنفق هذه، قال الأوزاعى: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفاً، وقال الراوى عن الأوزاعى، وكان فى تلك الأيام، الثلاثة صائماً، فقال إن الأمير لما بلغه ذلك عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده.
اخترنا أن ننقل هذه الرواية الطويلة التى يحكيها الأوزاعى عن نفسه، وقد عرفنا جرأته على الكذب والاختلاق، ولكنها مع الشك فى بعض أجزائها إلا أنها تعطينا مشاعر الخوف لدى الأوزاعى، ذلك الخوف الذى لا يتفق مع تلك الردود الجريئة للأوزاعى خصوصاً وهو فقيه من فقهاء السلطة السابقة يريد أن ينجو من السلطة القادمة وقسوتها فى الانتقام، ولذلك لا نتصور أن يواجه جبار بنى العباس عبد الله بن على بأن يقول له مثلاً عن الأموال التى سلبها من الأمويين أن كانت فى أيديهم حراماً فهى حرام عليك أيضاً وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعى.
إلا أن ذلك الخوف يفرض على فقيه من نوعية الأوزاعى أن يختفى أياماً يجهز فيها دفاعه عن نفسه وتملقه للسلطة الجديدة واستعداده لخدمتها وذلك بشتى الطرق، وإن كان قد جرؤ على أن يدعى أنه يرى الله تعالى فى المنام ويجعل رب العزة يزكيه ويمدحه فإن من السهل عليه أن يدعى حديثاً نبوياً يخترعه اختراعاً يبيح به للسلطة العباسية أن تقتل خصومها بتهم ثلاث: القصاص، والزنا بعد إحصان والخروج عن الجماعة والدين..
ويلاحظ أن الأوزاعى ذكر حديث "إنما الأعمال بالنيات" وحرص على أن يذكر إسناده وروايته بالتفصيل ولكنه حينما ذكر حديث الردة "لا يحل دم امرئ مسلم" فإنه لم يذكر له إسناداً لأنه لم يكن إسناد حتى ذلك الوقت أو بمعنى آخر لم يكن حديثاً على الإطلاق وإنما اختراع حديث قدمه الأوزاعى هدية يبرهن به للسلطة الجديدة على استعداده لخدمتهم.
ومن الطبيعى أن يقتنع عبد الله بن على بأهمية الإبقاء على الأوزاعى لأنه لن يستفيد من قتله شيئاً، بل ربما يثور عليه أهل الشام الذين يحبونه، ثم أن وجود الأوزاعى فى خدمته أفضل لتأكيد السيطرة على الشام.
ويذكر ابن كثير أن الأوزاعى اجتمع بالخليفة المنصور العباسة حين دخل المنصور الشام وقد أحبه المنصور وعظمه.. ولذلك وصلته الأعطيات والإقطاعيات من العباسيين كما كانت فى عهد الأمويين.
لقد ظلت هيبة الأوزاعى فى الشام تحتل قلوب أهله حتى أن الذهبى فى كتابه "ميزان الاعتدال" تحرج من نقد الأوزاعى فى ترجمته له واكتفى بأن يقول عن مسرور بن سعيد رواية الأوزاعى "غمزه أى هاجمه وطعن فيه- ابن حيان، فقال: يروى عن الأوزاعى المناكير الكثيرة..
أى أن الأوزاعى يروى أحاديث منكرة..
وأفظعها حديث الردة "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
لأنه أعطى اثنين من المبررات لقتل النفس لا تستحق القتل، وقد وافق ذلك هوى الدولة العباسية لأنها بهذا الحديث المفترى وجدت غطاءاً تشريعياً للتخلص من خصومها الأمويين ثم الفرس..
لقد جاءت الدولة العباسية بمفهوم جديد للسلطة يخالف المفهوم الأموى، فإذا كانت الدولة الأموية تعول أساساً على قانون القوة فإن العباسيين الذين وصلوا للحكم تحت ستار الدعوة للرضى من آل محمد أو تحت شعار أنهم آل البيت كان لهم مفهوم جديد للسلطة هو قانون الشرع. فالخليفة الجديد يحكم بالسلطة الإلهية المستمدة من كونه من آل بيت النبى، والخليفة المنصور العباسى خطب يوم عرفة فقال: "يا أيها الناس إنما أنا سلطان الله فى أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه ".
أى يحكم بالحق الإلهى وذلك ما كان سائداً فى العصور الوسطى وفى أوروبا باسم The Divine Right Of Kings ومن الطبيعى أن يؤسس أحكامه على أدلة تشريعية، وإذا كان عسيراً أن يجد هواه فى القرآن فإنه يمكن أن يخترع له فقهاء السلطة ما يريد من الأحاديث والفتاوى....
ولذلك فإن استئصال الأمويين فى السنوات الأولى للحكم العباسى كان بفتوى وحديث الردة الذى يحل دم المسلم بإحدى ثلاث وكلها تنطبق على فلول بنى أمية، فقد قتلوا آل البيت فى كربلاء وقتلوا كل ثائر من ذرية الحسين وآخر ضحاياهم كان إبراهيم المهدى صاحب الدعوة العباسية الذى قتله مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين فى الشام.. إذن ينطبق عليهم من وجهة نظر العباسيين قاعدة النفس بالنفس، ثم انهمك الأمويون فى عصرهم الأخير فى المجون والانحلال الخلقى وكان رائدهم فى ذلك بعض الخلفاء الأمويين مثل يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد ، أى كان من السهل اتهامهم بالزنا بعد إحصان، ومن السهل أيضاً اتهامهم بترك الدين ومفارقة الجماعة خصوصاً وقد اشتهروا بإماتة الصلاة وعدم إقامتها، وكانت صياغة الحديث بهذا الشكل تعبر عن فهم الأوزاعى لمتطلبات السلطة العباسية الجديدة واحتياجاتها فى التخلص من خصومها تحت غطاء شرعى مصطنع والدليل على ذلك رواج حديث الأوزاعى واستخدام السلطة العباسية له فى مواجهة خصومها الجدد وهم الفرس...
فالموالى الفرس هم الذين أعانوا العباسيين على إقامة ملكهم، وكان أبو مسلم الخرسانى وجنده هم القوة الضاربة للعباسيين، وحين جاء وقت توزيع الغنائم والمكاسب السياسية استأثر العباسيون بكل شىء وقتلوا أبا مسلم الخرسانى، فثارت ابنته فى خراسان وظهرت طائفة الأبومسلمية تحارب العباسيين فى شرق فارس، وكان لهم أتباعهم فى بغداد وفى البلاط العباسى، وبينما واجه العباسيون ثورات الموالى فى شرق فارس بإرسال الجيوش الجرارة فإنهم تتبعوا عملاء الثوار فى بغداد وعمدوا إلى التخلص منهم باتهامهم بالردة أو الزندقة، ولذلك نشط الخليفة المهدى العباسى فى تتبع الزنادقة وقتلهم بالتهم الثلاث الواردة فى حديث الأوزاعى، وكانت شهرة الفرس بالانحلال الدينى والأخلاقى مما يساعد على اتهامهم وقتلهم وفقاً لذلك التشيع الأوزاعى. والسطور الأولى فى تاريخ الخليفة المهدى العباسى تؤكد حرصه على إبادة الزنادقة وأنه تتبعهم فى كل مكان. والمهدى هو ابن الخليفة أبو جعفر المنصور، ولهذا لا تعجب إذا أصبحت للأوزاعى حظوة عند الخليفة المنصور العباسى أو بتعبير ابن كثير "وقد أحبه وعظمه".
ولا نعجب أيضاً إذا عامل المنصور العباسى فقيهاً آخر بالاضطهاد والعنت ثم قتله، إنه الإمام أبو حنيفة الذى يعتبر صورة معكوسة للأوزاعى..
