مترجم: شكوك حول سياسة مصر المائية تجاه نهر النيل تحت قيادة السيسي

في الثلاثاء ٢٤ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

تقتضي المصالح السياسية والأمنية مزيدا من التقارب مع أثيوبيا

يُعد المعهد الألماني للشئون الدولية والأمن ببرلين أحد أهم مراكز دعم القرار وتقديم الدارسات للبرلمان الألماني (البوندستاج) والاتحاد الأوروبي؛ ونستعرض في التالي الدراسة التحليلية والتوقعات المستقبلية التي قدمها المعهد  في فبراير الماضي – والتي تحدث الآن من خلال الإعلان عن توقيع الاتفاقية الجديدة أوائل مارس – عن السياسة المصرية تجاه مشروع سد النهضة.

دخل النزاع المصري حول تقاسم مياه نهر النيل مع أثيوبيا بشكل واضح منحنى أكثر اعتدالا، وذلك منذ تولى عبد الفتاح السيسي السلطة في القاهرة، حيث تسعى الإدارة المصرية إلى التعاون – بدلا من الصراع – مع أثيوبيا (أهم دول منبع حوض النيل) حول إشكالية بناء سد النهضة الإثيوبي العملاق، ولكن الدافع وارء هذا التقارب ليس مصالح الأمن المائي لمصر، حيث تدرك القاهرة أن خياراتها تتقلص مع التقدم الكبير الحاصل في مراحل بناء السد، على العكس من ذلك يرى نظام السيسي في إثيوبيا شريكا متزايدَ الأهمية لا سيما في مسائل الأمن الإقليمي، مما يفقد إيجاد حل للصراع حول تقاسم مياه نهر النيل أهميته في العلاقات المصرية الإثيوبية، ولكن ليس لفترة طويلة.

أصبحت سياسة مصر المائية بعد عقود من التعنت محصورة أمام الأمر الواقع. فإثيوبيا في مراحل البناء المتقدمة من بناء سد عملاق يعد أكبر مشاريع الطاقة الكهرومائية في أفريقيا على منابع نهر النيل العليا، حيث تم الانتهاء من حوالى 40 بالمائة من السد، تبلغ التكلفة الإجمالية للمشروع 4.7 بليون دولار وتقرر الانتهاء منه في 2017، والذي عند اكتمال بنائه سوف يقوم بتوليد نحو 6000 ميجا واط (أكثر من 15000 جيجاوات/ سنة) لتلبية الطلب المحلي وتصدير الفائض من الطاقة. إن نهر النيل هو شريان الحياة لمصر حيث يغطي أكثر من 90 بالمائة من احتياجات مصر من المياه, أكثر من 80 بالمائة من مياه نهر النيل تنبع من المرتفعات الإثيوبية (النيل الأزرق) ونتيجة لذلك كان يحدث بين الحين والآخر توتر واستفزاز حول قضية تقاسم واستخدام مياه النيل بين مصر وإثيوبيا، على الرغم من النجاح النسبي في التنسيق والتعاون العملي على أرض الواقع بين دول حوض النيل منذ مبادرة حوض النيل التي تأسست عام 1999 بدعم دولي، ولكن هذه المبادرة لم تستطع حل القضايا السياسية العالقة، فقد اكتسب الصراع زخما ديناميكيا منذ بدء أثيوبيا في بناء سد النهضة العملاق عام 2011، حيث تصر أثيوبيا على أن الهدف من بناء السد العملاق هو توليد الطاقة فقط، في حين تزداد مخاوف مصر من أن السد سوف يقلل من تدفق المياه في مجرى النهر، وهو السيناريو الأكبر الذي كانت الحكومة المصرية منذ عقود تعتبره تهديدا لوجودها، وذلك لأن مصر على الأخص سوف تفقد التحكم والسيطرة على مصدر مياه نهر النيل الرئيسي.

