أولاً: كلمة "حد" تعنى فى القرآن الشرع والحق ولا تعنى العقوبة
جاءت كلمة "حدود" فى القرآن الكريم (14) مرة. وكلها تعنى حقوق الله وتشريعاته، ولا تعنى العقوبة كما يدل مصطلح حد الردة أو "حد الزنا" وتطبيق "الحدود" فى الشريعة..
جاءت مرتين بمعنى شرع الله وأوامره فى قوله تعالى: ﴿الأعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ﴾ (التوبة 97). وفى قوله تعالى: ﴿وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ﴾ (التوبة 112).
وجاءت مرة فى تشريع الصيام فى آية ﴿أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَىَ نِسَآئِكُمْ﴾ وفى نهايتها يقول تعالى ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ (البقرة 187).
وجاءت مرتين فى تشريع الميراث، يقول تعالى ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا﴾ (النساء 13، 14)..
وجاءت تسع مرات فى تشريعات الله تعالى فى الزواج والطلاق..
- منها مرة فى موضوع، الظهار أى إذا ظاهر الرجل على امرأته وحرمها على نفسه، فلا يرجع إليها إلا بعد تقديم الكفارة، ويقول تعالى بعدها ﴿تلك حدود الله﴾
- ومنها أربع مرات فى أية واحدة تتحدث عن الطلاق الأول للزوجة والطلاق الثانى يقول تعالى فيها ﴿الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّآ آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلاّ أَن يَخَافَآ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ (البقرة 229).
- ومنها مرتان فى الآية التى تتحدث عن الطلاق للمرة الثالثة وحتمية أن تتزوج شخصاً آخر ﴿فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة 230).
- ومنها مرتان فى تحريم إخراج المطلقة من بيتها قبل العدة ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ (الطلاق 1).
هذه هى المواضع التى جاء فيها لفظ "الحدود" وكلها تعنى شرع الله وليس منها ما يتعلق بالعقوبات المنصوص عليها فى القرآن مثل السرقة والزنا والقصاص وقطع الطريق والقذف.. وليس منها ما يتعلق بالعقوبات التى استحدثها العصر العباسى لشرب الخمر والردة وترك الصلاة..
وذلك يدل على أن العصر العباسى وفقهاءه قد نحتوا لهم مسميات خاصة لا تتفق وتشريعات القرآن..
وذلك يدل أيضاً على أن عصر الرسول المرتبط بالقرآن أساساً لم يعرف مدلولاً اسمه "حد السرقة" أو "حد الزنا" وسائر العقوبات المنصوص عليها فى القرآن لأن القرآن حين ذكر عقوبة الجلد للزانى لم يستعمل كلمة حد الزنا ، وكذلك حين تحدث عن جريمة السرقة أو القذف أو القتل.. ويمكن مراجعة ذلك فى القرآن.
وهذا يؤكد على ذلك الفارق الجوهرى بين دين الله الحق ونوعيات التدين للبشر فى عصورهم المختلفة. فالله تعالى ينزل الدين نقياً خالصاً للسمو بالناس والترقى بهم، أما البشر فهم حين يتدينون فإنهم يضعون بصماتهم على الدين فتظهر تلك الفجوة بين الدين الحق وتدين البشر، ويضع البشر صورة قانونية تشريعية للتدين الذى يمارسونه، ويقوم الفقه بتلك المهمة، وطبيعى أن يحدث اختلاف بين مذاهب الفقه والتشريع القرآنى الأصيل لأن مذاهب الفقه تتأثر بالظروف الاجتماعية والنفسية والسياسية لصاحب المذهب وأتباعه..
ولذلك ليس غريباً أن يخترع الفقه مدلولات جديدة لم يذكرها تشريع القرآن، وليس غريباً أن يخترع عقوبات تخالف تشريعات القرآن ومنها ما اصطلحوا على تسميته بحد الردة..
وقبل أن نتعرض لموقف التشريع القرآنى من حد الردة نبدأ بموقف القرآن من التكفير.. فالتكفير هو أساس التشريع الفقهى فى قتل المرتد.. فلابد أن يسبق "إقامة الحد على المرتد" اتهامه بالكفر وإقامة محكمة تفتيش عن سريرته وعقيدته.
فهل يصح فى تشريع القرآن أن يتهم المسلم إنساناً بالكفر؟.
هذا هو المبحث التالى..
ثانياً: موقف القرآن من التكفير
لا يصح للمسلم أن يكفر غيره أو أن يقيم له محاكم تفتيش
منح الله تعالى البشر الحرية فى الإيمان به أو الكفر بذاته العلية، والدليل على ذلك واضح فى حياة البشر وفى أقوالهم وأفعالهم فى تاريخهم الماضى والحاضر..
والقرآن- كلام الله العزيز- فيه الإثبات على حرية البشر المطلقة فى الإيمان والكفر، يتضح ذلك فى قصص القرآن عن المشركين كما يتضح أيضاً فى حوار القرآن مع المشركين لإقناعهم بالعقل والمنطق، ولو لم يسمح الله لهم بالحرية ما كان ذلك الحوار وما كانت محاولة الإقناع، بل أن القرآن يؤكد على حرية البشر فى أن يؤمنوا أو أن يكفروا، وفى المقابل فإن مسئوليتهم تجاه هذه الحرية تتجلى يوم الحساب حيث سيحاسبهم رب العزة على اختيارهم، يقول تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ (الكهف 29).
بل إن القرآن الكريم لم يصادر أقوال المشركين فى العيب فى ذات الله، فاليهود قالوا ﴿إن الله فقير ونحن أغنياء﴾، وقالوا ﴿يد الله مغلولة﴾ وقال مشركو مكة وهم يرفضون إعطاء الصدقة ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ﴾ (يس 47).
أثبت القرآن هذه الأقوال ولم يصادرها، فصارت مع الرد القرآنى عليها ضمن آيات القرآن التى يتعبد المسلم بتلاوتها.
ومن الطبيعى أن يرد القرآن- كلام الله العزيز- على الأقوال التى تخالف دين الله تعالى، وهذا حق الله تعالى، وليس فقط لأن تعالى هو رب البشر وخالقهم وصاحب الدين الحق ولكن لأنه أيضاً تعامل مع البشر بمنطق العدل، فقد أعطاهم حرية الإيمان والكفر، وحرية إعلان الكفر وحرية العيب فى ذاته الإلهية العلية والتقول على الله تعالى، وفى مقابل ذلك فإن من حقه أن يصفهم بالكفر والعصيان وأن يرد على افتراءاتهم وأقوايلهم وينفى عن ذاته العلية اتخاذ الولد والشريك، وتلك قضايا تخصه جل وعلا، ومن حقه الرد عليها..
إلا أن عدل الله تعالى تجلى فى التعامل مع طوائف البشر. فحين يحكم بالكفر فإنه تعالى يضح حيثيات الاتهام وأسباب الوصف فيقول مثلاً ﴿لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ﴿لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ (المائدة 72، 73).
فالحكم من الله ليس عاماً وإنما هو خاص بمن يقول ذلك القول، وفى نفس الوقت فإن الذى يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين فهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يقول تعالى: ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة 62).
ويقول تعالى: ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة 69).
أى أن الله تعالى ليس منحازاً لأحد، فمن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فهو من أولياء الله أصحاب الجنة، ومن يجعل لله ولداً أو يجعل إلهاً مع الله فإن الله تعالى يحكم عليه بالكفر..
وذلك هو ما يخص الله تعالى، فهو صاحب الدين وهو صاحب ومالك يوم الدين وهو الذى يرد على البشر إن أحسنوا فى العقيدة أو أساءوا فيها.
إلا أن الله تعالى لم يعط أحداً من البشر الحكم على الآخرين الأحياء بالكفر، بل أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكون حوارهم بالحكمة والموعظة الحسنة مع معاصريهم ومع تأجيل الحكم إلى الله تعالى يوم القيامة ، وذلك ما كان مأموراً به خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام...
فالله تعالى يأمر بأن يكون الجدال مع أهل الكتاب بالتى هى أحسن، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت 46).
فالجدال مع أهل الكتاب ممنوع إلا إذا كان بالتى هى أحسن... أى كان نقاشاً موضوعياً بالحجة دون إساءة، أما "الذين ظلموا" فلا جدال معهم حتى لا يتطور الأمر إلى إساءة متبادلة، والله تعالى نهى عن الجدال الذى ينتهى إلى إساءة ويقول: ﴿وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام 108). وعن الظالمين- أو بمفهومنا المتعصبين- يقول تعالى للنبى قال تعالى: ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الحج 68، 69). أى أنه لا مجال للجدال العقيم مع المتعصب، والأفضل الإعراض عنه وذلك شأن المؤمن دائماً، ويقول الله تعالى فى حال المؤمنين مع المتعصبين المتحفزين الظالمين ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (القصص 55).
وبالمناسبة فتلك الآية الكريمة نزلت فى حال مؤمنى أهل الكتاب ونزلت مثلاً لكل مؤمن فى الحوار أو الجدال بالتى هى أحسن وتحاشى الجدل مع المتعصبين.
ولذلك فإن الجدال بالتى هى أحسن هو سمة الحوار بين المؤمنين بالقرآن ومؤمنى أهل الكتاب وذلك معنى قوله تعالى ﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾.
وحتى لا يقع المسلم فى اتهام أهل الكتاب بالكفر فإن القرآن يفرض صيغة محددة للحوار فيقول تعالى ﴿وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أى نؤمن معاً بالله الواحد ونؤمن بما أنزل إليكم وما أنزل إلينا، ونحن له مسلمون، ولم يقل مثلاً "وأنتم كافرون" لأنه ممنوع اتهام المسلم لغيره بالكفر...