لقد نشأ الأوزاعى فى الشام ينتمى إلى العرب ويخدم السلطة الأموية، أما أبو حنيفة فقد نشأ فى العراق منتمياً إلى الفرس ويناوئ السلطة الأموية وجاءت الدولة العباسية وسرعان ما أصلح الأوزاعى شئونه معها وصار صاحب حظوة عند الخليفة المنصور.
أما أبو حنيفة الذى ناوأ الدولة الأموية وتحقق أمله فى القضاء عليها فإنه لم يلبث أن حدثت الفجوة بينه وبين الخليفة المنصور فاضطهده وقتله بالسم.
فى حياته فى الدولة الأموية كان أبو حنيفة يناصر الثورات الشعبية العلوية ضدها ومنها ثورة زيد بن على زين العابدين سنة 121 وانتبهت له الدولة الأموية، وأراد الوالى على العراق ابن هبيرة أن يختبر ولاءه للأمويين لأنه لم يكن لديه دليل واضح على اشتراكه الفعلى فى ثورات العلويين، وفى ذلك الوقت كان العراق يموج بقلاقل ضد الأمويين فجمع ابن هيبرة فقهاء العراق ومنهم أبو حنيفة وأسند لكل واحد منهم عملاً وجعل فى يد أبو حنيفة الخاتم أو السلطة على كل الفقهاء، فلا أمر إلا بإذنه، ووافق الفقهاء على خدمة الدولة ماعدا أبو حنيفة، فهدده ابن هيبرة بالضرب والعذاب فأبى، فقال له الفقهاء: "إنا ننشدك الله أن تهلك نفسك فإنا أخوتك وكلنا كارهون لذلك الأمر" فقال أبو حنيفة: "لو أرادنى أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل فى ذلك، فكيف وهو يريد من أن يكتب دم رجل يضرب عنقه وأختم أنا على ذلك الكتاب؟ فوالله لا أدخل فى ذلك أبداً...!" وأمر ابن هيبرة بضرب أبى حنيفة وحبسه، فلما يأس منه فأطلق سراحه، فهرب أبو حنيفة إلى مكة، وظل فيها إلى أن قامت الدولة العباسية، فجاء للكوفة فى خلافة أبى جعفر المنصور .
- وكان طبيعياً أن تحتفل به الدولة العباسية لمواقفه مع آل البيت ومقاومته للدولة الأموية وكونه من ضحاياها، لذلك قربه الخليفة المنصور وكان يستشيره، إلا أن محاولة المنصور استغلال أبى حنيفة وجبروت المنصور فى التنكيل ببنى عمه العلويين عند ثورة محمد النفس الزكية سنة 145 جعل العلاقة تسوء بين الخليفة والفقيه الحر..
فقد اتهم المنصور أبا حنيفة بأنه يثبط القواد العباسيين عن حرب محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وراح المنصور يخطط للإيقاع بأبى حنيفة فى نفس الوقت الذى كان أبو حنيفة يفتى بما يعتقده حقاً وهو يعرف أن الخليفة لا يريد إلا الفتاوى التى تساعده فى حكمه..
كان المنصور قد اشترط على أهل الموصل أنهم إذا ثاروا عليه فإن دماءهم حلال، وثار أهل الموصل سنة 148 فجمع المنصور الفقهاء وفيهم أبو حنيفة وقال لهم: أهل الموصل قد شرطوا ألا يخرجوا علىّ وهاهم قد خرجوا وحلت لى دماؤهم، فقال الفقهاء: إن عفوت فأنت أهل للعفو وإن عاقبت فبما يستحقون، ولكن أبا حنيفة قال: يا أمير المؤمنين ليس لك أن تشترط عليهم سفك دمائهم، أرأيت لو أن امرأة أباحت جسدها بغير عقد نكاح أيجوز لها ذلك؟ فقال الخليفة: لا. وأمر الخليفة بانصراف الفقهاء ثم قال لأبى حنيفة: لا تفت الناس بما هو شين على إمامك فتقوم الثورات وتبسط أيدى الخوارج .
ويلاحظ أن أولئك الفقهاء الذين نافقوا المنصور هم نفس الفقهاء الذين أبدوا استعدادهم لخدمة ابن أبى هبيرة والى العراق للأمويين وكان منهم ابن أبى ليلى وابن شبرمة وابن أبى هند، وكانوا أعلام الفقهاء فى العراق. ومن الطبيعى أن يحقدوا على أبى حنيفة استقلاله واستقامته لذلك استجابوا لدعوة أبى جعفر المنصور فانطلقوا يهاجمون أبى حنيفة ويتهمونه بإنكار الأحاديث، تلك الأحاديث التى اصطنعوها لخدمة السلطة العباسية، وتطرف ابن أبى ليلى فى النيل من أبى حنيفة حتى يقول فيه أبو حنيفة: "إن ابن أبى ليلى ليستحل منى مالا استحله من حيوان"!!
وأتت تلك الحملة ثمارها إذ هيأت الفرصة للمنصور فى اغتيال أبى حنيفة بالسم بعد أن سجنه وضربه مائة وعشرة أسواط سنة 150 هـ .
ولكن ما علاقة ذلك بالأوزاعى.
إن الاختلاف بين الأوزاعى وأبى حنيفة فى الشخصية والسيرة الذاتية والمواقف من السلطة الحاكمة انعكس على المنهج الفكرى لكل منهما..
أبو حنيفة كان حريصاً على صيانة الأنفس والدماء وكان بنفس القدر يرفض الأحاديث الكاذبة وإذا اتهموه بأنه يكذب الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله كان يقول: "ردى على كل رجل يحدث عن النبى بخلاف القرآن ليس رداً على النبى ولا تكذيباً، ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل" .
أما الأوزاعى الذى عاصر أبى حنيفة فقد كان يحدث عن الرسول مناكير أى أحاديث ينكرها من يسمعها كما قال الذهبى فى ميزان الاعتدال، وكان يفترى أحاديث عن رب العزة وبنفس القدر كان يفتى للحاكم باستحلال الدماء، كما أفتى لهشام بن عبد الملك الأموى بقتل غيلان الدمشقى، ثم أفتى للعباسيين باستحلال دماء الأمويين، ولذلك عاش فى كنف الأمويين ثم العباسيين، بينما لقى أبو حنيفة الاضطهاد من الأمويين ثم من العباسيين.
ومن الطبيعى أن يحدث تنافر بين أبى حنيفة والأوزاعى.
فالأحاديث التى كان يرويها- أو يفتريها الأوزاعى- كان يرفضها أبو حنيفة، وكانت بينهما مناقشات وحوارات فى رفع الأيدى عند الركوع وعند القيام منه.. وكان أبو حنيفة يقدم الرأى والقياس أى اجتهاده الشخصى على أحاديث الأوزاعى وغيره..
وكان الأوزاعى يرد عليه ويقول: إننا لا ننقم على أبى حنيفة أنه رأى- أى يقول بالرأى- كلنا يرى- أى كلنا يقول بالرأى والاجتهاد- ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبى فيخالفه إلى غيره .
الأوزاعى يعتقد أنه طالما اخترع حديثاً فقد أصبح حديثاً قاله الرسول، وأبو حنيفة كان يقول فى الرد على الأوزاعى وغيره من فقهاء السلطة "ردى على كل رجل يحدث عن النبى بخلاف القرآن ليس رداً على النبى ولا تكذيباً له ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل"!!.



حديث الأوزاعى فى صحيح مسلم
عمل فقهاء الدولة العباسية على نشر حديث الأوزاعى وجعلوا له إسناداً بعد أن ذكره الأوزاعى بدون إسناد، وشاع الحديث على الألسنة إلى أن ذكره مسلم فى صحيحه بعد موت الأوزاعى بقرنين من الزمان وبدون إشارة إلى الإوزاعى فى سلسلة الرواة والسند.
