أتذكر هنا أنه حين ألقي القبض علينا واعتقالنا بالتهمة الكوميدية "انكار السُنّة" سنة 1987 كانت الصحافة الرسمية والحزبية تنهش أعراضنا وتفترى الأكاذيب علينا، وتنقل فتاوى الشيوخ الأنذال بتكفيرنا واستباحة دمائنا حتى كنا نخشى الخروج من السجن نفسه خوفا من الاغتيال. كنت فى التحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا أؤكد لهم من الذاكرة وبالآيات القرآنية التناقض بين القرآن والتشريع السلفى ، ومنه أن حد الردة لا وجود له فى الاسلام. وتنقل صحيفة "اللواء الاسلامى" فقرات التحقيق معى وتذيعه على الملأ وعليه تعليقات الشيوخ الأنذال بتكفيرى، وسخريتهم من انكارى حد الردة قائلين ان منكر السنة يقول ذلك خوفا من تطبيقه عليه. كانت القضية رسميا تحت عنوان يقول" قضية القرآنيين " فحولتها الحملات الصحفية وهجوم الشيوخ الأنذال الى مصطلح جديد هو "منكر السنة". من بين الفرسان القلائل الذين دافعوا عنى دون معرفة مسبقة بى كان الدكتور فرج فودة يرحمه الله تعالى في مقال رائع له في جريدة "الأهالي" بعنوان: "أحمدك يارب" سخر فيه من أجهزة الدولة التى قبضت على كاتب كل جريمته أنه يستشهد فى أبحاثه بالقرآن ويكرر ما قاله أبوحنيفة فى عدم الاعتداد بالأحاديث .
بعد الافراج عنى وعن اخوتى القرآنيين، توثقت الصلة بينى وبين فرج فودة. وفى سنة 1992 اتفقنا على اشهار حزب جديد باسم "حزب المستقبل" يقف ضد تيار التطرف الدموى الذى كان يستبيح دماء الأقباط وأموالهم في موجة عنف لم تعرفها مصر حتى في العصور الوسطى عصور التعصب . ونشرت الصحف البيان التمهيدي الرسمي عن الحزب ومؤسسيه وكان اسم فرج فودة رقم 2 بينما كان اسمى رقم 6. وفورا اصدرت ندوة علماء الأزهر والتي تمثل التطرف السلفى الوهابى بزعامة عبد الغفار عزيز بيانا دمويا في تكفير فرج فودة وتكفيرى والتحذير مسبقا من صدور الموافقة الرسمية على الحزب الجديد. نشرت جريدة " النور " التى كان يمتلكها الحمزة دعبس هذا البيان بفتواه الدموية في يوم الاربعاء الأول من يونية 1992 ورأيته على مكتب فرج فودة صبيحة ذلك اليوم . قال : لا بُدَّ أن أردَّ عليهم . قلت له "لا تفعل. انهم لا يستحقون" .
كان مقررا أن يسافر فودة الى فرنسا بعد عيد الأضحى مباشرة ليعود بعد اسبوعين ليستأنف اجراءات اقامة الحزب حيث كان قد حصل على موافقة على تأسيسه كما كان مقررا أن اسافر الى بلدتي لأقضي عيد الأضحى مع اهلي .ثم نلتقى معا لمباشرة اعلان الحزب . يوم الاثنين التالي اغتالوا فرج فودة اثناء خروجه من مكتبه واصابوا ولده الصغير بجراح خطيرة وطالت الجراح صديقا آخر لفرج كان معه.
كتبت في عمودى في جريدة "الأحرار" متسائلا من قتل فرج فودة؟ وقلت ان القاتل الحقيقى هم أولئك الذين أفتوا بقتله وبعد موته توضأوا بدمه وهم يتحدثون عن سماحة الاسلام. قلت ان القاتل الحقيقى هو الذى يفتى بالقتل ولا بُدَّ ان يمثل في قفص الاتهام باعتباره شريكا ومحرضا على الجريمة . ونشرت الجماعة الاسلامية بيانا لها في اذاعة لندن تقر فيه بمسئوليتها عن قتل فرج فودة ، وانها قتلته تطبيقا لفتوى العلماء.
وقف الشيخ محمد الغزالي يدافع عن القتلة في المحكمة التي حولها الطاغوت السلفي الى محاكمة للقتيل وليس القاتل. قال الغزالي ان القتلة افتأتوا فقط على السلطة حين بادروا بقتل فرج فودة وهو مستحق للقتل باعتباره مرتداً.