ولم يأت الأمر مثلاً بأن يستشهد المؤمن فى حواره مع أهل الكتاب بما قاله رب العزة عن أولئك الذين قالوا إن الله تعالى ثالث ثلاثة أو أن الله هو المسيح ابن مريم.. لأن ذلك هو قول الله تعالى ذاته فى الرد عليهم، أما نحن فما علينا إلا أن نحاور بالتى هى أحسن ونرجئ الحكم فى العقائد إلى يوم الدين يوم الحساب أمام الله تعالى..
وقد تحدثت سورة آل عمران عن ميلاد عيسى عليه السلام وبعثته ثم قالت: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ. إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ﴾ (آل عمران 58: 60).
وبعد ذلك التوضيح عن بشرية المسيح عليه السلام ورسالته فماذا يكون موقف النبى إذا جاءه أهل الكتاب يجادلونه؟ هل يتهمهم بالكفر؟ هل يرميهم بالضلال؟ هل يتوعدهم بالجحيم؟..
تعالوا بنا نقرأ الآية التالية لنعرف الإجابة فى تلك السورة المدنية التى نزلت فى عصر قوة المسلمين وشوكتهم ﴿فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران 61).
أى من جادلك فى طبيعة المسيح من بعد ما جاءك فيه من العلم أى بالقرآن فادعهم إلى المباهلة، أى الاحتكام إلى الله تعالى فى الدنيا، بأن يخرج الفريقان ومعهم الأبناء والنساء ويبتهلون إلى الله تعالى أن يلعن الكاذب منهما.. لم يقل القرآن للنبى إذا جادلوك فاحكم عليهم بالضلال والكفر ودخول الجحيم.. ولكن ابتهل إلى الله لكى تكون اللعنة من نصيب الكاذب من الفريقين، ومن الطبيعى أن كل فريق يعتقد الصدق فى نفسه..
أى أنه تصعيد وتأجيل للحكم إلى رب العزة لأنه وحده هو الذى يحكم بالكفر أو بالإيمان على عباده البشر، أما النبى فلا يملك أن يحكم بكفر أحد.
والقرآن فى دعوته لأهل الكتاب يضع أسلوب الحوار الراقى الذى يجب على المسلمين اتباعه، ويقول تعالى للنبى قال تعالى: ﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران 64).
فهذا هو الخطاب الراقى لأهل الكتاب أن ندعوهم إلى كلمة سواء نلتزم بها سوياً، أن نعبد الله وحده دون شريك وألا نتخذ كهنوتاً وأرباباً من البشر، فإن رفضوا فلا نتهمهم بالكفر ولا نتحدث بأسمهم أو باسم الله ولكن نتحدث باسمنا فقط، فنقول لهم اشهدوا إذن بأننا أسلمنا لله وحده..
لم يقل: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وأنتم كافرون، لأنه ليس من حق المسلم اتهام غيره بالكفر، وحسبه أن يعلن خضوعه لله ، وحسبه شرفاً أن يكون فعلاً عند الله كذلك..
والخلاصة أن الله تعالى هو وحده صاحب الحق فى أن يقول عن بعض أهل الكتاب ﴿لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾.
وهو وحده تعالى صاحب الحق أن يقول عن أهل الكتاب ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ (آل عمران 113، 114).
الله وحده هو الذى ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ﴾ وهو الأعلم بحقيقة الإيمان عند الأفراد والطوائف والأمم، والله تعالى يقول ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ﴾ (النساء 25).
أما نحن البشر فإذا كنا ندعى الإيمان حقاً فيجب أن نلتزم بأوامر الله تعالى فى أن نقول للناس حسنا ﴿وقولوا للناس حسنا﴾ (البقرة 83).
وأن نجادلهم بالتى هى أحسن، وهل هناك أروع من قوله تعالى فى آداب الدعوة والحوار ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت 33، 34).
وقد يقول قائل:- إن الله تعالى أمر رسوله أن يقول ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ أى اتهمهم بالكفر وقال لهم ﴿يا أيها الكافرون﴾.
والجواب: إن أعداء النبى فى مكة كانوا يفخرون بكفرهم ولم يعتبروا ذلك الاتهام بالكفر نقيصة بأى حال، بل دأبوا على اتهام النبى بالسحر والجنون والكذب واعتبروا الإيمان بالقرآن جريمة تستوجب الإيذاء والحرب..
وإذن فإن قول النبى لهم ﴿يا أيها الكافرون﴾ ليس فيه إساءة لهم بل هو خطاب لهم بنا يحبون وبما يفخرون، والمهم إن فحوى الخطاب تقرر حرية العقيدة فى آيات السورة التى تنتهى بقوله ﴿لكم دينكم ولى دين﴾.
والأهم من ذلك هو آداب الحوار مع أولئك الذين كانوا يفخرون بكفرهم ويعتبرون الإيمان بالله ورسوله، هل كان الله تعالى يأمر رسوله فى الحوار معهم أن يتهمهم بالضلال ويحكم عليهم بدخول النار..
لنقرأ أسلوب الحوار الذى أمر الله به رسوله ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ﴾ (سبأ 24) لم يأمره- وهو رسول الله- أن يقول للمشركين "أنا على هدى وأنتم فى ضلال، وإنما أمره أن يقول أحدنا على هدى والآخر فى ضلال.
وتقول الآية التالية ﴿قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ لم يقل: لستم مسئولين عن إجرامنا ولسنا مسئولين عن إجرامكم.
بل نسب الجرم لنفسه- وهو النبى- ولم ينسب إلى المجرمين إلا مجرد العمل.. إلى هذا الحد بلغت آداب الحوار مع المشركين المعاندين، وتقول الآية التالية ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ﴾ (سبأ 26).
أى يؤجل الحكم بينهم وبينه إلى لقاء الله تعالى يوم القيامة.
وذلك بالنسبة للنبى فى حواره مع المشركين..
فلم يكن من خصائص النبى أن يتهم أعداءه الأحياء الكفر.. وبالتالى فلم يكن من خصائصه أن يتهم مسلماً حيا بالكفر..
ومن الطبيعى أن من يتهم غيره بالكفر يضع نفسه فوق النبى، بل ويتقمص الدور الإلهى الذى هو لله وحده..
بين الجهاد والتكفير
الجهاد بالقرآن الكريم سلميا من أهم ملامح الجهاد الاسلامى، يقول تعالى " ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا. الفرقان51-52." أن القرآن هو الرسول القائم بيننا طالما ظل هناك قرآن يتلى، وطالما هو محفوظ بقدرة الله جل وعلا الى قيام الساعة. ومهمة القرآن أن يظل حجة الله تعالى على الناس الى قيام الساعة. النبى بشر مات ولكنه كرسول قام بتبليغ القرآن الذى سيظل رحمة للعالمين من عهده الى آخر دقيقة فى هذه الدنيا. محمد كبشر كان محدودا بالزمان والمكان والقرآن بعده يظل علما للهداية وحكما على الناس – خصوصا المسلمين ـ اذا تلاعب بهم الشيطان . والشيطان لم يقدم استقالته . سيظل يؤدى مهمته فى اضلال الناس الى قيام الساعة.
القرآن الكريم شرح مهمة ابليس وهى اضلالهم عن الطريق المستقيم أى وحى الله تعالى الحق، وخداع الناس بالأمنيات الباطلة أى بدخول الجنة مهما عصوا "الأعراف16-17 ""النساء 118-120". وهذه المهمة الشيطانية لها وسائل محددة تماثل وسائل الهداية ونقصد بها الوحى. فكما يوحى الله تعالى للأنبياء كذلك يوحى الشيطان لأوليائه. عن القرآن يقول تعالى :"وانه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين"... " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغى لهم وما يستطيعون ، انهم عن السمع لمعزولون.".وبعدها يقول تعالى عن الوحى الشيطانى "هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل على كل أفاك أثيم . يلقون السمع وأكثرهم كاذبون."الشعراء 192-195،،،210 ـ 212 ،، 221-223."
تختار الشياطين أكثر البشر كذبا واثما "أفاك أثيم" ليتسلط على الناس ببث أكاذيبه يقنعهم أنها من عند الله تعالى أو رسوله. يسميها وحيا أو مناما أو هاتفا فى يقظة أو منام. ويلقى اليه الناس اسماعهم ، وأكثرالمستمعين كاذبون يروى ويحكى عنه مصدقا له ،أو يكتب عنه ما يقول وينسخها أى يكتبها ويشاء الله تعالى أن يسمح بهذا التصرف فتتكاثر كتب الوحى الكاذب ونسخها "الحج 52-55". اولئك هم اعداء الأنبياء أو شياطين الانس بتعبير القرآن الكريم .يقول تعالى عنهم:" وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون". ثم يقول تعالى عن المستمعين المبهورين بهذا الوحى الضال:"ولتصغى اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون." ثم يجعل الله تعالى القرآن الكريم حكما على هذا الوحى الكاذب فيقول:" أفغير الله ابتغى حكما؟ وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلا ؟." الأنعام 112-113 "
وهكذا يكون الجهاد بالقرآن ضد اولئك الذين افتروا على الله تعالى كذبا وكذبوا بآياته، وهم الذين جعلهم الله تعالى اظلم الناس جميعا: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته." الاعراف 37 يونس 17"".
الجهاد هنا فكرى عقلى بالقرآن ليواجه الأكاذيب التى ينسبونها لله تعالى ووحيه ورسوله. ليس موجها للأشخاص مثل الجهاد القتالى ولكنه موجه للوحى الكاذب نفسه يحتكم فيه لكتاب الله تعالى، محذرا الناس منه، وللنصح والتذكير وليس للسب والتكفير. ومن منتجات هذا الوحى الكاذب حد الردة موضوع هذا الكتاب. وما نفعله هنا هو ذلك الجهاد القرآنى السلمى للتحذير وليس للتكفير.