وقد ذكر مسلم رواته على النحو الآتى:
حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة عن حفص بن غياث وأبو معاوية عن وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله (ابن مسعود) قال: قال رسول الله: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة..
- وصيغة الحديث نرى فيها الصنعة الأوزاعية التى تتيح للدولة العباسية قتل الثائرين عليها من الرجال.
ولكن الأحكام التشريعية الإسلامية فى العقوبات يأتى فيها النص على الرجال والنساء معاً كقوله تعالى: ﴿الزّانِيَةُ وَالزّانِي﴾ ﴿وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ﴾ ﴿وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً. وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً﴾.
أو يأتى لفظ (الذين) ليشمل الذكر والأنثى كقوله تعالى: ﴿وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ ﴿إِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوَاْ أَوْ يُصَلّبُوَاْ أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
أو يأتى بتحديد أكثر كقوله تعالى: ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُنثَىَ بِالاُنْثَىَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
أما فى حديث الأوزاعى الذى ذكره مسلم فهو يتحدث تحديداً عن الرجل الذى هو امرؤ مسلم (يشهد) (الثيب الزانى) (التارك لدينه المفارق للجماعة).
وعليه فإن المرأة لا عقوبة عليها فى الأحوال الثلاثة..
وبالتالى تصبح العقوبات القرآنية التى تحدثت عن النساء لاغيه..!!
ولو رجعنا إلى الظروف التى نطق فيها الأوزاعى بذلك الحديث واخترعه فيها اختراعاً وهو مهدد بالقتل ونساؤه حوله لعرفنا لماذا أسقط النساء من العقوبة، وكان يتمنى أن يفرغ سريعاً من اللقاء مع جبار بنى العباس عبد الله بن على ليعود إليهن وقد قال له عبد الله: كأنك تحب الانصراف؟ فقال: إنى ورائى حرماً وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن وقلوبهم مشغولة بسببى..!!
لذلك كانت صيغة الحديث ضد الرجل فقط، أما المرأة فهى تحتاج إلى من يقوم عليها ويسترها ويكفى أن قلبها مشغول على رجلها..تلك هى الحالة النفسية التى كان عليها الأوزاعى حين اخترع الحديث وحين نطق به.
ثم كيف يكون ذلك الامرئ المسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم يكون تاركاً لدينه مفارقاً للجماعة؟ إن الحديث يستعمل لفظ المضارع (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله) أى أنه مسلم فى ذلك الوقت وأنه يقر بالشهادة فكيف يكون فى نفس الوقت تاركاً لدينه مفارقاً للجماعة؟.إن الراوى لو استعمل لفظ الماضى فقال (لا يحل دم امرئ مسلم شهد أن لا إله إلا الله..) لقلنا أنه كان يشهد بالإسلام ثم طرأت عليه الردة.. ولكن كيف يكون مرتداً وهو يشهد فى الحال شهادة الإسلام؟..
ثم ما معنى المفارق للجماعة؟
قد يكون لها معنى سياسى، فالتارك للجماعة يساوى فى مصطلحات العصرين الأموى والعباسى أن يكون من الخوارج الثائرين على الجماعة ، ولكن المعنى الدينى لا يتفق وصحيح الإسلام..فالمسلم قد يفارق جماعته وآله وبلده ويتركهم مهاجراً إلى الله تعالى فهل يكون حينئذ مستحقاً للقتل..؟
يجوز ذلك فى منطق قريش المشركة. ويجوز أيضاً فى منطق الكهنوت فى كل عصر وأوان..ولكن هل يمكن أن تتخيل أن النبى يمكن أن يقول هذا الكلام؟
لن نناقش تعارض ذلك الحديث مع القرآن والسنة الحقيقية للرسول ، فقد سبق أن تعرضنا لذلك. ولكن نركز فقط على نقطة محددة هى أسلوب النبى وعصره فى اختيار اللفظ وضرورة اتساق اللفظ مع الظروف التاريخية لعصر النبوة..
لقد هاجر النبى والمسلمون إلى المدينة وتركوا جماعتهم فى مكة وكانت قريش تتهم النبى بأنه "مفارق الجماعة" وخرج على دين الآباء والأجداد، وكانت تتآمر لقتل النبى وأصحابه، فهل يعقل أن يحكم النبى بنفس منطق أعدائه وأن يستعمل نفس ألفاظهم؟
ثم أولئك الذين ذكرت كتب السيرة أنهم ارتدوا ولحقوا بقريش هل حكم النبى بقتلهم لأنهم بدلوا دينهم وفارقوا الجماعة...؟
ثم صلح الحديبية والذى رضى فيه النبى على أن يرد من يلحق به من المؤمنين المهاجرين وفى نفس الوقت يعطى الحرية لمن يرتد عن الإسلام لأن يلحق بالمشركين.. هذا الصلح هل يتفق مع قول الأوزاعى "التارك لدينه المفارق للجماعة"..؟
وبعد مناقشة المتن فى حديث الأوزاعى نناقش الرواة والسند الذين جاء بهم مسلم.. ماذا قالوا عن الرواة المذكورين فى حديث مسلم والأوزاعى؟
لقد بدأ بأبى بكر بن أبى شبية واسمه الحقيقى عبد الرحمن بن عبد الملك وقد مات فى حدود 220 هـ، وقال عنه الحاكم "ليس بالمتين" وقال عنه أبو بكر بن أبى داود "ضعيف" وقال عنه ابن حيان "ربما أخطأ" .
حفص بن غيث ولقبه أبو عمر النخعى كان قاضياً للدولة العباسية، ومن الفقهاء المتعاونين معها، وقد مات سنة 194. قال عنه أبو زرعه: ساء حفظه بعد ما استقضى، أى بعد أن تولى القضاء، وبمعنى آخر فقد الثقة فيه بعد أن اختارته الدولة قاضياً..
وقال عنه داود بن رشيد: حفص بن غيث كثير الغلط..
وقال عنه ابن عماد: كان عسراً فى الحديث جداً، وقال عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال عنه أبى: أنه أخطأ.. وقال ابن حيان عن أحد مروياته فى الحديث: لم يحدث بهذا الحديث أحد إلا حفص بن غياث كأنه وهم فيه.. أى انفرد بحديث لم يقله أحد غيره، ولأنه غير ثقة فقد اتهمه ابن حيان بالوهم .
أما أبو معاوية الضرير، فقد قال عنه الحاكم أنه احتج به الشيخان أى مسلم والبخارى وقد اشتهر عنه الغلو، أى التطرف أو التشيع.. حيث كان الغلو مرادفاً للتشيع فى ذلك الوقت..
وقال عنه ابن معين: أبو معاوية أحاديث مناكير وقال عنه العجلى: أنه ثقة ويرى الإرجاء، أى مدحه بأنه ثقة ولكن اتهمه أنه من المرجئة، وتلك تهمه تعيب الراوى وقال عنه يعقوب بن شيبة: أنه ثقة وربما دلس، وكان يرى الإرجاء.. أى أنه مدحه ثم اتهمه بالتدليس وبأنه من المرجئة.
وقال عنه أبو داود: كان مرجئاً. وقال عنه أبو معاوية البجلى: فيه جهالة
- والراوى التالى هو وكيع: واسمه وكيع بن الجراح، أبو سفيان الرؤاس الكوفى.. قال عنه ابن المدنى كان وكيع يلحن وقال فيه: كان فيه تشيع..
ونصل إلى الأعمش أهم أولئك الرواة وأشهرهم..
واسمه سليمان بن مهران أبو محمد الكاهلى الكوفى الأعمش توفى سنة 148 قال عنه الذهبى: ما نقموا عليه إلا التدليس وهو يدلس..