المفاوضات هي الخيار الأخير

كانت مصر في الماضي تبذل أقصى جهودها على الصعيد الدبلوماسي لمنع توسيع أو تطوير إثيوبيا للبنية التحتية في المياه الخاصة بها، وكانت لهذه الجهود أهمية كبرى محليا في السياسة الداخلية لمصر وذلك لخلق تصور إيجابي عن قوة مصر داخليا على صعيد السياسة الخارجية، ولتحويل الأنظار عن العجز والفشل في إصلاح وتوسيع البنية التحتية للمياه الخاصة بها، حيث تؤكد السياسة المعلنة للقاهرة (معظم الوقت بطريقة عدائية) على حق مصر الحصري في استخدام مياه النيل على أساس معاهدات تم توقيعها في الحقبة الاستعمارية والتي تنفي أي حقوق لدول حوض النيل العشر الأخرى باستثناء السودان، وهذا يعني أن بناء سد النهضة الأثيوبي يعد بمثابة الفشل النهائي للسياسة المائية المصرية، في البداية احتجت مصر وبشدة ضد مشروع سد النهضة الإثيوبي وسعت إلى الحشد الدولي للتفاوض مع إثيوبيا على الأقل لتقليل حجم السد، ولكن حدث فجأة منذ تولى الرئيس السيسي منصبه في يونيو 2014 أن انتهجت القاهرة نهجا تصالحيا، فبعد أن فشلت المحادثات الثلاثية مع السودان وأثيوبيا في أوائل 2014، استؤنفت مرة أخرى في الخريف ولكن فوق كل هذا مع تغير ملحوظ في فحوى وطبيعة المحادثات، حيث لم تعد المفاوضات تدور حول إذا ما كان السد سيتم بناؤه أم لا ولكن كيفية قياس وتقييم وعلاج العواقب البيئية والاجتماعية والاقتصادية لهذا البناء العملاق على كل دولة، حيث وافقت الدول الثلاث في بداية عام 2015 على تشكيل لجنة دولية لإعداد التوصيات ومراقبة تنفيذها وهذا يعني اعتراف القاهرة ضمنيا (على العكس من موقفها التاريخي السابق) بحق أثيوبيا في بناء السد. ويرجح أن الدافع وراء موقف التعاون الجديد للسيسي تجاه بناء سد النهضة هو إدراك أنه لم يعد من الممكن إيقاف مشروع بناء السد من خلال التهديدات العسكرية، حيث تعمل إثيوبيا على المضي قدما بإصرار شديد في مشروع السد الذي يمثل لها مشروع الهيبة الوطنية الممول ذاتيا، ونظرا لجغرافية بعد المسافة بين البلدين وسوء وضع القوات المسلحة لم يعد الحل العسكري خيارا لمصر (حتى وإن كانت القاهرة قد لوحت باللجوء لهذا الخيار في الماضي) ولا يمكنها أيضا أن تعتمد على أي دعم من أهم حلفائها الولايات المتحدة ودول الخليج، وأكثر من ذلك تمثل إثيوبيا بالنسبة لواشنطن وأوروبا الشريك المركزي في غرب أفريقيا من أجل (الحرب على الإرهاب)، وعلاوة على ذلك أعلنت دول الخليج وعلى رأسها السعودية وضوحا أن لها مصالح اقتصادية قوية في القطاع الزراعي الأثيوبي والواردات الغذائية من هذه المنطقة، لكل هذا لا يمكن أن نتوقع أي ضغط سياسي من هذه الدول على إثيويبا للتخلي عن مشروع توسيع البنية التحتية لمياهها الإقليمية، وهذا بالتبعية يقلل من فرص مصر لتدويل الصراع دوليا، على سبيل المثال أن تدعو مجلس الأمن للانعقاد كما هددت من قبل وبشكل غير مباشر. كل هذه العوامل تضع السيسي أمام خيار وحيد وهو العودة إلى طاولة المفاوضات لتقليل الآثار السلبية الناجمة عن بناء مثل هذا السد العملاق على إمدادات مصر من المياه. فهدف القاهرة من المحادثات المباشرة مع أديس أبابا ليس بالأساس إعادة تنظيم توزيع حقوق المياه ولكن تحقيق أكبر قدر من التنازلات الممكنة من الحكومة الإثيوبية عندما يتم ملء خزان السد بالمياه. هذا الخزان العملاق سوف يستوعب أكثر من 74 مليار متر مكعب من المياه وهو ما يعادل تقريبا التدفق الإجمالي السنوي لنهر النيل (84 مليار متر مكعب)، وإلى يومنا هذا لم يصل الطرفان بعد إلى اتفاق كيف سيتم تنفيذ هذه العملية.