قبل طرد ابليس من الملأ الأعلى – بسبب عصيانه الأمر الآلهى بالسجود لآدم – قال ابليس متحديا رب العزة جل وعلا عن ذرية آدم ـ أى عنا :"..لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين."الأعراف16-17." ومع أن الله تعالى كشف الاعيبه وأوضح وسائله الا أنه ينجح دائما فى خداع الأكثرية من البشر حتى الآن والى قيام الساعة ، والسبب انه لا يقدم لهم نفسه كشيطان عدو للرحمن ولكن من خلال اسلام مغشوش يحمل اسم الاسلام زورا وبهتانا عبرأحاديث منسوبة لله تعالى ورسوله الكريم، ولا تخلو من زخرف القول وما تشتهيه النفس وتتمناه. وهنا يكون جهادا واجبا أن نبرىء الاسلام من هذا الزيف باللجوء للقرآن والاحتكام اليه فى هذا الغش والزيف املا فى هداية المخدوعين بزخرف الشيطان وغروره.
والله تعالى أخبر مقدما فى القرآن الكريم بما سيقوله للبشر الضالين يوم القيامة وقد خدعهم ابليس جيلا بعد جيل بسبب التقليد وعبادة المتوارث والتراث دون فهم او تعقل. سيقول تعالى لهم جميعا يوم القيامة يذكرهم بمانسوه" ألم أعهد اليكم يابنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وأن أعبدونى هذا صراط مستقيم. ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون.""يس 60 -63 . وفى جهنم سيجدونه بينهم :" وقال الشيطان لما قضى الأمر ان الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لى عليكم من سلطان . الا ان دعوتكم فاستجبتم لى، فلا تلومونى ولوموا أنفسكم..""ابراهيم23" لم يدعهم بنفسه أو بصوته وانما بلسان اتباعه الذين ينشرون وحيه الكاذب المناقض لكتاب الله تعالى... وحتى ننجو من هذا المصيرلا بد من عرض عقائدنا على كتاب الله لننظف منها الأحاديث المفتراة ، وهذه وظيفة العلماء الذين قال الله تعالى عنهم:"يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" المجادلة 11" وهى أيضا وظيفة الأشهاد الذين يجاهدون بالقرآن سلميا فى هذه الدنيا لأظهار الحق وازهاق الباطل .وقد وعدهم الله تعالى بالنصرفى الدنيا وأن يكونوا شهداء على أقوامهم فى الآخرة " "انا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار."غافر 51-52".
والخلاصة هنا أن الجهاد لتوضيح الحق القرآنى وتبرئة الاسلام من مفتريات الشيطان لا صلة له بالتكفير لأنه يواجه العقائد ويسعى لانقاذ الأشخاص من الضلال بالقرآن وليس لتكفيرهم..
أما الكهنوت فله شأن آخر.
فمن طبيعة الكهنوت أن يدعى التحدث باسم الله، ولذلك فإنه حيث يوجد الكهنوت يوجد اتهام بالكفر وتوجد محاكم التفتيش، وتوجد صكوك الغفران، وليس فى الإسلام كهنوت، ولنتذكر أن الله تعالى دعا أهل الكتاب لنبذ الكهنوت حين قال ﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران 64).
وذلك هو واقع الإسلام.. لا مجال فيه للأرباب والكهنوت والوسائط، أما واقع المسلمين التاريخى فقد عرف تقديس الأولياء والعلماء والأئمة، بحيث أصبح من المقرر أن انتقادهم يعتبر هجوماً على الإسلام. وتلك نفس عقيدة الكهنوت الذين يعتبرون أنفسهم وأئمتهم الممثلين للدين والمتكلمين باسمه.
ولذلك فإنه من الإنصاف للإسلام أن نبرئه من أعمال المسلمين التى تخالف كتاب الله العزيز.التبرئة من "اعمال" وصفات وعقليات وليس تكفير اشخاص أحياء.
والخطورة فى وجود الكهنوت أنه حين يحكم بكفر إنسان يقيم له المحاكم التفتيشية ويحكم عليه بالقتل.. وتلك مخالفة أخرى لتشريع القرآن فالنبى نفسه لم يحدث أن أقام محاكم تفتيش للمنافقين فى المدينة وقد كان فيها الحاكم المطاع، وكان المنافقون يمثلون المعارضة السياسية والدينية، وكانوا يتآمرون عليه فى أوقات السلم وأوقات الحرب، بما يستوجب فى الدولة الديمقراطية أن يحاكموا بتهم قد تصل إلى درجة الخيانة العظمى.
ونأخذ أمثلة من القرآن الكريم لموقف النبى من المنافقين والمشركين.
- كان بعضهم يسارع إلى اعلان الردة والكفر ويحزن الرسول لذلك، ولكن لم يكن له أن يحاكمهم أو يقيم عليهم حد الردة أو يعقد لهم محاكم تفتيش، كان يكتفى بالحزن ويقول له ﴿يَأَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ (المائدة 41).
ويطمئنه ربه بأن أولئك الذين يسارعون فى الكفر والردة لن يكون لهم حظ فى الآخرة وذلك يكفى فى عقابهم ويغنى عن اضطهادهم فى الدنيا، يقول تعالى لرسوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِنّ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (آل عمران 176، 177).
- إن المرتد لا يمكن أن يضر الله شيئاً، ويكفيه ما سيناله من عذاب القيامة إذا مات على كفره، وبعض المنافقين كان يتطرف فى كفره إلى درجة التآمر على النبى وعلى المؤمنين فى أوقات الحروب، ومع ذلك فإن النبى لم يعقد لهم محاكم تفتيش، يقول تعالى عن تآمرهم على النبى ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ (النساء 81).
أى كانوا يقدمون للنبى فروض الولاء ويدخلون عليه فى مظهر الطاعة فإذا خرجوا من عنده تآمروا عليه وكذبوا عليه وتقولوا عليه ما لم يقل، والله تعالى الذى يخبر رسوله بمؤامراتهم يخبره أيضاً بأنه يسجل عليهم تآمرهم ويكتب عنده أقوالهم ويأمر النبى بالإعراض عنهم وأن يتوكل على الله وكفى بالله وكيلا، لم يقل له ربه أقم لهم محاكم تفتيش واحكم عليهم بالردة والقتل والخيانة العظمى..
- وكانوا يتآمرون على المسلمين والنبى فى الوقت العصيب، وقت المعارك مع المشركين، يتأرجحون فى الولاء بين المسلمين والمشركين، وتلك خيانة عظمى، ويتضمنون للغالب أو يتظاهرون بذلك، يقول تعالى عنهم ﴿الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُوَاْ أَلَمْ نَكُنْ مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوَاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (النساء 141).
يقول الله تعالى للنبى والمؤمنين معه عنهم ﴿فالله يحكم بينكم﴾ أى تأجيل للحكم إلى يوم القيامة، لأنه ليس هناك مجال فى دولة الإسلام الحقيقية لأى نوع من محاكم التفتيش وليس هناك فى تشريع الإسلام الحقيقى ما يعرف بحد الردة.. وإلا كان النبى أول من طبقه وأول من ينفذه فى المنافقين الذين قال عنهم رب العزة ﴿إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ (النساء 145).
إن تأجيل الحكم إلى يوم القيامة فيما يخص العقائد وحقوق الله تعالى من الأمور المقررة فى القرآن، ومن أهم خصائص العقيدة الصحيحة فى الإيمان بالله واليوم الآخر..
وذلك ما نزلت به الرسالات السماوية وقاله الأنبياء والمرسلون، وأخبر به رب العزة فى القرآن الكريم..
- لقد قال الله تعالى لعيسى عليه السلام ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَىَ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (آل عمران 55).
فالله تعالى هو الذى سيحكم بين النصارى فى اختلافاتهم الدينية يوم القيامة، ولو آمنوا بذلك لما عرف تاريخ العصور الوسطى إقامة محاكم التفتيش وحرق المتهمين بتهمة الهرطقة..
- والله تعالى يقول عن اليهود ﴿إِنّمَا جُعِلَ السّبْتُ عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنّ رَبّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (النحل 124).
فالحكم لله تعالى يوم القيامة فيما يخص اختلافات اليهود فى السبت وغيره.
ومشركو قريش وغيرها كفروا بالقرآن وموعد محاكمتهم يوم القيامة الذى هو يوم (الدين) حيث يكون الملك لله وحده، وهو تعالى وحده صاحب الدين ومالك يوم الدين، ولذلك يقول تعالى عن الكافرين بالقرآن ﴿وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ (الحج 55).
وكانوا إذا جاءوا يجادلون بالتى هى أسوأ يقول له ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الحج 68، 69).. أى تأجيل الحكم بينهم وبين النبى إلى يوم القيامة.
ولذلك كان الله تعالى يأمر الرسول بالصبر إلى أن يأتى الوعد الحق يوم القيامة ويتحقق ما وعده ربه به وتقام المحاكمة الكبرى يوم الحساب يقول الله تعالى للنبى ﴿فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَـإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ (غافر 77).
ويقول له ربه ﴿وَإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ﴾ (يونس 46). فالجديد فى المحاكمة الكبرى أن الله تعالى هو الشهيد على ما يفعلون وهو الوكيل- أى الذى يتوكل ويعتمد عليه- المؤمنون.
وكفى به تعالى شهيداً وكفى به تعالى وكيلا..
وإذا استوعب المؤمن هذه المعانى أحس بالإشفاق على الذى يغويه الشيطان ويوقعه فى الضلال، لذلك فإن الله تعالى يأمر المؤمنين بالغفران لمن يضل، يقول تعالى: ﴿قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (الجاثية 14، 15).