قبل ذلك كانت العلاقة بينى وبين الغزالي تدخل طور الاستحسان .كان يهاجمنى فى جلساته الخاصة التى يحضرها اصدقاء لى ، وقالوا لى انه نشر مقالا عرض فيه بى تحت لقب " أغلمة العلم " ـ اغلمة جمع غلام ـ ولكن جهد الأصدقاء المشتركين جعله يقرأ بعض كتبى وبعض مقالاتى التى كانت تنشر فى بعض الصحف المصرية الرسمية والحزبية، وتغيرت نظرته لى وكما قيل كان يأمل خيرا فى مستقبل الأزهر اذا تم تجاوزالمشاكل بينى وبينهم وعدت الى الأزهر لأعيد حركة الاجتهاد التى بدأها الامام محمد عبده. وكان على نفس الرأى الشيخ عبدالله المشد رئيس لجنة الفتوى فى الأزهر وآخرين من الشيوخ غير الأنذال. بدأ الغزالى بنفسه توطيد هذه العلاقة من طرف واحد حين نقل كثيراً من آرائى في كتابه المشهور عن (السُنَّة بين أهل الفقه وأهل الحديث) ليمهد لقبول آرائى فى المجتمع الأزهرى والفقهى. ورددت عليه التحية بأحسن منها حين راجعت له رسالة دكتوراه عن "علم الحديث في القرن السادس الهجري" كتبها باحث في كلية دار العلوم ، وكان الغزالي احد أعضاء لجنة المناقشة.وقد ارتعب من حجم الرسالة وعنوانها فارسلها لى ـ عن طريق صديق مشترك لا يزال حيا يرزق ـ لأتفحصها عنه ولأسجل ملاحظاتى عليها. وكتبت له تقريرا كاملا عنها منهجيا وموضوعيا، وبهذا التقرير كان الشيخ الغزالى فى أثناء مناقشة الرسالة هو الفارس من بين أعضاء اللجنة يصول ويجول على الباحث المسكين . وليرد على التحية بأحسن منها نشر الغزالي كتابه " تراثنا الفكرى " يشيد بى وينقل عنى مقالا قديما اقحمه في السياق. كما اقحم في الكتاب فتوى عن انكار السنة صيغت خصيصا من الشيخ المشد رئيس لجنة الفتوى في الأزهر للدفاع عنى، وكان لا بد من نشرها وتوثيقها علنا فقام الغزالي بوضعها في كتابه. وانتظر أن أرد تحيته فاذا بشهادته المسمومة ضد فرج فودة تطيح بكل جهود الشيوخ الشرفاء في التقريب بيننا.
هاجمت الغزالي بقسوة في مقالات متتابعة في جريدة "الأهالى " كان منها : "الغزالي ينهزم أمام فرج فودة بعد موته"، " الغزالي يرد على الغزالي "،وفى هذا المقال نشرت ماكتبه الغزالى نفسه فى تأكيد حرية العقيدة فى الاسلام وبأن مايعارض ذلك ليس الا أكاذيب، وهذا ماتناثر فى كتابه "السنة بين اهل الفقه والحديث" والذى تاثر فيه بكتاباتى واتهموه من اجله بانكار السنة، وكتبت أيضامقالا آخر اهاجمه وغيره من الشيوخ وأحلل موقفهم من فرج فودة تحت عنوان: " لأنه كفر بهم ". ومقالات أخرى أحدثت أثرا طيبا جعل صديقى الدكتور محمد أبو الاسعاد ـ رحمه الله تعالى ـ يطلب منى ان اكتب بحثا خاصا يوضح حقيقة حد الردة ومنشأه وعلاقته بالاسلام ، ويتعهد بنشره على نفقته.