وقال عنه ابن المبارك: إنما أفسد حديث الكوفة أبو إسحاق والأعمش..
قال عنه ابن جرير بن عبد الحميد أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وإعيمشكم هذا وقال عنه أحمد بن حنبل: فى حديث الأعمش اضطراب كثير وقال أنه كان يروى عن أنس مع أن روايته عن أنس منقطعة لأنه ما سمع من أنس..
وقال عنه أبو داود روايته عن أنس ضعيفة.
وقال عنه ابن المدنى: الأعمش كان كثير الوهم.
أما الحاكم النيسابورى فقد جعله من المدلسين وأورد فيه رأى الشاذكونى القائل: من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش ولا عن قتادة إلا إذا قالا: سمعناه..
وبقى من الرواه عبد الله بن مرة ومسروق.
قال الذهبى عن ابن مرة: لم يصح، وقال أبو حاتم عن مسروق ليس بالقوى
أى أن فقهاء السلطة العباسية حين اختاروا لحديث الأوزاعى رواة فإن الشكوك لاحقت أولئك الرواة، وربما أسهم بعض أولئك الرواة فى شيوع الحديث على الألسنه وروايته وهذا بالنسبة للرواة الذين عاشوا فى عصر العباسيين مثل الأعمش وأبى معاوية الضرير وحفص بن غياث وأبى بكر بن أبى شيبة.. والحديث عند محققى الحديث يلحقه الشك ويسقط إذا كان أحد رواته متهماً، فكيف إذا كان الجميع متهمين؟
وبذلك نكون قد انتهينا من حديث الأوزاعى، ويبقى لنا الحديث الآخر الذى اخترعه عكرمة مولى ابن عباس، والذى ذكره البخارى هو الآخر فى صحيحه.
وقد يضطرب القارئ حيث يكتشف أن فى "البخارى" أحاديث كاذبة، ولكن القارئ إذا هدأ وناقش الأمر بهدوء لوصل للحقيقة، فإن البخارى فى نهاية الأمر بشر وليس إلهاً وليس معصوماً من الخطأ والنسيان، وإذا كان قد ذكر فى مقدمة كتابه (الصحيح) أنه اختار محتوياته التى تبلغ حوالى 3 ألاف حديث من بين (600 ألف حديث) فإن هناك نسبة للخطأ البشرى لابد من افتراضها ـ مع افتراض حسن النية فى تدين البخارى نفسه ـ .. وذلك ما يسلم به كل باحث اذا كان واثقا من حسن تدين البخارى وانحيازه للاسلام.. وبلا شك فإن حديث الردة "من بدل دينه فاقتلوه" والذى رواه البخارى عن عكرمة مولى ابن عباس ضمن تلك الأحاديث الكاذبة..
- على أن علماء الأصول والجرح والتعديل كانت لهم مآخذهم على البخارى ومسلم، فقد قال عن البخارى شيخه وأستاذه محمد بن يحيى الذهلى: أن البخارى مبتدع، والسبب فى ذلك أن البخارى كان يقول أن القرآن مخلوق.. وكان شيخ البخارى يخالفه فى ذلك ويقول كلام الله غير مخلوق، ويقول عن البخارى: "اتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه" وذكر الذهلى قول ابن عباس "من زعم أن القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق" .
وبالطبع فإن رأى الذهلى فى تلميذه البخارى سببه اختلاف الرأى فى مشكلة خلق القرآن، إلا أن بعض المحققين كانت لهم مآخذ على البخارى فى موضوع الأحاديث نفسها
، وممن هاجم البخارى أو بتعبير المحدثين "جرحه" أبو حاتى الراوى فى كتابه الجرح والتعديل وجعله الذهبى ضمن الضعفاء والمتروكين فى كتابه الذى يحمل نفس الاسم.
وقال المحققون أنهم انتقدوا على البخارى (110) حديثاً منهم (32) حديثاً وافقه مسلم على تخريجها و(78) حديثاً انفرد بها البخارى، واتهموا (80) راوياً من رواة البخارى بالضعف وعدم الثقة، واتهموا (160) راوياً من رواة مسلم بالضعف وعدم الثقة، وقال الحاكم النيسابورى عند أحد رواة البخارى وهو عيسى بن موسى غنجار "احتج به البخارى فى الجامع الصحيح غير أنه يحدث عن أكثر من مائة شيخ من المجهولين غير المعروفين الذين يحدثون بأحاديث مناكير" .
ويقول ابن الصلاح فى كتابه علوم الحديث "احتج البخارى بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس، وكإسماعيل ابن أبى اويس، وعاصم بن على، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم، واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة، واشتهر الطعن فيهم .
ومن النص السابق نعلم أنهم أخذوا على البخارى روايته عن عكرمة مولى ابن عباس، وأن عكرمة سبق أن اتهمه وجرحه الكثيرون، وعكرمة هو صاحب حديث الردة القائل "من بدل دينه فاقتلوه".
كان عكرمة عبداً لعبد الله بن عباس سمع عنه ونقل عنه أقواله فى التفسير، وظل عبداً لابن عباس حتى توارثه أولاده ثم باعوه، أو أطلقوا سراحه، وقد اتاح له ذكاؤه وتفرغه فى خدمة ابن عباس أن يحفظ عنه الكثير. وكان العلم هو الطريق الوحيد أمام الموالى ليبرزوا به فى مجتمع يسيطر عليه الأشراف العرب، خصوصاً وقد كان الأمويين معروفين بالتعصب للعرب ضد الموالى ، وإذا كان العرب قد انشغلوا بالحروب والثورات والسياسة فقد وجد أبناء الموالى فرصة للتفرغ للعلم والتفوق فيه وإثبات أنفسهم من خلاله، وساعدهم على ذلك أنهم أبناء أمم عريقة فى العلم والحضارة..وهكذا كان أكثر العلماء فى التابعين من الموالى..وكان منهم عكرمة..
إلا أن عكرمة كما يظهر فى تاريخه كان حانقاً على الأرستقراطية العربية بقدر ما كان يميل إلى رأى الخوارج الذين لم يروا فارقاً بين العرب والموالى، ولم يشترطوا كون الخليفة من قريش حسب الحديث الذى ذاع وانتشر..
والمحصلة النهائية لسيرة عكرمة العلمية والشخصية هى افتراؤه لأحاديث ادعى أنه رواها عن سيده عبد الله بن عباس ومنها حديث "من بدل دينه فاقتلوه"..
ونتوقف من ناحيتين أساسيتين فى تاريخ عكرمة: مذهبه، واتهامه بالكذب.
فقد كان عكرمة يرى أن الخوارج، وذلك ما قاله المحققون فى بحث سيرته وإن اختلفوا فى تحديد الفرقة الخارجية التى كان عكرمة يميل إليها، حيث لم تكن الفوارق الفكرية بين طوائف الخوارج قد تحددت وتميزت فى عصر عكرمة.
روى ابن المدينى أن عكرمة كان أباضياً، ولكن ابن المدينى يضيف فيقول أن عكرمة أيضاً كان يرى رأى نجدة الحرورى..
ويقول أحمد بن حنبل أن عكرمة كان يرى رأى الخوارج الصفرية، وأنه لم يدع موضعاً إلا خرج إليه فى خرسان والشام واليمن ومصر وأفريقيا، أى شمال أفريقيا، أى ذهب يدعو إلى مذهب الخوارج دون تعيين لفرقة خارجية معينة.
ويقول يحيى بن بكير "إن عكرمة قدم مصر متجهاً إلى المغرب، فأخذ عنه خوارج المغرب.. أى كان داعية وأستاذاً وإماماً للخوارج فى المغرب..