والمؤمن إذا تفكر فى العذاب الذى ينتظر الضالين فى الآخرة تحول إشفاقه عليهم إلى صفح وغفران، إذ يكفيهم ما ينتظرهم من هول يوم القيامة، ولن يفكر بتاتاً فى اضطهادهم أو محاكمتهم، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (الحجر 85).
فالساعة آتية وفيها يوم الحساب، وما عليك إلا أن تصفح، وليس مجرد الصفح، بل الصفح الجميل..
فأين ذلك السمو من دعاة محاكم التفتيش؟!!
وبعض من يصيبهم الحماس الدينى يهتف متهماً الآخرين بالكفر، بل ربما يرفع هتافه للسماء، وكان ذلك يحدث وقت نزول القرآن كما يحدث الآن، ونزل القرآن يرد ﴿وَقِيلِهِ يَرَبّ إِنّ هَـَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاّ يُؤْمِنُونَ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف 88، 89)..
فالرد عليهم أن تقول لهم سلام عليكم، وأن تصفح عنهم، فسوف يعلمون يوم القيامة..
إن محاكم التفتيش على عقائد الناس الأحياء وخطرات نفوسهم شىء فوق طاقة البشر ولذلك فهى دائماً محاكم ظالمة، وليس فقط فى أنها اعتدت على خصوصيات الله تعالى وتفرده وحده بالحكم فى العقائد، وليس فقط فى أنها تخالف شرع الله تعالى فى تأجيل الحكم فى اختلاف العقائد إلى يوم الدين ولكن لأنها أيضاً أقحمت نفسها فى مجال السرائر وما تخفيه الصدور..
فالله وحده الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وذلك ما قاله رب العزة فى الحديث عن المحاكمة الكبرى يوم القيامة أو يوم التلاقى ﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاَقِ. يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ. الْيَوْمَ تُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ. يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ. وَاللّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (غافر 15: 20). يوم التلاق، هو يوم لقاء الله تعالى، يوم يقوم الناس لرب العالمين، أى يوم القيامة. فى ذلك اليوم يبرز الناس للقاء الله حيث لا يخفى على الله منهم شىء وحيث يتحقق الملك لله وحده، وحيث تجزى كل نفس ما كسبت، وحيث لا ظلم لأن الله وحده هو الذى يقضى بالحق وهو الذى يعلم الغيب.
إن من خصائص هذا اليوم الكبر أن الله تعالى يحاسب الناس على سرائرهم، يقول تعالى ﴿يوم تبلى السرائر﴾ أى يوم يمتحن الله ما فى السرائر..
ويقول عما تخفيه الصدور ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولـَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء 36).
هنا تكون المحاكمة عادلة لأنها تعلم السرائر وما تخفيه الصدور، وذلك ما اختص الله تعالى به ذاته، وحرم منه رسوله خاتم النبيين الذى لم يكن يعلم سرائر أصحابه، حتى كان من بين أصحابه من هم أشد الناس نفاقاً، إلا أنهم مردوا على النفاق إلى درجة الإدمان، وإلى درجة أنهم خدعوا النبى نفسه بمظهرهم المؤمن، والله تعالى يقول للنبى والمؤمنين ﴿وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (التوبة 101). قال تعالى للنبى عن أولئك الذين (مردوا على النفاق) (لا تعلمهم) لأن علم السرائر من خصائص الله علام الغيوب..
أما الكهنوت فيرفع نفسه فوق الأنبياء حين يدعى علم السرائر والغيوب ويضع نفسه فى مقام رب العزة حين يحاكم باسم الله تعالى- زوراً وبهتاناً- من يخالفه فى العقائد.. إن الله تعالى يقول للنبى ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران 176).
أى أن الله تعالى يجعل قضية الإيمان والكفر من اختصاص الله تعالى وليست خصائص النبى، فليس على النبى إلا التبليغ والإنذار والتبشير.. فإذا حزن لأن بعضهم ارتد فالله ينهاه عن الحزن لأن القضية تخص الله تعالى ولأن أولئك الذين يسارعون فى الكفر لن يضروا الله شيئاً، ولأن الله تعالى يريد أن يحرمهم من الجنة ويريد أن يعاقبهم بالنار..
إن الله تعالى يقول للنبى ﴿فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ. لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ. إِلاّ مَن تَوَلّىَ وَكَفَرَ. فَيْعَذّبُهُ اللّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ. إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ. ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ (الغاشية 21: 26).
إن السيطرة على عواطف الناس ومعتقداتهم فوق طاقة النبى نفسه، لذلك قال الله تعالى ﴿لست عليهم بمسيطر﴾ والدليل الواضح على ذلك أن سيطرة النبى على المدينة سياسياً لم تكفل له السيطرة الدينية على سكانها فكان منهم المنافقون، بل إن المؤمنين تآلفوا واجتمعوا حول النبى بإرادة الله تعالى وتدبيره، وليس بجهد النبى وإمكاناته، يقول تعالى: ﴿وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال 63). إن الذى يستطيع التحكم فى القلوب هو الله جل وعلا.. وقد شاء رب العزة أن يترك القلوب حرة فى أن تؤمن أو أن تكفر، فى أن تطيع أو أن تعصى فى أن تحب أو أن تكره، ومنع النبى من أن يتطرف فى حماسه للدعوة فيقع فى إكراه الناس على الإيمان، فقال تعالى للنبى ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس 99).
ولذلك فإن محاكمتهم وعقابهم من شأن الله تعالى وحده ومن حق الله تعالى وحده ، والذى يغتصب لنفسه ذلك الحق الإلهى فقد جعل نفسه إلهاً مع الله مع أنه لا إله إلا الله.
والتاريخ يثبت أن محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين فى العقيدة يأتى دائماً فى العصور التى يسيطر فيها الكهنوت وتقديس البشر من الأئمة والأولياء والأحبار والرهبان لارغام الآخرين على الاستسلام لهذا الضلال ، بينما ينعدم ذلك فى عصور التدين الصحيح المرتبط بحرية التدين وعدم الاكراه فى الدين..
ففى عصر الرسول والخلفاء الراشدين لم يعرف المسلمين محاكم التفتيش أو حد الردة المزعوم.. مع أن الدولة البيزنطية كانت تضطهد الأقباط المصريين وتقيم لهم محاكم التفتيش بسبب الخلاف فى طبيعة المسيح عليه السلام، لذلك كان ترحيب المصريين بالفتح العربى لأنهم كانوا يتوقون لمن ينقذهم من الاضطهاد الرومانى الدينى..
ثم ما لبثت العدوى أن انتقلت للمسلمين فى عصور الاستبداد والخلفاء غير الراشدين فعرف المسلمون محاكم التفتيش وحد الردة وذلك لأسباب خاصة لا شأن للإسلام بها، بل هى فى الدفاع عن مقولات الكهنوت الباطلة من تقديس البشر وتسويغ الاستبداد الدينى والسياسى.
إن الله تعالى لم يضع تشريعاً لمعاقبة الذين يسارعون فى الكفر بعد الإيمان لأنهم كما قال الله تعالى ﴿لن يضروا الله شيئا﴾.
أما الكهنوت الدينى والسياسى فهو يلجأ لمعاقبة الخصوم لأن أولئك الخصوم سيضرونهم شيئاً وأشياء..
والعادة أن الكهنوت يقوم على أسس خرافية تجافى العقل وتعارض الحق وتنافى دين الله تعالى، وحيث تنعدم الحجة فالسبيل الوحيد هو استعمال القوة.. ولذلك يقيم الكهنوت يوماً للحساب قبل يوم الحساب ويقعد محاكم التفتيش قبل يوم القيامة ويزعمون أنهم يحكمون باسم الله مع أنهم فى الحقيقة يغتصبون حقوق الله..
لقد وضعوا تشريعات لمحاكم التفتيش تحت عنوان "استتابة المرتد".
وأعطوا أنفسهم حق الاستتابة. مع أن التوبة لا تكون من العبد إلا إلى ربه وحده فالله وحده هو الذى يتوب على التائب ولم يعط الله تعالى حق الاستتابة لغيره.
إن الله تعالى يقول للمؤمنين ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ ويقول ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً﴾ .
والله وحده هو الذى يتوب على النبى والمؤمنين ﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ﴾ (التوبة 117).
وليس للنبى نفسه حق الاستتابة أو غفران الذنوب والله تعالى يقول للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (آل عمران 128، 129).
ولأنه لا إله إلا الله فإنه لا يتوب على البشر ولا يملك الاستتابة إلا الله وحده وبذلك أمر الله رسوله أن يقول ﴿قُلْ هُوَ رَبّي لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ (الرعد 30).
أى إليه وحده أتوب..
وذلك ما كان النبى يقوله..
أما الكهنوت فيرفع نفسه فوق النبى، فإذا كان النبى ليس له فى الأمر شىء فللكهنوت كل شىء، وإذا كانت الاستتابة والتوبة على البشر ومحاكمتهم على عقائدهم لله وحده فإن الكهنوت يجعل نفسه شريكاً مع الله ويعطى لنفسه حق محاكمة خصومه وحق عقابهم أيضاً تحت عنوان "استتابة المرتد".
وفى العصور التى ساد فيها الكهنوت السياسى والدينة كتب الفقهاء فى استتابة المرتد، ونقل ذلك عنهم الشيخ سيد سابق فى كتابه (فقه السنة) فيقول بوجوب استتابة المرتد ولو تكررت ردته ويمهله فترة زمنية يراجع فيها نفسه وتفند وساوسه وتناقش فيها أفكاره فإن عدل عن موقفه وبرئ من كل دين يخالف دين الإسلام قبلت توبته وإلا أقيم عليه حد الردة وقتل..