كنت قد كتبت بحث "حرية الرأي بين الإسلام والمسلمين "؛ للملتقي الفكري الثالث للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان في أوائل مايو 1992 ونشرته مجلة القاهرة . ثم صدر كتاب حد الردة سنة 1993 ، ثم نشرته بعد عامين مجلة القاهرة في العدد 152سنة 1995. واحدث كتاب حد الردة صدى هائلا خصوصا بعد نشر جريدة الأحرار فصوله فى أعداد متتالية، وتتابعت عليه التعقيبات والاستشهادات، وتشجع آخرون يهاجمون حد الردة فى مقالات اوفى كتب ، فاصدر جمال البنا كتابه ( كلا ثم كلا لفقهاء التقليد ) يؤكد ما قلته من ان حد الردة صناعة فقهية تتناقض مع الإسلام وكان ذلك بعد عام من صدور كتابي حد الردة. وعلي الجانب الآخر لم يستطع فقهاء التطرف مواجهة كتابي حد الردة؛ فكتب د . محمد سليم العوا يقول إن عقوبة الردة مجرد تعزير من حق الحاكم وليست حدا مشروعا له حكم الحدود ؛ وأجهد نفسه في كتابه ( أصول النظام الجنائي الإسلامي : 151 : 170 ) كي يثبت ان عقوبة الردة مجرد تعزير ؛ وهو يعلم ان عقوبة التعزير في الفقه اقل من أربعين جلدة. فكيف يستقيم هذا مع عقوبة قتل المرتد ؟ ثم كيف يكون لولي الأمر ان يحكم بغير ما انزل الله خصوصا فيما يخص الدماء وحق الحياة . ومعروف ان التيار المتطرف يهاجم الحكومة بحجة أنها تحكم بغير ما أنزل الله . و ثارت معركة تجديد الفكر عندما لم يقتنع فقهاء التطرف بالردود التي حاولت ان تقف أمام كتابي حد الردة، وواكب هذا قضية نصر أبو زيد، وقد نشرت عدة مقالات ادافع عنه في الأهالي وروزاليوسف ثم صدر كتابي ( الحسبة بين القرآن والتراث) الذي صدر في طبعتين سنة 1995 (المحروسة) (النداء الجديد ) ونشرته مجلة القاهرة في العدد 158 في العدد1996 .
و أسفر هذا الجهد مع جهد جمال البنا عن قيام حركة استنارة متواضعة داخل الأزهر وخارجه تنادى بتجديد الفقه وتنقية الأحاديث وتمتعض من شفاعة البشر وعصمة النبي خارج الوحي ؛ وتواجه هذه الحركة المستنيرة ( جبهة علماء الأزهر) المتشددة . واضطر كبارالشيوخ فى الأزهر فى النهاية لمواكبة الركب ـ متأخرين كالعادة ـ فتحدثوا على استحياء عن حرية الفكر فى الاسلام دون الاشارة الى حد الردة، ثم اضطرتهم اسئلة الصحفيين الى الاشارة الضمنية لعدم الاعتداد بحد الردة، واخيرا جاءت الفتوى من مجمع البحوث عام 2002 تنفى حد الردة وقتل المرتد اكتفاءا باستتابته ...
فما قولكم - دام فضلكم - اذا رفض التوبة؟ هل ستستمر استتابته الى يوم القيامة؟ وهل سيتفرغ لهذه المهمة الجليلة فحول المشايخ العظام وكبار الفقهاء الأبرار؟ وماذا ستكون الأسئلة سوى سؤال وحيد يرفض الاجابة عنه مقدما؟
هل حينئذ ستتحول اجراءات محاكمته الى اوبريت غنائى فىعرض مستمرلا ينتهى .. يقول له الشيوخ "توب" فيرد عليهم باغنية عبد الحليم حافظ "وانا كل ما اقول التوبة ياعينى ترمينى المقادير يابوى" يقول له الشيوخ " توب "فيرد عليهم باغنية اخرى"توبة ان كنت أحبك تانى توبة بس قابلنى مرة وتبقى آخر نوبة وبعدها توبة’" يقول له الشيوخ فى استرحام " ياابنى حرام عليك عايزين نروح ناكل ، توب بقى وخلصنا " فيغنى لهم أغنية عايدة الشاعر:"راح أتوب ازاى ياعينى راح اتوب "..
ليست هذه نكتة ، انها الاجابة الوحيدة للنكتة الحقيقية التى جعلها الشيوخ فتوى تقول ان المرتد يجب استتابته فقط. انها نكتة مأساوية تذكرنا بقول المتنبى فى كافور الاخشيدى
ومثلك يوتى من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحداد البواكيا
المتنبى هو القائل أيضا :
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
وبعد .. فقد تم نشر الترجمة الأنجليزية لهذا الكتاب على الانترنت منذ شهور، وهذه هى المرة الأولى التى تظهر فيها طبعته العربية على الانترنت متاحة للجميع.
نسأل الله تعالى الهداية والجنة.
احمد صبحى منصور. يناير 2005