وكان عكرمة فى تجواله فى الأقاليم يخدع الولاة ويدعى أنه يأتى لأخذ العطايا منهم، يقول ابن يسار "رأيت عكرمة جائياً من سمرقند وهو على حمار تحته خرجان فيهما حرير أجازه بذلك عامل سمرقند ومعه غلام له، فقيل له ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقال الحاجة..".
وبينما كان يحسن الظن به ولاة الأقاليم البعيدة فإن والى المدينة كان يعرف اتجاهه السياسى المناوئ للدولة الأموية، يقول مصعب الزبيرى "كان عكرمة يرى رأى الخوارج فطلبه والى المدينة فتغيب عند دار ابن الحصين حتى مات عنده" وقال معصب الزبيرى أيضاً أن عكرمة كان يدعى أن ابن عباس كان يرى رأى الخوارج.. أى نسب إلى ابن عباس بعد موته ما كان ابن عباس يرفضه فى حياته..
ومن الطريف أن عكرمة مات فى نفس اليوم الذى مات فيه الشاعر المشهور كثير عزة فترك أهل المدينة جنازة عكرمة إلا العبيد والموالى السودان، وعجب الناس من اتفاقهما فى الموت واختلافهما فى العقيدة، إذ كان عكرمة يرى رأى الخوارج ويكفر أى حكم بالكفر- بالنظرة- أما كثير عزة فهو شيعى يؤمن برجعة على وأبنائه..
والسبب فى كراهية أهل المدينة لعكرمة المشهور بعلمه أنهم اعتبروه داعية للخوارج الحرورية والأباضية..
وقد اشتهر الخوارج من أتباع نجدة الحرورية بالإسراف فى سفك الدماء، يقول الملطى عن نجدة الحرورى "خرج نجدة من جبال عمان فقتل الأطفال وسبى النساء وأهرق الدماء واستحل الفروج والأموال، وكان يكفر السلف حتى قتل..".
وقال الملطى عن الأباضية أنهم أصحاب أباض بن عمر وقيل أنه عبد الله بن يحيى ابن أباض، خرجوا من سواد الكوفة فقتلوا الناس وسبوا الذرية وقتلوا الأطفال وكفروا الأمة وأفسدوا البلاد والعباد وقال عنهم: فمنهم اليوم بقايا بسواد الكوفة.
وقال عن الصفرية أنهم أتباع المهلب بن أبى صفرة (والصحيح أنهم أتباع زياد بن أبى صفرة) وقد خرجوا على الحجاج وقد هزمهم الحجاج وأبادهم .
ونلمح صدى أراء الخوارج فى أقوال عكرمة، روى ابن المدينى أن عكرمة وقف بباب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر.".
كما نلمح صدى عنف الخوارج وجرأتهم على الدماء فى قول عكرمة وقت الحج وقد ازدحم الناس حول الكعبة "وددت أن بيدى حربة فأقتل بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً..".
وأخيراً نلمح صدى ذلك كله فى الحديث الذى رواه البخارى عن عكرمة "من بدل دينه فاقتلوه..".
والسؤال المطروح هنا: ما هو حكم الأصوليين فى الراوى صاحب الهوى والداعى إلى بدعته؟ خصوصاً إذا كانت تلك الدعوة إلى تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم وقتل أطفالهم.
يقول الإمام مالك: "لا يؤخذ العلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه.." .
أما ابن الصلاح فى كتابه "علوم الحديث" فيقول اختلفوا فى قبول رواية المبتدع الذى لا يكفر ببدعته فمنهم من رد روايته مطلقاً لأنه فاسق ببدعته، ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن يستحل الكذب فى نصرة مذهبه، وبعضهم يقبل روايته إذا لم يكن داعية ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته، وهذا هو مذهب الأكثرية من العلماء، وقال أبو حاتم البستى: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة ولا أعلم فيه خلافاً.." .
وعكرمة كان يدعو إلى رأى الخوارج الدامى.. وكان أيضاً يكذب ولكن اتهامه بالكذب قضية أخرى..
إن اتهام عكرمة بالكذب ظاهرة واضحة فى تاريخه.
قال عنه ابن سيرين "إنه كذاب". وقال عنه ابن أبى ذئب "رأيت عكرمة وكان غير ثقة". وقال عنه محمد بن سعد فى الطبقات الكبرى "ليس يحتج بحديثه، ويتكلم فيه الناس". وقال عنه سعيد بن جبير "إنكم لتحدثون عن عكرمة بأحاديث لو كنت عنده ما حدث بها". وقال عنه سعيد بن المسيب "لا ينتهى عبد ابن عباس حتى يلقى فى عنقه حبل ويطاف به" وكان سعيد بن المسيب يقول لمولاه (برد) لا تكذب على كما كذب عكرمة على ابن عباس. وكان ابن عمر يقول لمولاه نافع "لا تكذب على كما كذب عكرمة على ابن عباس".
وبسبب كثرة أكاذيبه على ابن عباس بعد موت ابن عباس فإن على بن عبد الله ابن عباس جعل فى يديه وقدميه قيوداً وحبسه على باب الحش "دورة المياه" فسئل عن ذلك فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبى..!!. وقالوا أن مسلم تجنب الرواية عن عكرمة فروى له بعض الروايات مقروناً بغيره أى لم يروا له منفرداً،.. وأعرض مالك عن الرواية عنه إلا فى حديث أو حديثين وقال مطرف: سمعت مالكاً يكره أن يذكر عكرمة ولا أرى أنه روى عنه، وقال ابن حنبل أن مالكاً روى عن عكرمة حديثاً واحداً أما البخارى فقد روى عنه وانتقده المحققون فى ذلك كما سبق..
مناقشة حديث عكرمة فى "صحيح البخارى":
- روى البخارى ذلك الحديث عن طريق الرواة الآتى أسماؤهم "حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال أتى على رضى الله عنه بزناقدة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهى رسول الله ، ولقتلتهم لقول رسول الله: من بدل دينه فاقتلوه .
- والحديث يرويه عكرمة عن سيده ابن عباس ، فقد تضخمت الأحاديث المروية عن ابن عباس حتى لقد أسند له أحمد بن حنبل (1696) حديثاً.. هذا مع أن الآمدى فى كتاب "الأحكام فى أصول الأحكام) يقول أن ابن عباس لم يسمع من رسول الله سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ويقول ابن القيم فى كتابه "الوابل الصيب من الكلم الطيب" أن ما سمعه ابن عباس من النبى لم يبلغ عشرين حديثاً .
وذلك الأقرب للصواب من خلال سيرة ابن عباس فى كتب التاريخ، فابن عباس أسلم مع أبيه قبيل فتح مكة وقابل الرسول بالجحفة وهو ذاهب لفتح مكة، ومات النبى بالمدينة وابن عباس فى مكة فى العاشرة من عمره، وفى رواية أنه كان فى الخامسة عشر من عمره.. أى رأى النبى مدة يسيرة وكان فيها طفلاً ملازماً لوالده فى مكة، فكيف يروى عنه مئات الأحاديث؟
وقد روى عكرمة حديث من بدل دينه فاقتلوه، وقد نسبه لابن عباس ضمن ما نسبه إليه من مئات الأحاديث، وقد روى ذلك الحديث عن عكرمة أحد الزهاد المشهورين فى عصره وهو أيوب السختيانى واسمه أبو بكر بن تميمة، ولم يذكره الذهبى فى ميزان الاعتدال مع شهرته، وقد ترجم له ابن سعد فى الطبقات الكبرى وابن الجوزى فى المنتظم ، وروى ذلك الحديث عن أيوب السختيانى تلميذه حماد بن درهم وقد ترجم له ابن الجوزى فى المنتظم وابن سعد فى الطبقات الكبرى، ولم يذكره الذهبى أيضاً فى ميزان الاعتدال. ويروى الذهبى- مع ذلك- فى ترجمة لعكرمة أن حماد بن زيد روى أن شيخه أيوب السختيانى سئل: هل كان عكرمة يُتّهم: أى كان مطعوناً فيه؟ يقول حماد بن زيد عن شيخه أيوب: فسكت ساعة ثم قال: أما أنا فلم أكن أتهمه. أى كانوا يتهمون عكرمة فى مجلس أيوب السختيانى ومع ذلك كان أيوب يصمم أنه لا ينبغى اتهامه. وقد قال يحيى بن سعيد أن عكرمة كان لا يحسن الصلاة فرد عليه أيوب وكان- أى عكرمة- يصلى.. أى كان أيوب يدافع عنه فى كل مجلس..