ويقول (وقدر بعض العلماء هذه الفترة بثلاثة أيام وترك بعضهم تقدير ذلك مع تكرير التوجيه والنقاش حتى يغلب على الظن أنه لن يعود إلى الإسلام، وحينئذ يقام عليه الحد وقيل يجب قتله فى الحال..)
وقد جعلوا السبب الموجب للاتهام بالردة مائعاً غير محدد يسهل تفسيره حسب الهوى، وهو إنكار معلوم من الدين بالضرورة. (والمعلوم من الدين بالضرورة) مصطلح فقهى متأخر غير محدد وغير متفق عليه، ولم يعرفه عصر الرسول ولا عصر الخلفاء الراشدين ولا توجد قائمة متفق عليها بذلك المعلوم من الدين بالضرورة فى القرآن، ولا توجد تلك القائمة بالمعلوم من الدين بالضرورة فى كتابات الفقهاء أنفسهم.. والدليل على ذلك أن كل فقيه يضع أمثلة للمعلوم من الدين بالضرورة، مجرد أمثلة قابلة للزيادة والنقصان، ومجرد قائمة تعبر عن رأى ذلك الفقيه وعصره ومستواه وعقليته..
والشيخ سيد سابق فى كتابه (فقه السنة) أورد أمثلة للمعلوم من الدين بالضرورة يعبر فيها عن آرائه وموقفه من بعض مظاهر حياتنا السياسية، يقول فى المرتد الذى ينكر المعلوم من الدين بالضرورة والذى يستحق القتل،(.. إنه يستحل المحرم الذى أجمع المسلمون على تحريمه ويحرم الحلال الذى أجمع المسلمون على حله، أو يسب النبى ويسب الدين ويطعن فى الكتاب والسنة ويترك الحكم بهما ويفضل القوانين الوضعية عليهما، أو يدعى الوحى، أو يلقى المصحف فى القاذورات أو كتب الحديث مستهيناً بهما مستخفاً بهما..إلخ)
لم يكن من بنود المعلوم من الدين بالضرورة فى العصور السابقة وفى كتابات الفقهاء السابقين الحكم بالكتاب والسنة على القوانين الوضعية، لأن تطبيق الشريعة لم يكن شعاراً سياسياً فى العصرين العباسى والمملوكى، أى أن الشيخ سيد سابق جاء بمعلوم جديد من الدين بالضرورة لم يعرفه الفقهاء السابقون، لأن عصر السيد سابق يموج بحركة علمانية تتخذ موقفاً من دعوة التيار الدينى لتطبيق الشريعة، وحينئذ نفهم لماذا يهددهم الشيخ بحد الردة لأنهم عنده أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة هى فى الحقيقة قائمة تزيد وتنقص حسب الأحوال وحسب رأى كل فقيه وكل عصر، وتبدأ من الإلحاد والكفر لتشمل إلقاء كتب الحديث فى القاذورات. كما قال الشيخ سيد سابق أو إلقاء كتب الفقه أيضاً كما يقول كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) الذى يضيف أن البصاق على كتب الفقه أو تطليخها به من مسوغات الاتهام بالردة وبالتالى القتل، حتى لو كان البصاق طاهراً!!
يعنى أن بعض الناس الذين جعلوا من الدين مملكة خاصة بهم يريدون أن يفرضوا به رأيهم وكتبهم على الناس، وإن أعرضوا هددوهم بمحاكم التفتيش والقتل..
وليس عجيباً بعد هذا أن يتضمن المشروع المقدم لمجلس الشعب لتطبيق الشريعة الإسلامية حد الردة، ويضع تعريف حد الردة بأنه (إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة).. ويظل ذلك المفهوم المطاط سيفاً على رقبة كل من يخالف الفقهاء، إلا أن المشروع كان كريماً مع الضحايا فأعطى ثلاثين يوماً لاستتابة المرتد قبل قتله أو بمعنى آخر إعلان عبوديته للفقهاء والكهنوت وإلا فالقتل بتهمة الردة..
إلا أن خطورة الاتهام بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة لا تتوقف على مجرد إنه اتهام مطاط وليس محدداً ببنود معينة معلومة للكافة لا تقبل الزيادة والنقصان والإضافة والحذف، ليس ذلك هو وجه الخطورة الوحيد.
ولكن يضاف إليه أن مفردات الاتهام نفسها قابلة أيضاً للتفسير والتأويل والمط حسب الهوى..
فالشيخ سيد سابق يقول مثلاً أن المرتد هو الذى يطعن فى الكتاب والسنة، وذلك اتهام مطاط فى حد ذاته ففى القرآن الكريم قضايا فكرية وكلامية اختلف فيها المسلمون ولا يزالون مثل قضية الاستواء على العرش ورؤية الله والقضاء والقدر وكل فريق يستشهد بما يؤيد وجه نظره من القرآن وكل فريق يمكن أن يتهم الآخر بأنه يطعن فى الكتاب.
وبالنسبة لمدلول السنة فإنه أكثر غموضاً، فأئمة الحديث كل منهم جمع وصحح من الأحاديث ما اعتبره سنة الرسول، وكلهم مختلفون، ثم جاء من بعدهم فكانوا أكثر اختلافاً وذلك يعطى كل فريق الحجة فى أن يتهم خصومه بأنهم يطعنون فى السنة، وبالتالى يقيم لهم محاكم التفتيش، وقد امتلأ تاريخ المسلمين فى العصرين العباسى والمملوكى بمئات من محاكم التفتيش والتكفير، وانغمست فيها السلطات الحاكمة حسب توجهاتها السياسية والفكرية وكان الفريق المسيطر يتهم غيره بالزندقة ويحاكمه ويدينه بهذه التهمة.
بل إن تلك الخصومات الفكرية بين المسلمين جعلتهم يرون تطبيق حد الردة على الزنديق دون إعطائه فرصة المحاكمة حتى لا يتمكن من الدفاع عن نفسه وتبيين حجته، أى يحرمونه من الاستتابة!!
ويقول كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) بقتل الزنديق بعد الإطلاع عليه بلا طلب توبة منه، وهو الذى كان يسمى منافقاً فى زمن النبى ولابد من قتله وإن تاب..!!
وقد يتصور القارئ أن ذلك الزنديق كافر ملحد لا يؤمن بالله ورسله وكتبه، كلا.. إنه مؤمن بالله وكتبه ورسله، ولكنه مفكر صاحب رأى، إلا أن خطأه الأعظم أن آراءه تخالف آراء أصحاب السطوة من الفقهاء، وتخالف ما اعتبروه عندهم هم معلوماً من الدين بالضرورة لذلك يستحق القتل حتى ولو تاب، ولأنه صاحب حجة ومعه الأدلة والبراهين فإن الكهنوت الفقهى يحرمه من المحاكمة التى يتفضل بها على المرتد الكافر العادى، والسبب أن المرتد العادى ليست لديه حجة يخشى منها الكهنوت الفقهى، أما من اتهموه بالزندقة فلديه الحجة والبرهان ولأنهم لا يستطيعون مواجهته بالحجة فى المحاكمة فلا داعى لمحاكمته والأفضل قتله سريعاً..
يقول الشيخ سيد سابق أن الزنديق هو الذى يعترف بالإسلام ظاهراً وباطناً، إذن هو مؤمن بالقلب واللسان، فكيف يكون زنديقاً؟ يقول الشيخ مستدركاً "لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين بالضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة".
أى هو زنديق لأنه اجتهد وجاء بآراء جديدة تخالف ما وجدنا عليه آباءنا وليس مهما إن معه الدليل، إنما المهم أن أدلته تخالف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة..
ويقول الشيخ "وأن الشرع كما نصب القتل جزاءاً للارتداد ليكون مزجرة للمرتدين فكذلك نصب القتل للزندقة ليكون مزجرة للزنادقة وذبا عن تاويل فاسد فى الدين لا يصح القول به، فكل من أنكر رؤية الله تعالى يوم القيامة أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير وأنكر الصراط والحساب سواء قال لا أثق بهؤلاء الرواة أو قال أثق بهم لكن الحديث مؤول ثم ذكر تأويلاً فاسداً لم يسمع من قبله فهو الزنديق، وقد اتفق جمهور المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجرى هذا المجرى".
إنها قضايا خلافية، اختلف فيها المسلمون- ولا يزالون، اختلفت المعتزلة والحنابلة حول رؤية الله وخلق القرآن واختلف الجميع فى الشفاعة وعذاب القبر وسؤال القبر، وفى القضايا الخلافية يعزز كل فريق رأيه بتأويل الآيات ووضع الأحاديث ومهاجمة أدلة وبراهين الطرف الآخر.. وهكذا كان الجدل والمناظرات الفكرية فى عصر ازدهار الحركة الفكرية للمسلمين، فلما جاء عصر الجمود والتقليد أراح الفقهاء المتأخرون أنفسهم من عناء الجدل والبحث وأقاموا جدارا أسمه (المعلوم من الدين بالضرورة) ورفعوا سلاح التكفير والاتهام بالزندقة والقتل فى وجه كل من يحاول الاجتهاد والتفكير ونام الفقهاء المتأخرون تحت جدار المعلوم من الدين بالضرورة ولا يزالون نائمين..
أفيقوا أيها الناس..
فأعظم الظلم أن تقتل النفس التى حرم الله قتلها ثم تنسب ذلك لدين الله تعالى
ثالثاً: موقف القرآن من الفتوى
بقتل النفس خارج القصاص
أول حرب عالمية فى التاريخ حدثت بين ابنى آدم حين قتل أحدهما الآخر.. ولم يكن القتيل قد ارتكب جريمة فى حياته، أى قتله القاتل بدون سبب موجب للقتل..