المصالح الاقتصادية والأمنية 

إن الدافع  وراء تغيير الإستراتيجية المصرية هو أكبر من تقنيات التفاوض حيث تأمل إدارة السيسي فتح صفحة العلاقات الثنائية والتعاون في مسائل سياسية أخرى عن طريق السير في خط معتدل تجاه قضية مياه نهر النيل، حيث ألمحت مصر في الأشهر الأخيرة مرارا وتكرارًا إلى إمكانية تكثيف التعاون الاقتصادي، على الأقل لوحظت زيادة منذ 2011 في التجارة والاستثمار بين البلدين، حيث قامت بعض الشركات ذات النفوذ السياسي القوي مثل شركة القلعة القابضة وشركة السويدي إلكتريك للكابلات باستثمارات كبيرة في إثيوبيا (البلد الأكثر سكانا في شرق أفريقيا) وهذا بالتالي يمثل لوبي يضغط على القاهرة من أجل تحسين العلاقات السياسية، غير أنه من المرجح أن التعاون الأمني مع أديس أبابا أكثر أهمية بالنسبة للقيادة المصرية وذلك بالنظر إلى الحملة الأثيوبية ضد جماعة الشباب الإسلامية في الصومال، حيث يرى نظام السيسي في القيادة الإثيوبية المستبدة الشريك الطبيعي في كفاحه المعلن ضد الجماعات الإسلامية، ولكن قبل كل شيء لمصر مصالح إستراتيجية قوية في الوضع الأمني في جنوب البحر الأحمر، فأي تعطيل لحركة الملاحة خلال مضيق باب المندب سوف يؤثر تأثيرًا مباشرًا على حركة المرور في قناة السويس والتي هي واحدة من أهم مصادر الدخل القومي في مصر. فالمشروع الوطني القومي لتوسعة قناة السويس (والذي تأمل من خلاله الدولة أن يساهم بالمليارات من الدولارات في ميزانية الدولة التي تتحمل أكثر من طاقتها) قد زاد من الأهمية الإستراتيجية لطريق الشحن ومرور السفن لمصر في الآونة الأخيرة. وفوق ذلك، التداعيات المحتملة للحرب الأهلية في اليمن من التحكم في خطوط الشحن شمال مضيق باب المندب والتي كانت مصدر قلق كبير للإدارة المصرية حيث تزداد مخاوف القاهرة من أن انهيار الدولة في اليمن سوف يمكن الجماعات الإسلامية من تعطيل حركة السفن شمال مضيق باب المندب. وتنظر القاهرة أيضا بقلق متزايد إلى أن إيران سوف تكسب بالتالي السيطرة غير المباشرة على هذا الطريق الحيوي لحركة السفن وذلك من خلال صعود حركة الحوثيين في اليمن وتوطيد العلاقات مع إريتريا، وخاصة في ضوء الأحداث الأخيرة في اليمن يبدو أنه لا بديل لمصر سوى مد الجسور مع إثيوبيا التي تعتبر القوة الوحيدة الإقليمية في شرق أفريقيا ذات جيش فعال.

الخلاصة 

لا يوجد مخرج نهائي للصراع على مياه نهر النيل 

كانت  ألمانيا والشركاء الأوروبيون يدعمون التعاون عبر الحدود في حوض النيل لسنوات عدة وعملوا معا بنشاط من أجل التوصل لحل سلمي للصراع حول مياه نهر النيل في إطار مبادرة حوض نهر النيل، حيث يعتبر التقارب بين مصر وإثيوبيا – بالنسبة لهم – خبرًا إيجابيًا كبداية (حتى وإن لم يكن هناك أي دور لمبادرات الوساطة الدولية في هذا التقارب) حيث يبدو أن التنازلات المصرية من أجل مشروع السد قد أوقفت أي تصعيد في النزاع حول مياه نهر النيل وخاصة بين الطرفين مركزي الصراع. ولكن الموقف التعاوني لحكومة السيسي لا ينبغي أن يؤخذ على أنه نقطة تحول رئيسية في سياسية مصر تجاه مياه نهر النيل، حيث أن سياسة قبول الأمر الواقع في بناء السد الذي أصبح من المستحيل إيقاف بنائه تمثل التكيف الحتمي لإستراتيجية التفاوض المصرية لما يحدث على أرض الواقع، وبالإضافة إلى ذلك لعبت المصالح الأمنية المصرية دورا حاسما في تغيير المسار. حيث أن أي انطباع سطحي عن أن مصر تحت قيادة الرئيس السيسي سوف تكون أكثر إيجابية في هذه القضية منها تحت قيادة حسني مبارك أو محمد مرسي هو انطباع مضلل، فالتقارب المصري مع إثيوبيا يحدث حصرا في ساحة الصراع حول سد النهضة الإثيوبي في حين لا يزال هناك صراع أوسع نطاقا حول التوزيع والحصص الأساسية من نهر النيل لم ينتهِ بعد، فسوف يكون هناك تغيير كبير في المستقبل القريب في ضوء التوجه القومي لنظام السيسي وعلى العكس من ذلك عن طريق التأكيد على ضمان حقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل في الدستور الذي تم اعتماده في صيف 2013 في المادة 44، فقد قلصت القيادة السياسية الحالية من قدرتها على المناورة في الصراع على مياه نهر النيل، حيث أن حسابات إدارة السيسي تعطي الأولوية للعلاقات الجيدة مع أثيوبيا على وسائل وأدوات الصراع حول المياه التي يمكن أن تتغير في أي وقت. فلو حدث أي نقص في حصة مصر من المياه من الممكن أن تنتهج إدارة السيسي لهجة أكثر عدوانية عن طريق إعادة إحياء الحق التاريخي المصري في مياه النيل وذلك لتشتيت الانتباه عن أوجه القصور النابعة من الداخل في تحديث وإدارة البنية التحتية للمياه.

اجمالي القراءات 5176