ويروى أن يحيى بن سعيد الأنصارى ذكر عكرمة فقال: أنه كذاب، فرد عليه أيوب السختيانى: لم يكن يكذب..
وأيوب السختيانى يعلل بذلك روايته عن عكرمة وأخذه عنه الأحاديث. وما رواه أيوب عن عكرمة نقله بعده تلميذه حماد بن زيد بن درهم ثم نقل الحديث عن حماد شيخ آخر هو محمد بن الفضل وكنيته أبو النعمان المتوفى سنة 224 وهو شيخ البخارى ولقبه عارم، "وعنه روى البخارى حديث عكرمة فى قتل المرتد، وجدير بالذكر أن أبا النعمان عارم قال فيه أبو حاتم أنه اختلط عقله فى آخر عمره، واعترف البخارى بأنه تغير عقله وقال عنه أبو داود: استحكم به اختلاط عقله". وقال فيه الدارقطنى: تغير- عقله- بآخره، وقال ابن حبان اختلط فى آخر عمره وتغير حتى كان لا يدرى ما يحدث به فوقع فى حديثه المناكير الكثيرة فيجب التنكب عن حديثه ولا يحتج بشىء منها..
وذلك ما قيل عن أبى النعمان محمد بن الفضل الملقب بعارم، والذى كان أول السلسلة فى رواة حديث "من بدل دينه فاقتلوه" وكان عكرمة آخرها، فأول السلسلة خلط وهذيان عقل، وآخر السلسلة كذب وافتراء، وأما ما بينهما (حماد بن زيد، وأيوب السختيانى) فهما من الزهاد الذين لديهم استعداد لتصديق كل ما يقال..
* ونتوقف مع متن الحديث:
ويقول فيه عكرمة أنه جئ لعلى بن أبى طالب بزنادقة فأحرقهم.. ولم يحدث فى تاريخ على بن أبى طالب أن أحرق خصومه، بل كان مشهوراً بتفادى سفك الدماء ما أمكن ويظهر ذلك فى تاريخه فى حروبه وفى تعامله مع الخوارج، وحتى فى وصيته قبل موته بقاتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجى..
وإذا عرفنا كراهية الخوارج لعلى أدركنا لماذا وضع عكرمة تلك العبارة فى سياق ذلك الحديث لتشويه سيرة على وليصل بعد ذلك إلى غرضه الأساسى فى إيقاع الاقتتال بين المسلمين طبقاً لقوله "من بدل دينه فاقتلوه..".
والخوارج يرون كفر ما عداهم، ويستحلون دماء المسلمين جميعاً حتى النساء والأطفال.. وعكرمة يفتى بهذا الحديث لكل من يستطيع سفك الدماء أن يقتل ما استطاع وبتهمة أن الضحية بدل دينه.. والعبارة تتسع للتأويل حسب الهوى..
- وجاءت العبارة عامة "من بدل دينه فاقتلوه" لتشمل المسلمين والنصارى واليهود فمن بدل دينه من اليهود والنصارى ودخل الإسلام فاقتلوه، وذلك حتى يفرح عكرمة !!
- وجدير بالذكر أنها المرة الوحيدة التى يحتوى فيها حديث على كلمة الزنادقة، وهى كلمة فارسية- وعكرمة فارسى- وهى تعنى بالفارسية (زند وكرو) أى القائل بدوام الدهر، وقال الإمام ثعلب: ليس فى كلام العرب زنديق.. ولكن أدخل عكرمة هذه الكلمة فى الأحاديث ضمن ذلك الحديث المفترى الذى نسبه للرسول عليه السلام.

رابعاً: هل يصح قتل الناس بأحاديث الآحاد..؟
قام حد الردة المزعوم على مجرد حديثين أثبتنا كذبهما بمعايير الجرح والتعديل ومن خلال أدلة من كتب التراث نفسها، كما أثبتنا من قبل تناقضهما مع تشريع الإسلام الحقيقى فى القرآن الذى هو الفيصل فى سنة الرسول عليه السلام..
ولكن:
دعنا نفترض أن حديثى الردة حديثان صحيحان، ودعنا نفترض أن القرآن الكريم لا يعارضهما ولا يؤيدهما فهل يصح الاعتماد على حديثين فى تأسيس تشريع؟
وهل يصح إقامة تشريع سنده الوحيد حديثان من أحاديث الآحاد؟
وهل يصح أن تقتل الناس بتهمة الردة اعتماداً على حديثين فقط؟
وهل تهون حياة الناس إلى هذا الحد؟
دعنا نرجع إلى آراء العلماء.. ونكتفى بهم والفضل ما شهدت به العلماء...!!
ونبدأ الموضوع بلمحة عن الحديث المنسوب للنبى عليه السلام..
فحين مات النبى عليه السلام لم يكن مع المسلمين إلا القرآن الكريم كتاباً مكتوباً مدوناً وأوصى النبى بالتمسك به. وذلك ما أورده البخارى ومسلم فى حديث يرويه كلاهما عن الصحابى عبد الله بن أوفى.
وقالوا إن عبد الله بن أوفى كان أحد الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة وقال فيهم الله تعالى ﴿لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة﴾ (الفتح 18) وشهد عبد الله بن أوفى مع النبى ست غزوات، وجرح يوم حنين، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة..
سئل عبد الله بن أوفى هل أوصى رسول الله؟ قال: لا. قيل فلم وقد كتبت الوصية على الناس؟ فقال: وصى بكتاب الله..
وقال الحافظ بن حجر فى شرح هذا الحديث فى كتاب فتح البارى :
"أى التمسك به والعمل بمقتضاه، ولعله أشار إلى قوله صلوات الله عليه "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله" واقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم ولأن ما فيه تبيان كل شىء أما بطريق النص وإما بطريق الاستنباط فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به".
والحديث رواه مسلم فى سياق حجة الوداع إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا. وفى رواية أخرى عن جابر لما خطب الرسول يوم عرفة: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله".
وقد تلاعبوا بذلك الحديث فقالوا كتاب الله وسنتى، مع أن سياق الحديث فى البداية يدل على التمسك بشى واحد "تركت فيكم ما إن تمسكتم به.." و(به) يرجع إلى شىء واحد هو الكتاب ولو كان مع الكتاب شىء آخر لقال "ما إن تمسكتم بهما..".
ويروى البخارى حديث رفيع: قال دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد بن معقل أترك النبى من شىء قال ما ترك إلا ما بين الدفتين، دخلنا على محمد بن الحنفية فقال ما ترك إلا ما بين الدفتين.."
أى سئل ابن عباس وابن الحنفية (محمد بن على بن أبى طالب) عما تركه النبى فرد كلاهما بأنه المصحف "ما بين الدفتين".
ثم تكاثرت الرواية على النبى وبدءوا فى كتابة أحاديث عنه مع أنه عليه السلام قال فيما يرويه أحمد ومسلم والدارمى والترمذى والنسائى "لا تكتبوا عنى شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه".
ونهى أبو بكر عن رواية الأحاديث، وجاء فى تذكرة الحفاظ للذهبى أنه قال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه".