وقد حكى رب العزة قصة تلك الجريمة الأولى فى تاريخ البشر.. ومن سياق القصة نفهم المراد منها..
يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة 27، 28).
كان مفهوم القتل وإزهاق النفس معلوماً لدى الأخوين، وكان مفهوم الخطأ فى القتل للنفس البشرية معلوماً أيضاً، خصوصاً لدى الأخ الضحية الذى آثر عدم الدفاع عن نفسه لأنه يخاف الله رب العالمين وقال لأخيه ﴿إِنّيَ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ﴾ (المائدة 29).
ولم يكن أثم القتل وذنبه بعيداً عن عقل الأخ المعتدى، لذلك فإنه بعد أن هدد أخاه بالقتل لبث فترة متردداً ثم أصدر فتوى بأن يقتل أخاه،أو استحل قتل أخيه ، أو بتعبير القرآن ﴿فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة 30). ولأنها أول جريمة فى التاريخ ولأن آدم أباهما كان لا يزال حياً لم يمت بعد، ولأن جثة القتيل كانت أول جثة فى تاريخ البشر فإن الله تعالى بعث غراباً يعلم القاتل كيف يدفن جثة أخيه القتيل ﴿فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ﴾ (المائدة 31).
إن محور القضية يتركز فى قوله تعالى عن القاتل ﴿فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وبمعنى آخر، إن التركيز هنا ليس على جريمة القتل فحسب، بل على ما هو أخطر من القتل وهو الإفتاء بالقتل ظلماً،أو استحلال القتل المحرم أو تشريع القتل لنفس لا تستحق القتل.
والتعبير القرآنى هنا بالغ الدلالة وهو ﴿فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ أى أباحت وشرعت وأصدرت فتوى بقتل أخيه، وبعد ذلك التشريع جاء التنفيذ فقتله.. وبعدها كانت النتيجة ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾!!
ولأن محور القضية فى التنبيه على خطورة الإفتاء بالقتل ظلماً فإن الله تعالى بعد أن ذكر القصة انتقل مباشرة إلى الهدف منها فقال ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً..﴾ (المائدة 32).
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ أى من أجل ما سبق فى القصة من استباحة ابن آدم قتل أخيه الذى لا يستحق القتل.
﴿كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ﴾ أى فرضنا فى التشريع فى التوراة.
﴿أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أى من قتل نفساً لم ترتكب جريمة قتل أو قتل نفساً خارج القصاص، وذلك هو المعنى الظاهر..
﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ﴾ والفساد فى الأرض هنا وصف لجريمة قتل النفس غير المستحقة للقتل، لذلك جاءت كلمة فساد مجرورة بالكسر..
﴿فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً﴾ وهنا نقف أمام مشكلة: كيف يكون قتل نفس واحدة مساوياً لقتل الناس جميعاً؟ أو بمعنى آخر لنفرض أن شخصاً قتل رجلاً واحداً، وأن رجلاً آخر قتل مليون رجل فهل يتساوى هذا وذلك فى مقدار الجريمة؟.
بالطبع لا...
إذن فالقرآن هنا لا يتحدث عن مجرد جريمة القتل، وإنما يتحدث عن الجريمة الأخطر والأفدح وهى الإفتاء بالقتل ظلماً، أو بالتعبير القرآنى الذى هو محور القصة ﴿فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ أى فالذى يفتى بقتل نفس لم تقتل نفساً أو غير مستحقة للقتل أو قتل نفس خارج القصاص فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه باختصار أصدر فتوى قابلة للتنفيذ والتطبيق فى كل عصر وفى كل مكان.. أى أصدر فتوى تقتل الناس جميعاً.
ذلك أن السبب الوحيد لقتل النفس هو القصاص، أو قتل القاتل قصاصاً، وذلك حكم الله، فإذا تجاوزنا حدود الله وشرع الله وحكمنا بغير ما أنزل الله فقد أصدرنا حكماً بالإعدام على الناس جميعاً، إذن فقوله تعالى مَن ﴿قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ﴾ لا تتحدث عن مجرد القتل ولكن عن جريمة أخطر وهى الإفتاء بقتل من لا يستحق القتل، ولذلك جاء الوصف بالفساد لتلك الجريمة فقال ﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ﴾ ولذلك فإن تشريع القتل خارج القصاص أشد أنواع الفساد.
ثم يوضح القرآن المقصود وإنه الإفتاء الظالم وليس مجرد القتل فيقول تعالى ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً﴾ ومن الطبيعى أنه لا يمكن للقاتل أن يعيد القتيل للحياة، إذن فالمراد واضح وهو أن الجرم الأكبر هو الإفتاء بالقتل ظلماً ومن حارب الإفتاء بالقتل وأثبت إنه تشريع ما أنزل الله به من سلطان فإنه ينقذ الناس جميعاً من تلك الفتاوى المدمرة والسامة، أو كأنه أحيا الناس جميعاً..
فالذى يصدر تلك الفتاوى الإجرامية يقتل الناس جميعاً، والذى يحاربها ويظهر بطلانها ينقذ من شرها الناس جميعاً.. ذلك معنى قوله تعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً..﴾ (المائدة 32).
وقد ذكر رب العزة ذلك التشريع الإلهى فى التوراة فقال عن بنى إسرائيل والتوراة ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ﴾ (المائدة 45).
أى ليس هناك مبرر لقتل النفس إلا إذا قتلت النفس نفساً أى فى القصاص..
وفى التشريع الخاص بنا نحن المسلمين نزل تخفيف واستثناء ينجو به القاتل من القتل إذا رضى أهل القتيل بالدية فيقول تعالى: ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُنثَىَ بِالاُنْثَىَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (البقرة 178). فالتخفيف هو الأداء للدية بإحسان بعد عفو أهل القتيل أصحاب الدم.
إذن فقاعدة ﴿النّفْسَ بِالنّفْسِ﴾ نزل فيها استثناء هو إعطاء الدية أى أن القاتل لا يقتل فى كل الأحوال..
ولكن قاعدة القصاص سارية سواء كانت بأن يدفع القاتل نفسه أو ماله، ولذلك يقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة 179).
وحتى فى القتال فى سبيل الله فإن القصاص هو القاعدة الأساسية لأن تشريع الله تعالى حياة للناس وعدل وإحسان.
فالله تعالى يمنع الاعتداء ويجعل القتال فى الدفاع عن الدولة فقط ضد من يهاجمها يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة 190).
وجاء تشريع القصاص فى القواعد الأصولية للقتال فى قوله تعالى: ﴿الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ﴾ (البقرة 194).
أى يحرم الله تعالى على المسلمين مجاوزة القصاص فى حربهم مع المعتدين فإذا قتلوا من المسلمين عشرة فيحرم على المسلمين أن يقتلوا منهم أكثر من عشرة.. وذلك هو تشريع القصاص الذى هو حياة لنا ولغيرنا..
وإذا كان ذلك فى تشريع القتال مع العدو الذى يعتدى علينا فالأمر يكون أكثر أهمية فى التعامل مع الإنسان الآدمى الذى لا يرفع سيفاً، إذ لا مبرر لقتله إلا فى حالة واحدة، وهى أن يرتكب هو جريمة قتل ويصمم أهل القتيل على القود منه أى على قتله ويرفضوا أخذ الدية.
ومن أفظع الظلم أن نحكم بقتل نفس لسبب آخر خارج القصاص ثم ننسب الفتاوى الظالمة لدين الله تعالى، ودين الله تعالى منها برىء.
والله تعالى جعلها قاعدة تشريعية وكررها فى القرآن ثلاث مرات ليتعظ بها كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال فى الوصايا العشر فى سورة الأنعام ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام 151).
وقال فى سورة الإسراء ضمن وصايا أخرى ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ (الإسراء 33). أى أن الله جعل لأهل القتيل المظلوم سلطاناً يتمكنون به من قتل القاتل وأخذ الدية منه، ويحذر أهل القتيل من الإسراف فى القتل، أى قتل شخص آخر غير القاتل، أو تعذيب القاتل عند قتله أو التمثيل به..
ويقول تعالى فى سورة الفرقان فى حديثه عن صفات "عباد الرحمن" ﴿وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَـَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً﴾ (الفرقان 68).
ويلاحظ أن التعبير القرآنى جاء بصيغة واحدة فى تلك القاعدة القرآنية ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ﴾، ﴿وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ﴾.
ومعناه أن الله تعالى حرم قتل النفس، وتلك هى القاعدة الأساسية، والاستثناء الوحيد هو القصاص الذى نزل فى كلام الله الحق الذى لا ريب فيه والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذى هو تنزيل من حكيم حميد..!!
يقول تعالى عن القرآن ﴿وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ﴾ (الإسراء 105). فالحق الذى نستطيع به الاستثناء من القاعدة القائلة ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ﴾ هو كلام الله تعالى الحق فى القرآن الحق الذى نزل بالحق أى هو القصاص، ومن يناقض القرآن فهو باطل وافتراء يبرأ منه الله ورسوله، وإذا تعلق ذلك الافتراء بقتل الناس بدون وجه حق فهو الفساد فى الأرض والله تعالى لا يحب الفساد..
وسنة الرسول الحقيقية هى التطبيق العملى لتشريع القرآن ولا يمكن أن تتناقض مع القرآن، وذلك ما طبقه الرسول فى تعامله مع المرتدين من المنافقين وغيرهم..
رابعاً: حد الردة فى ضوء السنة الحقيقية
للرسول
سنة الله تعالى هى سنة رسوله . الله تعالى ينزل الشرع وحياً والرسول يبلغه وينفذه ويكون النبى أول الناس طاعة واتباعاً لأوامر الله تعالى.