وتشدد عمر فى رفض كتابة الأحاديث، وقال فيما يرويه البيهقى وابن عبد البر "إنى كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبدا..".
ولكن تكاثرت روايات الأحاديث بعد دخول المسلمين فى الفتنة الكبرى والحكم الاستبدادى الأموى ثم العباسى حيث احتاج كل فريق لتعزيز موقفه بالأحاديث وبعد أن أسالوا دمائهم أنهاراً كان سهلاً عليهم أن يجترئوا فى الكذب على رسول الله..
وأفزعت كثرة الأحاديث الكاذبة نفراً من العلماء فهبوا لتنقيتها وتمحيصها ونشأ ما يعرف بعلم الجرح والتعديل وتمحيص أحوال الرواة..
وقد قسموا الأحاديث إلى قسمين: متواتر وآحاد.
فالمتواتر هو أخبر به جماعة بلغوا فى الكثرة مبلغاً يستحيل معه تواطؤهم على الكذب وهو بهذا يفيد اليقين. وهو بهذا لا يدخل فى موضوع الجرح والتعديل وعملية الإسناد، لأن الجرح والتعديل قائم على الشك فى الحديث رواته، والمتواتر منزه عن الشك..
ولذلك قالوا أن إثبات التواتر فى حديث ما عسر جداً. وقال الشاطبى: أعوز أن يوجد عن رسول الله متواتر، وقال ابن حبان السبتى أن الأحاديث كلها المروية عن الرسول أحاديث آحاد، وقال النووى فى التقريب: المتواتر من الأحاديث المعروفة فى الفقه وأصوله قليل جداً لا تكاد توجد..
أما أحاديث الآحاد فهى كل المرويات عن الرسول من أحاديث فى نظر أغلبية المحققين، ولذلك يقسمون أحاديث الآحاد حسب درجتها من الصحة إلى صحيح وحسن وضعيف وكلها تفيد الظن ولو كانت عندهم صحيحة، إلا أنهم فى ذلك التقسيم مختلفون لأنه علم قابل للشك واختلاف وجهات النظر..
والملاحظ أن أحاديث الآحاد كانت تتكاثر وتتوالد كلما تباعد الزمن عن عهد الرسولr، فقد كانت فى عهد الأمويين أقل منها فى العصر العباسى الأول، وعلى سبيل المثال فإن الإمام مالك كتب الموطأ فى أواخر عهد المنصور العباسى أى فى سنة 148، وعدد أحاديثه (1008 حديثاً) بعضها منسوب للنبى وبعضها منسوب للصحابة فقط.
بعد أن غربلها ونقل وأسقط منها الكثير.
وبعده بقرن من الزمان جمع البخارى (600) ألف حديث اختار منها البخارى ما بين (3: 4) آلاف حديث، ومات البخارى سنة 256 هـ وبعد البخارى زاد تضخم الأحاديث إلى درجة أن كتب ابن الجوزى (ت سنة 597) فى الأحاديث الموضوعة.. وهكذا تضخمت أحاديث الآحاد بمرور الزمن لأن كل زمن كان يصنع من الأحاديث ما يعبر عن أحوال الناس فيه..
وكل تلك الأحاديث غريبة عن العصر المضىء عصر النبى عليه السلام، وهى بنفس القدر تعبر عن العصور التى صيغت فيها. لذلك كان المحققون فى العصور المتأخرة كالسيوطى (ت 911) أكثر تساهلاً فى قبول الأحاديث وتصحيحها وأكثر دفاعاً عن الباطل منها.
- ثم جاء عصر الصحوة الإسلامية فكان الإمام محمد عبده لا يأخذ بحديث الآحاد مهما بلغت درجته من الصحة فى نظر المحدثين، ولذلك فإنه مثلاً استنكر حديث اليهودى الذى سحر النبى مع أن ذلك الحديث مذكور فى البخارى ومسلم وأحمد والنسائى..
وحديثا الردة المطعون فيهما من أحاديث الآحاد.. فهل يمكن الأخذ بهما؟ وهل يمكن لهما الاستقلال بالتشريع؟
إن كتاب الفقه على المذاهب الأربعة الذى تحدث عن حد الردة يقول أن الحدود الشرعية التى اتفق عليها الفقهاء "هى ثلاثة فقط (السرقة- الزنا- القذف) أى ليس هناك اتفاق على ما يسمى بحد الردة.. أى أن بعض الفقهاء لم يأخذ بحديثى الردة المطعون فيها، وبمعنى آخر ليس هناك إجماع بين الفقهاء حول حد الردة.
والشيخ محمد الغزالى الذى تحمس لحد الردة جاء فى كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" ما يؤكد على نفى حد الردة.. يقول "أحصيت أكثر من مائتى آية تتضمن حرية التدين وتقيم حدود الإيمان على الاقتناع الذاتى وتقصى الإكراه عن طريق البلاغ المبين" إلى أن يقول "فأما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم فهو افتراء على الله والمرسلين، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثاً فى كتبنا الأخرى فإن الحاجة إلى الكلام فيه لا تزال ماسة، ذلك أن حديث الإفك لا ينقطع"، ثم يقول "وفى هذه الأيام النحسات شاعت الخلافات فى أرجاء الأمة وقتل بعضها بعضاً بل أن حصيلة القتلى فى الفتن الداخلية أربى من القتلى فى محاربة الاستعمار الصليبى" وتأسيساً على ما قاله الشيخ الغزالى فإن حد الردة المزعوم يناقض الآيات القرآنية التى تتضمن حرية التدين وتنفى الإكراه فى الدين، والفقرات التى نقلناها من كلامه تنطبق تماماً على المروجين لحد الردة المزعوم والمتخصصين فى اتهام الغير بالكفر والردة والمتعطشين لدماء المسلمين، ويقول الغزالى أن الحديث يسقط إذا كانت به علة فادحة أو كان شاذاً، وحديثاً الردة ينطبق عليهما الاثنان معاً طالما أن سيرة النبى باعتراف الغزالى تنفى أن النبى قتل واحداً من المرتدين.
والغزالى يقول أن حديث الآحاد- حتى لو كان صحيحاً- فإنه لا يفسد اليقين "أما الزعم بأنه يفيد اليقين كالأخبار المتواترة فهى مجازفة مرفوضة".
ويعنى أنها مجازفة أن نسفك دماء المسلمين اعتماداً على حديث صحيح يفيد الظن فكيف إذا كان حديثاً كاذباً؟
والشيخ الغزالى يوضح الأمر بالنسبة للأحاديث الضعيفة فيتسامح معها بشرط أن تكون بعيدة عن العقائد والتشريع يقول: "من حق المهتمين بالأحاديث الضعيفة أن يذكروها بعيدة عن دائرة العقائد والأحكام التشريعية فإن الدماء والأموال والأعراض أكبر من أن نتداول فيها شائعات علمية"!!.
وعليه فإن حديثى الردة- وهما من الشائعات العلمية- ينبغى ألا يقام عليها تشريع يسفك دماء المسلمين ظلماً وعدواناً..
ثم يهاجم الشيخ الغزالى المتمسكين بالأحاديث الباطلة ويقول "وقد ضقت ذرعاً بأناس قليلى الفقه والقرآن كثيرى الظن فى الأحاديث يصدرون الأحكام ويرسلون الفتاوى فيزيدون الأمة بلبلة وحيرة، ولازلت أحذر الأمة من أقوام بصرهم بالقرآن كليل وحديثهم عن الإسلام جرئ واعتمادهم على مرويات لا يعرفون مكانها من الكيان الإسلامى" .
وهو بذلك يضع النقاط فوق الحروف فى موضوع الردة المعتمد على مرويات قل من يعرف مكانها من الكيان الإسلامى.
والشيخ الغزالى استشهد بفتوى الأزهر فى كتابه "تراثنا الفكرى" والفتوى تتحدث عن الذى ينكر استقلال السنة بالإيجاب والتحريم أى التشريع هل يعد كافراً أم لا..
يقول الشيخ الغزالى فى كتابه المذكور: "بيد أن بعض الفتية يوقدون فى عصرنا هذا فتناً محرمة بسوء مسلكهم" إلى أن يقول "أننى أذكر هذا الكلام وبين يدى فتوى أصدرها الأزهر الشريف حسماً لفتن شديدة أشعلها فتية أغرار باسم إقامة السنة وتحت عنوان السلفية وقد توسع الفتوى فى شرح الأحكام والأدلة حتى تسد الطريق أمام أصحاب الشغب والغرض".
وأتى الشيخ بنص الفتوى: "السيد الأستاذ رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فهل من أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم يعد كافراً أم لا؟ نرجو الإفادة بالرأى مع الاستدلال وشكراً:
الفتوى:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد..
تنقسم الأحكام عند الجمهور إلى خمسة أقسام:
1- الواجب: وهو ما يثبت طلبه من المكلف بنص صريح قطعى الثبوت وقطعى الدلالة، بمعنى أن له معنى واحداً فلا يختلف فى معناه المجتهدون من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة.
2- الحرام: هو ما طلب الشارع من المكلف تركه بدليل قطعى الثبوت وقطعى الدلالة من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة.
3- المندوب: ما طلب الشارع فعله طلباً غير حتم ولا جازم يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
4- المكروه: ما طلب الشارع تركه طلباً غير حتم ويثاب على تركه ولا يعاقب على فعله.
5- المباح: ما خير المكلف بين فعله وتركه، أو لم يرد دليل فيه بالتحريم.
وتنقسم السنة إلى متواترة وآحادية:
فالمتواترة ما رواها جمع عن جمع يستحيل أو يبعد أن يتفقوا على الكذب، قال الحازمى فى شروط الأئمة الخمسة ص 37: "وإثبات التواتر فى الحديث عسر جداً"، وقال الشاطبى فى الجزء الأول من الاعتصام ص 135: "أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر"، وعلى الرغم من ندرة الحديث المتواتر واختلاف علماء السنة على ثبوته وعدده، يرى الجمهور أن من أنكر استقلال السنة المتواترة بإثبات واجب أو محرم فقد كفر.
والسنة الأحادية هى ما رواه عدد دون المتواتر عن النبى ، وقد اختلف العلماء فى استقلال السنة الأحادية بإثبات واجب أو محرم..
فذهب الشافعية ومن تبعهم إلى أن من أنكر ذلك فى الأحكام العملية كالصلاة والصوم والحج والزكاة فهو كافر، ومن أنكر ذلك فى الأحكام العلمية كالإلهيات والرسالات وأخبار الآخرة والغيبيات فهو غير كافر لأن الأحكام العلمية لا تثبت إلا بدليل قطعى من كتاب الله وسنة رسوله المتواترة.
وذهب الحنفية ومن تبعهم إلى أن السنة الآحادية لا تستقل بإثبات واجب أو محرم سواء أكان الواجب علمياً أو عملياً وعليه فلا يكفر منكرها، وإلى هذا ذهب علماء أصول الفقه الحنفية فقال البرذوى: "دعوى علم اليقين بحديث الآحاد باطلة لأن خبر الآحاد محتمل لا محالة ولا يقين مع احتمال ومن أنكر ذلك فقد سفه نفسه وأضل عقله"، وبهذا أخذ الشيخ محمد عبده والشيخ أبو دقيقة وغيرهما، ويقول المرحوم الإمام محمد عبده: "القرآن الكريم هو الدليل الوحيد الذى يعتمد عليه الإسلام فى دعوته أما ما عداه مما ورد فى الأحاديث سواء صح سندها أو اشتهر أم ضعف فليس مما يوجب القطع"، كما ذكر الشيخ شلتوت فى كتابه "الإسلام شريعة وعقيدة" قوله: "إن الظن يلحق السنة من جهة الورود (السند) ومن جهة الدلالة (المعنى) كالشبهة فى اتصاله والاحتمال فى دلالته".
ويرى الإمام الشاطبى فى كتابه "الموافقات" أن السنة لا تستقل بإثبات الواجب والمحرم لأن وظيفتها فقط تخصيص علم القرآن وتقييد مطلقه وتفسير مجمله ويجب أن يكون ذلك بالأحاديث المتواترة لا الآحادية.
يؤيد آراء من سبق ذكرهم ما جاء فى صحيح البخارى باب الوصية وصية الرسول قبل وفاته: عن طلحة بن مصرف قال: "سألت عبد الله بن أبى أوفى: هل أوصى رسول الله قال: لا. قلت كيف وقد كتب على الناس الوصية أو أمروا بها ولم يوصى قال: أوصى بكتاب الله، قال ابن حجر فى شرح الحديث أى التمسك به والعمل بمقتضاه إشارة إلى قوله: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله. واقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه فى تبيان كل شىء إما بطريق النص أو بطريق الاستنباط فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به.
وحديث سلمان الفارسى: "الحلال ما أحله الله فى كتابه والحرام ما حرمه الله فى كتابه وما سكت عنه فهو عفو لكم".
وأجاب الشاطبى عما أورده الجمهور عليه من قوله تعالى ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم﴾ بأن المراد من وجوب طاعة الرسول إنما هو تخصيصه للعام وتقييده للمطلق وتفسيره للمجمل وذلك بالحديث المتواتر، وإن كل ما جاء به النبى يجب أن يكون من القرآن لقول عائشة رضى الله عنها عن النبى "كان خلقه القرآن"، وأن معنى قوله تعالى ﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء﴾ أن السنة داخلة فيه فى الجملة، وأكد الشاطبى ذلك بقوله تعالى ﴿ما فرطنا فى الكتاب من شىء﴾ وقد رد على ما استدل به الجمهور مما روى عن النبى قوله "أيوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان من حلال فيه أحللناه وما كان من حرام حرمناه إلا من بلغه منى حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله" أن من بين رواة هذا الحديث زيد ابن الحباب وهو كثير الخطأ ولذلك لم يرو عنه الشيخان حديثاً واحداً. وجاء بمسلم الثبوت والتحرير: "خبر الواحد لا يفيد اليقين لا فرق فى ذلك بين أحاديث الصحيحين وغيرهما".
ومما سبق يتضح أن الإيجاب والتحريم لا يثبتان إلا بالدليل اليقينى القطعى الثبوت والدلالة، وهذا بالنسبة للسنة لا يتحقق إلا بالأحاديث المتواترة، وحيث أنها تكاد تكون غير معلومة لعدم اتفاق العلماء عليها فإن السنة لا تستقل بإثبات الإيجاب والتحريم إلا أن تكون فعلية أو تضاف إلى القرآن الكريم.
وعلى هذا فمن أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم فهو منكر لشىء اختلف فيه الأئمة ولا يعد مما علم من الدين بالضرورة فلا يعد كافراً".
وقد أصدر هذه الفتوى الشيخ عبد الله المشد رئيس لجنة الفتوى بتاريخ 1/2/1990 . وبناء على فتوى الأزهر فإن السنة لا تستقل وحدها بإصدار تشريع يوجب شيئاً لازماً، وبالتالى فإنها لا تستقل بإصدار تشريع فيه سفك دماء الناس، خصوصاً إذا كان ذلك التشريع معتمداً على مجرد حديثين مطعون فيهما وكلاهما يخالف القرآن وما كان عليه رسول الله عليه السلام.
وعليه فإن الفتوى السابقة للأزهر تنفى حد الردة وتلغى العمل به.