والله تعالى أمر النبى بأن يقول ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ﴾ (الأحقاف 9). والإيمان بالرسول معناه الإيمان بكل ما نزل عليه من القرآن والإيمان بأنه اتبع ذلك الوحى وطبقه وكان أول الناس إيماناً به وتنفيذاً له..
والرسول يوم القيامة سيتبرأ من أولئك الذين زيفوا عليه ما لم يقل وهجروا القرآن الذى كان يتبعه النبى فى حياته ﴿وَقَالَ الرّسُولُ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَـَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىَ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾ (الفرقان 30، 31).
والذى نريد إثباته أنه ليس هناك فجوة أو أدنى تناقض بين القرآن وسنة الرسول الحقيقية فهما شىء واحد.. ومع أن هذه بديهية لا تحتاج الإثبات إلا أننا فى عصر يحتاج إلى إثبات البديهيات وتأكيدها..
إن القاعدة التشريعية الكلية فى القرآن الكريم تقول ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ﴾ (البقرة 256).
ودعاة الكهنوت يفهمونها فهماً خاصاً ينفذون منه إلى تسويغ حد الردة المزعوم، فهم يحرفون معناها بأن الهدف منها أنه لا إكراه على دخول الدين، أما إذا دخل الدين أى الإسلام فقد أصبح مكرهاً ومجبراً على تنفيذ التشريعات الدينية، فإذا أراد الخروج من الدين واجهة حد الردة، وأدرك أنه محبوس فى القفص..
وهذا التحريف لمعنى قوله تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾ يعنى أن الله تعالى نسى كلمة فى الآية أى أن الآية هى "لا إكراه فى دخول الدين" أى سقطت كلمة "دخول" واكتشف العباقرة ذلك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، والحمد لله الذى حفظ القرآن من أى تحريف وإلا كانت أصابع الكهنوت قد حرفت فيه ما شاءت..
إن المعنى الواضح فى الآية إنه لا إكراه فى الدين، فى كل الدين، فلا ينبغى أن يكون هناك إكراه فى دخول الدين ولا إكراه فى الخروج من الدين ولا إكراه فى إقامة شعائر الدين فيما يخص حقوق الله، فالله تعالى يريد أن تعبده بدافع من اختيارك حباً فى الله ورغبة فى طاعته وليس للرياء أو خوف الإكراه، والمنافقون كانوا يقدمون الصدقات بهذه الطريقة وكانوا يصلون الصلاة رياءاً، فمنع الله تعالى النبى من أخذ الصدقة ولم يقبل صلاتهم، يقول تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَىَ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ (التوبة 54). وفى نفس الوقت قال عن صنف آخر تاب وصدق توبته ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (التوبة 102). أى أخذ منهم الصدقة لأنهم يبذلونها عن طيب خاطر حتى يغفر لهم الله تعالى..
ونعود إلى قوله تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾ الذى يمنع الإكراه فى دخول الدين والخروج منه ويمنع الاكراه فى إقامة حقوق الله من العبادات، ونقول إن تحريف معنى الآية وقصره على أنه لا إكراه فى دخول الدين فقط كان يستوجب أن يقال فيه "لا إكراه على الدين" فهنا يكون المعنى خاصاً بدخول الدين فقط..
والقرآن الكريم استعمل تعبير "الإكراه على" فى قوله تعالى ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ﴾ (النور 33). أى على الدخول فى طريق البغاء..
ولو أراد الله تعالى أن يقصر الإكراه على دخول الدين فقط لقال (لا إكراه على الدين) ولكنه أراد منع الإكراه فى كل ما يخص الدين فقط ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾.
والمهم أن القاعدة الكلية فى التشريع الإلهى هى منع الإكراه فى الدين فى دخوله وفى الخروج منه تأسيساً على حرية البشر التى كفلها لهم الله تعالى فى الإيمان أو الكفر وتأسيساً على أنهم سيقابلون الله تعالى يوم القيامة ليحاسبهم على اختيارهم.. ومن هذه القاعدة التشريعية الكلية تفرعت أحكام تشريعية تعكس التقلبات الدينية والسياسية فى عصر نزول القرآن، تلك التى تصاحب حركة كل مجتمع، ونزوع أبنائه للخير أو الشر، للهداية أو الضلال للإيمان أو الإلحاد، دخولهم فى الدين أو ارتدادهم عنه..
لقد عرضنا لموقف النبى حين كان يحزن بسبب أولئك الذين يسارعون فى الكفر بعد الإيمان، وما كان يملك أن يحاكمهم أو يقيم عليهم حد الردة لأنه ليس فى الإسلام حد ردة..
بل أن القرآن الكريم ذكر موضوع الردة تحديداً فى أربعة مواضع ولم يجعل فيها للمرتد عقوبة يقيمها عليه الحاكم، بل أوكل أمره لله تعالى يعاقبه فى الدنيا والآخرة.
يقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ ارْتَدّواْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىَ لَهُمْ﴾ (محمد 25).
أى خدعهم الشيطان.. وتقرأ الآية بعدها لتبحث عن حد الردة المزعوم فلا تجد إلا تخويفاً لهم مما سيحدث عند الموت بالوفاة الطبيعية ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (محمد 27). وعند يوم الحساب حين يحبط أعمالهم ﴿ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اتّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ (محمد 28). أى تأجيل العقوبة لله تعالى يوم القيامة.
وجاءت المواضع الأخرى فى تحذير المؤمنين من الوقوع فى الردة كأن يقول تعالى ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾ (المائدة 54). يعنى إذا ارتددتم فسيأتى الله بقوم غيركم يكونون أفضل منكم، وذلك المعنى جاء فى قوله تعالى ﴿وَإِن تَتَوَلّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوَاْ أَمْثَالَكُم﴾ (محمد 38)
وهذا هو كل ما هنالك.. يستبدلهم بقوم آخرين، لأنه تعالى غنى عن العالمين ولو كفر أهل الأرض جميعاً فلن يضروه شيئاً..
ويقول تعالى يحذر المؤمنين من دسائس بعض أهل الكتاب ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ (آل عمران 100).
ثم يقول تعالى يحببهم فى الإيمان ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ﴾.
ويقول تعالى يحذر المؤمنين من محاولات المشركين لاضطهادهم وفتنتهم ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة 217).
لم يقل "ومن يرتد منكم عن دينه فجزاؤه القتل وحد الردة" وإنما جعل العقاب فى الآخرة إذا ظل يحيا مرتداً إلى نهاية حياته.. أى يظل المرتد حياً يعيش إلى أن يلقى مصيره بعد الموت.
وجاء معنى الردة فى القرآن كثيراً فى الحديث عن الصحابة المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم. والمنافقون من أصحاب النبى كانوا صنفين: منهم من عرفه النبى ومنهم من لم يعرفه إلا الله تعالى..
والصنف الأخير من الصحابة المنافقين هو الذى أدمن النفاق ومرد عليه وحافظ على نفاء مظهره الأيمانى وعلى شكله الإسلامى فخفى أمره على النبى والناس جميعاً، وهذا الصنف توعدهم الله بعذاب عظيم وأخبر أن النار فى انتظارهم لأنهم لن يتوبوا، قال تعالى: ﴿وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (التوبة 101)، فالله تعالى وحده هو الذى سيعذبهم مرتين فى الدنيا ثم فى الآخرة!! والمعنى الواضح انهم سيظلون فى حالة عداء للاسلام الى أن يموتوا. كان نزول الوحى يجعلهم يبالغون فى كتمان عدائهم خوف أن ينزل الوحى يفضحهم كما كان يفضح الصنف الآخر الذى كشف مشاعره وحركته ضد الاسلام ، المتوقع انهم بعد موت النبى وانقطاع الوحى نزولا أن تتاح لهم الفرصة للكيد للاسلام كيف شاءوا متمتعين بالثقة التى اكتسبوها وهم حول النبى يدمنون النفاق واظهار الطاعة. لذا حكم الله تعالى مقدما بأنه تعالى سيعذبهم مرتين فى حياتهم ، ولن يتوبوا وسيكون فى انتظارهم يوم القيامة عذاب عظيم!!
أما الصنف الآخر من الصحابة المنافقين فهو أهون خطرا اذ كشف نفسه ولم يستطع كتمان كراهيته، فكان يقع فى الكفر بلسانه ويقع فى التآمر ثم يسرع للنبى يحلف له إنه ما قال وما فعل..
وهذا الصنف كان معروفاً للنبى والمؤمنين، وكان القرآن ينزل يفضح تآمرهم ويثبت كفرهم وردتهم، ومع ذلك يأمرالله تعالى النبى بالإعراض عنهم، ويقول تعالى عن بعضهم ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوَاْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ (التوبة 74).
يعنى أنهم وقعوا فى الردة حين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بالكيد للمسلمين ولكن لم يفلحوا، وتلك هى شهادة الله عليهم، فهل أقام لهم النبى محكمة تفتيش؟ أو هل أقام عليهم حد الردة المزعوم؟.
إن الله تعالى هو الذى يتولى عقابهم إن ظلوا على النفاق وهو الذى يقبل توبتهم إن تابوا ﴿فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ﴾.
ويقول تعالى عن طائفة أخرى من الصحابة المنافقين ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ (النساء 137).
أى تعودوا دخول الإسلام ثم الخروج منه، ثم فى النهاية اختاروا الكفر والتطرف فيه وعقابهم عند الله الذى لن يغفر لهم يوم القيامة. وهنا أيضا حكم مستقبلى عليهم واخبار بأنهم سيظلون على تطرفهم فى الكفر الى أن يموتوا ميتة طبيعية دون قتل بحد الردة.
وبعضهم تكاسل عن الخروج مع النبى فى غزوة تبوك، وكان عقابة الدنيوى أن حرمهم الله شرف الجهاد مع النبى مستقبلاً، وهو عقاب يتمناه المنافقون، ثم عقاب آخر لا يهتم به المنافقون أيضاً، وهو ألا يصلى النبى على أحدهم إذا مات ولا يقوم على قبره مستغفراً له وداعياً الله أن يرحمه..
يقول تعالى: ﴿فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ولا تصل علىأحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون﴾ (التوبة 84 -83).
أى حكم الله تعالى بكفرهم، ومع ذلك يظل أحدهم يعيش إلى أن يموت، وكل عقابه منع الرسول من الصلاة عليه والدعاء له ، ونفهم من الآية أن النبى كان يصلى عليهم صلاة الجنازة أذا ماتوا ويدعو لهم بالغفران .
ويذكرنا ذلك بصنف آخر من المنافقين كان يتندر على المسلمين أثناء تبرعهم فى غزوة تبوك، فإذا تطوع غنى بالصدقة اتهموه بالرياء وإذا تطوع فقير بما يملك سخروا منه ﴿الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة 79).
أى أن كل عقابهم هو أن الله تعالى سيعذبهم عذاباً أليماً فى الآخرة.
ولم يعقد النبى لهم محكمة تفتيش، ولم يقم عليهم حد الردة المزعوم، بل كان يستغفر لهم ونزل القرآن يخبر النبى إنه مهما استغفر لهم فلن يغفر الله لهم ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة 80).
أى حكم الله تعالى بكفرهم وفسقهم، ومع ذلك كان النبى يستغفر لهم وكان يصلى عليهم إذا ماتوا حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم وقال له ﴿وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾ (التوبة 84).
وكانوا يحاولون إرضاء المؤمنين وخداعهم بمعسول القول مع استمرارهم على الكفر وحرب الله ورسوله فقال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ. أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة 62، 63).
أى توعدهم الله بالخلود فى النار لأنهم حاربوا الله ورسوله.. وذلك هو عقابهم.
وكانوا يؤذون النبى ويتهمونه بأنه "أذن" أى يسمع لهذا وذاك، ونزل القرآن يدافع عن النبى ويتوعدهم بالعذاب الأليم يوم القيامة.. دون أى إشارة لمحاكم تفتيش أو حد الردة يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة 61). ومتى سيكون العذاب الأليم؟ يوم القيامة..
وكانوا يستهزئون بالله تعالى ورسوله الكريم وكتابه الحكيم وينزل القرآن يحكم بكفرهم ويعلن عدم قبول اعتذارهم، ويؤجل عذابهم إلى يوم القيامة ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوَاْ إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مّا تَحْذَرُونَ﴾ (التوبة 64).
فالله تعالى هو الذى ينبئ بما فى قلوبهم وهو الذى يفضح تآمرهم وهو الذى يحكم بكفرهم، وهو الذى يعفو عن طائفة منهم وهو الذى يعذب طائفة أخرى حسبما يعلم من إمكانية التوبة لدى هذا وذاك..
أما النبى فليس له من الأمر شىء..
لأنه نبى الله وليس إلهاً مع الله..
وكانوا يتحركون فى المدينة بحرية يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويمنعون الصدقة والزكاة فتوعدهم الله تعالى بالعذاب واللعنة يوم القيامة ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ﴾ (التوبة 67، 68).
إن الله تعالى هو الذى شهد على تحركهم بالفساد فى مجتمع المدينة وهو الذى يتولى عقابهم، أما النبى فليس له من الأمر شىء..
ويقول تعالى عن المتخلفين عن الخروج مع النبى فى غزوة تبوك ﴿وَجَآءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىَ الْمَرْضَىَ وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (التوبة 90، 91). ومتى ذلك العذاب الآليم؟
ويقول تعالى عن طائفة منهم ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (التوبة 95).
كان المنافقون المتخلفون عن الغزوة بدون عذر يخشون من أن يعقد لهم المسلمون محاكم، فبادروا يحلفون ويقسمون بالأيمان المغلظة بأنهم لهم العذر حتى يعرض عنهم المسلمون فأمر الله تعالى- بعد أن أخبر سلفاً بما سيحدث- أمر بأن يعرضوا عنهم ولا يتعرضوا لهم لأن مصيرهم إلى جهنم.. وفى نفس الوقت نهى المؤمنين عن أن يرضوا عنهم ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يَرْضَىَ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة 96).
إن الله تعالى قد حدد سياسة معينة للنبى يتصرف بها مع المنافقين المرتدين، هذه السياسة هى الإعراض عنهم يقول الله تعالى للنبى عنهم ﴿أُولَـَئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ (النساء 63).
فهنا نوع من الإعراض الإيجابى الذى يشمل الوعظ والنصح دون ضغط أو تخويف ثم تركهم إلى ما يختارون فى النهاية، وهذا الإعراض يتناقض مع محاكم التفتيش..
وحين كانوا يدخلون على النبى يقدمون له فروض الطاعة ثم يخرجون من عنده يتآمرون عليه قال له ربه بعد أن أخبره بتآمرهم ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ (النساء 81).أى أمره بالاعراض عنهم متوكلا على الله تعالى.
وذلك كله يؤكد أن النبى ما أقام محاكم للمنافقين المرتدين، وما عرفت دولة الإسلام الحقيقية فى عهده ذلك الحد المزعوم للردة..
إن الله وحده هو الذى يعلم ما فى القلوب من إيمان حقيقى أو زائف.. وهو الذى فضح المنافقين وأخبر عن سرائرهم، ولولا أن القرآن نزل يخبر عما تطويه جوانحهم ما علم النبى والمؤمنين حقيقتهم..
ولقد كان النبى يتعامل مع المؤمنين حسب الظاهر، فهم الذين أعلنوا إيمانهم وهم الذين أسلموا ظاهراً ووقفوا مع النبى، أما الإيمان الحقيقى والإسلام القلبى فمرجعه إلى الله تعالى يحكم عليه وعليهم يوم القيامة.
لذلك يقول تعالى للمؤمنين ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَىَ رَسُولِهِ﴾ (النساء 136).
﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ﴾ أى آمنوا حسب الظاهروهو اختيار الايمان بمعنى الأمن أى أن تكون مسالما يأمن الناس جانبك ويثقون فيك.
﴿آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أى آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان إيماناً بالقلب الخاشع.
ويقول تعالى ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ (التحريم 6)، ويقول تعالى: ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً﴾ (التحريم 8).
فالخطاب هنا للمؤمنين حسب الظاهر لكى يكون إيمانهم حقيقياً ومقبولاً عند الله ولكن هذا الإيمان الظاهر يعطى صاحبه كل حقوق المسلم طالما يعيش فى سلام مع الناس حسب المعنى الظاهرى للإسلام، وهو السلام حتى لو اكتفى بمجرد النطق بكلمة السلام وقت الحرب، فلو كان شخصاً مجهولاً ودارت حرب بين المسلمين وبين قوم ذلك الشخص المجهول، فإن مجرد نطقه بكلمة السلام يعصم دمه أثناء المعركة.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء 94).
أى أنه مجرد أن يلقى أحدهم السلام- أو تحية الإسلام- فى وقت الحرب فإن ذلك يعصم دمه، فيكفى أنه شخص مسالم يقلى السلام لنعتبره مسلماً حسب الظاهر نحفظ دمه وماله وقت الحرب، وبالتالى فإنه وقت السلم يكون أولى بحقن دمه وماله.
بل إن المشرك المعتدى وقت الحرب إذ كف يده واستجار بالمسلمين فى المعركة فإن ذلك يكفى لحقن دمه وتأمينه إلى أن يبلغ داره آمناً بعد أن يسمع كلام الله ليكون ذلك حجة عليه يوم القيامة بأن الدعوة بلغته وعلم بها، وأعطى الفرصة للتفكر والنجاة، يقول تعالى ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة 6). إلى هذه الدرجة بلغ الرقى الحضارى فى التشريع القرآنى، وبلغ الحرص على صيانة الدماء والنفوس حتى لو كانت عند الله مشركة أو جاحدة. وأولى الناس بصيانة دمائهم هم المؤمنون ظاهراً، فأعظم الذنوب بعد الشرك بالله تعالى أن تقتل مؤمناً..
وتحديد المؤمن هنا يرجع للشكل والمظهر.. والمؤمن هو المأمون الجانب أى المسالم الذى لا يعتدى على أحد..
يقول التشريع القرآنى للمؤمنين ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً﴾ (النساء 92). أى لا يمكن التصور بأن مؤمناً مسالماً يقتل مؤمناً مسالماً إلا على سبيل الخطأ.
فما الحكم إذا قتل أحدهم مؤمناً؟ (مؤمناً حسب الظاهر طبعاً أى سالماً لا يعتدى على أحد)
نقصد قتل ذلك الإنسان المسالم متعمداً مع سبق الإصرار والترصد، حجة أنه مرتد أو فى قلبه مرض أو أى حجة خارج القصاص يقول تعالى ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ (النساء 93).
أى جزاؤه الخلود فى النار وغضب الله ولعنته والعذاب العظيم.
وسؤال آخر: فما الحكم فيمن يقتل ملايين المؤمنين متعمداً أو يقتل الناس المؤمنين جميعاً؟ والإجابة: هل يمكن لشخص واحد أن يقتل بنفسه ملايين المؤمنين متعمداً أو يقتل الناس المؤمنين جميعاً؟ والجواب: نعم إذا أفتى بقتل النفس التى لا تستحق القتل.. أو أفتى بقتل المرتد والزانى وتارك الصلاة.. إلى آخر تلك الفتاوى السامة التى تحكم بغير ما أنزل الله، وبغير ما سارت عليه سنة الله تعالى ورسوله الكريم..